(1)
لم ترتطم كفّي بظاهر كفّها مصادفةً في طريق عودتنا من قطاف العنب، كان ذلك تحرّشاً مراهقاً مفضوحاً، وأغلب الظنِّ أنّها أدركتْ.. وتجاهلتني حينذاك.
كانت أصابعها مجرّحةً من أغصان الدوالي الأرضية التي تدافع عن عناقيدها، مصبوغةَ البنان بالبنيِّ الكابي، وتحت أظافرها خطٌّ رفيع أسود من التراب المجبول بماء العنب، ولكنَّ هذا لم يشفع لنبضي ألا تثيره تلك اليد الملساء الحنطية الفاتحة، ليس ثمةَ أحلى من طريق الرجوع من كروم ضيعتنا الشرقيّةِ معاً.
كراعي الخرافِ الأبلهِ كنتُ أمشي بجوارها مطوّحاً بيديَّ بعيداً عن جسمي، ثم أَبْعَد فأبعد، حتى نجحتُ وارتطمتْ.. نظرتْ إليَّ ضاحكةَ العينين ضحكةَ العارف، وتابعتْ المسير وكأنَّ ارتطاماً لم يحدث.. ولا كهرباء سرتْ في لجّةِ الأوردة.
نور الضحى في شهر أيلول يأتي مبرّداً بأحلامِ اليقظةِ، مشدودَ النهدينِ كصدرِ حبيبتي ذات السبعةَ عشر ربيعاً، التي تخرّجت منذ زمنٍ في مدرسةِ القريةِ الابتدائية، ثم طوتْ أحلامَ متابعة تعليمها في وسادةٍ تغفو عليها بانتظار (ابن الحلال).. وفي الانتظار كانت تتطوّع لمساعدتنا بـ (تعفير كرم العنبِ الممتد) عرفاناً منها ومن أهلها الطيبين الذين لايملكون كرماً بسلال العنب التي كانت تغدو إليهم كل مساء.. في الصباحات الأخيرةِ من أيلول نجمعُ ماتبقى من عناقيد لنصنع من مائها دبساً، ونقطّر منه العرَق..
يبدأ موسم القطاف بعد عيد الصليب، حيث يكون السكَّر قد بلغَ أوج تركيزه تحت جلود حبّات العنب القاسيةِ، فنتزاحم نحنُ والدبابير الحُمرُ والصُفر على كوثره العذب.. وأكونُ وقتذاكَ على وشكِ تسليم القريةِ للخريف الرماديِّ عائداً إلى الجامعة.. وحينَ تذكّرتْ ذلك قالتْ مستخدمةً (نا) للتمويه المكشوف:
ـ (بنات المدينة بكرا بياخدو عقلك، وبتنسانا..)
كان وجهها عذباً كحروف اسمها (كوثر)، لم أجد ما أمسحُ به عن وجنتيها القلق، فحاولتُ أن أنقلها إلى فرح قريب:
ـ (راح تجي المسا تساعدينا بعصر العنب؟)
ـ فابتسمتْ، وهزّت رأسها بـ (نعم).
(2)
كوثر كانت أنثى ذكيةً بالفطرة، هنالك ذكاءاتٌ لاتحتاج إلى مدارس أو جامعات، ولا حتى قراءة كتب، تُخلَق هكذا مع المرء كلون عينيه، وتزداد مع الوقتِ توقّداً واتّساعا.. قالت:
ـ أرتاحُ لحديثك أكثر من كلّ أهل الضيعة، لأنّك تفلفس الحياة البسيطة، تقول أشياء كنتُ أودُّ قولها، أعرفُها و لاأستطيع التعبير عنها.. عندما تقولها أشعر بسعادة..
ـ كم مرة قلتُ لك (فلسفة) يا كوثر وليست فلفسة!
ـ المهمّ،، لن نختلف على حرف. نختلف برأيك؟
ـ لا، ولكن قولي فلسفة.
ـ أنتَ مزهوٌّ بنفسكَ لأنّك تدرس بالجامعة، حقّك، لكنَّ هذا لايمنحكَ سوى الكلمات أما الأفكار فهي موجودة هنا (ودقّتْ على رأسها). أتذكرُ حين نصحتَ لأختكِ يوم اختلفتْ مع زوجها وتفلفست علينا بقولك:
(إنّ الرجل كطفل صغير يختبئ خلف الستارة بقدمين ظاهرتين، ويغضب كثيراً من المرأة إذا أفسدت عليه اللعبة وكشفت مخبأه دون عناء.. يجب عليكِ أن تندهشي من براعته وذكائه الفريد، وتتظاهري بأنّه صندوق مقفل من الأسرار المهيبة، هكذا يحبّك أكثر..) أتذكر؟
ـ نعم، ولكن ما مناسبة هذا الحديث؟
ـ ما مناسبته؟! (وابتسمت) حقّاً أنتم بربع عقل، وتتهموننا بذلك ظلماً، مناسبته يدُكَ الطويلةُ تلك، التي تريد أن تلمس يدي دون أن تتلو اعترافها بالحب، تريد فقط أن تتدفأ بيدي ثم تمضي، ولايهمّك ما أشعر به بعد ذلك.. إنّ قدميكَ ظاهرتين من تحت الستارة أيها الماكر المسكين، ولكنني لن أندهش، وسأفسدُ عليكَ لعبةً أحبّ أن نلعبها معاً شرط أن يسبقها كلامٌ.. أم أننا لسنا على قدّ المقام؟ والكلام الحلو تخبّئه لبنات المدينة!
أنقذني من الردّ وصولنا إلى مشارف العمران، حيث بيتهم أول البيوتِ، لم أكن في الحقيقة جاهزاً بعدُ لمثل هذه الورطة المُلزمة التي تسعى لإيقاعي بها..
ـ أراكِ في المساء.. مع السلامة.
(3)
كنا نسمّيها (البيت الغربي) هي غرفةٌ واسعةٌ جدّاً شبابيكها تتسع عرضاً لصفائحِ السمنة الملوّنة المزروعة بالحبق، كما تتسع لطفلٍ شقيٍّ يجلسُ متعلّقاً بقضبان الحديد المتقاطعة على شكل مربّعاتِ تسرحُ منها أحلامُ الطفولةِ بعودة الأمّ من البيدر.. وفي صدرها حنانٌ وفيرٌ وحليبٌ غير مجفّف..
كان البيت الغربي موضع اعتزازي على مرّ الطفولة بين أترابي، حيثُ إنّه أحد أربع غرف في كل قريتنا سقفها من الحديد والإسمنت، ولم يكن يدلفُ في صحونٍ وسطول أيام الشتاء المطير كبيت كوثر.. وأمامه تمتد مصطبةٌ مصبوبة بالإسمنت أيضا تعلو عن الأرض ثلاث درجاتٍ، عند حافّتها شجرةُ توت كبيرة تُصدِّع جذورُها ظهرَ المصطبة، وتهدّد جدران البيت، غير أنّ أبي ولفرط اعتزازه بمتانة السقف يقول:
(إنّه قلعة! سيبقى إلى يوم النفخة، ولن تؤثر فيه شجرة)، فكانت أمّي تَلُوْح رأسها هامسةً بحيث لا يسمعها:
(التوتة عينها قوية.. سكبتُ على عروقها زيت كاز وما كانت تموت، والله شروشها تخرق البيت من أساسه.. لازمها قصّ بالمنشار..)
على تلك المصطبة كانت أمّي تركّبُ آلات معصرة العنب، مفرشٌ من البلاستيك السميك الشفاف، تحت جانبيه عمودان من خشب، وتتدلى شفته كميزابٍ ينسكب منه ماء العنب في طست العجين المدّور الكبير، وبينما تتولى أختاي ملء الأكياس بالعنب وإفراغها بعد عصرها في البراميل، كانت مهمتي أنا، وكوثر.. هرس العنب بأقدامنا بما يشبه الرقص،،،
وعلى صدر الحائط (لمبةٌ صفراء باهتة) ومسجّلة الـ (SONY) معلّقةً بودٍّ خشبي مثبّت في الحائط، كانت مسجّلةً يابانيةً أصلية كلما زارنا أحدٌ كان أبي يطلب منه أن يروزها ليتأكّد من وزنها أنّها ليست صينية، إنّها تهريب.. من لبنان، وتقلب الشريط لوحدها..
ورغمَ أنّها ليست سوى غرفة من اثنتين كانتا كلّ بيتنا، لا أدري لماذا أطلقنا عليها (البيت الغربي)، أكانتْ تلكَ نبوءة مبكّرة بأنْ سيكونُ لي ذات غربةٍ بيتٌ شرقيّ؟! أبكي منه ذاكرتي على قارعة شاشةٍ.. مكشوف الحنينِ على ملأ.. والحنين طفلٌ قرويُّ القسماتِ أغوته ذاتُ مالٍ تشتري له من آخر الشرق كراتٍ ملوّنة، ثمّ نفر منها باكياً يهرولُ باتجاه الغرب:
ـ لم أعد أريد طاباتٍ ملوّنة، أريدُ ولو لمساءٍ واحدٍ بيتنا الغربيَّ وجداول السكّر المخمور تسيل من تحت قدمي كوثر على مصطبته.
(4)
تحتَ كنزتها التفّاحيةِ اللونِ الطويلة العنق كان نهدا كوثر الطليقانِ يرهزان كرأسي زوجٍ من فراخ الأرانب يقضمان جزراً، بينما تدورُ غارسةً كعبيها أولاً في بطن كيس العنب، بخفةٍ ورشاقة.. وكان قدماها الصغيران الناعمان يكسوهما بريق ضوء المصباح الأصفر الباهت المنبعث من صدر جدار بيتنا الغربيّ، ويبدو انعكاس ذلك الضوء على ساقيها المغلّفتين بقشرةٍ شفّافةٍ من ماء العنب المركّز السكر كما لو كانتا ملفوفتين بالسيلوفان الصقيل..
وكانت أمّ كوثر التي التحقت للتوّ بفريق العمل تقلّب الأكياس تحت أقدامنا، لتوفّر علينا عناء الانحناء كل حين، وكي لاتُفلتَ حبّةٌ هاربةٌ في زاوية بعيدةٍ من مصيرها المهروس..
لم يكن عسيراً على أيٍّ من الحاضرين اكتشاف رغبة أمّ كوثر بتوفيق رأسينا بالحلال، فتارةً تقول لها:
ـ ارفعي هالمخباط عن الكيس، لتلفتَ نظري إلى نعومة قدمي ابنتها الصغيرتين الأنثيين حدّ ذوبانِ السكّر في ماء العنب..
وتارةً تقول لها:
ـ ليت لوجهكِ مثل بياض رجليكِ يا سودة.
وفي كل مرّةٍ تكظم كوثر غيظها الممزوج بالرضا، وتجيبها:
ـ أنا هربت منك.. فلمَ لحقتِ بي إلى هنا؟!!
وإزاء التزامي عدم المشاركة في تلك الحوارات، قررتْ أم كوثر اقحامي مباشرةً بالحديث فقالت:
ـ بدي ضحّكك يا أستاذ على كوثر حين كانت بالصف الأول كان أبوها يحفظّها (إنا أعطيناك الكوثر، فصلِّ لربكَ وانحر، إنّ شانئكَ هو الأبتر) وكل مرة ترجع تقول (إنَّ شانككَ هو الأبتر)..
ضحكنا جميعاً إلا كوثر التي حردتْ بطفولةٍ واحمرَّ خدّاها، وتركتْ الشغل لتجلس على كرسي وترخي بنطالها معلنةً الإضراب:
ـ على أساس إنتِ أشطر يعني؟ والله لو ما كنتِ أمّي..
ترجّلتُ أنا الآخر عن صهوة الكيس، وجلستُ على كرسي مجاور:
ـ شانئك، وشانكك مثل فلسفة وفلفسة.. لاتزعلي.. قومي.. العبرة بالأفكار وليست بالكلماتِ، أما قلتِ لي ذلك صباحاً؟!
فابتسمتْ ودرجت بنطالها من جديد على هيئة كعكة.. وتابعنا الرقص.
(5)
كان أبي مغرماً بإذاعة (مونت كارلو)، ولا يصدّق غيرها، يضع كرسياً بعيداً ويفرض علينا نشرة الأخبار.. وكانت كوثر تنتظر بفارغ الصبر أن تنتهي النشرة.. ليتركنا ويذهب إلى السهرة.. قالت لي همساً:
ـ كم مرة لازم يسمع الأخبار نفسها؟ ثم كيف يقولون (مقتل الشيخ بشير الجمييل) أليس مسيحياً؟ عندهم أيضاً مشايخ؟!! ولماذا يبدو أبوك فرحاً بموته؟
ـ لأنّه كان عميلاً للصهاينة، أبرم معهم اتفاقية مذلّة..
ـ الله لا يرده إذن!
وفي غفلةٍ من الحاضرين نبشت كوثر من عبّها شريط كاسيت بعد أن خرج أبي، وناولتني الشريط غامزةً بعينها أن أشغّله، وصارت أحلام الصبيةِ تسبح في صمت المساء الذي تتخلله قرقعةُ الأواني حيناً وأصوات استغاثة العنب المهروس حيناً، ويطغى عليه صوت أمّ كلثوم (أمل حياتي.. يا أحلى غنوة سمعها ئلبي ولا تتنسيش).
أختي الصغيرةُ كانت تنظر إلى كوثر بريبةٍ وحنق كلّما رأتها تهمس لي كلاماً لاتفهمه، لم تتحمّل أن تحظى رفيقتها بحلمٍ مبكّر.. فقالت لها:
ـ لاتنسي الشريط بالمسجلة لما تروحي، أخاف يضيع.
نظرتُ إليها بغضبٍ فخجلتْ، وحملت إناءً ثقيلاً أفرغته في البرميل باحتجاج، ورمتْ الإناء ليحدث ضجيجاً يغطّي على صوت الأغنية..
ما أعذبَكِ يا كوثر، ولكنَّ القلبَ معلّقٌ هناكَ، والعقل المعتوه يفرض على أحلامي شروط اليساريين، لابدَّ أن تكون أمّ أولادي قد قرأتْ (رأس المال) وأدب الواقعية الاشتراكية، وإلا كيف تربّيهم؟ نحنُ جيلٌ مسكونٌ بترّهاتِ المنظّرين، اعتقدنا واهمينَ بأنّنا ذات حوارٍ مغرقٍ في التنظير سنغيّر وجه العالم، بينما كان الآخرون يمشّطون لحاهم على مهل، ويحضّرون لنا من أصناف الموتِ ما يشتهون..
عيناكِ أطهرُ يا صغيرتي من أن ألوّث إغفاءة الحلمِ فيهما بوعد لن يكون، وأرقُّ من مخرز الصدماتِ.. سأتركُ ذاكَ البريق يخبو رويداً رويداً.. بألمٍ أقلّ.
ـ متى سيبدأ دوامكَ في الجامعة؟!
ـ بعد يومين.
ـ خذ الشريط معك.. اشتريته لك.
(6)
بعدَ يأسٍ، وافقتْ كوثر على الزواج من ابن عمّها عزيز، وغابت عن مواسم القطاف ومساءاتِ معصرةِ العنب، وكلّما تقاطعت نظراتنا مصادفةً في دروب الضيعة أو ساحاتها كانت تخزّني بنظرة عتبٍ حنونة، كمن يشفق على طفلٍ حطّم لعبته الثمينة..
وبعد ثلاثة شتاءاتٍ وصيفين من زواجها حضرت كوثر حفل زفافي صُحبةَ زوجها عزيز وطفلتها البكر (أميرة)، كانت أميرةُ آيةً بديعةَ الطفولة بدأت للتوّ ترسم خطواتها الأولى، وتقول (ماما) وتبصق على (عمّو) كلّما طُلبَ إليها ذلك..
على مصطبة بيتنا الغربي أقمنا حفل الزفاف البيتي البسيط.. أهل ضيعتنا يحضرون كلّ الأفراح والأتراح بلا بطاقات دعوى..
لم تفوّت كوثر الفرصة لترميني بسهم عتابها الأخير، قامت ترقص تقابلها أختي الصغرى، كانتا ترقصان معاً لغايتين مختلفتين.. حربٌ غير معلنةٍ تغلّفها ابتساماتُ المودّة الغيورة..
سحبتْ كوثر كأسَ العرق الممزوج، ومثّلتْ أنّها تشرب رشفةً منه، ثم مدّت لسانها وأرجعت أرنبة أنفها مشمئزةً من لذعته، وهي تهزُّ أصابع يدها اليسرى الخمس بليونة وسرعة.. واقتربت مني هامسةً وسط الضجيج:
ـ عرق أيام زمان كان أطيب، الظاهر أنّ الذي هرس العنب هذه المرة لم يغسل قدميه جيداً وينشفّهما بالمنشفة البيضاء كما كنّا نفعل..
وصلتني رسالتها ناصعةَ الخيبةِ، ضحكتُ بمرارةٍ ضحكةً عالية، فجذبتني العروس من كمّي:
ـ ما هكذا يضحك العريس يا متخلف،،، ماذا قالتْ لك؟ وكيف تشرب من كأسك؟
ـ لا شيء مهم لاتكبّري القصّة.
ـ أنتم أهل القرى لا أحد يفهم علاقاتكم غير الله.
ـ قلتُ (محاولاً استفزازها بمثير جديد ينسيها كوثر): بعد تبديل المحابس والتصوير سأخلع ربطة العنق هذه، رقبتي قصيرة وعريضة أكاد أختنق..
ـ إن فعلتَ سأترك العرس لك ولأهل ضيعتك.
أصلحتُ ربطة العنق المائلة، وجلستُ برزانةِ المثقفين لتمرّ الليلةُ على خير،
ولكنّني أعترف الآن وبعد عقود أنّ كوثر في تلك الليلة كانت هي الأحلى بعينيّ..
(7)
أكثر من ثلاثين عاماً مرّتْ على ذلك المساء،،، النسيان مجرّد حائط من الوهم، ما إن تهبُّ زوبعةٌ من الحنين بين الضلوع تقلع كلّ خيامنا، وتنفخ الغبار عن جرحٍ كنّا نظنّه اندمل، لنكتشف أنه لم يبرأْ بعد تماماً.. فيعاود النزف.. إننا في المحصّلة لسنا أكثر من ركام ذاكرة.. لايمحوها سوى الموت.
من أجل هذا، وحين وصل شبح الموت إلى كروم ضيعتنا رجع كلّ شيءٍ حيّاً يقاوم النسيان، ويفتح جرح ذاكرة الغريب في آخر الشرق، لقد تأشّب الغرباء من كل مستنقعات الأرض، وجاؤوا يحملون الحقد والدمار للدوالي التي كنتُ وكوثر ذات صباحٍ نقطف منها الخمرَ والسكّر..
ليس ثمةَ أقسى على الغريب من ليالي القلق والخوف على من يحب، ولا شيء أوجعُ من العجزِ عن مشاركةِ العيون البعيدةِ نظراتِ ترقّب المجهول.
الاتصالات انقطعت بكل أشكالها، والحصار يضيق، وأبي الثمانينيُّ الإيمان يفتح مصحفه العتيق على مصطبة بيتنا الغربي (القلعة) غير مكترث بكل نداءاتي إليه بالخروج، معظم رجال القرية رحّلوا النساء والأطفال إلى أماكن متفرّقةٍ وعادوا بمفردهم، ولكنّ كوثر أبتْ أن تترك زوجها عزيز قائد مجموعة الدفاع الوطني، وابنها (عمران) المتسربل بوشاحٍ من طلقات البي كي سي، عرفتُ فيما بعد أنّها قالت لهما:
ـ لماذا أعيشُ بعدكما؟! من سيطبخ لكما طعام الغداء؟
أريد خبراً بأيّ ثمن، اصطنعتُ لنفسي صفحةً مزوّرة على الفيس بوك، وجعلتُ صورة غلافها (حصاناً أبيض مرسوماً على بطنه علم الانتداب الفرنسي) وصار لي أصدقاء وصديقات (حلبية حرّة) و (حمصية داعسة راس العلوية) و (المهنّد التركاوي) المقيم في قطر، وقد عرفته شخصياً، هو واحدٌ من مهرّبي السلاح والمخدّرات سابقاً من قرية مجاورة، صار الآن مقاولاً كبيراً، وثائراً يفهم بالحرية وحقوق الإنسان..
استطعتُ أن أقنعَ التركاوي بهويتي المزوّرة، وصار يحكي لي على الخاص ما يجري هناك وما يعتزم أوباشه القيام به قريباً.. وصار يبشّرني ساعةً بساعة بعد أن وعدته بالتبرع بمبلغ من المال للثوار الأبطال بأنهم دخلوا القرية الفلانية، وقتلوا منها كذا شبيحاً، ويشارك على صفحتي صور الشهداء من أقاربي وأصدقائي ممهورةً
بـ (تمّ الدعس)..
وجهُ أبي، وأختي التي لم يُكتب لها نصيب بالزواج، هما كلّ من تبقّى في بيتنا الغربيّ، وقلبي أنا نارٌ وجمر.. والليالي موصولةٌ بالنهاراتِ عذاباً مضنياً لوجه الغريب وروحه.
ليتني أرى عينيك الآن يا كوثر.. ما أحوجني لذلك!! يا شريكةَ الرقصِ في بحيرات الخمر والسكّر.
(8)
خمسةُ أيامٍ كخمسين ألف سنةٍ مما تعدّون، كانت ثوانيها تمرُّ على صدر الغريب كسلاسل دبّابةٍ، تمكّنتُ في مساء اليوم الخامس من التقاط مكالمةٍ قصيرةٍ جدّاً مع أحد أبطال القرية المرابطين، قال لي سليمان العالي الجبين:
ـ نحنُ على التلّ، يرمون علينا صواريخ، ومعهم دبابات أولاد الحرام .. لاتخف لن يدخلوا.. لقد وصل النمر.. أطلقوا صاروخ، سلام..
كنتُ أتخيلُ وجهه الطيب المطمئنُ باليقين، وحاجبيه المقرونين، وألعنُ الغربةَ الجبانة،، ولكن من هو النمر ياسليمان؟
في اليوم التالي رأيتُ كروم ضيعتنا وبيوتها في نشرة أخبار الثامنة والنصف، بعد جولةٍ قصيرة استقرّت الكاميرا أمام حشدٍ يتصدّرهم عزيز بزيّه العسكري وشعره الأشيب، وفي الكادر البعيد للصورة كانت تظهر مصطبة بيتنا الغربي عليها ثمانينيٌّ يجلس على كرسي من البلاستيك، إنّه أبي يؤكّد لي من جديد أن بيتنا الغربيَّ قلعةٌ ولن تهدمه جذور شجرة التوت..
وفي الخلفية كانت صورةٌ كبيرة ملوّنة لشابٍ وسيم متسربل بوشاح من طلقات البي كي سي، اسمه (عمران).. وكانت كوثر تقفُ خلف عزيز رافعةً يدها اليمنى بكفٍّ مجموع.. لم يعد صدرها مشدوداً ويرهز كرأسي زوجٍ من الآرانب، صار سريراً ليّنَ الحنان شهيَّ الدفء.. كان عزيز يتحدّث عن بطولات الشباب، ويترحّم على الشهداء، ويتحدّى خفافيش الظلام الجبناء.. تداخلت كوثر على حديثه:
ـ لقد صاحوا بمكبرات الصوت إنّهم يريدوننا سبايا.. فشروا.
استأنف عزيز كلماته، وكوثر من خلفه متوّفزةَ الدموع ترفع يدها اليمنى أعلى فأعلى، وما إنّ انتهى عزيز من كلامه حتى انطلقت تقود هتاف المحتشدين:
ـ الله محيي الجيش.. الله محيي الجيش..
قرّبت الكاميرا وجه كوثر، رأيتُ عينيها البنيّتين تدمعان حزناً على عمران، واعتزازاً بعزيز، وفرحاً بالعيون الخضر ترفرف فوق كروم ضيعتنا..
وأنا أيضاً يا كوثر الغالية أبكي فرحاً برؤية وجهكِ عشقاً جديداً له رائحة وطن، متى يا توأم الروح نعاود الرقص في مساءات العنب..