يشي عنوان هذه الدراسة بما يتحصّل على أرض العالم العربي من أحداث، حصلت وتحصل من محيطه إلى الخليج. وهي أحداث ما زالت تتصاعد بوتيرة متسارعة منذ ما قبل انهيار السلطنة العثمانية، ومنذ اللحظة التي آذنت بها الدول الأوروبية بالإفراج عن خطة التفاهم بين الحلفاء على اقتسام مغانم الحرب الكونية الأولى، وعن كيفية التعامل مع الخاسرين من دول المحور. وكان من ضمن الخطة هذه، كيفية الإيفاء بالوعود التي أغدقت على المتعاملين معها من القوى الاقليمية العربية التي عوّلت عليها الكثير في تنفيذ كل ما يتعلق بسير المعارك في أرض غريبة. وهي تدرك أن ذلك لن يتم على الوجه الصحيح إلا عند اقتناع القوى العربية، وعلى رأسها الشريف حسين، بجدوى التعامل للوصول إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية إذا خسرت الحرب، وإنشاء المملكة العربية الكبرى بديلاً عن السلطنة، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الحسين، ومن ثم أولاده من بعده. وكان الأمر كله معتمداً على الوعود والآمال لتحقيق هذا المكسب الآني عن طريق رسم حدود الدولة العتيدة، دون وضوح في التكتيك، ولا في الاستراتيجية العربية، لكيفيّة الوصول إلى هذه المرحلة وتثبيتها .
الخديعة الكبرى
كانت مجريات الحرب تفرض على العرب والحلفاء التعاون في شكل مباشر، وبوساطة مندوبين سياسيين يعملون على وضع سياسة الفرنسيين والانكليز موضع التنفيذ في المنطقة العربية بالحوار مع ممثلي العرب، وخصوصاً الشريف حسين. وقد برز من هؤلاء إثنان من الإنكليز. إذ تمثلت هذه السياسة عسكرياً في الضابط الإنكليزي لورنس الذي تتبّع المعارك عن كثب، وقاد بعضها برفقة الأمير فيصل، ليكون على إطلاع مباشر بسير أمور الحرب في الجزيرة ضد العثمانيين، بعد إعلان الثورة، وليطّلع قيادته على المستجدات أولاً بأول. أما السياسة بمعناها الدبلوماسي فقد تمثلت بالسير ماكماهون، الذي كان عليه، من خلال المراسلات، أن يؤكد على مساعدة الانكليز للشريف حسين في تحقيق الاستقلال، وأن يقنعه في الوقت نفسه بأن ثمة منطقة في المشرق لا تعتبر عربية بالمعنى الصحيح، ويمكن أن يكون لها تدبير خاص لا يدخل ضمن الوعود الانكليزية في رسم حدود الدولة العربية الموعودة . وقد ظهر، من بعد، أن هذا التدبير كان يحمل في طياته سراً خطيراً، عملت الثورة البلشفية ، ومن ثم الشيوعية، على كشفه قبل نهاية الحرب، في العام 1917، من ضمن لعبة الأمم، وللتفتيش عن مواقع نفوذ في العالم لدولة فتية بنظامها الجديد، وقبل تنفيذ أي من الوعود المعطاة إلى العرب. تمثل هذا السر بوعد الحكومة الإنكليزية لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين .
الاعتبارات الأهلية
في هذا الجو المليء بالمخادعة والرياء، تم الاتفاق الشفوي غير الملزم بتعيين الشريف حسين ملكاً على البلدان العربية المستقلة عقب انتهاء الحرب. وكان أن أخلف الحلفاء بوعودهم، وأنهوا الدولة العربية المقامة في المشرق على يد الملك فيصل، بعد هزيمة الجيش العربي في ميسلون، عندما تكشّفت الخطة بتقسيم البلاد السورية بين الفرنسيين والانكليز، حسب ما قررته اتفاقية سايكس بيكو (إيار 1916). وقد ظهر في خضم هذه الأحداث وعد بلفور الذي أعطى لغيره ما لا يملكه (تشرين الثاني 1917). وتجلى الخداع بأوضح معانيه، على شكل إذاعة أسرار العلاقات الدولية من قبل طرف ثالث. وتبين أن العرب كانوا الخاسرين، واليهود كانوا أكثر الرابحين، واستلمت فرنسا وبريطانيا شؤون البلاد السورية في قسمة متفق عليها مسبقاً. وكان أن أصبح لبنان "كبيراً" بضم الملحقات مع أرجحية حكم للموارنة من المسيحيين. ووجد العرب أنفسهم في موقع الخاسرين على كل الجهات. أرض سُلبت، على شكل وعد، قبل أن ينتزعها اليهود من أيدي العرب؛ وأرض تقسّمت تحت سيطرة استعمار مباشر. ولم يحز الشريف حسين وأولاده إلا على قسم من الوعد بعد الهزيمة المنكرة لجيش فيصل . وما كان تنفيذ هذا القسم من الوعد إلا تثبيتاً لأمر واقع في حكم وراثي لا يقدم شيئاً خارج المنطق القبلي الذي ما زال مستمراً منذ أزمنة مغرقة في القدم، ولم يصبه شيء من التغير، إلا في تبعية القبائل الصغرى للقبائل الأكبر والأقوى. فانحسرت، بذلك، قدرة السلطة الواحدة، وانقسمت إلى سلطات، وتوزعت بين حواضر العرب وصحرائهم في الجزيرة العربية ومناطق الخليج، وإن بقيت جميعها تحت سيطرة اقتصادية وسياسية لقوى ودول كبرى متأتية من خارج المنطقة، ومن خارج العرب.
كان على عموم العرب، في كل أطيافهم وحواضرهم وانتماءاتهم، ولغياب الرؤيا والاسترتيجية، أن يتعاملوا مع المتغيرات الدولية، والتحولات السياسية، بالانفعال وردود الأفعال تجاه ما يحصل من أحداث، وعلى المستويات كافة. وما كان لهم أن يدركوا بالتمام ما كان يحصل، ولا ما عليهم أن يفعلوا إلا المطالبة بالاستقلال، وترسيم الحدود، وتثبيت مواقع الحكم، وطلب المساعدات. وفي ظل الإلحاح على تكرار هذه المطالب، والأمية الثقافية، والانغلاق على معارف العصر وعلومه، كانوا يتصرفون بما يمليه عليهم العقل النصّي الذي يستمد معارفه وتطبيقاته العملية من نصوص القرآن، ومن التشريعات الدينية التي توصي بإطاعة أولي الأمر، والمسير بما يقتضيه الشرع، وبما يمليه على المؤمنين من أمور الطاعة والاقتداء بالسلف الصالح، على اعتبار أنهم يدركون مصالح المؤمنين، ويعملون بما يوصل إلى نصرة الإسلام والمسلمين.
يقول زين في هذا المجال، إن القضية العربية لم تكن معروفة في القرن التاسع شر، حتى أن عرب الدولة العثمانية لم يكونوا معروفين بهذا الإسم. وكان العرب والأتراك معروفين باسم الاخوان في الدين، وباعتبارهم مسلمين قبل أي شيء آخر . ويسند كلامه بأمثلة مستقاة من مصادر إسلامية وأجنبية؛ منها ما يقوله عبد الرحمن عزّام في هذا الخصوص: "المؤمنون في جميع أطراف الأرض إخوان لا تفرّقهم الأوطان ولا العصبيات ولا المذاهب ولا المنافع ولا الخوف ولا المنعة ولا العبودية ولا سبب من الأسباب. للمسلم حق الأخوّة على المسلم أينما حلّ وأينما كانت الدار فلا جنسية غير الجنسية المشتركة التي يكفي لثبوتها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. والدعوة المحمدية لا تعرف الوطنية والعنصرية بالمعنى الحديث، فوطن المسلم ليس له حدود جغرافيّة، فهو يمتد مع العقيدة، بل هو في الحقيقة وطن معنوي كما أن الدين أمر معنوي والمسلم أخو المسلم إينما كان، جاوره أم تباعدت به الأرض، والمسلم أينما حل في دولة إسلامية فقد حلّ في وطنه" .
هذا ما دعا عموم المسلمين إلى السكوت، وإن على مضض، عن مسالك الشريف حسين وجيشه الذي ناصر غير المسلمين ضد الخلافة والدولة الاسلامية التي تعمل على نصرة الاسلام والمسلمين، وإن شابها نوع من الضعف والانحلال. وقد عبّر عن هذه المفارقة زين نور الدين زين بقوله: "من الممتع أن نشير أن ثورة الشريف حسين ضد السلطان الذي هو أيضاً خليفة المسلمين نزلت كالصاعقة على كثيرين من المسلمين السنيين في جميع أنحاء العالم، ولاسيما بين مسلمي الهند" .
وإذا اعتمد هؤلاء على الاجتهاد الفقهي الذي يقضي بأن الضرورات تبيح المحظورات، فإن هذا التوجه له ما يبرره إذا كان في سبيل الوصول إلى مرحلة أفضل من تلك التي سمحت بإباحتها. إلا ان ما حصل، أظهر مدى الخسارة التي مُني بها العرب، وعلى كل الأوجه والاحتمالات التي كانوا يأملون منها في الوصول إلى الاستقلال والوحدة، تحت راية عربية واحدة بما يعزّ العرب والمسلمين.
الانتماء الأهلي للعرب، وطاعتهم لأوليائهم أضاعا عليهم محاسبة المسؤولين عن هذه الخسارة. والتفتوا من بعد، إلى تدبير أمورهم بما هو متوفّر، وبما يمكن الحصول عليه في علاقاتهم مع قوى عظمى لا حول لهم في مواجهتها ولا قوة. فتهافتوا على ركوب الموجة الحديثة في التعاطي مع شؤون الحكم والافادة من مغانمه. وذلك لم يكن من أجل أن يعملوا على ما يمكن أن يعوّض الخسارة بعد انتهاء الحرب، بل من أجل بناء مواقع سلطة جديدة، تأخذ من عناصر الدولة الحديثة صورها ورموزها، وتعمل عليها ما يمكن أن يرسّخ السلطة، ويؤمّن الاستمرارية في الحكم، في شكل لا يختلف عن الوراثة القبلية، أو الذهنية التي تحكم من خلالها الدولة، كما يحكم شيخ القبيلة أتباعه ومريديه.
في هذا الجو المشحون، والمتعكّر بمزاجيّة المستعمرين، والحكام المحليين، والمستفيدين من التحوّلات التي حصلت على غير ما كان يأمل العرب، وعلى غير ما كان يتوقع من يعتبرون أنفسهم من غير العرب، اختلطت الأمور وتضاربت المصالح، وعمّت البلبلة. فعمل الجميع، عرباً، وغير عرب، على قدر ما يعتقدون، في توجهات مختلفة، ومتناقضة، آخذين من الانتماء الديني والمذهبي والعنصري والعرقي والمناطقي وسائل التوجه والمطالبة. وكلٌّ يريد دولة على مقاسه، وأرضاً مخصوصة، وحكاماً على أديان رعاياهم، ورعايا يمتثلون لحكامهم بالمَونة الأهلية، دينية كانت أو مذهبية أو طائفية، أو مناطقية. وتزايد الجهر بالانتماء الأهلي، وعمل الجميع على زيادة التوتير والانقسام، وشحن النفوس. واستعجل الجميع تظهير ما كان يرسم في الجلسات المغلقة، ليعرفوا على أي وجه يقيموا صلواتهم. والقيّمون على الأمور، كلٌ في ميدان سطوته، يرون، في ذلك، المبرّر الأساسي للتعمق في هيمنتهم، والاستزادة من شد قبضاتهم على البلاد والعباد.
هذا الجو العام بطبيعته، يشدّ العواطف ويزيد الانفعال للتوغل أكثر في الانتماءات الأهلية، دون اعتبار لما يمكن أن يكون مشتركاً في عملية الانتماء. ذلك أن هذا الانتماء المشترك لم يكن متبلوراً بعد، كما أن إمكانية وجوده تغطّت بطبقة سميكة من الاعتبارات المللية التي أورثتها السلطنة العثمانية لرعاياها، على أن تكون الملّة الإسلامية السنيّة على رأس هذا الهرم الذي يتكوّن من أعلاه إلى قاعدته بتراتب ملّي، للعدد فيه الأولوية. وقد أعطى نظام الملل لكل رأس في ملّته – وهو بطبيعة الحال رجل الدين المبجّل فيها- سلطته الروحية، والزمنية بما يرتئيه هو بذاته كصاحب سلطة. واعتبره النظام، بالاضافة إلى ذلك، صلة الوصل مع السلطة الحاكمة، من الوالي إلى الباب العالي . وعليه، كان لا بدّ لهذا التوجه أن يكون هو السائد، إن كان في نظرة الراعي إلى الرعايا، أو في نظرة الرعايا إلى الراعي. وما كان ثمة إمكانية لوجود توجّه غير هذا التوجه.
ما يعطي لهذا الكلام صدقيّته وواقعيّته هو أن بداية نشوء الدول المشرقية، وعلى يد الدولة الفرنسية العلمانية، كان على أساس مذهبي ديني، بعد تصنيفها لهذه الدول على النهج الذي كان متداولاً: دولة للعلويين ودولة للدروز ودولة فيها أرجحية للموارنة في الحكم، مع توسعة لأراضي الجبل ما لبثت أن قلبت المعادلة، ودولة لليهود كانت بدأت تتشكل عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى وازدياد الهجرة إلى فلسطين. وهي الهجرة الممنهجة بمنظماتها الارهابية العاملة على توسيع مناطق نفوذها على حساب مالكيها الفلسطينيين. نظام دقيق من التبرعات وعمليات الشراء والإستيطان، بالاضافة إلى الإرهاب وبيع الأراضي والتهجير القسري. ذلك كله، والقادة العرب غافلون. فكانت النتيجة تضاداً ثنائياً بين هجرة يهودية إلى فلسطين من كل مكان في العالم، وتهجير فلسطيني إلى كل بقاع العالم، هذا إذا وجد الفلسطينيون من يستقبلهم في بلاد غير بلدهم.
لم يكن الانتماء الأهلي إلا إنتاجاً لواقع اجتماعي تاريخي عمل على استعمال هذا الانتماء بصيغته الأهلية، وبالعاطفة التي تنتجها مثل هذه الصيغة . وتحوّلت العاطفة العربية، باعتبار الدين واللغة والمشاعر المتشكلة من تاريخ طويل من التكيّف، أو المعاناة، مع الحاكمين من غير العرب، لتشكّل في مجموعها رابطة عاطفية مشتركة. وقد ظهرت أول ما ظهرت، على لسان وتحت أقلام رجال عرب، وجلّهم من المسيحيين، لتكون هذه الرابطة السند والدافع إلى المطالبة بالاستقلال عن السلطنة العثمانية. وقد تزامن هذا التوجه، مع اهتمام جليّ وواضح من قبل المفكرين المسلمين بوجوب العمل على التغيير، دون أن يعني ذلك التخلص من السلطنة العثمانية. ذلك أن هؤلاء كانوا يريدون إصلاحها من خلال المطالبة باللامركزية، والإلتفات أكثر إلى البلدان العربية، وإلى توسيع مشاركتهم في حكم الدولة، وخصوصاً في الولايات العربية، وإلى زيادة الاعتبار لهم، كعرب. ولم تتغير نظرة العرب المسلمين إلى الدولة العثمانية إلا بعد أن تغيرت نظرة هذه إلى نفسها، أولاً، ومن ثم إلى العرب ثانياً. ذلك أن جمعية الاتحاد والترقي قلبت توجه الأتراك الاسلامي، ودعت إلى القومية التركية، وإلى اعتبار العرب من الدرجة الثانية في تبعيّتهم، وفي نظرة الدولة إليهم. فاستخلص العرب من ذلك، أن الأتراك ابتعدوا عن الاسلام، واقتربوا من القومية الطورانية. وهذا بحد ذاته، يشكّل غربة عن الاسلام والمسلمين، وإن بقوا في تأسيسهم لسلطتهم الحديثة يتكئون على الخلافة الإسلامية ونهجها، وإن كان صورياً.
هذا ما دعا العرب إلى الابتعاد عن الأتراك. فتوغلوا في مجافاتهم إلى أن وصل الأمر إلى محاربتهم من قلب الجزيرة العربية، ومن بعد، من كل مكان في البلدان العربية يدين بالولاء إلى خادم الحرفين الشريفين. هنا، ولأن الدعوة إلى القومية العربية كانت سياسية في الأساس، رأى العرب المسيحيون أن المطالبة بها لم تعد ذات شأن، بالنسبة إليهم، عندما تبنّاها المسلمون باعتبارها قضيتهم في مواجهة الأتراك الطورانيين. ووجد هؤلاء أنفسهم في ورطة سياسية. ذلك أنهم استنتجوا أن مطالبتهم بالقومية العربية ستنقلهم على يد المسلمين المطالبين بها، إلى موقع آخر أكثر تأثيراً على وجودهم. ما يعني أنهم سيتخلصون من الدب التركي، في حال نجاح الثورة العربية، ليقعوا في الجب العربي، ومن ثم الضياع مجدداً في بحر متلاطم من المسلمين ، وبنسبة عددية لا تقاس بها نسبتهم، وحتى نسب الأقليات غير السنّية معهم. ووجدوا أن الانتقال من نظام يعطيهم حقوقهم واستقلاهم الذاتي بموجب نظام الملل، إلى أكثرية من العرب المسلمين السنّة، وربما غير العرب منهم، لن يُبقي على شي مما كان بأيديهم من النفوذ أو السلطة .
المنازعات الأهلية
تحول النضال السياسي، نتيجة لهذه الاعتبارات، من المناداة بالقومية العربية، إلى المناداة بالقومية اللبنانية. وتحولت الإيديولوجيا السياسية من التفتيش عما يدعم العروبة باعتبارها حاملة لأصناف العرب جميعاً، إلى لبننة مختصة بالمسيحيين. وتحولت العروبة التي تمخضت عن العثمنة ورفضت التتريك، إلى موقع جديد وجد اللبننة مقابله، وعلى الوجه النقيض. وفي الموقعين، عمل المنتمون على بلورة إيديولوجيا سياسية لكل منهما. وبقي العمل محصوراً في توجهه السياسي في الموقعين، ولم يصل أي منهما إلى بلورة مضمونهما العقدي، وفكرهما الحضاري، لتستوعب كل المنتمين إلى دنيا العرب، أو إلى دنيا لبنان. وعمل مفكرو الموقعين جهدهم لإيجاد العقيدة التي يمكن أن تجمع، فلم يجدوا إلا الآمال والأماني المنتمية إلى الحقل الأهلي، إن كان في أمور الدين أو الدنيا . وظهر الأمر على وضوح شديد السطوع: تمَوضُع العروبة المحمولة من المسلمين، والسنّة منهم على الخصوص، في الموقع المقابل للّبنَنَة المحمولة من المسيحيين اللبنانيين، والموارنة منهم على الخصوص، وعلى أمل أن ينضم إليها من يرى ذلك موجباً من المسيحيين في البلدان المحيطة.
لم يكن الخلاف على الوجه الثنائي النقيض بين العروبيين واللبنانيين، أو بين المسلمين والمسيحيين، إلا باعتباره وجهاً من وجوه الخلاف بين العنصرين المتأتيين من الصراع العربي التركي المخلوق للتدليل على أحقية العرب في حكم أنفسهم بالاستقلال اللازم، والحضور المميز لدنيا العرب في العالم.
هذا التوجه فرضه تاريخ العرب وحضارتهم المحمولة باللسان العربي المبين وبالدين العربي الذي انطلق من الجزيرة العربية إلى العالم، ومما أوجدته هذه الحضارة من صنوف الحكم والتوسع، ومن أنظمة استمدت روحها من تعاليم الاسلام، وتوطّدت بحكم إنساني قرُب أو ابتعد عما يقوله التشريع الديني في قضايا التعامل بين البشر. وكانت دمشق ومن ثم بغداد، نقطتي الانطلاق لهذا التراث الحضاري المستجدّ، والمنبني على ما قدّمه الاسلام، في تفاعله مع هذه الحواضر، من صنوف العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وقد أوصلت هاتان العاصمتان الحكم العربي الموصول بالخلافة برباط تأسيسي، إلى أماكن قصيّة في آسيا وأوروبا وأفريقية، بصرف النظر عن قربها مما أراده الاسلام من صنوف الحكم الذي مورس باسمه، أو بُعدها عنه. ذلك أن الإسلام لم يحدد صنفاً معيناً من صنوف الحكم، إلا بما ينشأ عن الشورى، وهي مبدأ الاسلام في الحكم ودليله على أهمية أن يكون وضعياً، وإلا تحول إلى ملك عضوض تتضافر فيه أمور السياسة مع أمور الدين .
الحقل المعرفي للعروبة
في كل هذا التوسع والامتداد، كان الحكم العربي الاسلامي يقوم على مبدأ الخلافة والتوريث في الحكم، مع ما يجرّه ذلك من صنوف الحقد والدسائس والقتل للاستئثار بالحكم أو لحرمان من له الحق في ذلك، من أجل حصره في الأبناء، إلى التسلط والاستبداد. وكان من جملة الخصائص في الحكم، تميّز العصر السياسي إما بالانفتاح والتسامح في أزمنة القوة والسيطرة، أو التزمت الصارم في أزمنة الضعف والتخاذل. وفي هذه الأجواء جميعاً كان الائتلاف والانسجام، أو الاختلاف والتصادم واضحاً بين أهل السلطة السياسية والسلطة الدينية، حسب ما تمليه أوضاع الخلافة، أو السلطنة، في علاقاتها مع الخارج، المنعكس دوماً إيجاباً أو سلباً في علاقاتها مع الداخل المتعدد إتنياً ودينياً ومذهبياً، ومناطقياً بين الحواضر والأطراف، وحتى في أحيان كثيرة داخل الحواضر نفسها .
أسوق هذا الكلام للتدليل على أن ماضي العرب وحاضرهم لم يعرف نظاماً سياسياً، مبنياً على مبادئ معلومة في الفكر السياسي إلا بما نشأ من خلال العلاقة بين الحاكم الشرعي المستمد لشرعيته من الدين، مع التأكيد الواضح على التلازم المفصلي الذي لا يمكن أن ينفصم بين الدين والسياسة. فالسياسة منبثقة مما يقوله الاسلام في هذا الخصوص. والاسلام معنيّ بشؤون الدنيا عنايته بالشؤون الإلهية، فهو دين ودنيا. وعلى المسلمين أن يديروا عوالمهم على هذا الأساس. وعليه، أي خروج عن هذا التوجه، يصب في غير مصلحة الإسلام، وعلى غير ما يريده المسلمون. ويمكن لأي خروج عن هذا التوجه أن يتم تجاوزه من قبل عامة المسلمين وخواصهم، إذا كان في خدمة الاستراتيجية العامة التي أوجبت هذا الخروج. أما في حال إذا كان لبناء صرح فكري وثقافي مبنيين على موجبات النواميس الاجتماعية والبحث العقلاني القائم على علم الاجتماع والفلسفة وعلم السياسة، فهي من المروق من الدين، ومن البدع التي تستوجب المقاطعة والتقريع، باعتبار أن كل ما هو متأت من خارج الاسلام بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
هذا التوجه الإسلامي العام، لم يستطع العروبيون تجاوزه في أفكارهم النيّرة، إن كان باعتبار توطينهم لمفهوم القومية القادم من الغرب، وإن كان ذلك قد بدأ مع المسيحيين؛ أو كان بالنسبة للتجديد في الفكر الاسلامي الذي عمل محمد عبدو على إظهاره من داخل العقيدة الاسلامية ، وبإيحاءات مباشرة وغير مباشره من إشارات تثاقفية حصلت له، أو وصلت إليه من آخرين احتكوا بالغرب ولاحظوا مدى التقدم الذي بلغه، من غير أن يكون أهله من المسلمين. فعمل هؤلاء، ومنهم الطهطاوي والأفغاني والكواكبي ورضا، وغيرهم كثير، على الافادة مما لاحظوه وعايشوه، لينهضوا من خلاله، بالمسلمين وبالبلاد الاسلامية. وفي الحالتين لم تتبلور الفكرة التي يمكن أن تفصل بين العروبة والاسلام، ولا بين العرب وغير العرب من المسلمين، ولا بين العرب المسلمين أنفسهم، وبين العرب غير المسلمين. وكان أن ظهرت العروبة على هذا الوجه الملتبس الذي عليه أن يغيّب من خارطة الوجود العلني من هم من غير العرب من المسلمين، ومن هؤلاء الأكراد والتركمان والشراكسة والبربر الأمازيغ؛ ومن هم من العرب غير المسلمين، ومنهم، الأقباط والأشوريين والكلدان والسريان؛ ومنهم من العرب غير المسلمين السنّة، ومنهم الشيعة والخوارج والعلويين والاسماعليين واليزيديين والزيديين والدروز، وغيرهم أيضاً.
الحقل المعرفي المغاير
هذه المجموعات المتنافرة من حيث الوجهة الإتنية والعنصرية والدينية والمذهبية ترى أن العرب عنصر من هذه العناصر، ولا يهمّ، من بعد، إذا كانوا الأكثرية لأن العدد لا يضيّع الحقيقة. والأمر نفسه بالنسبة للسنّة من العرب، فلا يغطي حقهم بنسبتهم إلى العروبة، حق الآخرين بنسبتهم إلى العروبة، وإلى جغرافية بعينها كانت ملجأهم التاريخي أو بيئتهم التي نشأوا وتكاثروا فيها، إذا كان لا بد من نسبة شعب إلى جنسه، أو دينه أو مذهبه، أو إتنيته وعنصره.
في ظل هذه البلبلة على المستويات المذكورة أعلاه، بالاضافة إلى وجود وعاء مرجعي تعود إليه كل فئة من الفئات المختلفة في توجهها، كان لا بد أن يكون الحاصل لديها متأتياً من انتمائها الأهلي الذي هو الرابطة الأولية للإنسان منذ وُجد. وهذا الوعاء ما عاد قادراً على الإيفاء بمتطلبات الجماعات وعلاقاتها فيما بينهما، بحكم التطور العام، والتقدم الحضاري على كل المستويات، وبفعل التواصل والتثاقف الذي بدأ يحكم المجتمعات الانسانية في كل مكان، منذ بدايات القرن العشرين.
كان من جملة ردود الفعل على الأحداث التي كانت تحصل في جبل لبنان، على سبيل المثال، ما يمكن استخلاصه من الأحداث التي كانت تلهبه منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر. كانت هذه الخلاصات ما تجمّع لدى بطرس البستاني، وما دعاه إلى إصدار جريدته "نفير سورية". لقد ظهر لهذا المصلح الاجتماعي أن الاقتتال الطائفي ما هو إلا الوسيلة لدمار البشر والحجر. فدعا إلى التآلف والتآخي باعتبار أن الدين لله والوطن للجميع. وحاول أن يفصل، ولو عبر مقالاته فقط، بين الدين والسياسة، وهي الفكرة التي كانت غريبة عن ذهنية العرب وتصوراتهم السياسية، مسلمين كانوا أو مسيحيين، وإن سبق هؤلاء أولئك لقدم تواصلهم مع الثقافة الغربية. إلا أن هذا التوجه بَلَعته السياسة الدولية في تشريع الطائفية في نظام المتصرفية .
كان من الطبيعي أن يستمد مفكرو النهضة العربية أفكارهم القومية من حقول فكرية متعددة، منها الحقل الفكري الإسلامي في توجهه الحضاري باعتباره مفصحاً عن دين عالمي النظرة ولكل الناس؛ ولكن بالاضافة إلى ذلك، كانوا يعتمدون على حصيلة الأفكار التنويرية التي أنتجتها أوروبا الحديثة في الاجتماع والسياسة والحقوق الانسانية، بالاضافة إلى النظرة العقلانية للدين بعد فصله عن أمور السياسة، واعتماد العلمنة في الشؤون الدنيوية. كان هؤلاء في أكثريتهم الساحقة من المسيحيين الذين عليهم أن يبتكروا الصيغة الحضارية التي تجمع في أمور الدنيا المسلمين والمسيحيين معاً، بصرف النظر عن الانتماء الديني الذي هو لله وحده، وبموجب علاقة فردية روحية بين المخلوق والخالق. وفي الآن عينه، تطلّع المفكرون المسلمون إلى الكيفية التي بموجبها يمكن الإفادة مما قدّمه الغرب، وخصوصاً أوروبا، في شؤون الاجتماع والسياسة في الشكل الذي يخدم التوجة الإسلامي المبني على الدين غير المفصول عن الدنيا. وكانت حصيلة المسألة أن التقى الجميع على وجوب العمل من أجل النهضة العربية، وإن بتوجهات مختلفة. إلا أنها بقيت جميعها ضمن الإطار السياسي والفلسفي، ولم تتحول إلى التطبيق العملي إلا من هاتين الوجهتين اللتين عملتا على مناهضة الحكم العثماني، وإن على موجتين مختلفتين: الاستقلال التام كما طالب به المسيحيون مع أقلية ضئيلة من المسلمين، وكان على رأسهم عبد الرحمن الكواكبي؛ أو الاصلاح ضمن اللامركزية العثمانية مع الاهتمام أكثر بالعرب وإعطائهم شيئاً من الاستقلال الذاتي على أبعد تقدير.
بعد استقرار الأمور في العشرينيات من القرن العشرين على دول متعددة في المشرق العربي، من العراق إلى لبنان، ظهر أن ما أنتجته العلاقات العربية الدولية يقوم على ما أراده الحلفاء، إن كان بتوريث أبناء الشريف حسين مملكتي العراق وشرق الأردن، بالاضافة إلى الجزيرة العربية، أو بإنشاء الدول التي تقوم على الأساس الطائفي، كما بيّنا سابقاّ.
الحقل المعرفي الجديد
لم تظهر الأمور إلى العلن، على غير ما قررته فرنسا وبريطانيا في اتفاقية "سايكس بيكو" إلا مع انطون سعاده (1904- 1949)، مؤسس الحزب السوري القومي، والقومي الاجتماعي فيما بعد، في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، وإن كانت إرهاصاته الفكرية قد بدأت تظهر قبل ذلك بعقد من الزمن. وقد جاءت هذه الأفكار، في البداية، تكملة لما كان قد ظهر قبل هذه الفترة منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين، ومنها كتابات بطرس البستاني وناصيف اليازجي وابراهيم اليازجي وأديب اسحق وشبلي الشميل ومحمد عبدو وعبد الرحمن الكواكبي وخليل سعاده، وفرح أنطون، وغيرهم.
إلا أن ما ميّز سعاده في هذا المجال هو بلورة أفكاره الوطنية في قالب عقدي نظرياً. ومن ثم العمل على تحويلها إلى واقع عملي، من خلال إيجاد الأداة التي يمكن أن تحوّل النظرية إلى فعل منظّم يتجه في مسيرته العملية المنظمة إلى توحيد المجتمع وبناء الأمة القوية، وهو الحزب بتنظيمه وبتراتب قيادييه وبقاعدته الواعية لماضي أمتها وحاضرها، والمتطلعة إلى بناء مستقبلها لتكون ذات الشأن بين الأمم .
كان لتأسيس الحزب ذي الأفكار البيّنة والمبنيّة على وحدة المجتمع بكل أصنافه وتياراته وفئاته، المَعْلم الأساسي في توجه فكري جديد، لا ينبني على انتماءات أهلية من قرابية ومذهبية وطائفية وإتنية. بل جاءت لتقول بوحدة المجتمع إنطلاقاً من وحدة الحياة وتشابكها في أضيق مجتمع محلي، إن كان قرية أو قبيلة أو عشيرة أو مدينة، إلى أوسع مجتمع يمكن أن تجري فيه دورة الحياة الواحدة والمصالح المشتركة؛ وهو المتحد، في صغيره وكبيره، الذي عادة ما يتحدّد في بيئة جغرافية معينة، نطلق من خلالها إسم هذه القرية أو هذه البلدة، أو المدينة أو مجتمع الدولة… وهكذا وصولاً إلى المتحد التام، الأمة؛ ومن ثم إلى أوسع متّحد يمكن تصوّره، وهو متّحد الأرض، مقابل كواكب أخرى إذا كانت مأهولة، أو غير ذلك.
لا شك في أن أنطون سعاده استمدّ أفكاره من خارج الحقل المعرفي العربي الاسلامي. إلا أنه أعطى، في هذا الإطار، الأهمية الكبرى لما قاله ابن خلدون ( 1332- 1406) في مجال الاجتماع الانساني. واعتبره رائداً في علم الاجتماع، وفي أطوار العمران ونشوء الدولة ومنازع الملك، وهي أمور جرى تداولها تحت قلم ابن خلدون خارج إطار الدين وتوجيهاته، باعتبارها شؤونا دنيوية، وذلك قبل نشوء علم الاجتماع الغربي بأربعة قرون. وعلى هذا الأساس بنى سعاده نظرته إلى المجتمع وتطوره وكيفية انتقاله من نمط عيش إلى آخر، انطلاقاً من تلك العلاقة الجدلية التي تربط فكر الإنسان مع طريقة حصوله على المعاش . ومن ثم الدخول في تحديد المتحد واعتباره المنتج لثقافته الناشئة عن ظروف حياة أهله مع واقعهم الاجتماعي .
من المهم هنا، أن نبيّن ما يعنيه مفهوم المتحد، لمركزيّته في الفكر القومي عند سعاده. فالمتحد عنده هو "اتحاد مجموع من الناس في حياة واحدة على مساحة محدودة يكتسب من بيئته ومن حياته المشتركة الخاصة صفات خاصة به، إلى جانب الصفات العامة المشتركة بينه وبين المحيط الذي هو أوسع منه، وبينه وبين جميع البشر، وبينه وبين المتحدات الأخرى" . لذلك قرر، بناء على أسس علم الاجتماع، أن الاختلاف بين ثقافة كل متحد هو خلاف ناشئ عن اختلاف المتحدات، وليس العكس. وهذا يظهر، على الأقل، لأي متتبع منا لهذه الاختلافات مهما كانت بسيطة. فإذا تطلّعنا إلى قريتين متجاورتين، نلحظ منذ اللحظة الأولى اختلاف اللهجتين، وعلاقة سكان كل منهما بالبيئة المحلية، ومن ثم اختلاف العلاقات الاجتماعية بين سكان كل منهما، وطرق التماسك أو وسائل إظهار الاختلاف أو الخلاف لدى كل منهما، من ناحية؛ أو لدى محاولة إظهار علاقة كل منهما تجاه الأخرى، من ناحية ثانية.
كل هذا الكلام، لم يعط للسياسة أي فاعلية في بناء المتحد. ذلك أن المتحد هو الذي يبني سياسته، وبالطريقة نفسها التي يبني فيها ثقافته واقتصاده، من خلال ما ينتج عن ظروف المتحد من علاقات، وهي في الأساس علاقات سلطوية من نوع ما، متمفصلة مع نمط معاش. وإذا كانت السلطة هي بدء السياسة، لأن لا متحد بدون وجود سلطة، أي بدون سياسة تسوسه، فإن المتحد يقوم ويستمر على تحصيل المعاش، ونوعيته مخصوصة به، وإنطلاقاً من سياسة مخصوصة أيضاً. وفي الحالتين تتحدّد علاقة رأس المتحد مع القاعدة، إما بعامل القرابة، أو بعامل الاستتباع، إذا كان ثمة عدة رؤوس. ويظهر ذلك جلياً من خلال انفراد شخص واحد بالسلطة، أو توزعها برئاسة القبيلة الأكثر عدداً وعصبية. وفي الحالات جميعاً تختلف العلاقات المُنشأة في المتحد، عن العلاقات المنشأة في متحد آخر، لإختلاف المتحدين.
لهذا يعطي سعاده للمتحد، على أي وجه كان، صفته الاجتماعية، باعتباره واقعاً اجتماعياً، قبل أي شيء آخر، ومن ثم تتحصّل الأمور على الأوجه الأخرى السياسية والاقتصادية وغيرها، وإن كانت جميعها تتزامن في الوجود. إلا أن الوجود يتحدّد أولاً بتحديد المتحد اجتماعياً، وجغرافيّاً، ومن ثم تأتي المسائل الأخرى، باعتبارها انتاجاً مجتمعياً في الأساس.
ظهر هذا التوجه السوسيولوجي زمنياً مع ظهور الفكر القومي في أوروبا، ومع نشوء القوميات الكبرى في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا، وإن كان بأساليب مختلفة، مع وجود المستعمرات التي ربما، كانت الدافع الأساسي لإيجاد القوة اللازمة للدفاع عن هذه المستعمرات خارج أوروبا. والقوة اللازمة لا يمكن أن تظهر إلا بتوسل الوحدة القومية، والعصبية التي عليها أن تفعل فعلها في الحفاظ على القوة. وقد تبيّن، من بعد، أن هذا التوجه المبني على إظهار القوة بتوسّل العصبية القومية، كان له وجهان: أفاد الدول ومجتمعاتها من خلال تماسكها القومي، وعمل على تنميتها وتقدمها، في وجهه الأول؛ وأوصل العالم، بانحراف العمل القومي وتعصّبه، إلى حرب كونية ثانية، أورثت الدمار الشامل لمناطق ومدن بأسرها، والقتل لملايين الناس من العسكرين والمدنيين، في وجهه الثاني.
بين القومية الاجتماعية والعروبة
ساعدت الظروف الاجتماعية والسياسية بالتعجيل في تأسيس الحزب السوري القومي، ومن ثم إظهاره علانية (1932- 1935) في هذه الفترة المفصلية من تاريخ العرب، والعالم أيضاً. إذ لا بد من العمل في هذا الجو المشحون، وفي ظروف تفرض على العرب، وعلى الحزب القومي أن يأخذوا موقفاً مما يحصل في العالم. ومن ثم، العمل على الافادة من تناقضات المرحلة، ربما يوصل هذا الحراك إلى مرحلة الاستقلال والتخلص من الفرنسيين والإنكليز معاً. إلا أن عمل الحزب بدأ باستقلال عن التوجه العروبي المبني على العاطفة والانفعال. ذلك أنه انبنى على توجه قومي يأخذ من العقل والسوسيولوجيا وعلم السياسة أدوات له. هذا التوجه جعل العروبيين ينظرون إلى الحزب، وإلى عقيدته القومية، نظرة خصومة، ومن ثم عداوة. وقد اعتبر هؤلاء أن توجهه يفتّت القوى التي تعمل لصالح العرب، دون أن يكون لهم أي توجه نظري وعملي واضحين في هذا السبيل؛ إلا الكلام على العمل من أجل استقلال العرب ورفع شأنهم، دون استراتيجية واضحة، ودون بلورة فكر قومي عربي يمكن الانطلاق منه، لإيجاد الأداة الفاعلة التي تحوّل هذا القول إلى فعل . وبقي الأمر على ما هو عليه، كما كان عشية الحرب الكونية الأولى وما نشأ عنها.
كان للموقف العملي الذي وقفه سعاده من الدعاوة العروبية، مكمّلاً لموقفه الفكري المستمد من خارج الحقل الفكري العروبي الاسلامي. وكان أن اعتبر العاملون في هذا الحقل والمستمدون منه أفكارهم أن اتهموا الحزب القومي ومؤسسه بعداوتهما للعرب والعروبة. ومن ثم الاتهام بالنهل من مصادر النازية والفاشية في تأسيس العقيدية القومية السورية. ووصل الأمر إلى الاتهام بالعنصرية والصهيونية، وغيرها من الاتهامات التي تدلل على نوع من القطيعة مع الفكر القومي الاجتماعي، وصل في عهد عبد الناصر إلى ذروته بعد ان تقوّت الحركة القومية العربية بهذا الزعيم العربي، وأعطاها من زعامته الكارزميّة عناصر قوة لم يستطع القيّمون على الفكر القومي العربي، ومفكروه، بلورته وإعطاءه الزخم الذي يكفل الاستمرار. فأُجهضت عناصر القوة هذه برحيل عبد الناصر، وعاد العرب أدراجهم إلى ما كانوا عليه إبان الحرب الكونية الأولى وبعدها، كما إبان الحرب الكونية الثانية وبعدها. واستمر الأمر على ما هو عليه، إلى أن وصل إلى أخطر مرحلة من تاريخ العرب، بقوميتهم وحضورهم وحضارتهم، وضعتهم على مشارف تقسيم جديد لبلدانهم ما كانت سايكس بيكو إلا مرحلة عابرة في التدليل على ضعف العرب وتخاذلهم.
كان لموقف سعادة النافر والمتميّز في العمل السياسي في منتصف الثلاثينيات أن دفع المهتمين إلى معرفة موقف الحزب من العرب والعروبة، وذلك بعد أقل من أربع سنوات من تأسيس الحزب، وفي سنة إعلان مبادئه التفصيلية. وكان من بين المتسائلين قوميون وصحافيون ورجال سياسة. فظهر أول إعلان لموقف الحزب في العام 1935، أي في السنة التي انكشف فيها أمر الحزب، بعد أن كان سرياً، على شكل رسالة نشرتها صحيفة النهار في 22 كانون الثاني 1936. يقول سعادة في هذه الرسالة: "لست بحاجة إلى القول إن المسألة القومية لا المسألة السلالية هي التي تستدعي كل اهتمامي… وإذا كنت قد رأيت أني أصرف كل همّي وكل عنايتي إلى خدمة أمة واحدة من أمم العالم العربي، أعني أمتي السورية، فذلك لأن أمتي أحوَج إلى عملي، ولأن لها الحق الأول علي، ولأن الاشتغال في قضايا هذه الأمم، بينما أمتي جسم مشلول، يزيد بلبلة قضايا العالم العربي على بلبلة" .
يظهر في هذا القول أن الأمة السورية التي يعمل الحزب على نهضتها هي إحدى أمم العالم العربي، وليست بخارجة عن هذا العالم. وإذا كان العمل من أجلها، فمن المنطقي أن يدبر المرء شؤون بيته قبل بيت الجار، لأن لا فائدة من العمل مع الجار قبل تدبير شؤون المنزل الذي هو أبدى وأكثر أهمية من أي شيء آخر، وإلا اختلطت الأمور وتبلبلت وزادت سوءاً. ما يمكن فهمه من هذا الكلام أن العرب قوميات. وبالتالي، فإن تقسيم العالم العربي إلى قوميات تعمل كل قومية على تدبير شؤونها، أولاً، لا يمكن أن يكون ضد العرب، ولا ضد العروبة. هذه المرحلة، حسب سعاده، السبيل الأنجع والأفضل للنهوض بالعالم العربي، وذلك بالانتقال من العاطفة والاعتبارات المساعدة على نشوء التوجه العروبي القائم على وحدة اللغة والدين، مع إهمال كل ما عدا ذلك، إلى التوجه العقلاني والعلمي القائم على ما ينشأ عليه المجتمع من قوانين العمران والنشوء، قبل أن يتقوّى بوحدة التوجه، أو يضعف بضعفها. وإذا اعترف سعاده بأن إغراقه في سوريّته أنساه العالم العربي، فإن ذلك لن يبعده عن هذا العالم، بل سيقرّبه إليه أكثر. ذلك أن سورية القوية هي قوة للعالم العربي، والعاملة على تقويته، وهي المؤهلة للنهوض بهذا العالم. وضعفها يزيد العالم العربي ضعفاً . وهكذا بالنسبة لبقية الأمم التي يتشكل منها العالم العربي. وإذا كان على القومية الاجتماعية أن تعمل على تقوية العالم العربي بوحدتها وقوتها، فهكذا يمكن أن ينسحب الأمر على بقية أممه، وهي النتيجة نفسها التي يعمل عليها العروبيون، وإن اختلفت المنطلقات والوسائل. إلا أن حسن النوايا وحده لا يكفي.
كانت هذه الرسالة منطلقاً لتحديد فكرة القومية الاجتماعية في نظرتها إلى الكيان اللبناني، وإلى القومية العربية، في الوقت عينه. ذلك أن اتهام القومية الاجتماعية بالعمل على زعزعة لبنان ومحاولة إلغائه، كان على الدرجة نفسها من قوة اتهامها بالعمل ضد العروبة. وفي هذا المجال يقول سعاده إن "العقيدة القومية الاجتماعية شيء اجتماعي والكيان اللبناني شيء سياسي (وكذلك العروبة) ونحن لا نخلط بين الإثنين… والحزب يعمل للوحدة القومية وجعل الأساس القومي محل الأساس الديني ونزع فكرة الحكم على أساس المذهب" . وبالتالي فإن هذه العقيدة هي وحدها الكفيلة بإزالة النظريات الخصوصية، والضامنة لوحدة الشعور والاتجاه. والنهضة قومية في الأساس واجتماعية في المنطلق، وما السياسة إلا الممارسة التي تؤمّن تحقيق التوجه القومي . في هذا الإطار سأل صحافي سعاده عن "الحقيقة" التي يروّج لها العروبيون، ومفادها أن الحزب القومي لم ينشأ إلا لتعصب ديني في نفوس قادته، لخوفهم من الضياع في قومية عربية شاملة تذوب فيها أقلياتهم. فيجيب سعاده بأن هذا الكلام لا أساس له، و"متى وجدت الوحدة العربية كنا نحن أحد فروعها الحية… والقومية السورية لا تتضارب مع التفاهم مع الأقطار العربية الأخرى على ما فيه المصلحة المشتركة" .
ولأن مسألة العروبة أخذت منحى سجالياً في الاتهام وردّ التهم، فقد نشر سعاده بياناً على أثر الحديث الذي نشرته جريدة الرائد الطرابلسية في عددها السابق المذكور أعلاه، يردّ فيه على التهم الموجّهة إليه وإلى حزبه، بأنه لا يسير في قافلة الوحدة العربية، وأنه يقف عائقاً في سبيل تحقيق مبادئهم. فيتساءل عن الفعل الذي قام به العروبيون، ونجحوا، ولم يكن الحزب إلى جانبهم. وهو الذي يعمل على إيجاد حلف عربي، أو جبهة عربية خالية من الإجحاف بالسيادة القومية. والقومية السورية لا تتنافى مطلقاً مع إيجاد جبهة عربية أو حلف عربي .
وينسج سعاده على المنوال نفسه في بيان الأول من آذار1937، وهو ذكرى ميلاده، أن إنشاء جبهة عربية هي القضية العربية في الأساس، لأن اختلاط المفاهيم وبلبلتها أوجدا الإلتباس بين القضية العربية، والقومية العربية التي لا وجود لها إلا في أذهان مروّجيها، لأن القومية هي شعور كل أمة بذاتها، ولا يمكن أن تكون مشتركة بين عدد من الأمم. وبالتالي فإن القضية العربية هي قضية سياسية ومواجهتها يقتضي إنشاء جبهة عربية من أمم العالم العربي "على أساس المصالح المشتركة، ويتم تأليف الجبهة بتفاهم هذه الأمم بواسطة مؤتمر تمثل فيه، فلا يتفرّد بعض الفئات في بعض هذه الأمم بتعيين قضية عربية من عند أنفسهم لم ينظروا من ورائها إلى مصلحة سوى مصلحتهم الخاصة" . وظهرت القضية اللبنانية في المقابل من باب الثنائية الضدّية. ونشأ عن القضيتين تثبيت للحالة كما هي، ولا تزال حتى اليوم، مع مسيرة سياسية واجتماعية تسير من سيئ إلى أسوأ.
من المساجلة إلى البرهان القومي
يعتبر سعاده أن ما ينشأ عن القضية العربية، أو القضية اللبنانية، هي مسائل ظرفية تتعلق بالأحوال الدينية والإتنية، ولا ترقى إلى القضية العقائدية لأنها وليدة ظروف عصبيات سياسية. ولأنها كذلك، فكل الإرادات الناشئة عنها هي إرادات ظرفية ليست ثابتة ولا دائمة، "لأنها ليست وليدة وحدة حياة اجتماعية ووحدة مصالحها الدائمة" . ويوضح سعاده، هنا، فكرته بالقول إن مصلحة التعاون على تحرير الأقطار العربية ليست مصلحة قومية لأنها تنتهي بحصول الحرية، وتزول لتترك المجال للمصالح القومية الخاصة الدائمة. وهي الناشئة بطبيعتها عن وحدة حياة دائمة؛ وهي الحياة المنتجة للعلاقات المخصوصة بكل مجتمع على حدة، والمتميّزة بتميّزه . وأهم ما قاله سعاده في هذا المجال: "إن اشتراك أمم العالم العربي في طلب الحرية والاستقلال لا يولّد وحدة قومية، بل يولّد وحدة اتجاه سياسي تظل قائمة ما دام هنالك حاجة اليها. فإذا تم التحرر السياسي عادت كل أمة من هذه الأمم إلى حاجاتها ومصالحها الناشئة عن وحدة حياتها. ونحن لا نريد أن نكون قصيري النظر إلى حد أن تختلط علينا المصالح القومية والحاجات السياسية" .
لم يبق سعاده محصوراً في إمكانية التعاون السياسي في القضايا العربية، بل توغّل أكثر من ذلك في رسم علاقة الحزب مع العالم العربي، وخصوصاً بعد إظهار مواقف الذين حاربوا النهضة القومية من طرفي النقيض: الضاربين على وتر الجامعة العربية – الاسلامية، والضاربين على وتر الانفصال اللبناني الماروني. وإذا كان لا بدّ من إظهار هذه العلاقة إلى العالم، وعلاقة الحزب مع هذا العالم، فيمكن القول إن الحزب عروبي في موقفه قبالة العالم غير العربي؛ عروبي في اعتباره سورية أمة من أمم العالم العربي. وإذا كانت المسألة تتعلق بمكانة العالم العربي وكرامته، "فنحن جبهة العالم العربي وسيفه وترسه" . ويعود فيكرر هذا الموقف في خطبة الأول من آذار العام 1949، بقوله: "نحن هم العرب قبل غيرنا. نحن جبهة العالم العربي وصدره وسيفه وترسه، ونحن حماة الضاد ومصدر الاشعاع الفكري في العالم العربي كله…. ومتى كانت مسألة الشعب في لبنان وحياته فنحن هم اللبنانيون الحقيقيون ولا لبنانيين غيرنا" . إلا أن هذا الاعتبار لا يخرج عن مبادئ نشوء الأمم، وأصول العلاقات بين الأمم. وقد اعتبر أن عدم وجود أساس اجتماعي اقتصادي لإنشاء دولة في لبنان، يتماثل مع عدم وجود هذا الأساس لإنشاء أمة واحدة من بلدان العالم العربي المنتشرة في آسيا وأفريقيا، بما يتخللها من صحارى وبحار، وبما تختلف فيه شعوبها. لذلك فقد جاءت فكرة الوحدة العربية، على ما يقول سعادة، "تعبيراً عن هوس ديني أكثر منها حقيقة" . وقد رأى سعاده أن أهم ما يمكن أن يقوم به العرب في أحوالهم الحاضرة هو عقد المؤتمرات واللقاءات الدورية والمحالفات التي هي الطريق العملية الوحيدة لحصول تعاون الأمم العربية، وإنشاء جبهة عربية يمكن أن يكون لها وزنها في السياسة الدولية . وبعد هذا الكلام بسنتين نشأت جامعة الدول العربية التي لا تزال حتى الآن دون أن تظهر أي تقدم في طريق التكامل أو الاتحاد، أو حتى التعاون البنّاء، من أجل المصالح العربية العليا. وقد اعتبر سعاده أن بدايات الدعوة إلى تعاون عربي من خلال عقد مؤتمر للبحث في قضايا العرب، كانت حجر الأساس لبناء الجامعة العربية، على النسق الأولي الذي دعا إليه .
في العام 1947، عاد سعاده ليشدّد على صحة الرؤية القومية الاجتماعية للعرب والعروبة بعد تأسيس الجامعة العربية التي أثبت إنشاؤها صوابية النظرة إلى القضية العربية السياسية، وهي ضرورة وجود التعاون والتكامل بين الأقطار العربية، إذا لم يتحقق وجود أممها، من خلال ميثاق الجامعة الذي ينص على التعاون العربي في كل الأوجه، لما فيه مصلحة العرب. وقد دفع ذلك سعاده إلى القول بانتصار الحق على الباطل. وأظهر من خلال الممارسة أن القومية الاجتماعية ما كانت، ولن تكون، عدوة للعرب والعروبة. وإذا كان في العالم عروبة حقيقية صميمة، فهي عروبة الحزب القومي الاجتماعي" . ويعطي سعادة مثالاً على ذلك، من خلال التساؤل، ومن ثم الإجابة: "ما هي هذه الجامعة العربية التي تمثّل العالم العربي اليوم؟ أهي فكرة العروبيين الخياليين الوهميين الذين يريدون امبراطورية عربية، ووحدة قومية عربية؟ أم هي تطبيق ما جاء به حزبكم من إيجاد جبهة من الأمم العربية تكون سداً ضد المطامع الأجنبية الاستعمارية" ؟ وعليه، يظهر أن الجامعة العربية جاءت لتحقق ما نادى به الحزب القومي، وبذلك، "كنا نحن أصحاب العروبة الحقيقيين، وغيرنا أصحاب العروبة الباطلة" .
الطريق إلى الإفلاس
في أقل من ستة أشهر من اعتقال سعادة ومحاكمته وإعدامه في حركة سريعة من الحكومة اللبنانية، جعلت من تنفيذ الحكم أقرب إلى الإغتيال، ظهرت مقالة لسعاده في جريدة "كل شيء" في بيروت تفصح عن خصومة صارخة لم تكن بهذه الحدّة من قبل. وقد ظهر في هذه الفترة، أن العروبيين في لبنان وسورية اتهموا الحزب القومي بأنه "عدو العرب". وهذا ما دفع سعادة إلى كتابة هذا المقال تحت عنوان "العروبة أفلست". لقد أظهر في هذا المقال الأسباب التي لا يمكن أن تجعل من العالم العربي أمة واحدة، لمخالفة ذلك لنواميس الاجتماع الانساني، وللعقل العلمي، وللمنطق التحليلي لكيفية نشوء الأمم وتطورها. ويقدم ما يدعم ذلك من حجج وبراهين، إن كان بالنسبة لامتداد العالم العربي على مدى قارتين، أو لاختلاف أجناسهم، وتباعد بيئاتهم، وتباين نفسياتهم. وبسبب هذه العوامل، يصير من المستحيل العمل على الوحدة العربية التي يعمل عليها العروبيون. وبالتالي يصير هذا العمل مضيعة للوقت، وهدراً للطاقات السورية التي لها مطالبها في الحياة. وقد ظهرت هذه المطالب على شكل مبادئ وتعاليم تعمل على بعث نهضة قومية اجتماعية تشمل وعي حقيقة الأمة السورية ووحدة حياتها ومصيرها .
اعتبر سعاده أن هذه التعاليم كانت السبب الذي دفع العروبيين إلى مهاجمة عقيدة الحزب وتعاليمه لدرجة أنهم اعتبروه، بوساوسهم وهياجهم، على ما يقول سعاده، عدواً للعرب. وهو اعتبار لا يمكن أن يصدر إلا عن مرضى نفسيين، يتهيأ لهم ما هو غير موجود أصلاً .
على هذا الأساس بنى سعاده تحليله الصريح والواضح الذي تناول فيه العلاقة بين سورية الطبيعية والعروبة. وقد بدأ في القول إن سورية بالنسبة للعروبة هي، حسب التحليل الاقتصادي، "صادر بلا وارد"، بمعنى أنها عملية استنزاف للموارد البشرية والمادية بلا مقابل. ولأنها كذلك، فإن العمل بموجب هذه العلاقة، هو إضاعة للحقيقة في خضم من الأوهام والأضاليل. ويعمل على نشرها وترسيخها أصحاب المصالح الخصوصية ليبقوا على نفوذهم، وليبتعدوا عن كل ما يمكن أن يوصل إلى التغيير .
ويعود سعاده إلى التذكير بأهمية نهوض الأمة السورية لتكون قادرة على العمل لنهوض العالم العربي، بأممه الأربعة واتحاده السياسي. كما يذكّر بالتهليل الذي أقامه عند إنشاء الجامعة العربية التي عليها أن تكون رافعة للنهوض العربي والعاملة على تقوية أواصره بما يقرّه العلم والمنطق وأمور الاجتماع. إلا أن الخيبة كانت دائماً مخيّمة عند أي مفصل من حياة العرب السياسية والاجتماعية . "ذهبت كيليكيا… قال العروبيون لا بأس. فإن الوحدة العربية ستتكفل بإعادة هذه الأرض. ثم ذهبت الإسكندرونة، فقال العروبيون لا بأس، فالوحدة العربية متى تمّت تعيدها…ثم جاءت أزمة فلسطين… (فـ)لم يجتمع العالم العربي أمة واحدة في فلسطين، كما كان يزعم السوريون العروبيون. وقد ظهرت في فلسطين حقيقة الواقع أن العالم العربي أمم لا أمة" .
لم يكن ذلك فحسب، في نقد سعاده للعروبة والعروبيين. بل اعتبر أن مسألة فلسطين كانت الرد الساطع على الوهم العروبي، ووهم العروبيين. وكانت فلسطين وما آلت إليه الأمور فيها، بعد وضوح الواقع السياسي، والانذارات المتكررة من خطورة ما يجري فيها؛ هي المفصحة عن إفلاس العروبة. "في فلسطين أفلست العروبة، وأفلست الفئة العروبية" . ذلك أن العروبيين حاولوا أن يواجهوا قضية سياسية دولية "بمقلاع" القضايا الوهمية والمبادئ الميتة.
أوصل هذا التحليل سعاده إلى إنهائه بالقول، إنه ودّع العروبة، بلسان الأمة السورية. إلا أن العروبة التي ودّعها هي العروبة الوهمية، العاجزة الاتكالية. وهو وداع فاجع، على ما يقول، وذلك "لتلبّي (الأمة السورية) دعوة الحركة القومية الاجتماعية إلى قوميتها الحقيقية، ولترى بعين حقيقتها، هي، واقع العالم العربي… بهذا الاتجاه تصير الأمة السورية قوة فاعلة في العروبة الواقعية التي أعلنتُها- عروبة التعاون بين أمم العالم العربي" . بهذا القول الفصل، حسب سعادة، يتبيّن الفرق بين العروبة الوهمية والعروبة الواقعية.
يبدو من المقالات التي نشرها سعادة حول العروبة والانعزالية اللبنانية التي جرت على مدى الأشهر القليلة التي سبقت إعدامه في 8 تموز 1949، قد ساهمت في تعريته من كل "عزوة" له، إن كانت طائفية من "انعزاليته" اللبنانية التي دفعها عنه بمواقفه المبدئية، أو من "عروبته الوهمية المفلسة" التي ابتعد عنها بعروبته الواقعية، فابتعدت عنه. فصار سعاده، لذلك، "لقمة سائغة" في أشداق العروبيين والمتلبننين على السواء. ولم يحتج المسؤولون في أكثر من بلد عربي إلى أكثر من ثلاث وثلاثين ساعة ليقبضوا عليه ويحاكموه وينفذوا فيه الحكم انتصاراً للحاكمين، وتخليصاً لهم من "مشاكس" يقضّ المضاجع.
وبعد..
بقيت العروبة، كما بقيت القومية الاجتماعية، والقومية اللبنانية. وأنتجت العروبة نظامين للحكم في سورية والعراق. وأنتجت العروبة قائداً فذاً في مصر. ومع ذلك، بقيت الأمور كما هي. ولم ينشأ ما يمكن أن يجعل من البلدان العربية لا مجتمعاً واحداً، على ما تقول القومية العربية، ولا مجتمعات، إلا على قدر ما دخل منها في الجامعة العربية، وكانت على ازدياد. وجرت محاولات للتوحيد بين بلدين، أو ثلاثة، منذ أيام الوحدة بين مصر وسورية. ولم يؤد الأمر إلى نتيجة يمكن أن تدخل في الحسابات الرابحة للقومية العربية. حارب حزب عروبي نفسَه في بلدين سوريين عربيين. وأوصلته هذه الحرب إلى إفلاس من نوع جديد أطاح بقسم منه في العراق، ويعمل على الإطاحة بالقسم الثاني، باسم العروبة وبأدوات العروبة، بعنصرها ودينها وأموالها، وباسم الدين من مناطق كثيرة في العالم، وباسم الإتنيات والديموقراطة والتعدد السياسي في الحكم، في البلد المقصود بذاته. وتعاظمت المطالبات بما لا يتوافق مع العروبة، إن كان في شمالي أفريقيا مع البربر، أو في السودان بين شماله وجنوبه، أو في مصر بين أهله من مسلمين وأقباط، وفي اليمن بين حوثييه وسنّييه العرب، وفي العراق وسورية بين عربه وأكراده وأشورييه وكلدانه، وشراكسته وتركمانه، وبين طوائف العرب أنفسهم؛ وفي لبنان بين عربه، على اختلافاتهم، وفينيقييه وسريانييه. فظهر الأمر ليس فقط تهديداً للعرب والعروبة، بل تهديد لكل من هو موجود على أرض العرب، من الحجر إلى الشجر والبشر. وما زاد من خطورة الأمور ما يقوم به التكفيريون المتخطّون للقوميات على اختلاف توجهاتها، باسم شمولية الدين. وفي هذه الحالات، جميعاً، لن يسلم من هؤلاء أحد، باسم الثورة تارة، وباسم الدين تارة، وباسم الربيع طوراً، وباسم الديموقراطية، وهنا المفارقة، تارات أخرى.
ولنتخيل في الأخير، ما يمكن أن تفعله القومية الاجتماعية لو كانت هي المطبّقة في هذه البلدان. تنقلب الأحوال في المغرب العربي ووادي النيل إلى ممارسة سياسية تنموية تتجاوز الاختلافات الإتنية والدينية باسم القومية دون إلغاء فئة لمصلحة فئة أخرى باسم الديموقراطية. وبالمنهجية القومية الاجتماعية تنتفي هذه الاختلافات في الجزيرة العربية وبلدان الخليج باسم الإخاء القومي، وتتجه الجهود إلى البناء والتنمية البشرية والاقتصادية.
وهل عليّ القول ما كان يمكن أن يحصل في سورية الطبيعية لو تمّ الأمر على هذا النحو؟ من المؤكد أن هذا الأمر لو تمّ قبل سنوات قليلة، لما رأينا ما أصابنا من قتل وتدمير، وتخريب وتهجير، في الحجر والشجر والبشر، ردّتنا قرنين من الزمان إلى الوراء.
ما حصل، ويحصل، ما هو إلا الانغماس في عروبة لم تتحقق، أخرجتنا من منطق التاريخ والجغرافية، وأبعدتنا عن العروبة الواقعية؛ عروبة النمو والتقدم والتكامل في عالم عربي حضاري منفتح، يأخذ مكانه اللائق بين أمم العالم.
المصادر والمراجع
• الحكيم، يوسف، سورية والانتداب الفرنسي، دار النهار للنشر، 1983، بيروت.
• خلف الله، محمد أحمد، القرآن والدولة، الطبعة الثانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981، بيروت.
• زيادة، خالد، حكاية فيصل، دار النهار للنشر، 1999، بيروت.
• زين، زين نور الدين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط، دار النهار للنشر، 1971، بيروت.
• زين نور الدين زين، نشوء القومية العربية، الطبعة الثانية، دار النهار للنشر، 1972، بيروت.
• سعاده، أنطون، الأعمال الكاملة، من الجزء الأول إلى الجزء الثامن، مؤسسة سعادة للثقافة، 2001، بيروت.
• الصليبي، كمال، تاريخ لبنان الحديث، الطبعة السابعة، دار النهار للنشر، 1991، بيروت.
• ضاهر، مسعود، الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية، معهد الانماء العربي، 1981، بيروت.
• عبد الرازق، علي، الاسلام وأصول الحكم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993، القاهرة.
• عبدو، محمد، رسالة التوحيد، مقدمة محمد عمارة، دار الشروق، 1994، القاهرة.
• عطيه، عاطف، الدولة المؤجلة، دار أمواج ومكتبة بيبسان، 2000، بيروت.
• كوثراني، وجيه، الاتجاهات الاجتماعية في لبنان والمشرق العربي، معهد الانماء العربي، 1976، بيروت.
• لورنس، ت. أ، أعمدة الحكمة السبعة، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الرابعة، 1980، بيروت.
• موسى، سليمان، الحركة العربية، الطبعة الثانية، دار النهار للنشر، 1977، بيروت
• النجار، محمد رجب، حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي، عالم المعرفة 45، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1981، الكويت.
• هواش، محمد، تكوّن جمهورية، سورية والانتداب، منشورات السائح، 2005، طرابلس، لبنان.