• نقيب الاطباء البروفسور أنطوان البستاني
حين شرفني وفد من المجلس الثقافي لمدينة جبيل (السيدين أنطوان رعد وأسعد خوري ) طالبا مني الكلام بمناسبة حفل تكريم الزميل البروفسور فيليب سالم، لم يكن أمامي خيار غير الموافقة. كيف لي الاعتذار عن تلبية طلب صادر من أبناء مدينة هي مفخرة للبشرية في تاريخهم وفخر للبنان في حاضره. كيف لي الاعتذار وأنا ابن بلدة عابقة بتاريخ لبنان الحديث بحجارتها وعماراتها وأديرتها ورجالاتها وتضحياتها . فما بين جبيل ودير القمر استمرارية في التاريخ ، الاولى شعـّت بلبنان في العالم أجمع كما يشع مغتربونا ، والثانية احتضنت امارة جبل لبنان واستوعبت بطولاتها ومآسيها. فالتعاون والتجاوب والمحبة صنوان كانوا لدى آبائنا وأجدادنا. فإذا دفعنا هذا العصر المقيت للتفريط بهم فأنا لست من أتباعه ولا من سامعيه.
ثم كيف لي الاعتذار عن تلبية الكلام في حفل تكريم علم من أعلام الطب شعـّت براعته العلمية كالعديد من أبنائنا في بلاد الاغتراب . لكن يا زميلي فيليب ويا أصدقائي، لا أخفيكم سرا إن قلت لكم أنني لم أجد نفسي يوما محرجا في الكتابة كالاحراج الذي أصابني لدى صياغتي هذا الخطاب، ليس لأن لا شيء لدي أقوله عن فيليب سالم بل لأن كل شيء قد قيل عنك وفيك. فكل ما فكرت بالكلام عن إنجاز قمت به وجدته صدى لما قيل فيك، وكلما حاولت تحبير وصف أو مديح لأعمالك وجدته تردادا لما صيغ عنك. فما عساني أقول وما تراني أفعل بعد أن قرأت " بأقلامهم" ما لذ ّ وطاب ؟ لقد أحاطوا مسيرتك العلمية ومنهجك الاخلاقي ومزاياك الانسانية وأبعاد شخصيتك لدرجة لم أجد بعدا أقاربك من خلاله بعد أن سُدت أمامي منافذ الوصف واضمحلت سبل الوصول إليك.
لذا أعذرني وقد يتفهمني الحضور إن اتبعت منهجا خطر ببالي، وأفكاري تصول وتجول لإكتشاف صيغة ما، تحكي عن هذا الكبير. أتتني فكرة ولا أجمل هي كناية عن مناجاة الله، هذا إذا ما زال وصال وتواصل بيننا وبينه تعالى، وإذا ما زال لديه أذنا صاغية لمطالبنا نحن العقوقين تجاهه، نحن الذين لا يضاهينا أحد في العالم في فن الانعتاق والانقلاب على من يساعدنا أو يحالفنا. كانت نهضة في عصر وأتى انحطاط في آخر . لكن دعونا من هذا الحديث ولنجرب حظنا في مناجاة محب البشر.
فيا ألله، مع شكرنا لك لما انعمت به علينا من أطباء بارعين في أدائهم وأخلاقياتهم المهنية، يرفعون مستوى الطب اللبناني عاليا في المنطقة ودنيا الاغتراب، هـلاّ تكرمت علينا برفع عدد الاطباء من مستوى فيليب سالم العلمي وأدائه المهني أو بعضا ممن يشبهونه ويتمثلون به؟ أطباء يعملون لمرضاهم من أجل شفائهم وراحتهم أكثر مما يعملون لذاتهم ولشهرتهم، أطباء لديهم مرجعية الاساتذة العلمية وتواضع الطالب اللاهث أبدا وراء اكتساب المعرفة لعلمهم أن لا حدود في عصرنا لتطور الطب وتقنياته مما يحوّل كلا منا مهما علا شأنه العلمي الى طالب طب لا نهاية لسني علمه.
يا رب هذا تمني أعي صعوبته كي لا أقول استحالته. ولكن ما الضير في طلبه، ألا تؤخذ الدنيا غلابا وأنت على كل شيء قدير؟ ورغم قدرتك الالهية، إذا صعب عليك تغيير عقلية سياسيينا أصحاب الأنا المضخمة حتى الانفجار، حتى ولو أدّت مواقفهم الى فشل جماعي مرارا وتكرارا، دون الاعتبار قيد أنملة، حتى ولو لاح في الافق خطر تشتت الجماعة واندثارها، دون الاتعاظ ولو بذرّة من الحكمة والتضحية، اذا صعب عليك ذلك ، هلا أرسلت الينا رجالا يمتهنون السياسة كما يمتهن فيليب سالم الطب ، لأجل الغير وليس لأجل الذات ، لأجل الخير وليس لأجل الشهرة، يكونوا في خدمة إخوتهم بالرب وفي المواطنية وليس العكس، يموتوا ليحيا اللبنانيين وليس العكس. اذا صعب عليك ذلك يا ألله هلا تركت تمنياتي تلك في درجك، علّ وعسى يأتي يوم تشفق علينا، ولنا لديك أكثر من وسيط هم قديسونا الذين لم يتركونا منذ ألف وستماية سنة ولن يتخلوا عنا اليوم. لكن يا رب، إذا كان ولا بد من خلاص فأرجوك أسرع فالوقت يداهمنا قبل خراب البصرة.
أما آخر طلب وهو فائق الدقة، أستميحكم عذرا إن بدا للبعض في طياته شيئا من الفظاظة أو التدخل في المحرمات ، لكنه في نظري بأهمية الطلب السياسي، ربما أدق وأعمق، إذ يتعلق بالبعد الديني في مجتمعنا. فيا ألله، ، مع احترامنا وشكرنا لما يقوم به معظم من يمثلونك بيننا هلا أرسلت الينا دعوات كهنوتية ورهبانية أكثر تجردا للحياة الدنيوية وأقل حماسا للآعمال والمشاريع المادية وأصدق انغماسا في الروحانيات التي كادت تغيب من حياة جماعتك العلمانيين الذين استبدلوها بممارسة طقوس يتمظهر فيها الدين للعيان وهي فارغة في عينيك يا ألله.
ثلاث تمنيات لا أكثر . صعبة؟ مستحيلة؟ لو كانت سهلة المنال لما طلبناها منك. فبانتظار الاعجوبة، أعود لأنهي كلامي حول المحتفى به لأقول :
اتخذ الامير بشير الشهابي الكبير لفترة من الزمن الشيخ ناصيف اليازجي شاعرا لديوانه . وكلنا يعلم الشهرة والعظمة والمجد الذين وسموا حكم الامير الذي طال عهده لواحد وخمسون سنة (فقط لا غير!) ففي إحدى قصائد المديح ، وما أكثرها، لفتني بيت حفظته منذ يفاعتي وهو يقول:
"إذا قلت "الامير" ولم تسمي فلا يحتاج سامعك السؤال"
أستميح الشيخ ناصيف عذرا إن استعرت منه هذا البيت أهديه لمكرّمنا أطبقه في مهنته الطبية في معالجته الامراض المستعصية وشهرته في الآداء والنتائج إذ أقول:
"إذا قلت "فيليب" ولم تسمي فلا يحتاج سامعك السؤال "
والسلام.