يشوقك عنوان كتاب فتقرأه، ولكن ماذا تفعل حين يستفزك العنوان، وحين يستفزك الرسم على غلاف الكتاب أكثر!
في أي مكان من العالم تستطيع ان تنتقد الملك او رئيس الدولة، وأن تُعري النظام والقائمين عليه بالاسم حتى الشتيمة المبتذلة.
تستطيع أن تكتب وتخطب وتناقش وجود الله تعالى وتاريخ انبيائه ورسله، لكنك لا تستطيع ان تبحث متشككاً في صحة او عدم صحة ما يسمّونه المحرقة اليهودية، بل يجب أن يلبسك الايمان بحدوثها وبكل ما خطته أقلام اليهود من تفاصيل… وإلا فالقوانين التي سُنت بعد الحرب العالمية الثانية في اميركا وكندا ومعظم بلدان اوربا، تنتظرك خلف كل منعطف وبعد كل كلمة او همسة تصدر عنك وتدل على عدم إيمانك المفروض عليك في علم التاريخ والمنطق.
يحق لباحثين يهوديين، هما "مارك آرونز" و"جون لوفتوس" "أن يؤلفا كتاباً بعنوان "الثالوث غير المقدس" اقتباساً ساخراً ومهيناً من "الثالوث المقدس" الاب والابن والروح القدس" لدى المسيحيين، ولكن لا يحق لمسيحي او لمسلم او بوذي او هندوسي أن ينطق بكلمة تشكيك في أحداث وتفاصيل المحرقة اليهودية. اكثر من ذلك، يمكن لأي باحث في العالم ان يكتب وينبش تاريخ انبياء اليهود في التوراة بدءاً من ابراهام حتى موسى، ويشكك في ما ينسب اليهم من اقوال وافعال، بل ويشكك حتى في وجودهم التاريخي، لكن لا يجوز له التشكيك في صحة وتفاصيل المحرقة لأن القوانين التي سُنت بفعل النفوذ اليهودي تتربّص به.
إنه منطق "لا يحق لك ما يحق لي" أو: لا يجوز لك ما يجوز لي. انه المنطق اليهودي في الكتاب المستفز: الثالوث غير المقدس.
ويمرّ الكتاب بكل ما فيه وبكل ما يرمز إليه بملايين المسيحيين في الشرق والغرب فلا يرفّ جفن يرد او يحتج. والكنيسة كلها والفاتيكان كأنهما جميعاً في وادي طُوى.
على الغلاف رسمُ مثلث متساوي الاضلاع، عند زاويته العليا صورة بابا روما –بيوس الثاني عشر وعند زاويتيه الأخريين صورة هتلر وصورة ستالين. والانطباع النفسي لدى كل من ينظر الى غلاف الكتاب هو التساوي بين الرجال الثلاثة، ولان ما تحمله الذاكرة عن هتلر وستالين مغلف بالإرهاب والقتل والحروب والمذابح ومعسكرات الاعتقال، فلا بد ان ينسحب الانطباع نفسه على البابا.، وهنا لبّ الموضوع او محور الكتاب المكوّن من ثلاثمئة صفحة تضاف اليها مئة صفحة من المراجع والوثائق والإيضاحات.
الكتاب حافل بالوثائق والاستشهادات وكذلك بالاقتباسات، لكن السؤال الذي يقفز الى ذهنك حين تقرأ هو التالي : كيف أمكن وصول مؤلفي الكتاب الى كل هذا الحجم من الوثائق الاستخبارية شرقا وغربا، من الاستخبارات ودوائر الجاسوسية ومكافحة الجاسوسية في اميركا وبريطانيا والمانيا وسويسرا والنمسا وايطاليا والاتحاد السوفياتي، وكذلك من داخل الدوائر السرية في الفاتيكان، ومن الجواسيس المندسين في الفاتيكان بعضهم يُذكر بالاسم وبعضهم بالتلميح، اضافة الى شهادات من رجال استخبارات في كل تلك البلدان بعضهم لا يزال يعمل وبعض آخر احيل الى التقاعد او اعتزل العمل ؟
السؤال الثاني الذي يستفز القارئ هو التوقيت. اذ ان الطبعة الاولى من الكتاب نشرت في بريطانيا في العام 1991 – اي قبل 23 سنة تحت عنوان "راتلاين" التي تعني "درب الفئران" اشارة الى خطوط تهريب النازيين بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية الى خارج المانيا. وقد ترجم الكتاب الى لغات عدة منها الصربية واليوغسلافية والفرنسية والالمانية والايطالية، لكن اللغة العربية ليست منها.
موجز الكتاب يشير الى ما يلي: إن الفاتيكان قد ساعد هتلر منذ البداية وقام بنك الفاتيكان بتبييض الأموال والمساعدة على جلب الاستثمارات الضخمة لدعم الصناعة العسكرية في المانيا، اما بعد الحرب فقام الفاتيكان بواسطة عملاء وجواسيس من مختلف بلدان العالم تقريبا بتهريب النازيين الى اميركا الجنوبية بخاصة الارجنتين، كما الى استراليا وكندا والولايات المتحدة وبريطانيا نفسها.
يركز الكتاب على دور البنوك السويسرية التي استفادت من مصادرة النازيين اموال اليهود، وذلك بمساعدة هائلة مباشرة وغير مباشرة من الفاتيكان. كما يركز الكتاب على اسماء محددة في اعلى المناصب الرسمية في الفاتيكان ويقول ايضا إن مواقف وتصرفات اولئك المسؤولين الكبار في عاصمة الكثلكة ما كانت لتكون كذلك الى جانب النازية لو لم تتلق الاوامر من المرجع الاعلى هناك – اي من البابا نفسه. ولا ينسى الكتاب ان يربط هذا كله بالقول: ان كل تلك العمليات والظروف التي أوجدها الفاتيكان وبنوك سويسرا قد ساعدت كثيرا في تمكين النازيين ونظام هتلر كله بتنفيذ المحرقة اليهودية.
اكثر من ذلك، يستند المؤلفان الى وثائق يقولان إنها من ارشيف وكالات الاستخبارات الاوروبية – النازية والسوفياتية والبابوية تبين ان الحلفاء – خاصة بريطانيا واميركا – كانوا يعرفون اخبار المحرقة والمذابح التي يقوم بها النازيون ضد اليهود من دون ان يحرك احد ساكناً ليوقفها او على الاقل ليفضح ما يحدث في معسكرات الاعتقال الالمانية.
يورد المؤلفان وثائق صدرت عن مؤتمر برمودا في العام 1943 وكيف ان الحلفاء – بريطانيا والولايات المتحدة الاميركية قد أغفلا أمراً بالغ الاهمية وهو ما يمكن ان يسمى الابادة اليهودية لأسباب سياسية. فلو عرف العالم ان التدخل الغربي قد يساعد الدعاوى الشيوعية لنشبت مشكلات تتعلق بالتعاطف مع الشعب اليهودي.
الكتاب في بعض أجزائه يبرر مواقف البابا بيوس الثاني عشر على اعتبار أن تلك المواقف لم تكن شراً كلها، ولكن في الوقت نفسه لم تكن خيراً بالنسبة لليهود. الغريب في هذه التفسيرات أن اللوم يلقى على دول الحلفاء وعلى بابا روما فقط بدعوى أن المذابح النازية كانت فقط ضد اليهود مع أن أرشيف كل الدول المعنية يحوي معلومات كثيرة عن أن سطوة النازية طالت الجميع في إبان الحرب العالمية الثانية.
لقد تمكّن النازيون من الاحتيال في سرقة الأموال والثروات المودعة في بنوك سويسرا واستخدامها في تبييض الأموال لحساب مباشر مع بنك الفاتيكان. ويقول الكتاب بالحرف الواحد : "هنا يقع الذنب الأكبر او الخطيئة المميتة التي ارتكبها الفاتيكان بعلاقته مع المانيا الهتلرية. كما يقول بالحرف الواحد ايضاً "إن الفاتيكان قد ارتكب جريمة اكبر من مجرد تلقي الثروات المسروقة، اذ كان شريكاً فاعلاً في تلك السرقة.
المؤلفان اليهوديان يتهمان شخص البابا ـ رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم كله ـ بالاسم كما يتهمان كبار المسؤولين في الفاتيكان ويؤكدان ايضاً أن الدائرة الضيقة العليا في الفاتيكان كانت مخترقة من قبل المخابرات السوفياتية والبريطانية والنازية، طبعاً ولا يقول اليهودية استكمالاً.
يتحدث الكتاب عن المصادر التي استقى منها كل تلك المعلومات وهي مصادر متعددة، كما يبدو، ولا يمكن تلخيص محتويات الكتاب لأنه يزخر بوثائق يقول المؤلفان أنها مستقاة من محفوظات الدول الاوروبية، بخاصة المانيا النازية وايطاليا وكذلك من فرنسا وبريطانيا والفاتيكان وصربيا وكرواتيا والاتحاد السوفياتي.
في تقديم الكتاب أنه معني اساساً بمناورات الفاتيكان اولاً ومن ثم بالدور الذي لعبه بنك الفاتيكان في تبييض الاموال وتسهيل انتقال ثروات اليهود الاوروبيين الى البنوك السويسرية، حيث تمكن النازيون من تحويلها الى خزائنهم والى الخارج لتسهيل العمليات التي يقومون بها إضافة الى تمويل المجهود الحربي. لكن هناك نقطة تتكرر في اكثر من موضع هو انه ليس المانيا النازية وحدها من تآمر على اليهود وأغمض العين عن ذبحهم وإحراقهم وتشريدهم واضطهادهم و………بل ان دول الحلفاء ـ الانكليز والاميركيين في الدرجة الاولى قد أسهمت في تلك المذابح.
في إحدى فقرات الكتاب قول صريح مسند الى سفراء ورجال مخابرات مفاده أن لندن وواشنطن كانتا تعرفان الكثير الكثير عن عمليات القتل والحرق التي مورست ضد اليهود، لكن الجميع أهمل ذلك لأسباب سياسية وتظاهر بعدم المعرفة.
الكتاب ينضح بعبارات الاتهام ضد الانكليز والاميركيين ويورد مثلاً على ذلك بالقول إن وليام غوين – العميل السري للمخابرات في الجيش الأميركي ـ وحسب سجلات الكونغرس – هو من قام بتهريب الزعيم الهنغاري النازي والقاتل المعروف – فيرنيك فاجيتا – الى خارج روما. ذلك ليس هو الدليل الوحيد على تورط الاستخبارات الاميركية في مساعدة النازيين الذين كانت ترى واشنطن امكانية استخدامهم فيما بعد وتجنيدهم للعمل ضد الشيوعية في الاتحاد السوفياتي.
وفي جانب آخر ينقل الكتاب عن هذا العميل السري – وليام غوين – ان المخابرات البريطانية عرضت على الفاتيكان في أواخر الحرب العالمية الثانية استعدادها للمساعدة بتهريب النازيين الى خارج اوروبا ليكونوا جزءًاً من مجموعات الخبراء في محاربة الشيوعية مستقبلاً. الغريب في هذا العرض ان مهندسه الاكبر كان الجاسوس المزدوج – البريطاني كيم فيلبي العامل لحساب السوفيات بعد أن نجح في اختراق كل اجهزة المخابرات البريطانية. وكانت غايته ان يدسً بعض العملاء الشيوعيين بين النازيين الذين يخطط الفاتيكان ليحارب الشيوعية بهم مستقبلاً.
ويعترف الكتاب ان غوين هذا كان أول من كشف ان الانغليز كانوا وراء تشكيل شبكة العملاء داخل الفاتيكان.
اكثر من ذلك، إن غوين كشف ايضاً ان ثروات النازيين المهربة عبر الفاتيكان قد استخدمتها الاستخبارات البريطانية في تمويل حركة المقاومة الكرواتية داخل يوغوسلافيا التي كان جوزف بروز تيتو قد نشط بتحريرها.
يكشف الكتاب ايضاً انه لم يكن لغوين هذا عميل واحد داخل الفاتيكان، بل كان هناك كبير العملاء النازيين في شبكة تهريب الاموال وهو الأب "دراغانوفتش".
جيمس أنغلتون كان رئيس دائرة مكافحة الجاسوسية في وكالة الاستخبارات الاميركية وقد تبين فيما بعد – حسب وثائق الكونغرس أن هذا الرجل قد خدع لجان التحقيق في الكونغرس أكثر من مرة بعرض معلومات كاذبة، كما انه خدع رئيسين اميركيين بمعلومات مضللة.
رئيس دائرة مكافحة الجاسوسية في وكالة الاستخبارات الاميركية – جيمس انغلتون نجح من جهة اخرى بتجنيد المونسنيور "جيوفاني مونتيني" ليكون عميله السري داخل الفاتيكان، وكان مونتيني حينها السكرتير المساعد للشؤون الخارجية ورئيساً للاب دراغانوفتش. الذي كان يشرف على عملية تهريب اموال النازية نيابة عن البابا، كما يقول الكتاب.
يكشف الكتاب ايضاً دور الرئيس الارجنتيني – بيرون وزوجته ايفيتا، فيقول ان الرئيس بيرون كان يزوّد الفاتيكان بآلاف "الفيزات" وجوازات السفر تستخدم في تهريب النازيين من اوروبا.
لقد كشفت المحاكمات والمعلومات الاستخباراتية المسربة دور بنك الفاتيكان في استثمار اموال الكنيسة في المانيا النازية وفي تهريب ثروات الرايخ الى الخارج. ويقول الكتاب إن أسوأ ما في الأمر كان دور بنك الفاتيكان في تبييض الاموال من خلال بنوك سويسرا لمصلحة الرايخ النازي.
من العمليات المخيفة كان نجاح السوفييت في زرع عميلهم الأكبر – الذي عرف باسم الامير توركول – داخل الفاتيكان.
وفي الختام، يعتبر هذا الكتاب كتاباً استفزازياً لمشاعر المسيحيين جميعاً في العالم كله وليس لمشاعر الكاثوليك فحسب، اذ يضع رأس الكنيسة الكاثوليكية في قفص الاتهام، ويساويه بهتلر وستالين من خلال الرسم على الغلاف، ومن خلال عنوان الكتاب الذي كان في طبعته الاولى العام 1991 باسم "راتلاين" اي درب الفئران ليصبح في طبعات تالية بعد العام 1994 استفزازياً أكثر تحت عنوان "الثالوث غير المقدس".
الغريب الذي يدعو الى الدهشة أن أحداً في العالم المسيحي كله لم يرد على هذا الكتاب وتلك الاتهامات. ومن المحتمل جداً أن احداً في العالم العربي لم يقرأ الكتاب. وربما لم يسمع به!
كتاب يستفز المشاعر بلا ردّ من الفاتيكان
92
المقالة السابقة