الناقد وفيق غريزي في مراجعة نقدية لكتاب محمد معتوق «فلنجرب هذا الرجل» كاشفاً التحولات والأحداث التناقضات التي تركت تأثيراتها وباحثاُ عن مسعى وخلاص للفكر القومي في مواقف سعاده الفكرية والسياسية والأجتماعية.
يحملنا الدكتور محـمد معـتـوق في هذا الكتاب إلى أنطـون سعــادة . فكراً و منهجاً، و نحن نواكب، مذهولين، التطورات العلمية و الإقتصادية و السياسية و المعرفية التي يشهدها العالم و التي ما فتئت تتراءى، الواحدة تلو الأخرى، و التي على زخمها و تنوعها و تسارعها، لم تعد تعطي الإنسان فرصة كافية لتطويعها , أو حتى لإلتقاط أنفاسه، و هو يحاول أن يتكيف معها .
ففي معرض كلامه عما أسماه (الإضطراب والتناقض في فهم القوميين الإجتماعيين)، لاسيما في فئاتهم المثقفة، لعقيدتهم التي لا يشك أحد، برأيه، في تماسكها وغناها و شمولها، يستعرض الدكتور معـتـوق موقف هؤلاء المثقفين من الديموقراطية و الليبرالية و الإشتراكية الذي كان، في أحايين كثيرة، متناقضاً مع عقيدتهم الأصلية، الأمر الذي وعى سعادة، بعد عودته من المغترب القسري في مطلع العام 1947، إلى شرح تعاليمه و مبادئه في سلسلة محاضرات تثقيفية في إطار ما كان يسمّى الندوة الثقافية، وبواسطة المطبوعات الحزبية، بغرض إظهار شمولية الفكرة القومية الإجتماعية من جهة، وتوحيد الفهم لهذه الفكرة من جهة أخرى، و بالتالي توحيد النظر إلى القضايا المنبثقة منها من جهة ثالثة، و قد سمّى معـتـوق هؤلاء المثقفين بأسمائهم، معتبراً أنّ إنتاجهم كان ضئيلاً، يكاد يكون غير ذي قيمة .
" فبعد المحاولة الإنقلابية الفاشلة عام 1961 _ 1962 أصاب الحزب القومي الإجتماعي ضمور كبير و أخذ حضوره الشعبي يتراجع وتفاقم شعور القوميين بالإضطهاد، الأمر الذي دفع مفكّريه الذين يؤدّون ضريبة الأسر في السجون الّلبنانيّة، كأســد الأشـقـر و عـبدلله سعـادة و شوقـي خيـرالـله، إلى نقد السياسة الّليبراليّة التّي توجهها الولايات المتحدة، و الإنفتاح فجأة على المعسكر الإشتراكي . وما إن خرج هؤلاء من السجون حتى نحوا منحى يسارياً عنيفاً فاجأ الجميع في لبنان و المنطقة، فالحزب الذي حارب الشيوعية في الخمسينات من القرن الماضي، يتحوّل بين ليلةٍ وضحاها إلى حزب يساري إشتراكي عروبي .
فلنجرّب هذا الرجل
ثمّة سؤال يخطر في البال : لماذا هذا الإضطراب والتناقض في فهم القوميين الإجتماعيين لعقيدة لا يشك أحد في تماسكها و غناها و شمولها ؟
بقول الدكتور معـتـوق :" قبل الإجابة يجدر بنا أن نذكّر بالظروف السياسيّة و الحزبيّة التّي جراها فيها إعدام سعادة و عودة الحزب الذّي أسسّه إلى العمل بعد غيابه . و نبدأ بالإشارة إلى أن سعــادة عاد في عام 1947 من الإغتراب القسري الذّي دام تسع سنوات ليجد الحزب السوري القومي الذّي أسّسه عام 1932 قد تخلّى عن الهويّة السورية وغيّر شعارات الحزب ومبادئه، وتبنّى الواقع اللبناني الذّي نشأ عن الإستقلال عام 1943، وتحوّل إلى الحزب القومي الذّي يعمل برخصة من وزارة الداخليّة في حكومة الإستقلال".
لم يجد سعادة في نيل لبنان إستقلاله عن فرنسا ما يدعو إلى إحداث تغييرات في المبادئ و الأغراض .
وفي مواجهة الواقع الّلبناني الذي أريد من تبنّيه تحويل الحزب إلى منظمة سياسيّة لبنانيّة غير معينة بالوحدة والقضية السوريّتين، فتقدم بخطاب واقعي رصين حافظ فيه على غاية الحزب ومبادئه، فقال : إنّ الحزب يعترف بالكيان الّلبناني، دائرة ضمان لينطلق منها الفكر، ولأنّه قام برعاية الّلبنانيين ويبقى رهن إرادتهم .
وبقينا على حد قول المعـتـوق، إنّ هذا الخطاب قدّم أسمى صور التعلّق بالديموقراطية واحترام الإرادة الشعبيّة حين ربط الكيان اللبناني بإرادة اللبنانيين، فإليهم وحدهم يعود تقرير مصير الكيان وبإرادتهم وحدهم يبقى أو يتحوّل . وإنّما أراد سعادة من هذا الخطاب أن يحضّ على إخراج الصراع من دائرة المصالح الطائفيّة – الإقطاعيّة الضيّقة إلى دائرة الفكر، وعلى احترام حريّة المعتقد وحق إبداء الرأي حتّى يتسنّى للبنانيين التعرّف بحريّة تامّة إلى وجهة النظر الأخرى، والتّي ترى حياة لبنان في توثيق إرتباطه الحياتي بمحيطه القومي السوري، وحتّى يتبيّن اللبنانيّون أي مخرج نظري عبقري تقدّمه الهويّة السوريّة لوقف التناصر بين الحزبيات الدينيّة المتلبّسة لبوس الإنعزال اللبناني والإنفلاش العروبي .
ويشير الدكتور معـتـوق إلى أن سعــادة أقصى دعاة القبول بالواقع اللبناني عن الحزب، وعمد في الوقت نفسه، إلى شرح تعاليمه ومبادئه بغرض إظهار شموليّة الفكرة القوميّة التّي جُعلت أساساً للعمل الحزبي القومي . كما أقصى دعاة الليبراليّة الذين أرادوا الحزب حركة سياسيّة ضئيلة تستعير من الوجوديين وغيرهم ما يروق لهؤلاء الليبراليين من أفكار .
البحث التاريخي عن الخلاص
هناك صراع دائم بين فكرين ونهجين في التاريخ، نهج مادّي، حسابي، ميكانيكي وضعي ونهج متحرّك نابض هادف . الفكر اليهودي يندرج تحت عنوان النهج الأوّل، ماركــس، فرويــد، وآيـنشـتاين… فكر موّب "فايلات" في أدراج معادلات تغني عن الموضوع وحتميّاته، " الفكر السوري القومي الإجتماعي، يندرج تحت عنوان النهج الثاني.
الأوّل يعي الإحتكاك الأفقي الإجتماعي أحياناً، الإحتكاك مع الشخص الآخر، و الثاني يعي الإحتكاك العمودي -الأرض و الغيم- . الأوّل يتحدّث فقط لغة الكومبيوتر المبرمجة والثاني يراهن على الإحتمال الضئيل على هامش معادلات الكومبيوتر لأنّها إستكمال للإنسان أو ربّما يُقال لأنّها أنسنةٌ للمعادلات التّي تختصر الإنسان في الكومبيوتر" على حسب قول المؤلِّف .
أنطـون سعـادة كان يبحث عن حل لإشكاليّة الحريّة والعطاء الإنساني الحر موضوع الأمّة السوريّة جاء في إطار البحث عن الحل، التوحيد الّذي هو من الفكر السوري كان الحل بالنسبة إليه . فوضع قواعد التوحيد ؛ الإنتماء إلى مجتمع واحد، دورة حياة واحدة، أمّة واحدة، وطن واحد، مصير واحد، دولة واحدة، مثل عليا واحدة .
" والعلمانيّة التي تنقل التوحيد من قاعدة الدين إلى قاعدة الإجتماع الواحد، دورة الحياة الواحدة، فتزيل الإشكال الناشئ عن تعدد الأديان و المذاهب و الأصول الإثنيّة و أمثالها".
كان اختيار سعــادة للنهج القومي واضحاً، طرحه على نفسه سؤال : من نحن ؟ و ربّما لمصلحة هذا الإختيار صعود التيّار القومي في أوروبا، إلّا أنَّ سعــادة كان قد أنهى كل تشكك بسلامة هذا المنهج قبل تأسيس الحزب .
ويرى المؤلّف الدكتور معــتوق في منظومات الأفكار الرسوليّة الغيبيّة وخلافها، هناك دائماً نهاية محددة و محتومة، في اليهوديّة بناء الهيكل تبشّر بمجيء المسيح، في المحمديّة، محمد آخر الأنبياء، في المسيحيّة أو بالأحرى مذاهبها وبدعها نهاية العالم قريبة، في الباطنيّة حتّى، لدى الشيعة المهدي هو آخر الأئمة، عند الدروز الموحدين الحاكم هو التجسيد السابع والأخير للخالق، حتّى الماركسيّة، الطبقة البروليتاريّة هي آخر الطبقات، فلا طبقات بعدها.
ويؤكّد أنّه مع سعــادة الوجدان القومي ظاهرة مرتبطة بالتمدُّن ولكن لا حتميّات و لا نهاية . من يدري لعلّ العالم يصبح أمّة واحدة، الأرض التّي تقدّم الإمكانيّات لا الحتميّات، ستغيِّر وجه التاريخ .
سعــادة و الخصوصيّة القوميّة
الخصوصيّة سمة أساسيّة في الأيديولوجيا القوميّة، فالأمّة ملكيّة محدودة إستثنائيّة، أي أنّها مقتصرة على أبنائها دون غيرهم، و بهذا المعنى فإنَّ ثروتها حلال لهم و حرام على غيرهم، و تراثهم عزيز عليهم، و هم يقدّسونه و يماهون بينه و بين شرفهم و صورتهم و مكانتهم في العالم .
والمقصود بهذا الكلام من وجهة نظر معــتوف هو الأيديولوجيا القوميّة عموماً التي نشأت في القرن التاسع عشر في النصف الثاني منه على وجه الخصوص، ففي هذه الفترة التاريخيّة بدأ الحديث عن وحدة لغويّة وثقافيّة، وفي " التسعينات منه، مع الفرنسي فـاشـيه دو لابــوج والإنكليزي هيـوسـتن ستــيوارت تشـامبـرلين عن وحدة إثولوجيّة، ودخّلت الخطاب العنصري عبارة : ((NORBIES .
التي توحدت مع التفوّق و أخذت شكلاً تشريحيّاً يمكن تلخيصه بالشقرة و طول الرأس".
وقد تعمّقت الخصوصيّة القوميّة مع مبدأ الرئيس الأميركي وِلســن الذي حلّ محل قوميّة فنريتي في الحقيقة الليبراليّة، والتي كانت تعتبر القوميّة صفة خاصّة بالدول الكبرى وحدها كبريطانيا و فرنسا والّتي أنكرت على إيرلندا مثلا حقّها في أن تكون أمّة – دولة .
تمثِّل الخصوصيّة القوميّة معلماً رئيسيّاً من معالم الفكر القومي الإجتماعي، وهو معلم يصعب إغفاله لمطالع آثار سعــادة في شؤوون السياسة والإجتماع والإقتصاد والحقوق والأنثربولوجيا و علم النفس الإجتماعي .
ولعلَّ الحاض على التشديد الظاهر على هذه الخصوصيّة هو أنّ الحركة نشأت في ظل حالة سياسيّة كان فيها الإستقلال السياسي مصادراً من جانب قوّتين أجنبيّتين عظيمتين، هما فرنسا وبريطانيا، وكانت الهوية القومية محل تنازع بين أهواء و اعتبارات سياسيّة مذهبيّة رأى سعــادة مُحِقّا ً، أنّها لا تصلح أساساً لتعيين تلك الهويّة .
ويقول الدكتور معــتوق :" انطلق العمل القومي الإجتماعي من سؤال فلسفي هو، من نحن؟ وسعي سعــادة الذي طرح على نفسه هذا السؤال للإجابة عليه." فيقول سعــادة :" والمبادئ الأساسيّة تؤكِّد إستقلاليّة القضيّة القوميّة عن أيّ قضيَّة أخرى، وعلى خصوصية المثل العليا التي ترسمها هذه القضيّة وزودة الحفاظ على إستقلالها عن أيّ مثل عليا لأمّة أخرى، وعلى جدارة السوريين لإستيعاب قضايا استقلالهم هم جميعاً والعمل لها، بعيداً عن أيّ وصاية." إنَّ النفس السوريّة فيها كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم" .
يكاد يلخّص الأساس الماديّ – الإجتماعيّ للخصوصيّة القومية قول سعــادة في سوريا والسوريين :"هذا الوطن الممتاز لهذه الأمّة الممتازة". فقطبا التفاعل الإنساني في فكر سعــادة هما البيئة والجماعة، وفي موضوع سوريا الكبرى هما البيئة السوريّة بخصائصها المتنوِّعة من سهول ووديان و بال وأنهار وخصب أراضٍ وبروز حدود وموقع جغرافي استراتيجي، والجماعة السوريّة المكوّنة من أصول عرقيّة مختلفة بينها الكنعانيّون والأمّوريون والحثّيون والكلدان والآراميّون .
وقد اعتمد سعــادة، كما يرى الدكتور معــتوق، في تسمية الأصول العرقيّة للسوريّين على ما جاء في كتب التاريخ المستندة حتى العشرينات على كتب التوراة، وإلّا أنَّه أخضع هذه الأصول للتدقيق في ضوء الإكتشافات الأثريّة التي أولاها إهتماماً كبيراً . ومن المهم الإشارة هنا أنَّه أدخل العرب في هذه الأصول العرقيّة في الفترة الزمنيّة الأولى من حياة الحزب السوري القومي الإجتماعي، ثمّ لم يلبث أن أخرجهم من دون أن يوضح بصورة جليَّة تماماً شروط تأهيل الجماعة المرشَّحة للإنضمام إلى الأصول العرقيّة المكوِّنة للشعب السوري، وهو يقفل الباب، باب التأهيل مع تكوُّن مزيج سلالي ما ؟ وما شروط تكوُّن هذا المزيج ؟ الموضوعيّة ؟ ولكن يُستفاد من إسقاط العرب من عناصر المزيج السلالي السوري، مثلاً، إنَّ هذا المزيج قد تكوَّن بصورة نهائيّة قبل الفتح العربي، إلَّا أننا لا نعرف متى اكتملت صيغته النهائيّة و ما ظروف هذا الإكتمال .
وتبنّى سعــادة الإتِّجاه التجريبي في الإستدلال على السلالات يتناقض مع الرأي التقليدي القديم المستند إلى ما جاء في الكتب المقدّسة عن أسطورة نوح و عريِّه ولعناته الموزّعة على أبنائه والتي التقطتها المدارس العرقيّة في أوائل القرن العشرين لتصيغ منها نظريّات التفوُّق السلالي وخلاص العرق، وتستند في إدِّعاءاتها إلى الأدلّة الخدّاعة اللغويّة، وهذه " الأدلّة واهية في تقدير سعــادة، وهو ينقض هذه الإدِّعاءات " ويقول سعــادة في هذا المجال " نتكلّم عن عدد من الأقوام لغات مشتقّة من أساليب لغويّة موحدة قد يفيد أنّ هذه الأقوام كانت في بعض الأزمنة الغابرة متقاربة في الإجتماع أو أنَّ أصولها كانت تعيش معا، و لكنَّها لا تعني أبداً وجوب كون هذه الأقوام مشتقّة من أصل واحد أو نشأة سلالة واحدة".
وسعــادة لا يقول مع القائلين بالعرق السّامي نسبة إلى سام، ولا بالتصنيف التوراتي للسلالات، كما لا يقول مع علماء القرن الثامن عشر بعدد سلالاتٍ مساوٍ لعدد ألوان البشرة، ولا مع الآريّين بتفوُّق عرقهم الذي يستدلّون عليه من الأساس اللغوي المشترك لبعض الشعوب المسمّاة الهنيّة – الأوروبيّة، و هو البرهان الذي نقضه سعــادة .
ويشير الدكتور معــتوق إلى أنَّ سعــادة يذهب مذهب مــاكس مــولر الشهير الذي يعتبر الجنس مفهوماً وراثيّاً، لا يمكن أن يُستدلّ عليه من اللّغة التي هي شأن غير متوارث، ويشبه هذا الإتجاه للتعامل مع الّلغة إتجاه سعــادة الذي رفض إعتبار الّلغة من العناصر المساعدة على نشوء الأمم، بل هي " أمر حاصل بالإجتماع في الأصل لا أنّ الإجتماع أمر حادث بالّلغة ".
فصل الدين عن الدولة
ترك سعــادة نظريّة وشروحات تناول فيها الدين في طبيعته وعلاقته بالإجتماع وأثره على الوحدة الروحيّة الإجتماعية ونسبته إلى الإرتقاء الفكري والفلسفي .
ويقول الدكتور معــتوق : " وكانت لسعــادة أيضاً في أُطر شروحه وتوسُّعاته في موقفه النظريّ مساجلات ومناظرات شدّد فيها على أمرين بارزين الأوّل وحدة الأساس المناقبي للدينين المسيحي والمحمّدي وحصر اختلافاتهما في مقتضيات وضرورات البيئة التي ظهر فيها كل من هذين الدينين . وأمَّا الثاني فرفض تأسيس الإجتماع على الدين وتحذيره من الحروب الدينيّة والدعوات الدينيّة بمختلف الأشكال التي تظهر بها ".
وتأسيساً على فكرة وحدة الأمّة التي تبلورت في المبادئ الأساسيّة للحزب السوري القومي الإجتماعي دعت المبادئ الإصلاحيّة إلى فصل الدين عن الدولة وإزالة الحواجز بين المذاهب والطوائف ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميَّين .
والقول بفصل الدين عن الدولة من وجهة نظر المؤلف هو تعال العلمانيين واللاطائفيين بالإضافة إلى اتباع العقائد الماديّة الذين ينكرون وجود الله .
ولذلك لم يأمن الحزب من تهمة الإلحاد التي رماه بها رجال الدين منذ ذاعت مبادئه باكتشاف أمره عام 1935 . كما تقوَّل الباحثون في حقيقة إيمان سعــادة، فنُعِت بالماديّ و اتُّهِم بالإلحاد حتّى من أقرب المقرّبين إليه ووُصِف أحياناً بالنصف ميتافيزيقي، وكثيرون تحدَّثوا عن مثاليّته التي هي نقيض الماديّة .
يقول سعادة إنَّ الدين ظاهرة من ظواهر الإجتماع البشري، نشأ بعامل تطور الإنسانيّة نحو سيطرة النفس وحاجتها في شؤون الحياة و تطوّر وارتقى بالعامل النفسي نفسه، كما ورد في كتابه نشوء الأمم، فالدين إذن شحنة نفسيّة روحيّة تصدر عن الجماعة البشرية أو تتلقاها هذه الجماعة من جماعة أخرى لترد بها على تعقُّد الحياة و الحاجات الماديّة وتزايد صعوبة سدّها، وعند سعــادة إنّ الدين تطور مع تطور البشرية ولن ينفك يتطور بتطورها، ولكن تطوره بطيء، وفي هذا البطء سرّ خطورته .
يتبيّن هنا من هذا القول أنّ التطور خاصيّة في الدين وإن تكن إستجابته لدواعي التطور بطيئة.
سعــادة و المسألة اليهوديَّة
فرض اليهود أنفسهم على فلسطين والعالم العربي منذ بدء أزمة فلسطين التي وصلت إلى ذروتها بقيام دولة إسرائيل على الجزء الأكبر من فلسطين الحديثة، وتحوّلوا إلى العدد الذي إغتصب الأرض السوريّة العربيّة التي للإسلام و المسيحيّة روابط متينة ببعض مقدساتها .
وبيّن الدكتور معــتوق أنّه تسبق علاقته القومية الإجتماعية باليهود تاريخاً قيام دولة إسرائيل المصطنعة عام 1948، فمنذ عام 1936 عندما شرح سعادة مبادئ الحزب السوري القومي الإجتماعي أثناء فترة سجنه الثانية، وصلت المسألة اليهودية إلى البنيان الفكري السوري وحقيقة الوطن السوري وحقيقة النفسيّة السوريّة .
فتناول مسألة اليهود في إطار تناوله لتركيب الأمّة السورية التي اعتبرها حصيلة تمازج سلالات متجانسة وأصول مشتركة سمَّى منها الكنعانية والكلدانية والآرامية والآشورية و الأمورية والحثيّة والمتنية والأكّادية التي " وجودها و امتزاجها حقيقة علميّة تاريخيّة لا جدال فيها، والتي هي أساس أثني – نفسي – تاريخي – ثقافي ".
في الإطار نفسه تطرّق سعادة إلى اليهود، فأعلن أنَّه " لا يمكن أن يؤول هذا المبدأ بأنه يجعل اليهوديّ مساوياً في الحقوق والمطالب للسوريّ داخلاً في معنى الأمّة السوريّة .
فتناول كهذا بعيد جداً عن مدلول هذا المبدأ الذي لا يقول مطلقاً باعتبار العناصر المحافظة على عصبيّات أو نعرات قوميّة أو خاصّة غربيّة داخلة في معنى الأمّة السوريّة . إنّ هذه العناصر ليست داخلة في وحدة الشعب .
ونرى أنّ سعــادة قارب المسألة اليهوديّة من زاوية إثنيّة خاصّة :" فقد تطرق إلى علاقة الجسم اليهودي بالمزيج السلالي الذي تكوّن من الأصول الإثنيّة المشتركة للأقوام التي نزلت سوريا الكبرى". وتصادمت و تمازجت وكوّنت هذه الشخصيّة الواضحة القويّة التي هي الشخصيّة السوريّة و حبتها البيئة السوريّة بمقومات البقاء في تنازع الحياة". أمّا الهجرة اليهوديّة، وكذلك الهجرات الأخرى كالأرمن و الأكراد وغيرهم، فشرط قبولها هو ألّا تكون محافظة:"على عصبيات أو نعرات قوميّة أو خاصّة غربية، وهو شرط على الجماعات العرقيّة و الوافدة.
وهناك شرط ثانٍ هو قدرة الجسم المستقبِل، أي الأمّة السوريّة، على هضم العناصر الجديدة وإزالة عصبياتها الخاصة، وهو ما يحتاج إلى شرط ثالث هو الوقت الكافي لذلك ".
وفي أساس الهجرة اليهوديّة المعاصرة التي يتناولها سعــادة الإدّعاء بأنّ اليهود أقاموا في سوريا وأقاموا ممالك لهم فيها، وإنّهم يهودون إلى الأرض التي عاش فيها أجدادهم الأقدمون قبل ما يزيد على ثمانية عشر قرناً، و أنّ هذه الأرض هي جزء من أرض موعودة أعطاعم إيّاها الله الذي جعله اليهود الصهاينة " سمسار العقارات الكبرى " وقد تناول سعــادة هذه النقطة في غير مناسبة، فشكك مع المشككين في إذا لليهود الحاليين صلة باليهود القدماء مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ دخول هؤلاء اليهود الأرض السوريّة، إذا صحّ " كان بطريقة غير شرعيّة ".
ومضى في الإطار نفسه إلى تحليل علاقة اليهود بالمدينة السوريّة قبل ظهور المسيح و بعده، وصولاً إلى أنَّ الإغتراب اليهوديّ عن سوريا كان منشؤه هذا التصادم بين العقليتين و النفسيّتين قبل أن تُفرض العوامل السياسيّة .
يؤكِّد المؤلِّف أنّ الفكر القومي الإجتماعي يرفض تماماً قيام الدولة اليهوديّة ويكافح بقاءها ويعمل لإزالتها، وذلك لأنّ وجودها تعطيل للحياة القوميّة واعتداء على السيادة القوميّة . وما المصادقة على بقائها في أيّ صيغة كانت إلّا نفياً لمبدأ وحدة الأرض السوريّة، و يندرج تحت العنوان نفسه، رفض الفكر القومي الإجتماعي مبدأ الدولة الدينيّة و الأتنيّة لأنّه يُعطِّل وحدة الأمّة و يضرّ باستقلال القضيّة القوميّة .
يقول سعــادة في هذا السياق :" الطريقة الوحيدة لصهر هذه العناصر – الأقوام الأتنولوجيّة، هي طريقة تسليط عامل روحي – إجتماعي – ثقافي عليها ". ويضيف سعــادة :" أوجدت مبادئ الحزب السوري القومي الإجتماعي العامل الروحي – الإجتماعي – الثقافي الذي يتمكن من صهر الجماعات الدينيّة والأتنيّة في سوريا وتحويلها إلى عناصر متجانسة متلاحمة في صلب الأمّة السوريَّة "..
بقلم: وفيق غريزي
دار الفرات – بيروت – 2013