تختلف الأسئلة ضمن فلسفة العلوم منها السؤال الأساسي : هل النظريات العلمية صادقة أم مجرد مقبولة؟ نبحث هنا عن خيار فلسفي ثالث اعتماداً على فلسفة السوبر حداثة و السوبر مستقبلية.
بالنسبة إلى فلسفة الحداثة , النظريات العلمية الحالية صادقة لكونها ناجحة. فمثلا ً , عبَّر الفيلسوف ريتشارد بويد عن هذا المذهب قائلا ً إن التفسير الوحيد و الأفضل لحقيقة أن النظريات العلمية الحالية ناجحة في تفسير ظواهر الكون هو أن تلك النظريات صادقة. فهي ناجحة لأنها صادقة أي مطابقة للواقع. فلو كانت ناجحة من دون أن تكون صادقة حينها يتطلب نجاحها معجزة ما بفضلها تغدو ناجحة رغم عدم صدقها. لكن فلسفة ما بعد الحداثة تصر على أن النظريات العلمية ليست صادقة و لا كاذبة بل فقط مقبولة. فالنظريات العلمية مجرد أدوات لتفسير ظواهر الكون و التنبؤ بها. فمثلا ً , يؤكد الفيلسوف " توماس كون " على أن النظريات العلمية المختلفة ليست صادقة و لا كاذبة لأن كل نظرية منها تحتوي على حقائق و مفاهيم و معان ٍ و معايير لتقييم ما هو صادق و كاذب خاصة بها و مختلفة عن الحقائق و المعاني و معايير تقييم ما يصدق و يكذب الكامنة في النظريات العلمية الأخرى. و بذلك يستحيل الحكم بين النظريات و عليها من دون الوقوع في المصادرة على المطلوب. و لذا يستحيل استنتاج ما إذا كانت هذه النظريات صادقة و تلك كاذبة. و لذا كل النظريات العلمية ليست سوى أدوات لدراسة الكون و تفسير ظواهره و لا تتصف بالصدق أو الكذب بل هي فقط مقبولة.
لكن من الممكن طرح فلسفة ثالثة مختلفة عن الفلسفتين السابقتين ألا و هي فلسفة السوبر حداثة و السوبر مستقبلية. تعتبر السوبر حداثة أنه من غير المُحدَّد أية نظرية علمية صادقة. أما السوبر مستقبلية فتقول إن النظرية العلمية الصادقة هي التي سيتم اكتشافها في المستقبل فقط . الآن , بما أن , من منطلق السوبر مستقبلية , النظرية العلمية الصادقة هي التي سوف يكتشفها العلماء في المستقبل , و بما أنه من الممكن أن تكون تلك النظرية الصادقة ضمن النظريات العلمية الحالية , إذن من غير المُحدَّد أية نظرية علمية هي الصادقة من بين النظريات العلمية الحالية المختلفة , و هذا هو موقف السوبر حداثة. من هنا , فلسفة السوبر مستقبلية تتضمن فلسفة السوبر حداثة. و لذا السوبر مستقبلية و السوبر حداثة تشكّلان فلسفة واحدة لا تتجزأ.
للسوبر حداثة قدرة تفسيرية هائلة ما يدعم قبولها. فبما أن , بالنسبة إلى السوبر حداثة , من غير المُحدَّد أية نظرية علمية هي النظرية الصادقة , إذن من المتوقع وجود نظريات علمية عديدة ناجحة في تفسير الكون رغم اختلافها و تعارضها. هكذا تفسّر السوبر حداثة لماذا تنجح النظريات العلمية العديدة رغم الاختلاف و التعارض فيما بينها. فلو كان من المُحدَّد أية نظرية علمية هي الصادقة لِوُجِدت نظرية علمية واحدة فقط ناجحة في تفسير ظواهر الكون. لكن بما أنه من غير المُحدَّد أية نظرية علمية هي الصادقة , إذن لا بد من وجود نظريات علمية عديدة ناجحة في تفسير الكون رغم التعارض فيما بينها. من هنا , تنجح السوبر حداثة في تفسير نجاح النظريات العلمية رغم اختلافها و تعارضها.
مثل ذلك أن , بالنسبة إلى نظرية نيوتن العلمية , الزمن مطلق أي ليس نسبياً بينما بالنسبة إلى نظرية النسبية لأينشتاين الزمن نسبي لأنه يختلف باختلاف السرعة. و بالنسبة إلى نظرية نيوتن و نظرية أينشتاين , قوانين الطبيعة حتمية بينما بالنسبة إلى نظرية ميكانيكا الكم العلمية قوانين الطبيعة ليست حتمية بل احتمالية. لكن رغم هذه الاختلافات الجوهرية بين هذه النظريات العلمية , كلها نظريات ناجحة في تفسير ظواهر الكون و التنبؤ بها. و كلها ناجحة رغم اختلافها و تعارضها لأنه من غير المُحدَّد أية نظرية منها هي النظرية الصادقة ؛ فلو كان من المُحدَّد أية نظرية منها صادقة لنجحت نظرية واحدة منها فقط . هكذا تتمكن السوبر حداثة من تفسير نجاح النظريات العلمية رغم اختلافها , و ذلك من خلال مبدأ لا محددية أية نظرية هي النظرية الصادقة. لكن , بالنسبة إلى السوبر مستقبلية , النظرية العلمية الصادقة هي تلك التي سيكتشفها العلماء في المستقبل. لذا العلماء يصوغون نظريات علمية جديدة بشكل دائم بهدف الوصول إلى النظرية الصادقة. هكذا تفسِّر السوبر مستقبلية لماذا يبني العلماء نظريات علمية جديدة بشكل مستمر و متواصل ؛ فهُم يفعلون ذلك لأن النظرية العلمية الصادقة هي التي سيتم اكتشافها في المستقبل. و بهذا تكتسب السوبر مستقبلية قدرة تفسيرية في هذا الشأن ما يدعم مقبوليتها.
إذا اعتبرنا أن النظريات العلمية الحالية صادقة فهذا يُوقِف عملية البحث العلمي عن نظريات علمية جديدة. و في هذا رذيلة معرفية لأننا نريد أن نستمر في البحث العلمي بدلا ً من اغتياله. و إذا اعتبرنا أن النظريات العلمية الحالية ليست صادقة و لا كاذبة بل فقط مقبولة حينها نكون قد اعتبرنا أن العلم لا يُعبِّر عن الكون و الواقع و بذلك لا يُوصِل إلى معرفة الكون و الواقع. و في هذا رذيلة معرفية أخرى. من هنا , من الأفضل قبول الاتجاه الفلسفي الثالث الذي يتخطى المذهبين الفلسفيين السابقين ألا و هو اتجاه السوبرحداثة و السوبرمستقبلية. فالاتجاه الثالث يتجنب المشكلتيْن السابقتين. بالنسبة إلى فلسفة السوبر حداثة و السوبر مستقبلية , النظرية العلمية الصادقة هي النظرية التي سوف يتم اكتشافها في المستقبل , و بذلك من غير المُحدَّد أية نظرية علمية حالية هي النظرية الصادقة دون سواها. و بما أن , بالنسبة إلى السوبر مستقبلية , النظرية العلمية الصادقة هي تلك التي سيحدث اكتشافها في المستقبل , إذن لا بد من الاستمرار في البحث العلمي من أجل الوصول إلى النظرية العلمية الصادقة. هكذا تضمن السوبر مستقبلية استمرارية البحث العلمي بدلا ً من إيقافه , و بذلك تتجنب السوبرمستقبلية المشكلة الأولى. من المنطلق نفسه , بما أن بالنسبة إلى السوبرحداثة من غير المُحدَّد ما هي النظرية العلمية الصادقة من بين النظريات العلمية الحالية العديدة , إذن لا بد من البحث عن نظريات علمية جديدة قد تتضمن النظرية العلمية الصادقة. و بذلك تضمن السوبر حداثة استمرارية البحث العلمي أيضاً.
من جهة أخرى , بما أن السوبر مستقبلية تقول إن النظرية العلمية الصادقة هي النظرية التي سوف يحدث اكتشافها في المستقبل , إذن تتضمن السوبر مستقبلية مبدأ أن البحث العلمي سيؤدي إلى معرفة الكون. و بذلك تتجنب السوبر مستقبلية المشكلة الثانية. و بما أن السوبر حداثة تؤكد على أنه من غير المُحدَّد أية نظرية من بين النظريات العلمية الحالية هي النظرية الصادقة , إذن تدفع السوبر حداثة نحو الاستمرار في البحث العلمي من أجل صياغة أو اكتشاف النظرية العلمية الصادقة المطابقة للواقع , و بذلك تتضمن السوبر حداثة إمكانية معرفة الكون و الواقع. و لذا تتجنب السوبر حداثة المشكلة الفلسفية الثانية تماماً كما تفعل السوبر مستقبلية. الآن , بما أن فلسفة السوبر حداثة و السوبر مستقبلية تتجنب الوقوع في المشكلتين الفلسفيتين السابقتين , إذن كل من السوبر حداثة و السوبر مستقبلية فلسفة ناجحة فمقبولة إلى أقصى حد.
أما فلسفة الجهل فهي التي تعتبر أن النظريات العلمية كاذبة , و بذلك تختلف عن الفلسفات السابقة. و تصر فلسفة الجهل على كذب العلم اعتماداً على عقيدة أن الله وحده يعلم. بالنسبة إلى فلسفة الجهل , الكون مجرد كالله تماماً و بذلك من المستحيل معرفته ؛ فالأشياء المجردة غير مرتبطة بنا سببياً ما يؤدي إلى استحالة معرفتها. فلسفة الجهل فلسفة معقدة المبادىء و التفاصيل لكنها تتمحور حول الفكرة التالية : الله مجرد و بذلك من المستحيل معرفته. و الكون مجرد لأنه من نتاج الله المجرد , و بذلك من المستحيل معرفة الكون أيضاً. من هنا , فقط الله يعرف الكون لأن الله مجرد تماماً كالكون. كل هذا يؤدي إلى أن الجهل سيد عقول البشرية. فجهلنا تأكيد على أن الله موجود و على أنه خالق الكون. و بذلك المعرفة الحقة كامنة في الجهل. من منطلق فلسفة الجهل , ثمة معرفة لكنها قائمة في جهلنا ؛ فجهلنا بكل شيء دلالة على أن الله وحده يعلم كل شيء و دلالة على أن الله مجرد و بذلك غير معلوم و دلالة على أن الكون مجرد كالله و بذلك غير معلوم أيضاً. و كل هذا ليس سوى معرفة لكنها معرفة تؤسس لجهلنا بكل شيء. هكذا بالنسبة إلى فلسفة الجهل , المعرفة جهل و الجهل معرفة.
اليوم تسود فلسفة الجهل على عالمنا العربي الاسلامي. فمعظم العرب و المسلمين مقتنعون بأن الله وحده يعلم كل شيء و أنه يستحيل علينا معرفة ماهية الله لأنه مجرد فلا شبيه له كما يستحيل علينا معرفة الكون لأن الكون مجرد تماماً كالله. هكذا لشعوبنا المشرقية اليوم فلسفة خاصة لم يسبقنا إليها شعب من الشعوب ألا و هي فلسفة الجهل. و بما أن المعرفة جهل و الجهل معرفة , إذن الجهل هو القيمة العليا في مجتمعاتنا الافتراضية. الصراع بين فلسفة العلم و فلسفة الجهل صراع على المبادىء و التفاصيل. و نتيجة هذا الصراع تحدِّد ما إذا سنتمكن من العودة إلى التاريخ و الحضارة أم سنموت حضارياً و نمسي وهماً تاريخياً في عقول مَن سيبقى. بالنسبة إلى فلسفة العلم , العلم مصدر معرفة الواقع و مصدر المعتقدات و الأفكار المفيدة عملياً بينما , بالنسبة إلى فلسفة الجهل , العلم مصدر جهلنا , و الجهل مصدر علمنا. و من منظور فلسفة العلم , الكون واقعي و بذلك من الممكن معرفته و الحصول من خلاله على معتقدات مفيدة عملياً بينما , من منظور فلسفة الجهل , الكون مجرد و لذا من غير الممكن معرفته. هكذا تختلف مبادىء و تفاصيل كل من فلسفة العلم و فلسفة الجهل. مَن سينتصر في النهاية؟ هذا قرارك أنت بالذات.
فلسفة العلم في مواجهة فلسفة الجهل
105
المقالة السابقة