تختلف نظريات التواصل وتتصارع. نرتحل في هذه المقالة إلى عوالم فلسفات التواصل لنرصد نمو السوبر تواصلية كمذهب فلسفي يتجاوز المذاهب التقليدية في علوم التواصل. العالم اليوم عالم تواصلي بامتياز. لكنه ينقسم إلى عالم تواصلي ماضوي وعالم تواصلي مستقبلي.
الفيزيائي الكبير جون ويلر أرسى المبادئ العامة لنموذج علمي جديد. بالنسبة إلى ويلر، كل شيء في الكون عبارة عن معلومة؛ فالكون يتكوَّن من معلومات، أما العلاقات بين الظواهر الطبيعية كالعلاقات السببية فهي مجرد تدفق للمعلومات من ظاهرة إلى أخرى. هكذا الكون نظام تواصلي بحيث يتواصل من خلال تبادل المعلومات. فكما يقول العالِم الفيزيائي سيث لويد، الكون كمبيوتر متطور يقوم بحساب وقياس معلوماته بالذات. من هذا المنطلق، من الممكن اعتبار أن المجتمع نظام تواصلي وأن الإنسان نظام تواصلي أيضاً. فالمجتمع نظام تواصلي بمعنى أنه يتشكّل من تبادل المعلومات؛ التفاعل بين الأفراد ليس سوى نقل معلومات من فرد إلى آخر. أما الإنسان فهو نظام تواصلي بمعنى أن الإنسان يكمن في إنتاج المعلومات وإرسالها إلى الآخرين. فلو لم يكن كذلك ما تمكن من بناء مجتمع وتطوير محيطه وأدوات معاشه. كل هذا يرينا الارتباط الحتمي بين التواصل والمعلومات. لقد أوضح عالِم الرياضيات كلود شانون العلاقة بين التواصل والمعلومات. يُعتبَر كلود شانون مؤسس نظرية المعلومات؛ فلقد درس المعلومات على ضوء الأنظمة التواصلية فأنتج النموذج الرياضي الأول في علوم التواصل
( Craig and Editors : Robert Heidi Muller : Theorizing Communication. 2007. Sage Publications ).
يقول شانون إن التواصل عملية نقل للمعلومات من مصدر إلى متلقٍ. بالنسبة إليه، يتكوّن النظام التواصلي من مُرسِل ووسيلة نقل للمعلومات ومتلقٍ. المُرسِل هو مصدر المعلومات، ووسائل نقل المعلومات تتنوع وتختلف فقد تكون وسائل الإعلام كالتلفزيون أو الراديو أو التخاطب اللغوي اليومي، بينما المتلقي فهدفه إعادة بناء الرسائل المُرسَلة وفهمها. كما قدّم شانون معادلة تقيس كمية المعلومات في أية رسالة مفادها أن أية رسالة تملك معلومات أكثر في حال كان احتمال ظهورها أو تكوّنها ضعيفاً بينما إذا كان احتمال وجودها أكبر حينها تحتوي الرسالة على معلومات أقل.
هذا يعني أن المعلومات، بالنسبة إلى شانون، هي عمليات قياس الاحتمالات، وكمية المعلومات هي قياس الاندهاش أو المفاجأة. فعندما تدهشنا رسالة ما، حينها تحتوي الرسالة على معلومات أكثر. أما إذا لم نتفاجأ برسالة ما فحينها تكون درجة احتمال إصدار الرسالة عالية وبذلك تكون الرسالة حاوية على معلومات قليلة. بكلام آخر، إذا كان من الممكن التنبؤ برسالة معينة حينها تملك الرسالة معلومات أقل. هكذا كمية المعلومات في رسالة ما مرتبطة بقياس الاندهاش بتلك الرسالة وبدرجة احتمال صدور الرسالة. مثل ذلك أن الرسالة التي تقول "إن الشمس ستشرق غداً" لا تدهشنا أبداً ولذا احتمال صدور هذه الرسالة كبير، وبذلك هذه الرسالة تحتوي على معلومات قليلة جداً؛ فنحن نعلم مُسبَقاً أن الشمس ستشرق غداً. أما الرسالة التي تقول "إن درجة الحرارة غداً ستكون تحديداً أربعين درجة مئوية"، فهي تملك معلومات أكثر لكونها تحدِّد بالضبط درجة الحرارة غداً ما يتضمن المفاجأة وقلة درجة احتمال صدور تلك الرسالة. فمن دون صدور الرسالة السابقة لا نعلم تحديداً ما هي درجة الحرارة غداً، وبذلك تحتوي تلك الرسالة على معلومات أكثر. باختصار، بالنسبة إلى كلود شانون، النظام التواصلي هو نظام إرسال المعلومات وبذلك هو نظام معلوماتي تتحدَّد كمية معلوماته المُرسَلة من خلال درجة احتمال نشوء الرسائل المتضمنة للمعلومات .
بالإضافة إلى ذلك، شرح فيلسوف التواصل روبرت كريغ المأزق المعرفي الكامن في حقول الدراسات التواصلية. ففي مقاله الشهير "نظرية التواصل كحقل" أوضح التعارض القاتل بين النظريات في دراسة التواصل. فالنظريات التواصلية باتت تختلف جذرياً عن بعضها البعض؛ فكل نظرية تعرِّف التواصل بشكل مختلف عن النظريات الأخرى ما أدى إلى انقطاع التفاهم بين أصحاب النظريات التواصلية المتنوعة. من هنا، يستنتج كريغ أن دراسات التواصل بشكلها الحالي لا تشكّل حقلاً معرفياً واضح القضايا والمضامين. يقول كريغ إن الحل لا يكمن في إنتاج نظرية توحّد بين كل نظريات التواصل؛ فهذا يقضي على غنى هذه الحقول من جراء اختزالها إلى نظرية مُوحَّدة. بل الحل قائم في خلق حوار بين النماذج المتعارضة في علوم التواصل من أجل إنتاج نظريات جديدة قادرة على شرح العمليات التواصلية بشكل أوضح. يضيف كريغ قائلاً إنه من الممكن إنشاء حقل علمي يُعنى بالتواصل من خلال بناء ميتانظرية مهمتها دراسة النماذج المختلفة في التواصل وتحليلها وتحديد العلاقات التي تربط بينها ما يجعل كلاً من الحوار والتفاهم بين أتباع النظريات التواصلية المختلفة ممكناً
يُحصي كريغ سبع نظريات تواصلية متعارضة وهي: أولاً، النظرية البيانية التي تعتبر أن التواصل هو فن المحادثة. ثانياً، النظرية السيميائية التي تحلِّل التواصل على أنه وسيلة ارتباط بين أطراف من خلال علامات وإشارات ذات دلالات. ثالثاً، النظرية الفينومولوجية التي تقول إن التواصل هو اختبار الحوار مع الآخرين. رابعاً، النموذج السبراني وهو الميدان المعرفي الذي يدرس الأنظمة ذات الأهداف والمؤثرة في محيطها والمتأثرة بمحيطها كالأنظمة الاجتماعية والنظام السيكولوجي للفرد. والمذهب السبراني يؤكد أن التواصل هو عملية تدفق المعلومات تماماً كما أوضح كلود شانون. خامساً، النموذج السوسيوسيكولوجي الذي يُصرّ على أن التواصل تفاعل بين الأفراد. سادساً، النظرية السوسيوثقافية التي تقول إن التواصل عملية إعادة إنتاج النظام الاجتماعي. وسابعاً، الاتجاه النقدي الذي يعتبر أن التواصل عملية تحدٍّ للمسلّمات كافة. لكن رغم أن كريغ أحصى هذه المذاهب التواصلية المتصارعة، أبقى الباب مفتوحاً أمام نشوء نظريات تواصلية مستقبلية مختلفة عن النظريات الأولى كالنظرية الاقتصادية في التواصل التي تقترح أن التواصل هو تبادل اقتصادي .
من الممكن اعتبار أن هذه المذاهب المختلفة في التواصل تدرس أنواعاً متنوعة من التواصل. فكل مذهب من هذه المذاهب يوضح نوعاً من التواصل مختلفاً عن الأنواع الأخرى في التواصل التي توضحها المذاهب التواصلية الأخرى. وبذلك لا تتعارض هذه المدارس المختلفة في التواصل لكونها تدرس أنواعاً مختلفة من التواصل ما يحل مشكلة تعارضها. فمن الطبيعي أن تختلف بسبب دراستها لأنواع تواصلية مختلفة، لكنها لا تتعارض بفضل إيضاحها لأجناس تواصلية مختلفة. فمثلاً التواصل كنقل معلومات نوع من التواصل مختلف عن التواصل كتحدٍ للمسلّمات. ولذا كل هذه الدراسات مقبولة لكونها تشرح أجناساً مختلفة من التواصل وبذلك لا يوجد تعارض حقيقي بينها.
من جهة أخرى، يقدِّم أريك مكلوهن ومارشل مكلوهن نظرية مغايرة في التواصل؛ فهُما يعرِّفان التواصل من خلال مفهوم التغيير. بالنسبة إليهما، التواصل يتضمن التغيير؛ فمن دون إحداث تغيير ما في المتلقين لا يوجد حينئذٍ أي تواصل. فمثلاً، النتيجة التي يريد كاتب ما إحداثها في المتلقين هي التي تشكّل وجهة نظر الكاتب في التواصل. الكاتب يكتب على ضوء نظريته في التواصل، وبذلك الرسائل التي يبثها أي كاتب تحتوي على نظريته في التواصل وتهدف إلى إحداث تغيير معين في المتلقي.
إذا لم يحدث أي تغير في المتلقي، هذا يعني أن المتلقي لم يتلقَ أية رسالة. هذا لأنه إذا لم يحدث تغير في المتلقي من خلال هذا التواصل أو ذاك، حينئذٍ لا يوجد دليل على أنه يوجد تواصل أصلاً، وذلك من جراء فقدان التواصل المفترض لقدرة سببية أو لدور سببي مؤثر. فنحن نستنتج وجود ما لا نرى أمامنا بفضل الأدوار أو العلاقات السببية التي تملكها تلك الأشياء أو الظواهر التي لا نراها مباشرة. هكذا، بالنسبة إلى نموذجهما التواصلي، وظيفة التواصل قائمة في تحويل المتلقين وتغييرهم كتغيير رأي مَن لا يريد شراء هذه البضائع أو تلك ودفعهم إلى شرائها. وتكمن هذه الوظيفة أيضاً في القصائد والروايات. فمثلاً، تصطاد القصائد والروايات الجمهور من خلال جمالياتها كي تحدِث تغيراً أو تحولاً ما في المتلقي كأن تدفعه إلى الثورة أو الخنوع
( Eric Mcluhan and Marshall Mcluhan : Theories of Communication. 2011. Peter Lang ).
أما النظرية التقليدية في التواصل فتعتبر أن التواصل نقل معلومات من فرد إلى آخر. لكن كما يقول أريك ومارشل مكلوهن تفشل هذه النظرية التقليدية في التعبير عن حقيقة أن وسائل الإعلام تغيّر مستخدميها وتفرض على متلقي معلوماتها ثقافة جديدة بينما نظرية التواصل كإحداث تغيير تنجح في التعبير عن تلك الحقيقة. فبما أن التواصل هو إحداث تغيير في المتلقين، إذن فمن الطبيعي أن يُحدِث الإعلام تغيراً في مجتمعه. هكذا تتمكن نظرية التواصل كإحداث تغيير من تفسير حقيقة تأثير الإعلام في الفرد والمجتمع ما يدعم مقبوليتها. كما أن الإعلام ينتج ثقافة جديدة تتشكّل من وظائف وأهداف المؤسسات الإعلامية وكيفية استخدام وسائل الإعلام. من هنا، التواصل إحداث تغيير.
كما يعرض مارشل مكلوهن أفكاراً مثيرة حول طبيعة التواصل. بالنسبة إليه، وسيلة التواصل هي الرسالة، ومضمون الوسيلة التواصلية هو الفرد المُستخدِم لها لأنها تحوّله إلى فرد مختلف من جراء استخدامه لها. وبما أن هدف التواصل هو التغيير، وعلماً بأنه من خلال وسيلة التواصل يحدث التغيير، إذن هدف التواصل هو نشر وسيلة التواصل وبذلك وسيلة التواصل هي رسالة التواصل. باختصار، يؤكد مارشل مكلوهن على أن التواصل يعني التغيير. وبما أن التغيير هو تغيير في الجماهير المتلقية لرسائل التواصل، إذن تتأقلم الأنظمة التواصلية مع المتلقين لرسائلها بهدف إنجاح عملية تغييرهم. هكذا المتلقي يشترك أيضاً في إنتاج رسائل التواصل .
لكن لا بد من التمييز بين التواصلية والسوبر تواصلية. التواصلية التقليدية تدرس التواصل على أنه عملية نقل معلومات من مصدر معين إلى متلقٍ بينما السوبر تواصلية تعتبر أن التواصل عملية خلق قدرات على إنتاج معلومات جديدة. هكذا تختلف السوبر تواصلية عن التواصلية. بالنسبة إلى التواصلية، التواصل إرسال معلومات وتلقٍ لها. لكن بالنسبة إلى السوبر تواصلية، التواصل عملية تشكيل مبتكر للمعلومات وخلق جديد لها. هكذا السوبر تواصلية تجعل كلاً من المُرسِل والمتلقي منتجاً للمعلومات بينما التواصلية تبقي المُرسِل ناقلاً للمعلومات والمتلقي مجرد متلقٍ لها. فبينما التواصلية التقليدية تقضي على المبدع في المتلقي، السوبر تواصلية تستدعي المبدع في المتلقي بل تدفع بالمتلقي ليصبح مبدعاً للمعلومات. الآن، لو كان التواصل إحداث تغيير في المتلقي، فخلق قدرات على صياغة معلومات جديدة أفضل وأقوى تغيير من الممكن إنتاجه في المتلقين. من هنا تكتسب السوبر تواصلية مصداقيتها؛ فهي قادرة على احتواء التواصل كعملية تغيير. ولو كان التواصل إيصال المعلومات إلى متلقٍ، وبما أن أفضل إيصال للمعلومات كامن في خلق قدرات على إنتاج معلومات جديدة على ضوء المعلومات المُرسَلة، إذن التواصل قائم في تزويد المتلقي بقدرات على صياغة معلومات جديدة تماماً كما تقول السوبر تواصلية. على هذا الأساس، تصدق السوبر تواصلية أيضاً.
تصل المعلومات إلى متلقٍ ما فقط في حال أنه تمكن من فهمها. ولكي يفهم تلك المعلومات لا بد أن يتمكن من معرفة أدوارها الاستنتاجية أي الأسس التي بفضلها تكتسب مصداقية معينة والنتائج التي تتضمنها. من هنا، تصل المعلومات إلى متلقٍ معين في حال نجح المتلقي في استنتاج النتائج المترتبة عن تلك المعلومات وإلا يكون قد فشل في فهم مضامينها. لكن استنتاج النتائج المترتبة عن المعلومات المُرسَلة ليس سوى اكتساب قدرات على إنتاج معلومات جديدة على ضوء المعلومات المُرسَلة. بذلك إيصال المعلومات يتضمن خلق قدرات على صياغة معلومات مبتكرة ما يعني أيضاً أن أفضل إيصال للمعلومات كامن في خلق قدرات على إنتاج معلومات جديدة. هكذا تصدق السوبر تواصلية. فإن لم يتمكن التواصل من بناء قدرات على صياغة معلومات جديدة، حينها يفشل التواصل في إيصال أية معلومات لأن إيصال المعلومات يتضمن بالضرورة خلق قدرات على إنتاج معلومات لم نعهدها من قبل. هكذا يزول الفارق بين إيصال المعلومات وإنتاجها. وهذه فضيلة كبرى للسوبر تواصلية.
السوبر تواصلية تؤسس لنشوء الأنظمة التواصلية السوبر مستقبلية. فالنظام التواصلي السوبر مستقبلي يرسل إلى المتلقي رسائل أساسية مفادها أن المعلومات التي يريد إرسالها إليه هي النتائج الجديدة التي سوف ينتجها المتلقي في المستقبل على ضوء الرسائل المُرسَلة إليه. وبذلك النظام التواصلي السوبر مستقبلي يجعل من المتلقي مُرسِلاً أو مصدراً للمعلومات في المستقبل. وهو بذلك يحوّل المتلقين إلى مبدعين لمعلومات جديدة. تتميز السوبر مستقبلية بموقفها القائل بأن المعلومات هي تلك التي تتشكّل في المستقبل، ولذا تؤكد السوبر مستقبلية على أن التواصل الحق هو الكامن في إرسال مضامين تدعو إلى خلق المعلومات المستقبلية. ولكي تقوم السوبر مستقبلية بمهمتها هذه تستعين بالسوبر حداثة التي لا تحدِّد أية معلومات هي المعلومات الصادقة دون سواها، بل تترك للمتلقي أمر اكتشاف الحقائق وبذلك تحرره من سلطة المعلومة وطغيانها. من هنا، المعلومات التي ترسلها الأنظمة السوبر تواصلية المعتمدة على السوبر مستقبلية والسوبر حداثة هي معلومات غير مُحدَّدة النتائج؛ فنتائجها معتمدة على المتلقي الذي من المفترض أن يُعيد صياغة الرسائل المُرسَلة إليه وينتج رسائل أخرى مختلفة. هذا نقيض النظام التواصلي في المجتمعات السوبر متخلفة التي تبث معلومات مُحدَّدة ومتضمنة لاستحالة تغييرها. هكذا، بينما معلومات الأنظمة التواصلية السوبر متخلفة مُحدَّدة سلفاً، معلومات الأنظمة التواصلية السوبر حداثية غير مُحدَّدة المضامين ما يجعل الصراع بين السوبر تخلف والسوبر حداثة صراعاً حتمياً. فالنظام التواصلي السوبر متخلّف يسجن العقل في معلوماته المحدَّدة مُسبَقاً بينما النظام التواصلي السوبر حداثي يحرر العقل من خلال معلوماته غير المُحدَّدة في مضامينها ونتائجها.
في عصر السوبر تخلف يتحوّل النظام التواصلي أداة صناعة لمعلومات كاذبة وخالية من المعنى بينما يتميز التخلف بانهيار النظام التواصلي. هكذا يختلف السوبر تخلف عن التخلف التقليدي. فالمجتمع المتخلف غير قادر على التواصل بسبب قلة معلوماته ودونية قيمة المعلومة فيه. لكن المجتمع السوبر متخلّف يمتلك نظاماً تواصلياً معقداً يحتوي على معلومات كثيرة ومتكاثرة دوماً كما لديه وسائل نقل متطورة للمعلومات وقادرة على إيصالها إلى أي متلقٍ وإقناعه بمصداقيتها. لكنه يستخدم الأنظمة التواصلية المتطورة لكي ينشر معلومات فاقدة لأية قيمة علمية أو فكرية أو سلوكية، وهو بذلك يقوم بوظيفته الأساسية ألا وهي التجهيل.
النظام التواصلي في زمن السوبر تخلف يُطوِّر التخلف من خلال نشر الجهل والتعصب بوسائل تكنولوجية متقدمة. فحين يستخدم النظام التواصلي السوبر متخلف التكنولوجيات المتطورة يقنع المتلقي بصدق رسائله الكاذبة. السوبر تخلف آلية أبدعتها السوبر ماضوية التي تقول إن الحقائق والمعارف كامنة في الماضي وإن التاريخ يتجه نحو الماضي بدلاً من أن يتجه نحو المستقبل. فأفضل منهج لإعادة صياغة الماضي في المستقبل قائم في تطوير التخلف ما يضمن استحالة الانطلاق إلى مستقبل جديد فضرورة العودة إلى الماضي.
يتميز النظام التواصلي السوبر ماضوي بصفة تصوير المستقبل على أنه ماضٍ مُشرِق. فالماضي، بالنسبة إلى الأنظمة التواصلية السوبر ماضوية، مُحدَّد في أدق التفاصيل فواضح الماهية والمعالم ما يسبب الرضى في قلوب السوبر ماضويين ويدفعهم نحو عدم إنتاج ما هو جديد، بينما الماضي بالنسبة إلى النظام التواصلي السوبر حداثي فهو غير محدَّد في صفاته وماهيته ما يدفع السوبر حداثويين إلى ابتكار ماضٍ متجدد باستمرار وصياغة مستقبليات جديدة ومتعددة. هكذا تواجه السوبر حداثة الأنظمة التواصلية السوبر ماضوية والسوبر متخلفة بسلاحها الفكري القائل بأن اللا مُحدَّد يحكم الكون والتاريخ.
بالنسبة إلى السوبر حداثة، كل حقيقة أو ظاهرة غير مُحدَّدة ما هي، ولذا تتجسد في تجسدات مختلفة ما يرفع درجة احتمال معرفتها لكونها متجلية في حقائق وظواهر متنوعة. من هنا، تعتبر السوبر حداثة أنه من غير المحدَّد ما هو التواصل، ولذا يغدو التواصل ظواهر عدة ومختلفة فيكون نقلاً للمعلومات أو إحداث تغيير في المتلقين أو تفاعلاً بين أفراد أو إعادة صياغة للواقع الاجتماعي أو تحدّياً للمسلّمات التقليدية. هكذا تتمكن السوبر حداثة من تفسير لماذا يتجلى التواصل في تجسّدات متنوعة، وبذلك تكتسب السوبر حداثة فضيلتها المعرفية. بالإضافة إلى ذلك تنسجم السوبر حداثة مع السوبر تواصلية. فبما أن السوبر تواصلية عملية خلق قدرات على صياغة معلومات جديدة، وبما أن أية معلومات مبتكرة تحتاج إلى أنظمة تواصلية جديدة لكي تتمكن من حمل المعلومات الجديدة، إذن السوبر تواصلية تستلزم نشوء أنظمة تواصلية جديدة ما يتضمن تجسدات مختلفة للتواصل لم نعهدها من قبل. لكن السوبر حداثة تؤكد أن للتواصل تجسدات متنوعة. من هنا، السوبر تواصلية تتضمن موقف السوبر حداثة ما يشير إلى انسجامهما. التواصل المحدَّد المضامين والنتائج تواصل سوبر ماضوي بينما التواصل اللامحدَّد في مضامينه ونتائجه تواصل سوبر حداثوي. تواصل من دون إنتاج معارف مستقبلية جديدة تواصل أعمى. مَن لا يستطيع إنتاج المعلومات لا يستطيع إيصالها.