112
كل النتاج في العلم يدور حول المفاهيم، واللغة العلمية هي لغة المفاهيم ولا تحوي الكتب العلمية إلا الكلام على المفاهيم. وانطلاقاً من ذلك يكون العنوان يشير إلى مفهوم المرأة، كما تكون المشاركة تشير إلى مسألة بحث تقع داخل مفهوم المرأة.
فما هو المفهوم، وما هي مسألة البحث؟
إن المفهوم هو المضمون النظري العام والعالمي، الذي يأخذ على عاتقه تجاوز التعدد والتنوع اللامتناهي، لتجريدات المحسوس، المتعلقة بالمرأة، إلى نمذجتها، وتصنيفها، وتجريدها، في تركيب نظري، ومضمون نظري، يقدم لنا المرأة أينما كانت، في كل الأمكنة، وفي كل المجتمعات، وفي كل الأزمنة.
وأما مسألة البحث، فتعني وجود اختلاف وتعارض، حول المضمون النظري، يشير إلى الآتي: لا يحيط هذا المضمون النظري، بالتفصيلات المحسوسة كافة، التي تدخل في نطاقه، وما زالت توجد تفصيلات محسوسة تتعلق بالمرأة، ويعجز المضمون النظري عن تقديم ما يلزم لفهمها، وينبغي بالتالي، إجراء بحث، والتعديل في المضمون النظري، كي يكون المضمون النظري، في المفهوم، عاماً وعالمياً بالفعل.
لقد وقع اختيارنا على "مشاركة المرأة" كمضمون نظري، داخل مفهوم المرأة، ما زال الخلاف والتعارض، حوله، قائماً، فالبعض من الباحثين، والعلماء، يتبنى مشاركة المرأة، والبعض الآخر، من العلماء ـ والباحثين، يقف موقفاً نقدياً، من فكرة مشاركة المرأة. وكل اتجاه من الاتجاهين، يملك سياقاً معرفياً، يطرح المسألة داخله.
وبناء على هذا سنتعرف في هذه الدراسة إلى السياق المعرفي، في إنتاج فكرة مشاركة المرأة، وإلى السياق المعرفي، في رفض فكرة مشاركة المرأة.
السياق المعرفي الأول
إنتاج فكرة مشاركة المرأة
تنطلق الكتابة الشائعة عن المرأة، من اعتبارين معرفيين أساسيين: اعتبار المعرفة ذكورية، واعتبار الذكور فئة معرفية. ويعني ذلك النظر إلى الذكور باعتبارهم فئة معرفية، ذات مصالح وغايات خاصة والنظر إلى معرفتهم على أنها معرفة ذكورية. ويقوم هذان الاعتباران المعرفيان الأساسيان على الركيزة المعرفية التالية: تعود معرفة الفرد إلى معرفة الفئة المجتمعية التي ينتمي إليها هذا الفرد. ويعني ذلك أن الفئة المجتمعية، في اعتبارها فئة معرفية، هي مُوَلّدة المعرفة وحامِلتها وحافِظتها وخازنتها ومكتسبتها، وعلى هذا الأساس، تتعدد الفئات المجتمعية في المجتمع الواحد. ويعني ذلك ما هو معرفة من منظار فئة معرفية معينة يختلف عما هو معرفة من منظار فئة معرفية غيرها. كما يدفع تعدد الفئات المجتمعية إلى التساؤل عن المعيار الذي يسمح بالمفاضلة بين الفئات المعرفية، فما هو المعيار الذي يتيح التقرير بأن معرفة مجتمعية ما أقرب إلى فهم الواقع المجتمعي من معرفة فئة مجتمعية أخرى؟ إنها فكرة "الامتياز المعرفي" ، في معنى أن تحتل فئة معرفية ما، في نظرية المعرفة، وفي المعرفة ذاتها، وضع الامتياز المعرفي، فتكون المعرفة التي تُنتج من منظار هذه الفئة تخلو من حجب الواقع، عكس المعرفة المنتجة من منظار فئة معرفية غيرها.
على هذا تنطلق الدراسات والأبحاث من حقلين معرفيين متوازيين لا يلتقيان أبداً. ففي تناولها لموضوع المرأة والسلطة على سبيل المثال، تنهض المعالجة على بداهة الانفصال بين حقلي المرأة والسلطة المعرفيين. هذا الانفصال نظري وتجريبي. فهو انفصال نظري لأن المضمون الفكري لمسألة السلطة لا يتجاوز "تقسيم العمل حسب الجنس" و"المجتمع الأبوي". وهو انفصال تجريبي لأن المرأة مستبعدة عن السلطة في الملموس. ومن الملاحظ أن الانفصال النظري والتجريبي بين حقل المرأة وحقل السلطة يهيمن في الكتابة الشائعة عن قضية المرأة ويخترقها من أولها إلى آخرها. وهو يتخذ شكلين على الأقل:
•الإعلان الصريح عنه ومحاولة التنظير له.
•استخدام مفاهيم وأفكار ومصطلحات وصيغ لغوية تقع في أسره دون أن تعي الكتابة الأسر الذي تقع فيه.
•وفي هذا الضوء، يهيمن مفهوم "السلطة الذكورية ". وكما نعرف، أو ينبغي أن نعرف، ينتمي هذا المفهوم، إلى نظرة تُخرج المرأة وحدودها الأنثوية من الحقل المعرفي الخاص بالسلطة. وأقصى ما يمكن لمفهوم "السلطة الذكورية " أن يصل إليه هو الاستنتاجين الآتيين:
•إعطاء المرأة الحق في الدخول إلى حقل السلطة وممارستها كالرجل.
•تحذير المرأة وتقديم النصح لها بعدم السعي إلى كسب سلطة ما لأن سعيها في هذا المجال سيؤدي إلى إعادة إنتاج نماذج من السلطة الذكورية المتلطية، هذه المرة خلف سيماء نسائية.
•لقد اكتملت المعادلة المنطقية، كما اكتمل حضور العقبة المعرفية:
المعرفة ذكورية
السلطة ذكورية المجتمع ذكوري
الذكور فئة معرفية
لقد أنتج اعتبار المعرفة ذكورية إذاً، كما أنتج اعتبار الذكور فئة مجتمعية معرفية أفكاره ومفاهيمه ومصطلحاته ومُفرداته وصيغه اللغوية الخاصة. وهذه الأفكار والمفاهيم والمصطلحات والمفردات والصيغ اللغوية الخاصة تهيمن في الكتابة الشائعة عن قضية المرأة وهي تسرح وتمرح في الغالبية الساحقة من الأبحاث والدراسات والكتب. وما يصح في مثال السلطة الذكورية يسحب بنفسه على الآتي: مجتمع ذكوري، وجهة نظر ذكورية، نص ذكوري، كتابة ذكورية، قيادة ذكورية، تعسف ذكوري، تفكير ذكوري، وجهة نظر نسائية، كتابة نسائية، قيادة نسائية، تفكير نسائي…الخ
وإذا كان الانفصال النظري والتجريبي بين حقل المرأة المعرفي والحقول المعرفية الأخرى يحكم الكتابة الشائعة عن قضية المرأة ويوجهها، فإن الكتابة الشائعة نفسها تبقي الباب مفتوحاً لاحتمال الاتصال النظري والتجريبي بين حقل المرأة والمعرفي والحقول المعرفية الأخرى في مجتمع آخر غير المجتمع الحالي، حيث المساواة بين الرجل والمرأة، وحيث الاستقرار في المعادلات المجتمعية بين الذكر والأنثى. ومن زاوية النظر هذه، يعني الاتصال النظري والتجريبي انتقال المرأة بحقلها المعرفي إلى الحقول المعرفية الأخرى كحقل السلطة أو العمل أو الأسرة أو النقابة أو الحزب…الخ.
ولكن كيف يحصل الاتصال النظري التجريبي؟ وما السبيل إلى ذلك؟ كيف يتم الانتقال من حقل معرفي إلى حقل معرفي آخر؟ تقدم فكرة المشاركة الإجابة على هذه الأسئلة. فإذا كانت السلطة ذكورية وتستبعد من حقلها المعرفي حدود المرأة الأنثوية، فلا بد من مشاركة المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل. وعلى هذا الأساس ترتسم معادلات منطقية عدة في الكتابة عن قضية المرأة: السلطة تعادل وتساوي مشاركة المرأة فيها، العمل يساوي ويعادل مشاركة المرأة فيه، الحزب يساوي ويعادل مشاركة المرأة فيها…الخ
تؤمن فكرة المشاركة إذاً فتح الأبواب الاتصال النظري والتجريبي بين حقل المرأة المعرفي والحقول المعرفية الأخرى كما تصبح المشاركة هي القضية.
أخيراً مع فكرة المشاركة تختزل المعرفة إلى معادلة: "لأنها امرأة لا يدعونها تشارك، ولأنها امرأة ندعو إلى مشاركتها". وفي هذه الحالة لا يجد السياق المعرفي الأول في متناوله إلا التفتيش عن مؤشرات ينتجها القياس الكمي لتأكيد واقع عدم مشاركة المرأة.
وفيما يلي، عدد من نماذج الكتابة الشائعة عن المرأة:
"إن النظرة إلى المشاركة السياسية للمرأة تحكمها أفكار موروثة جامدة وعادات وتقاليد تصل إلى حد العرف وتعتبر أن السياسة هي من عمل الرجال. من جهة أخرى تعترض العائلة بشدة على مشاركة المرأة ويتم توارث السياسة بين الذكور كما تعترض الطائفة عندما تكون مقاعدها السياسية محدودة فيستأثر الرجل بالمقعد وهذا عائد للثقافة والأفكار الموروثة""
" التنشئة الاجتماعية للأسرة التي تكرس التمييز – تقسيم الأدوار النمطية بين الجنسين – مناهج التعليم التي ترسم صورة معينة للمرأة وتحدد مهاماً خاصة بها – الصورة المبتذلة للمرأة في الإعلام وتكريس الدور النمطي التقليدي في الدراما – هيمنة السلطة الذكورية… كل هذه هي محددات تضع المرأة في إطار هو قيد لا يسمح لها بالخروج منه إلا بصعوبة. والمرأة قد لا تكون معروفة إلا باسم زوجها – انتقال قيد المرأة إلى سجل زوجها (لا تعود مقبولة أن تمثل منطقتها ولا منطقة زوجها)"
" سيطرة الموروث الاجتماعي والنظام الذكوري /الأبوي على العادات والتقاليد المجتمعية السائدة، ما يكرس وينمي القيم التمييزية ضد المرأة ويشجع على تسليط العنف عليها مما يعيد إنتاج ويفرض ويكرس قسمة الأدوار النمطية للرجال وللنساء.
هذه المعطيات تؤشر إلى التمييز بحق المرأة , إذ إن النظام الاجتماعي اللبناني ما زال متأثراً بالقيم التقليدية القائمة على الانتقاص من شأن المرأة والتسليم بتبعيتها، وعدم توظيف قدراتها وكفاءاتها في موقع القرار الموروث التقافي: إن الثقافة الاجتماعية السائدة وخاصة الثقافة الشعبية تنطلق من وصاية الرجل وسلطته على المرأة وتكرس قسمة الأدوار التاريخية بين الجنسين عبر تحديد دور المرأة ضمن الأسرة. ضعف قواعد استقلالية المرأة وتبعيتها الدائمة للرجل، ما يزيد من صعوبات مشاركتها المستقلة وتمثيلها المستقل. إن ميدان العمل السياسي يتميز بسيطرة ذكورية تاريخية وهيمنة تمثيل الذكور على حساب تمثيل النساء، وبالتالي فإن البنية السياسية تكرس نمط العلاقات الذكورية المسيطرة تقليدياً في المجتمع حسب قسمة الأدوار التاريخية بين الجنسين. ضعف الأحزاب السياسية التي يمكن اعتبارها مؤسسات ذكورية بامتياز وهيمنة نظام الحزب الواحد الحاكم في معظم الدول العربية بنية الأنظمة السياسية: حيث تسود البنية العشائرية أو القبلية أو الطائفية أو العائلية، وعليه فإن طابع التنافس الانتخابي هو: عائلي- سياسي- طائفي، ما يخلق صعوبة لناحية وصول النساء إلى مراكز صنع القرار. لا تستطيع المرأة دون مباركة وموافقة العائلة، أن تشارك في الشأن العام والترشح للانتخابات خاصة أن العائلات والعشائر والطوائف لا تقبل أن تمثلها النساء. "
" لا تتوافر أيّ بيئة مثالية للتقدّم بمشاركة المرأة في الحياة السياسية رغم أهمية ذلك, وهناك عقبات كثيرة رسمية وغير رسمية تواجه مشاركتها السياسية وعوامل كثيرة تواجه حتى محاولتها للمشاركة في السياسة، وكلنا نعلم أيضاً أن النساء في العالم لا يشاركن في السياسة بأعدادٍ كبيرة.. على الأقلّ ليس في مراكز القيادة.
"المشاركة السياسية للمرأة تجعل من مساهمة المرأة في قضايا بلادها متساوية مع الرجل، وتقضي على سيطرة النخبوية الذكورية، وتمكنها من القضاء على هذا التفرد الذي يعمل على القضاء شيئاً فشيئاً على التمييز ضد المرأة"
"سيادة التسلط الذكوري على إدارة الدولة ومؤسساتها وسوق العمل والاقتصاد حتى في الدول الأوروبية الغربية أو الدول المتقدمة واحتكار المناصب العليا من قبل الرجال"
"إن مشاركة المرأة في صنع القرارات على جميع المستويات تمكن النساء من الحصول على الحقوق وممارستها والمساهمة في إدارة وتوجيه المجتمع. إن أهمية مشاركة المرأة السياسية في المستويات المختلفة تخدم فكرة المساواة ليس بين الجنسين فقط بل بين جميع المواطنين ومفهوم المساواة بين الجنسين هو تجسيد للمساواة بين المواطنين جميعاً، وتطبيق حقيقي لمفهوم المشاركة الذي يعتبر الأساس للممارسة الديمقراطية. إن وجود المرأة في موقع صنع القرار يخدم المجتمع في كل قضاياه وجوانبه. إن مشاركة المرأة في الحياة السياسية على قدم المساواة مع الرجل تشكل إحدى آليات التغيير الديمقراطي في المجتمع التي تساهم في إعادة تركيب بنية هذا المجتمع ونظامه السياسي استناداً إلى مصالح وحاجات المواطنين الفعلية."
"تعتبر المشاركة السياسية بالنسبة للمرأة مؤشراً لنمو وتعزيز مشاركة المواطن ومعياراً لإعادة توزيع علاقات القوة بين الجنسين وتحسين آليات الممارسة الديمقراطية. إن وجود المرأة في مراكز القوة والسلطة سيحقق المصالح المرتبطة بها وإبراز قضاياها والدفاع عن حقوقها والتسريع في إعطائها دوراً حقيقياً في عملية التنمية للمجتمع بشكل عام. وكل ذلك يعود لما لهذه المراكز – القوة والسلطة – من تأثير في حياة المرأة."
"المشاركة السياسية تعطي المرأة قدرة أكبر على التحكم في أمور حياتها وأمور الآخرين، سواء في أسرتها أو مجتمعها، وذلك من خلال تمكينها من الحصول على حقوقها وتحقيق مصالحها والدفاع عنها"
"إن الوضع الحالي يطرح تساؤلات من نوع جديد بشأن نسبة مشاركة المرأة ومستوى أدائها وكيفيته، ومدى قدرتها على التأثير في الحياة السياسية والحزبية ومؤسسات المجتمع المدني. ومدى صلتها بالنضال القائم من أجل الحريات العامة وحقوق الإنسان في المجتمعات العربية. وهل يمكن تأطير عمل النساء كي يمثلن نصف الهيئة الناخبة. أقر المؤتمر العالمي الرابع للمرأة منذ 14سنة (بجين 1995) بضرورة مشاركة المرأة في عملية صنع القرار وتولي المناصب السياسية. والتزمت بذلك العديد من الدول. لكن ما زال وضع المرأة في المنطقة العربية مقارنة بباقي دول العالم أقل بكثير من إمكانية الوصول إلى المناصب القيادية السياسية والمشاركة في عملية صنع القرار، سواء من زاوية تمثيل المرأة في السلطات الرئيسية الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. وإذا أخذنا تمثيل المرأة في المجالس النيابية فسنجد أن نسبة تمثيلها في الدول العربية تعد من أدنى النسب على مستوى العالم، مع الأخذ في الاعتبار التفاوت فيما بين الدول العربية في هذا الصدد.
النقد الموجه إلى فكرة
مشاركة المرأة
تجتمع وتتقاطع جملة من الاعتراضات، الموجهة، إلى فكرة مشاركة المرأة وإلى السياق المعرفي الذي أوصل إليها.
الاعتراض الأول
ضرورة التمييز بين مفهوم الفئة المجتمعية كمقولة فلسفية، تاريخية، مجتمعية، اقتصادية سياسية، ومفهوم الفئة الإحصائية حيث العمر، الجنس، الدخل، الثروة الأدوار المشتركة، الأدوار الواحدة، المواقف المتماثلة…الخ، تكون في أساس ترتيب الأفراد والجماعات وتصنيفهم حسب متغيرات كمية وكيفية. وفي ضوء وعي التمييز هذا لا يعود بالإمكان اختزال الفئة المجتمعية، وبالتالي الفئة المعرفية، إلى مجرد تجمع بسيط لذكور يتشابهون في الجنس.
الاعتراض الثاني
على الرغم من أن الذي أتى بفكرة "الامتياز المعرفي" وأنتجها هم فلاسفة ذكور، إلا أن تبني هذه الفكرة واستخدامها لم يؤد على الإطلاق إلى اعتبار الذكور فئة معرفية. وقد تَنقِّل اعتماد هذه الفكرة، عند الفلاسفة الذكور، بين الشأن الطبقي والقومي والديني والعرقي…الخ. ونحن لا نجد، منذ أرسطو وحتى يومنا هذا، نظرية واحدة من نظريات المعرفة اعتبرت المعرفة شأناً يتضمن الذكور على أنهم فئة معرفية.
الاعتراض الثالث
لمجرد اعتبار المعرفة ذكورية، واعتبار الذكور فئة معرفية، تخرج من دائرة التفسير والفهم معرفة الأكثرية الساحقة من الإناث، فهن لسن ذكور لأنهن إناث، وهن يمارسن المعرفة المعتبرة ذكورية، وهن لا يعرفن سوى المعرفة المعتبرة ذكورية، وهن أخيراً لا يستطعن تغيير معرفتهن، لأن تغيير المعرفة مسألة تختلف عن تغيير الفرد لآرائه، ومواقفه.
الاعتراض الرابع
لمجرد اعتبار المعرفة ذكورية، واعتبار الذكور فئة معرفية، تخرج من دائرة التفسير والفهم، معرفة الذكور الذين اقتربوا من وعي التحيز الذكوري في معرفتهم، فهم ليسوا إناثاً لأنهم ذكور. وهم لا يمارسون المعرفة الذكورية، وهم يعون تميز معرفتهم الذكورية.
الاعتراض الخامس
لا بد من وعي التمييز بين أن تكون المعرفة ذكورية، أو أن تكون معرفة متحيزة للذكور. فالفرق كبير جداً بين أن تكون المعرفة بطبيعتها ذكورية، أو أن يكون عامل الذكورة ظاهراً فيها.
وعلى هذا الأساس، يؤدي اعتبار المعرفة ذكورية، والذكور فئة معرفية، إلى عكس الهدف الموجود في هذا الاعتبار، كما يبدو اعتبار المعرفة ذكورية وكأنها دعوة إلى حجب التمييز للذكور في الواقع. كيف؟
الاعتراض السادس
لو كانت المعرفة ذكورية لكان وضع المرأة في المعرفة جزءاً من طبيعتها البشرية، ولكان مفترضاً أن يتكرر وضعها في كل المجتمعات والمراحل التاريخية. ولكن، أليست عاداتنا المجتمعية اليوم مختلفة عن السابق جذرياً؟ وهل بقي وضع المرأة في المعرفة على حاله منذ آلاف السنين؟
الاعتراض السابع
لا يوجد فارق بين معرفة ينتجها الرجال أو النساء. وبين معرفة الرجل والمرأة، بل ثمة كتابات، وهي التي تملأ التاريخ في مختلف حقول المعرفة، إذا اطلعنا عليها لم ندرِ أو صعب علينا أن ندري هل هي بقلم رجل أو امرأة. فهذه ليست معرفة ذكورية أو أنثوية بل معرفة ينتجها الرجال والنساء. وفي الإمكان الذهاب إلى أبعد والقول إن في كل رجل قدراً من امرأة كما أن في كل امرأة قدراً من رجل.
الاعتراض الثامن
•مع فكرة المشاركة، يحصل الخلط بين عالمين:
عالم الجمعيات والحركات والتجمعات النسائية، التي ترفع شعار "اسمحوا للمرأة بالمشاركة، وتناضل في سبيل ذلك. وفي هذا العالم، تتحول المسائل النظرية من أدوات علمية معرفية، إلى أشياء تستخدم في المواجهة الدائرة في المحسوس. وفي هذا العالم أيضاً تكون معادلة " لأنها امرأة لا يدعونها تشارك ولأنها امرأة ندعو إلى مشاركتها" في أساس التعبئة والمواجهة في الملموس.
عالم الكتابة عن المرأة، حيث تتحول "مشاركة المرأة" إلى عقبة، وبعد النقد ينتقل السياق الثاني إلى وعي التمييز بين احتمالين:
لو كانت الديمقراطية، العمل النقابة، الحزب الأسرة،…الخ هي مواضيع البحث المطروحة بالفعل لانتهت المعالجة إلى الاستنتاج التالي: أنتجت الديمقراطية، العمل، الأسرة، النقابة، الحزب… الخ في سياق تاريخي، مجتمعي، اقتصادي، سياسي، جنسي معين، وقد أنتجت الديمقراطية، العمل، الأسرة… الخ، وضعاً للمرأة ومشاركة للمرأة في كل مظهر من مظاهر الحياة المجتمعية.
لو كانت معادلة الرجل- المرأة هي موضوع البحث بالفعل لانتهت المعالجة إلى الاستنتاج التالي: أُنتِجت معادلة الرجل- المرأة في سياق تاريخي، مجتمعي، اقتصادي سياسي معين. وقد أنتج معادلة الرجل- المرأة وضعاً للمرأة ومشاركة المرأة في الديمقراطية، والعمل والأسرة، النقابة، الحزب….الخ.
أخيراً يصل السياق المنهجي الثاني إلى وعي التمييز بين وجهين في المعرفة، مع ما يجره هذا الوعي:
ما يتخطى الشروط الخاصة، أي ما يُجَنّبنا اختزال المعرفة إلى مجرد انعكاس، في وعي الإنسان، لتأثيرات الاجتماع والاقتصاد والسياسة والجنس. وفي حال استعرنا هذه الفكرة المنهجية وانتقلنا بها إلى قضية المرأة، تختفي الحدود وتزول بين الرجل والمرأة، ويندمج الاثنان في قضية معرفية واحدة هي قضية الإنسان ومعنى الجودة.
ما لا يتخطى الشروط الخاصة، أي ما يعود في وعي الإنسان، أو لا وعيه إلى وظائف الاجتماع والاقتصاد والسياسة والجنس. وفي حال استعرنا هذه الفكرة المنهجية وانتقلنا بها إلى قضية المرأة، لا تملك الكتابة إلا التفتيش عن أثر مقولة الجنس، كمقولة اجتماعية، في إنتاج التحيز للذكور في المعرفة.
لكن على الرغم من المعالجة الأكاديمية كلها التي تميز وتفصل بين وجهي المعرفة، إلا أنهما في الحقيقة يشكلان وجهاً واحداً في معرفة واحدة.
وإذا كان من المستحيل التمييز والفصل بين ما يتخطى في المعرفة الشروط الخاصة، وما لا يتخطاها، فإن من المطلوب بإلحاح شديد وعي التميز والفصل من ناحية، ووعي استحالة التمييز والفصل من ناحية ثانية، والسبب في الحاجة الماسة إلى هذا الوعي المزدوج أنه وحده يملك جدارة التعاطي المنهجي مع قضية المرأة كيف؟
إذا كان وعي التمييز بين وجهي المعرفة يبتعد قدر الإمكان عن اعتبار المعرفة ذكورية، ويقترب بنا قدر الإمكان من اعتبار معرفة الذكور والإناث معاً، فإن وعي استحالة التمييز بين الوجهين يفرض النزول بالمعرفة، ولو كانت تتضمن تحيزاً للذكور، واستخدامها كأداة في إنتاج معرفتنا بالواقع الملموس، ولا يمكن رفض هذا النزول أو إحاطته بالتساؤلات فهو ضروري ولا مفر منه، ولو كان ممكناً التمييز بينهما، لكنا أهملنا الوجه الذي يتضمن تحيزاً للذكور وتركناه، ووضعناه جانباً، ولكنا استخدمنا الوجه الأول فقط، ولكنا أنتجنا وجهاً ثانياً لا يعرف تحيزاً للذكور.
إن وحدة المعرفة ووعي استحالة التمييز هما اللذان يفرضان هذا النزول وهذا الاستخدام. وبما أن المعرفة تتضمن التحيز للذكور فيها، فلا بد لواقع المرأة المجتمعي الملموس من مواجهة ما ننزل به ونستخدمه بسلسلة من الإشكاليات والتساؤلات تتعارض أو تختلف عن التساؤلات والإشكاليات التي تتضمن تحيزاً للذكور في الأصل. وفي مجال التفتيش عن إجابات على هذه التساؤلات وعن الإشكاليات الجديدة تتعدد الاحتمالات وتختلف: تغيير المعرفة، تغيير مضمونها، التغيير في مضمونها…الخ.
ويمكن تلخيص هذا المسار المنهجي في التعاطي مع المعرفة في قضية المرأة عن طريق رفع شعار "إعادة إنتاج المعرفة" وينبغي عدم التخوف من رفع هذا الشعار لأنه يعني ببساطة كلية أن كل معرفة بدراستها يعاد إنتاجها وأن المعرفة ليست نهائية أو مطلقة، بل هي في حالة دائمة من التشكل والتحول والبناء".
يُفترَض أن يتحول السؤال المنهجي إذاً من "هل تصلح معرفتنا الذكورية لدراسة واقع المرأة؟" إلى "كيف نعيد إنتاج معرفتنا في دراستنا لواقع المرأة". ولكن، عند محاولتنا تقديم إجابة وافية وجديرة، تتضح وتبرز استحالة التمييز بين ما يعود في المعرفة إلى الذكور والإناث معاً، وما يعود فيها إلى فعل عامل الذكورة. ولهذا السبب نحن نستبدل تعبيري: "التمييز بين وجهي المعرفة" و"استحالة التمييز بين وجهي المعرفة" بتعبيري: "وعي التمييز بين وجهي المعرفة" و"وعي استحالة التمييز بين وجه المعرفة" في معنى أن الذي يحدد النجاح في التعاطي مع المعرفة في قضية المرأة هو قدرة الباحث على الجمع بين التمييز من جهة، واستحالة التمييز من جهة أخرى. ولا يمكن لهذا الجمع أن يحصل إلا إذا كان الباحث على درجة عالية جداً من الوعي.
بتعابير أخرى، إن المطلوب من الكتابة عن قضية المرأة يتجاوز الممارسة المنهجية العادية إلى وعي منطق الفهم كقضية نظرية يبحث فيها، على الدوام، منهج الفهم نفسه".