صار الخبر العاجل، وسط هذا الحشد الهائل من فضائيات الصورة والصوت، باعثاً للمتعة، ولو كان خطباً جللاً مثقلاً بالضحايا.
ما تلك المفارقة العجيبة؟
قد لا يعود الأمر مستغرباً لو عرضنا حال المشاهد العربي وهو يتنقل عبر "الريموت كونترول" من فضاء إلى فضاء ليغادر ضجراً طال أمده.
كما لو أن المشاهد العربي بلغ تلك اللحظة التي يستحيل عليه معها أن يتوقع خبراً يجيئه بتفاؤل. فما له حينئذٍ إلاّ أن يتكيَّف واقع الحال، ثم ليصنع من خوفه أمناً، ومن ضجر الأيام أنساً موهوماً وسلوى.
ليس ثمة من مناسبة بعينها للكلام على سجايا "الخبر العاجل". فمثل هذا النوع الساحر من المفاجآت الخبرية بات يحتل الحجرات ومطارح العمل ليل نهار، حتى لقد غدت الكلمات المعدودات أسفل الشاشة أدنى إلى "طقس نفساني"، يتلقفه الجمهور عن ظهر قلب.
ذلك ما بتنا أسرى صورته المضاعفة مذ أصبح سماء العرب مكتظة بسحب الرماد والنار على امتداد عقدين كاملين.
مع الخبر العاجل، الذي يتهافت كإعصار في المشهد العربي المتواصل، يكاد كل شيء يصبح قابلاً للتصديق. والذي اصطُلح عليه بـ«الميديا» كوصف مكثَّف للسيطرة الإعلامية، سوف يتحول في خلال فترة عجولة إلى «وحش أسطوري» يلقي بظلِّه الرهيب على كل مواطن يتوقع نبأً ما، ينجيه مما هو فيه من هلع
هي «الموجة» الإعلامية بكامل سطوتها.. تمضي بلا هوادة إلى ابتكار وسائط الهيمنة، عبر سيلٍ هائل من الأنباء والمعلومات والأصوات والصور.. وكل هذا من أجل أن يتمكن الذين يقفون وراء صناعتها من تشكيل عوالم الناس على صورتهم..
هذه الظاهرة – ظاهرة الخبر العاجل على وجه التعيُّن- لم تعد مجردة حالة عارضة. بل هي أمست مع تقادم الزمن وكثافته وسرعته، حالة ثقافية ومعرفية متأصّلة. وهي ظاهرة لو تحرّينا منشأ ولادتها وأسباب نموها وتوسعها، لتبيّن لنا بهتان الصورة المزعومة عن براءتها. فإنها ظاهرة متعلقة بالأغراض والأهواء والمصالح، بل ومربوطة بغايات سياسية وإيديولوجية واضحة المعالم، في المجتمعات الأهلية، كما في العلاقات بين الدول.
لو قال قائل إن مهمة الخبر هي ملء المساحة المجهولة من مجريات الأحداث، وحق الجمهور في التعرّف على ما لا يعلم، فقوله صحيح في المبدأ. لكن الصحيح أيضاً وأساساً يكمن في الكيفية المهنية والأخلاقية التي تقدم فيها المعلومات فضلاً عن النتائج المترتبة عليها.
ذلك يحيلنا بالضرورة إلى إدراك الغاية من صناعة هذا الخبر أو ذاك، والاستهداف المتوخى من وراء نشره. من حق الجمهور وقد خبروا تداعيات الأخبار العاملة أن يتخذوها على سوء الظن. ذلك بأن منها ما يكون حجة لفتنة أو مشروعاً لاحتراب أهلي في كل مدينة من مدن الرماد العربي المتمادي.
إن نحن اتفقنا على كون المعلومة الخبرية هي المفهوم الأكثر قابلية للتوظيف، فلن يكون الإعلام بأحيازه المرئية على وجه الخصوص، غير مقاربة تقنية للمفهوم. ونستطيع أن نمضي إلى ما هو أدنى إلى المطابقة، لنجد أن «الميديا» المعاصرة هي الجسم التكنولوجي الذي تتحرك المصالح من خلاله. وما ينطبق على ثنائية الإيديولوجيا والإعلام، يصح كذلك على ثنائية الأخلاق والإعلام.
ولكي لا يبقى القول في "الخبر العاجل" ضمن حدود الوصف، تحدونا المسؤولية إلى النظر إليه بوصفه وسيلة غير منزهة عن الأغراض. فإنه على ضرورته في تغطية الأحداث، لا ينبغي أن يفارق القاعدة الكلية التي تحكم فلسفة الإعلام، وهي الحرية المقرونة بالمسؤولية. والمسؤولية هنا هي شأن معنوي وأخلاقي قبل أي شأن آخر.. فعلى أرض هذه المسؤولية يمكن إجراء الأحكام على أخلاقية، أو لا أخلاقية الخبر على أنحائه المختلفة. لقد سبق لنا أن شاطرنا الكاتب الفرنسي سيرج لاتوش عندما رأى إلى الإعلام المعاصر، كجزء من شبكة العولمة التكنو-اقتصادية والثقافية التي تجتاح العالم اليوم. ثم ليبيَّن كم للمجمّعات الاقتصادية الكبرى التي تحملها ضراوتها على كل ما يضاعف الربح والتكاثر، من قدرة على زعزعة القيم، وعلى الاستيلاد الهائل لأزمات أخلاقية ضربت بنية المجتمع الدولي برمته
ومن هنا مسّت الحاجة إلى وجود «قانون للسلوك الحسن» كما يقرّر لاتوش. وهو سلوك ينبغي أن يكون مؤسساً على أخلاق عالمية في الحد الأدنى، يتم تحديدها وتُفرض على الامبراطوريات الإعلامية، سواء على سلوكهم في ما بينهم، أو في العلاقة مع الآخرين.
الوجه المهم في النقد الغربي لـ "الميديا" يمكث في بعده الأخلاقي والقيمي. وهذا أمر جدير بالاعتناء والتقييم من جانب النخب العربية والإسلامية لما له من دلالة في التعرّف على مجريات النقاش في المجتمع الإعلامي الغربي.
مثل هذا النقد لدى طائفة وازنة من نقاد رأسمالية ما بعد الحداثة، سوف يتخذ حيّزاً أكثر تحديداً، حين تركز على ماهية الأخلاق. وبعض هؤلاء النقاد يشير إلى الطابع الفلسفي للسؤال، فيلاحظ أن ما يخصنا، هو ذاك الذي يتعلق بسؤال الخير والشر. وكذلك بكل ما يستحق العناية على صعيد القيم مثل الحق والجميل، والشجاعة والشرف والتضحية بالنفس.. ولغياب الضوء الكاشف يعود كثيرون من علماء الاجتماع والأخلاق في أوروبا والولايات المتحدة إلى إعادة إحياء ما يعتبرونه المعيار الأولي للخير العام. وهو ما تقصده القاعدة الأخلاقية الكانطية (نسبة إلى الفيلسوف ايمانويل كانط) والتي تقول: "تصرّف كما لو أنك تستطيع أن تجعل من مبدأ فعِلِك قاعدة كونية".
كلنا يأمل ويرغب أن يتلقى خطاباً ينبئه بخبر سعيد، أو بمشهد يبتعث في داخله جمال العالم من حولـه، أو بحكمة تمنحه الأمان، وراحة البال، وتنزع من ناظريه غشاوة القنوط والضجر والتشاؤم؛ إلا أن واحدنا لا يلبث حتى يرى العالم من حوله ممتلئاً، بما لا أمل يرجى منه، أو بما لا رغبة له به. حتى ليتبدَّى الأمر وكأنه استغراق في التشاؤم
كأن الخطاب الإعلامي المفتوح على اللامتناهي – كما يلاحظ الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو-، بدل أن يكون هذا العنصر الشفاف، أو المحايد الذي تكتسب فيه السياسة والثقافة طابعاً سليماً، هو أحد المواقع الذي تمارس فيها هذه المناطق بعض سلطتها الرهيبة بشكل أفضل
يبدو هذا الخطاب – في ظاهره – شيئاً بسيطاً، لكن أشكال المنع التي تلحقه تكشف باكراً وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة والاستحواذ. وما المستغرب في ذلك مادام الخطاب – ليس هو ما يُظهر أو يخفي الرغبة فقط – وإنما أيضاً هو موضوع الرغبة. ومادام الخطاب – والتاريخ ما فتئ يعلمنا ذلك – ليس هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة فقط، بل هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها
ما لا يُشك فيه أن التحولات التي عصفت بالنظام العالمي، في خلال العقدين المنصرمين، تعطي الكلام على ماهية الخطاب والاتصال بعداً أكثر تعيناً وشمولاً. ولقد أثبت الإعلام بتقنياته الهائلة بما هو دافع التحولات الكبرى في الأخلاق والسياسة، والاقتصاد، والفكر، والفن، والثقافة.. بل هو محورها ومحركها ومحرَّضُها.
وعلى هذه الدلالة، سيكون «للميديا» المعاصرة ذلك المقام الحاسم، إما في تشكيل المعارف وتكوين الأفهام، على نصاب الخير العام، وإما في تحطيم ما تبقى من أنساق القيم التي تُستأنف اليوم كميدان صراع، في البيئات الثقافية العالمية المعاصرة.
لقد بدأنا عن قصد بـ"الخبر العاجل" كمثال صارخ على سطوة الميديا ورهبتها.. وما ذاك إلا لأنه اللاّعب اليومي الأكثر إغواءً في لعبة "الميديا". بل هو الحلقة الأشد حساسية وخطورة في تلك اللعبة. فللخبر العاجل في حالتنا العربية الراهنة أهمية مضاعفة. ذلك بأنه سيد الشاشات وحاكم "الأمزجة". حيث بات ينطوي على أثر حاسم في رفع أو خفض "أدرينالين" الفتنة المتنقلة بين الأقطار والعواصم.