116
"غبار 1918" هي رواية للكاتبة فاتن المر صادرة حديثاً عن دار أبعاد، وهي عمل متقن بطبقات متعددة وتقنية مميزة. ولا أّدّعي أنني سأقوم بتحليل وافٍ لها بل سأقوم بنثر بعض الإنطباعات العالقة في البال من ذلك الجو الغني لعمل إبداعي حقيقي.
كتب نظام (شخصية في الرواية) أوراقه وخبّأها خوفاً من "الغبار"، كي لا ينسى هويته…. وكُتبت هذه الرواية لتنفض الغبار الذي تراكم فوق صور جمّة في تاريخنا الذي كدنا ننساه أو الذي يريدون لنا أن ننساه، وكأنه شريط سينمائي لفيلم محروق أتلفه مرور الزمن الجاف، أو خيط مقطوع بشفرة التراكم اليومي لحداثة تدّعي عقم الماضي وجذوره لتحل محله مفرداتها الهجينة. هذا الخيط الذي تشدك به الرواية منذ صفحاتها الأولى فتلتف حول قلبك شباك العاطفة والذاكرة التي تخجل أمام إنعاشها بهذا الكم من الألم الحيّ: يخرج التاريخ من موته أو أننا نخرج من اللحظة لنسافر في قطعة منه سفراً حقيقياً موجعاً لأنه يسقطنا في آتون الظلال التي تعكسها المرايا في قاع وجودنا الذي يحمل جسده كل شظايا ذاك الزمن، ولكنه يتقن إخفاءها بالمساحيق.
الرواية تتأرجح بين الثنائيات (التي جسدتها تقنية الرواية) هي ثنائيات كينونتنا في الزمكان: بين زمنين وجيلين ومكانين، ولعل هذا التأرجح يُضيء بعمق حالة الشرخ الكامنة، والتي على الرغم من إتساعها تُشكل مسافة للقلق أوالبحث الحار الذي ترمز له العلاقة بين الولد وأبيه. إن تعلق الإبن اللاشعوري بماضي أبيه يشير بطريقة ذكية وخفيه أنه لا هروب ممكن، لأن التاريخ ملتصق بجيناتنا وأرواحنا، ولأنه الامتداد الحقيقي لنا مهما حاولنا الإختباء أو التناسي.
بين الموت والحياة، بين الذكرى والنسيان، بين الدماء التي تسيل ظلماً والدماء التي تجري في عروق شعب لم ينطفئ فيه الحب والتضحية والأخوّة، بين الوحدة من جراء فقدان الأهل، وبين الإنتماء لرحم الوطن الحاضن، الوطن الذي لا يستيقظ إلا بيقظتنا، ينمو نداء الكاتبة الشغوف التي تُقاوم بنار الكلمات وجمر القلب: علينا أيضاً ألا ننسى، علينا أن نمنعهم "أن يسرقوا استقلالنا" أو ما تبقى لنا من جذوة الرفض والكرامة، فمهما تعددت الأماكن، لا مكان لنا سوى هذا التراب المنسوج من أجساد الشهداء، ومن تلك الأجساد ينبت الورد الأحمر في كل دورة لوجودنا: "في وطني نحيا رغم أنف من يختارون لنا، كل حقبة أساليب جديدة للموت، نكتب أو نُغني أو نصاب بالجنون حتى لا نموت".
بهذا القول تنتهي الرواية وتبتدئ… هكذا بصدر مفتوح كدعوة لا تتوقف، وكنشيد يتصاعد للنهارات الآتية… نشيدٌ لا ينفكُ يمسح ما تراكم فوق الحنجرة من غبار…