بدأت أكتشف شخصيّة الزّعيم أنطوان سعادة من خلال المقابلة الأولى و من ثمّ من خلال المحاضرات التّي كان يلقيها و كنت أحضر معظمها . و كنت أحضر هذه المحاضرات بعدما كنت عدت من رحلتي إلى بريطانيا، و سبق أن ذكرت أنّي نشرت مقالا أحدث ضجّة ، و أفسح مجال المناقشات الكثيرة . هذا المقال كان عنوانه: " هؤلاء الأربعون مليونا ". لكنّ ما انتهى هذا النّقاش لنتيجة حاسمة. و كنت لا أزال عضوا في حزب النّداء القومّي فعلى أثر حضوري لسلسلة المحاضرات التّي كان يلقيها الزّعيم سعادة في رأس بيروت و سبق و ذكرت أنّه كان ملاحقا و رفعت مذكّرة التّوقيف بحقّه . و السّلطة اللّبنانية كانت تفرض نوعا من الحظر على أخبار أنطوان سعادة في الصّحف و حتّى على اسمه يعني كانت توحي للصّحف بذلك بصورة غير رسميّة و لم يكن هناك إذاعات و لا تلفيزيونات . من هنا كانت الصّحافة وسيلة الإعلام الأولى و الوحيدة فتوحي السّلطة للصّحف أن لا يذكروا شيئا عن أنطوان سعادة و لا عن نشاطه فكان هناك تعتيم كامل حتّى على إسمه إنّما بصورة غير رسميّة أيّ بإيجاءات غير مباشرة . و بالحقيقة فلقد كنت احترم الرّجل بنظري في مستواه و في أسلوبه في معالجة الموضوع الفكري في الشّأن القوميّ .
يعني استوقفني هذا الأمر كثيرا و تساءلت بيني و بين نفسي : لماذا يكون هذا الحظر على فعل هذا الرّجل . صحيح إنّه حزبي و رئيس الحزب ، و صاحب دعوة معيّنة ، لكن لماذا لا يكون هناك نقاش حرّ في هذا الشّأن و لماذا لا يفسح المجال لرجل من هذا النّوع و المستوى أن يدلي برأيه بحريّة ؟ فكان أن دعوت الزّعيم سعادة إلى نشر مقالات في" كلّ شيء " .فاستغرب الرّجل في المرة الأولى ، و كان لقاؤنا الأوّل في منزل ركن الحزب صديقي الأستاذ عبدالله القبرصي . و تمّ اللّقاء الثّاني في بيروت بينما كان أوّل لقاء في ضهور الشوير فاستغرب الزّعيم سعادة أن يسمع من أحد الصّحافيين رغبة بإفساح المجال له أن يكتب مقالات . فقال أنت تعرف أنّه يوجد نوع من الحظر و إن كان غير رسميّ فهل أنت مستعدّ أن تكسر هذا الحظر ؟ فقلت : أنا عم أطلب منّك لأنّي مؤمن بحريّة الفكر . وكان الرّجل يبثّ أفكاره بشكل سرّي عبر هذه المحاضرات فلماذا لا يبثّها بشكل علنيّ و تكون محل مناقشة حرّة عامّة بين الناس فإذا كانت مخطئة فلتصوّب و إن كان فيها صواب فليعرف هذا الصّواب . و وسبق أن ذكرت كم كانت كارثة فلسطين فاعلة في نفسي فعل الزّلزال فدعوت إلى نشر مقالات في صدى لبنان فوعدني بأن يدرس الموضوع و إذ بي أفاجأ في يوم من الأيام بمقال أرسل إليّ من قبله و حتّى دون توقيع و عنوانه : الحزب القومي حزب أجنبيّ . و هو الّذيّ وضع العنوان بنفسه و هو عنوان يلفت النظر و يجذب القارئ . ممكن أن يظهر بأنّه حملة على الحزب القوميّ إنّما القصد الحقيقي كان تبرئة الحزب القومي من هذه التّهمة . لأنّ الحزب القومي تعوّد أن يتّهم بأنّه تارة حليف النازيين و تارة حليف الفاشيين و مرّة حليف الإنجليز يعني كان دائما يتّهم
بانه عميل لقوة خارجية . فأراد زعيم الحزب رفض هذه الإتهامات من العنوان لهذا المقال على هذا الشكل … غير انه ارسله بدون توقيع وكأنه صادر عن الجريدة اوما ورد من الزعيم انطون سعادة شخصيا . فنشرنا المقال واذ بنا بعد نشره نتلقى سيلا من الرسائل كلها شتائم وتعريض للكرامة وتهديد وتأنيب !!
لماذا ؟
اتتهمون الحزب القومي بأنه حزب اجنبي؟ ، طبعا صدرت هذه الرسائل من حزبيين شباب متحمسين . فأخذت يومها هذه الرسائل وعرضتها على انطون سعادة . قلت له يا اخي ان هذا الأسلوب الذي احببت ان تتبعه سيورطنا بأمر لا انت تريده ولا نحن . ولا هذا كان القصد من دعوتك للكتابة ونشر المقالات . فضحك ، قال : انتم صدركم رحب وهؤلاء شباب متحمسين لم يدركوا ابعاد المغزى الذي في المقال ، رأوا العنوان قبل ان يقرأوا المقال فرأسا تحمسوا . فقلت : شوف .اذا بتريد تستمر في هذا الأمر يجب ان تكون المقالات موقعة بأسمك بشكل صريح حتى يكون فيه تحمل المسؤولية ، ويعرف ان كاتب هذه المقالات هو زعيم الحزب . فوافق على ذلك وقال لي : لا يمكن. هذه المقالات تستفز الناس لأنها عبر ما يشتهون من الأفكار، فكري انا غير فكرهم ، ومن الجائز ان تضعكم في موقف حرج بعلاقاتكم مع الآخرين … لا أريد ذلك . فقلت له : نحن مستعدون ولكن بشرط ان نقرأ المقال بعد ان ترسله الينا فإذا كان لدينا ملاحظات نتنافش وخصوصا فيما يتعلق باحكام القانون .
لن نتدخل في جوهر فكرك ، الذي تحب ان تعرضه في هذه المقالات ، ولكن اذا تضمن ما يتعرض للقانون ويعرض الجريدة للملاحقة وللتعطيل القضائي نتباحث فيه قبل نشره . فوافق الرجل وبدأ برسل لنا المقالات . ومن اهم المقالات التي صدرت مقال عنوانه "العروبة افلست ؟" وكان يقصد ان الفكرة القومية العربية هي ان كل هذا العالم العربي امة واحدة وقضية قضية واحدة لكن هو يختلف بتفكيره ، اذ يعتبر ان العالم العربي مجموعة امم عربية ، وهناك قضية عربية. صحيح، ولكن القضية القومية مخلتلفة حسب أختلاف الامم .
وتابع سعاده كتابة مقالاته حتى نشر له بعد فترة مقال : "العروبة افلست" فكان له دور كبير واحدث ضجة في الأوساط المؤمنة بالقومية العربية وخصوصا اوساط (حزب النداء) ، الذي كنت لا ازال منتسبا اليه . فأخذ الأخوان ينافشونني ويلمونني لفتح مجالٍ من هذا النوع في جريدتي. فقلت لهم انه صدر لي في العدد نفسه في ( كل شيء ) مقال لي في مكان آخر بعنوان ( العروبة لم تفلس).
وناقشت انطون سعاده وحاولت ان اناقش تفكيره بالمنطق ، وبطبيعة الحال لا بالتهجم ولا بالإنفعال بل الجدال الفكري ، ايمانا مني بأني كنت لا ازال عضوا في حزب النداء وادعو الى هذه المناظرة والمناقشة والصراع الفكري الحر ، فلم تسوه الأمور ، وانتهى الأمر بانفصالي عن حزب النداء وكنت صريحا ولم ينته الأمر بالخفاء ، ودعوت يومئذ الى اعادة النظر في كل الأفكار لتعميقها وتبيان مواضع النقص والخلل. واستمر الأمر بنشر مقال لأنطوان سعاده اسبوعيا . وسلسلة هذه القالات التي صدرت في (كل شيء) هي آخر ما كتبه انطون سعاده كرجل فكر وكمؤسس للحزب القومي . وآخر ما كتبه في حياته قبل اعدامه . وكذلك تعتبر اهم المراجع الفكرية والحزبية بتاريخ الحركة القومية الأجتماعية ومجال التعرف على حقيقة فكر سعاده . ومقال ( العروبة افلست ) اعقبه سعاده بمقال آخر بعنوان (والإنعزالية اللبنانية افلست ) وبطبيعة الحال قامت قيامة الفريق الآخر واحدث ضجة كبرى وتابعنا ننشر هذه المقالات ولما روجعنا من قبل اصدقائنا الذين كانوا في الحكم ، كان موقفنا واضحا وصريحا اذ اننا ننشر المقالات تمسكاً بحرية الرأي وافساح المجال امام كل انسان ان يقول ما يشاء ويعبرعن فكره بحرية كي تتصارع كل هذه الأفكار فيما بينها وينشأ منها الفكر الأقرب للصواب خدمة للقضية الوطنية وبصورة خاصة للقضية القومية بعد كارثة فلسطين عندما كان يفتش الجميع عن السبيل الأصوب لخدمة القضية العربية وقضية فلسطين بشكل خاص …
وهكذا كنت مؤمنا بالحوار الفكري ومؤمنا بأن هذا الحوار هو السبيل الحضاري الأصح لمحاولة بلوغ الحقيقة. فمن غير الحوار الصريح العلني الحر غير المقيد بأي عقد والمتنزه عن اي عقدة نفسية او فكرية سابقة ، ممكن تفهم الآ خرين او محاولة بلوغ الحقيقة ، واقول (محاولة) لأن بلوغ الحقيقة ليس بالأمر الهين . واني اعتبر الحوار شأنا اساسيا في الحياة . خصوصا بين اللبنانيين وهذا الحوار ممكن ان يكون متسعا لدرجة يشمل كل المواضيع التي يمكن ان تبحث في العالم العربي ، وهذا البلد تبقى له قيمة اذا بقي الحوار فيه حرا وبقي له متسع عندنا . وهناك بيت شعر قديم احب ان اذكره في هذه المناسبة وهذا القول يعود الى 1300 سنة لا اذكر من قاله فهو شاعر قديم قال : لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن اخلاق الرجال تضيق .
فالبلاد تتسع للجميع ، شرط ان يحترم المواطن حق المواطن الآخر بالحرية وحقه في الحوار . وكما استشهدنا ببيت شعر قديم نستشهد بيت شعر حديث وهو القائل :
ما دمت محترما حقي فأنت اخي
آمنت بالله أم آمنت بالحجر .
فهذا الجو هو الذي يوفر الأحترام المتبادل بين المواطنين ويوفر الأجواء الديمقراطية لتأمين التقدم الفعلي في كل مجالات الحياة سواء الفكرية اوالسياسية او الأقتصادية او التربوية … في كل مجالات الحياة واني مؤمن بهذا المبدأ من ذلك الزمن .لا أخفي بأن هذا الإيمان جعلني اتحمل بعض نتائج سؤ الفهم من اخوان اعزاء عليّ . وذكرت كيف صار انفصالي عن حزب (النداء القومي ) علما بأن هذا الإنفصال لم يؤد الى انفصام عربي المودة والأخوة بيني وبين اخواني في حزب ( النداء) بأعتبار ان اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. فهذه المقالات (مقالات انطون سعادة ) كان لها دور كبير واثر بالغ وافسحت المجال لمناقشات علنية بين مختلف الفرقاء . واذكر انه تصدى للمزعيم انطون سعاده زميلنا الكبير الاستاذ محمد النقاش ، واخذ يناقشه في جوهر الموضوع . كما تصدى له ايضا المرحوم الأستاذ انيس النصولي في جريدة"بيروت" . وكان من نتائج هذه المقالات ان اقدم المفكر العربي الكبير ساطع الحصري على وضع مؤلفاته في التوعية العربية لتوضيح اسسها . يعني كان لهذه المساجلات نتائج ايجابية من الناحية العامة . ثم من ناحية خاصة فيما يتعلق بشخصي :هذا الأسلوب الذي اتبعناه مع صاحب هذه المقالات ، وهنا اريد التوضيح بأن لم يكن وحده يكتب في ( كل شيء) بل على العكس كان هناك كتاب من مختلف المراجع الفكرية ، يعني مثلا كان يكتب لنا الدكتور جورج حنا من اقطاب الحزب الشيوعي ، والمهندس انطوان ثابت كذلك من اركان الحزب الشيوعي . وكان يكتب ايضا العلامة الشيخ عبد الله العلايلي المعروف بإتجاهاته الفكرية وكذلك كان يكتب في ( كل شيء) شباب من الجامعة الأميركية من اصحاب الفكرة العربية القومية . يعني كانت (كل شيء) منبرا فكريا حرا . وهذا الأسلوب اعتمدناه مع المؤسس الحزب القومي اذ وافق على ان ينشر مقاله الأسبوعي بعد ان نعيد النظر فيه في جلسة خاصة كما افسح المجال لعقد جلسات طويلة فكرية كل اسبوع. وكان هذا المقال مناسبة لأعادة النظر ، فكانت الجلسة فكرية تستمر ساعات وساعات ويتشعب فيها الحديث في الشأن الفكري والشأن العام
وكان يحضر هذه الجلسات بعض اركان الحزب. مثلا اذكر السيد جورج عبد المسيح – المرحوم فؤاد ابو عجرم- الاستاذ سامي نجار من اركان الحزب ولم يكن هناك تحديد العدد الحاضرين ، انما حسب ما يكون عند الزعيم من زوار. لكن لم يكن بين الحضور من كانت لهم انتماءات أخرى . كلا لأني كنت اقصد الزعيم الى منزله في رأس بيروت حيث اليوم شارع المكحول مقابل كنيسة السيدة الارتوذكسية وكنت اقصده الى منزله بموعد معين ومحدد دائما وكان هذا يوم الأربعاء بعد الظهر ، لأن الجريدة كانت تصدر ظهر الخميس . وكان مقاله يصدر في الصفحة الأولى مع آخر ما يهيا للطبع وكانت ( كل شيء) جريدة اسبوعية امتيازها يومي . فكانت هذه الجلسات تستغرق ساعات وساعات يعني تنطلق من عبارة واحدة وكان لي ملاحظات عليها من ناحية قانونية او بعض الاستيضاحات من ناحية فكرية . فننطلق من هذه العبارة او من هذه الفكرة لنتناول مواضيع فكرية عميقة تتشعب معنا. وفي هذه الجلسات اكتشفت في انطوان سعاده رجل فكر كبيرا جدا وقديرا في النقاش وعنده القدرة على الأقناع. وهذا لا يمنع انه كان يقتنع مني احيانا بضرورة حذف بعض الفقرات او تبديل بعض العبارات بحيث يصدر المقال من غير ان يؤدي الى ملاحقة قانونية او تطاله احكام قانون المطبوعات . الجلسات الطويلة ، كانت بالحقيقة ذات اثر كبير في فكري في تلك الآونة ، اذ اطلعتني على افكار اخرى غير الآفكار التي كانت شائعة وغير الأفكار التي آمنت بها . وهذا دفعني الى ان اتبع الطريقة ( الديكارتية ) اي طريقة ( ديكارت) الذي عمل وانطلق من الشك ، في كل الأفكار السابقة اذ اعتمد ما يسمى (دابل راز ) ، وان تقبل على المواضيع المطروحة بذهن متجرد ومنفتح ، لتفهم كل فكر آخر . هذا امر مهم جدا جعلني بالنتيجة اتكل على دراسة مبادئ جميع الاحزاب وافكار جميع الحركات والاتجاهات ليس فقط في لبنان والعالم العربي بل في العالم حتى اقدر ان اثقف نفسي في هذا المجال تثقيفا اشمل واكمل وسعيا وراء الحقيقة التي يمكن ان تقنع فكري حتى تناول هذا الأسلوب شأن المعتقدات التي تتعلق بما وراء الطبيعة ، يعني رجعت ابحث حتى في موضوع الالوهة والوحي وسائر الافكار .يعني رجعت الى اللاهوت ؟ لكن لم تكن لدي الرغبة لأنكار الآيمان انما رغبة في تفهم الموضوع بشكل اعمق . وفعلا هذه المرحلة كانت ذات فائدة كبيرة واحب في هذه المناسبة ان اقول اني استمررت على هذا المنوال الى ان حصل عام 1949 حادث اصطدام بين الحزب القومي وحزب الكتائب. اذ كان للحزب القومي جريدة اسمها ( الجيل الجديد ) وتطبع في مطبعة في مجلة الجميزة ، وكان سعاده يتوجه يوميا الى هذه المطبعة ، ليكتب مقاله الأفتتاحي في الجريدة من غير توقيع وكان يشرف على شؤون الجريدة ويكتب المقال الذي يريد ان يكتبه . ولكن في يوم من الأيام حصل الأصطدام بين الكتائب وبين الحزب القومي ووقع بعض الجرحى وتمكن سعاده في ان يخرج من المطبعة ويعود الى منزله لكن اصدرت الحكومة يومئذ قرارا فوريا يحل الحزب القومي وملاحقة رئيسه واركانه ، مما جعل سعاده يتسلل من لبنان ويلجأ الى دمشق .
صدر الحكم ليس فورا بعد الحادث. يومها صدر قرار من الحكومة بحل الحزب السوري القومي الأحتماعي وملاحقة زعيمه واركانه . بطبيعة الحال هذه الملاحقة ادت الى توقف سعاده عن نشر مقالات في كل شيء اولا لأنه متعذر عليه عمليا لأنه صارت تعتبر مقالاته مخالفة للقانون. يعني رجل ملاحق قانونا والحزب محلول ، وهذا صار يشكل مخالفة للقانون في هذه الفترة – وهذا حصل في اوائل حزيران 1949 وفي هذه الفترة كان حسني الزعيم اجرى انقلابه في دمشق وقبض على زمام الحكم واصبح رئيس الجمهورية. وكان هناك صراع بينه وبين الحكم اللبناني بإعتبار ان الحكم اللبناني كان على صلات تعاون مع الحكم السوري الذي اطاح به حسني الزعيم – اي حكم الرئيس شكري القومي . ففكرت بزيارة لدمشق في هذه الآونة . وفي احد الأيام قال لي مدير المطبوعات في ذلك العهد – وكان رحمه الله – الدكتور صبري قباني صاحب ومنشئ مجلة ( طبيبك ) .. المجلة اتي اخذت دورا كبيرا وانتشارا واسعا – والدكتور صبري قباني كان رجلا فاضلا ومن احاديثي معه ايقنت انه على صلات ود مع الحزب القومي وقد يكون منتسبا فإذ به يسألني في احدى الزيارات : الا تريد ان تزور انطوان سعاده فقلت له :" وهل بالأمكان ؟ هذا شأن اعتبره هاما جدا . اولا لأن الرجل صديقي وثانيا ممكن ان اجري معه سبقا صحفيا . تصور اني بصدد اجراء حديث مع زعيم حزب ملاحق في لبنان" فقال لي : "اذا كنت تريد المقابلة فأنا مستعد ان اؤمنها لك". مددت اقامتي في الشام ورتب لي الموضوع واذ به يأخذني ( اي الدكتور صبري قباني) ومعه مدير الشرطة في تلك الأيام العقيد ابراهيم الحسنبي وكان موقعه مهما هناك . ذهبنا آنذاك الى احد المنازل وتبين لنا بعدئذ انه منزل مدير فندق ( اوربان بالاس ) السيد نجيب الشويري ، الذي كان من اعضاء الحزب وكان يستضيف في منزله الزعيم انطون سعاده قبل انتقاله من الفندق. فدخلنا على الزعيم مستأذنين فرحب بنا الرجل وشكر قدومي وحرصي على مقابلته واخذنا نتحدث عن الوضع في لبنان وعن الملاحقات ، وكانت الحكومة في البداية اوقفت اكثر من ثلاثة الاف شاب من شباب الحزب القومي ، انما مثل كل شيء يبدأ في البلد كبيرا ويعود يصغر مع الوقت . فقلت له : "طيب يا اخي تنزل على العدلية ويستجوبك النائب العام بكلمتين وبعد ذلك تلغى مذكرة التوقيف . هكذا سبق ان حصل. واذكر ان قلت له : والله الامور تتحسن يمكن ما عاد فيه توقيفات من كل هؤلأ الالاف الذين أَدخلوا السجن سوى عشرين شخصا ومع الوقت تعود الأمور لتبرد وكل شيء له حل. فما عليك الا ان تصبر وتعطي الوقت ولمجال لحل المشكلة . فقال لي (اهكذا ملاحظ انت ؟ وانشاء الله خيرا واني كتير مسرور … فلم أخذ حديثا لأنه لم يكن
بالأمكان ذلك .وتذكرت بعد ان أعلنت الثورة وبعد عودتي من دمشق بثمانية ايام فقط اننا سمعنا ان سعاده اعلن الثورة المسلحة ضد الحكم اللبناني ، واخذ القوميون يهاجمون المخافر والتلفاز في المناطق . وذكرت ان اول ما دخلت على سعاده في منزل نجيب الشويري لاحظت في مدخله شبابا عاكفون على خرائط كبيرة وعندهم حقل مساطر كانهم كانوا على باب قوسين من عمل استراتيجي فكري . وفهمت بعد اعلان الثورة انهم كانوا يدرسون على ما بدا كيف انهم سيتحركون عسكريا واين يجب ان يهاجموا او ان يشنوا المعارك . وفي تلك الحال لم يقل لي شيئا الزعيم سعاده ، او يعرب عن نية اعلان الثورة. واعتقد انه لو كاشفني بالأمر باعتبار اني لم اكن قد انتسبت للحزب فهذا امر سري للغاية ولا يمكن حتى لأعضاء كثيرين من الحزب الاطلاع عليه، فما اورد شيئا على الاطلاق في موضوع الثورة المسلحة . ولو اطلعني على شيء من هذا الموضوع لكنت بالتأكيد طلبت اليه ان يعدل عن رأيه لأن الامور كما سبق وذكرت كانت آخذة في الحلحلة وكانت الدعوة للثورة مفاجئة. وفي نهاية اللقاء يومئذ حصل انتسابي للحزب امام زعيم الحزب لذلك ولما بعد ثلاثة ايام اعلنت الثورة كانت مفاجأة لي اولا ولكن تفهمت لماذا لم يطلعني لأني لم اكن انتسبت بعد الى الحزب . واني اعتقد اني حتى فيما لو كنت انتسبت للحزب فأنا لا ازال حديث العهد وعضوا عاديا فليس مألوف ان يطلعني على مثل هذا الموضوع الخطير . فتفهمت هذا الامرُ وما استمرت الثورة الا 48 ساعة وقضي عليها في المهد لأن الاسلحة التي زود بها حسني الزعيم الحزب كانت فاسدة وغير ذات جدوى. وبعد ذلك انتهى الامر بتسوية بين حسني الزعيم وبين الحكومة اللبنانية بتسليم انطون سعاده للحكم اللبناني واشترط حسني الزعيم ان يعدم انطون سعاده على الفور حتى لا تنكشف عملية التسليم . وفي الوقت الذي سلم فيه انطون سعاده كانت جريدة ( كل شيء ) اول جريدة تنشر الخبر في صدر صفحتها الأولى وقد سلم فجر الخميس واحيل للمحاكمة العسكرية فورا قبل ظهر الخميس وعلمنا نحن ان انطون سعاده صار في المحكمة العسكرية وقيد الاعتقال فنشرنا الخبر في الصفحة الاولى يعني سبقنا كل الصحف وكان للخبر طبعا اهمية محلية ودولية . وحصل ما حصل بعدئذ في المحاكمة العاجلة التي لم تراع فيها الاصول القضائية . واعتذر يومئذ المحامي الكبير الاستاذ اميل لحود الذي طلبه سعاده ليدافع عنه. اعتذر عن المرافعة لأنه وجد ان جو المحكمة لا يفسح في المجال لحرية الدفاع القانوني الاصولي وان الامر مدبر ولا بد من الانتهاء من هذا الرجل بشكل او بآخر. وهكذا صدر الحكم بالاعدام ونفذ بالرجل في فجر اليوم التالي . وافاق الناس صياح ذلك اليوم وفي الصحف خبر اعدام انطون سعاده زعيم الحزب القومي الاجتماعي . طبعا فعل هذا الامر الكثير في نفسي خصوصا اني كنت قبل بضعة ايام موجودا عنده وانتسبت لحزبه في ذلك الظرف .
الآن بطبيعة الحال صار الحزب يلقى تعاطفا من الناس نظرا الى طريقة اعدام سعاده . اما انا فكنت لا ازال عضوا عاديا . ولكني امارس الصحافة في جريدتي الى ان حصلت حادثة اغتيال الضابط السوري الكبير عدنان المالكي على يد بعض الشباب القوميين في دمشق . فهذا الحادث حين حصل كنت في الولايات المتحدة كما سبق ان ذكرت والجريدة تصدر باشراف رفيقنا الاستاذ سعيد تقي الدين للدفاع عن الحزب . لكن وقع الحادث مهم جدا هو حادث اغتيال الضابط السوري غسان صبري الذي كان عضوا في الحزب القومي وبعده حادث لجؤ المالكي الى بيروت ، واخذ ينشط مع الحزب وطبعا ضد الوضع القائم في دمشق . فهذا الحادث حصل في شارع السادات واني لا ازال اتذكر ان غسان شديد كان يرفض ا يكون معه مرافقون او حراس وكان يتنقل بصورة جد عادية وربما هذا سهل اغتياله على يد احد الاشخاص الذي انتحل صفة بائع خضار وانتظر حتى صار خارجا من المكتب فاغتاله في الشارع وكان للحادث ذيول لأنه حصل في عهد الرئيس شمعون بعد ان انتهى عهد الرئيس بشارة .