يبيّن هذا البحث أن العلاقة بين الأمن الوطني والحريات العامة، هي علاقة تكاملية، فالحريات تصون الأمن، إذا قام الأمن على حماية الحريات، وهذه الحقيقة يثبتها الاستقراء التاريخي، ولكننا سنحاول إثباتها هنا من خلال مناقشة المحددات الأساسية للأمن وتأثير هذه المحددات على ممارسة الحريات العامة.
في مقالة قيّمة له تحت عنوان: الأمن القومي، يستعرض الدكتور زكريا حسين – أستاذ الدراسات الاستراتيجية – المدير الأسبق لأكاديمية ناصر العسكرية – في مصر، المفاهيم والمحددات الحديثة للأمن، معتبراً أنه "مفهوم حديث في العلوم السياسية".(1). والقراءة المتأنية لهذه المحددات، تجعلنا نلاحظ أن كل تحديد يستند إلى وجه من وجوه الأمن، وخلفية فكرية، تركز على وجهة دون الأخرى، وصولاً إلى المحددات والتعريفات الشاملة، التي تعبر عن تطور هذا المفهوم منذ الحرب العالمية الثانية.
يكتفي الدكتور زكريا بعرض المحددات من دون التعمّق في مناقشتها مما يجعل القيمة المعلوماتية للمقالة، أعلى من قيمتها العلمية، التحقيقية، ولذلك أرى ضرورة التعمق في مناقشة، المحددات، وصولاً إلى مجموعة عوامل تتحكم بتحديد الأمن في مفهومه المعاصر، وسيتبين مما يأتي، كيف أن العلاقة بين الأمن والحريات تزداد تعقيداً، بعد ظهور أشكال من الأمن، لا تبالي كثيراً بما سيحدث للحقوق والحريات.
على طريقة المتن والحاشية سنناقش محددات الأمن واحداً بعد الآخر، لنخلص منها إلى نتائج، تساعدنا على فهم الأركان التي يجب أن يقوم عليها الأمن الوطني المعاصر.
التحديد الأول:
"الأمن" من وجهة نظر دائرة المعارف البريطانية يعني "حماية الأمة من خطر القهر على يد قوة أجنبية".
المفترض في هذا التحديد، أن الخطر خارجي، وأن الأمة وحدة متكاملة يجب الدفاع عنها، بكل ما تحتويه من تنوّعات، واختلافات، وأن هذه الاختلافات إذا كانت من داخل نسيج الأمة فهي لا ترقى إلى مستوى الخطر الداخلي، فالأمة يجب أن تحمى من الأخطار الخارجية، والمواطن لا يتحول أبداً إلى خطر داخلي طالما أنه يمارس حريته في إطار القانون، ولكن الثغرة الأساسية في هذا التحديد، هو أنه يحيل مهمة الدفاع عن الأمة إلى السلطة السياسية من دون أي إشارة إلى دور الأمة في حماية أمنها، وبهذا المعنى يصبح التحديد الثاني أكثر تطوراً.
التحديد الثاني:
من وجهة نظر هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق: الأمن يعني أي تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء.
يتقدّم هذا التعريف على سابقه في اعتبار الأمن مسؤولية المجتمع ككل، وإذا التفتنا إلى خصوصية التجربة الأميركية، فإن كلمة مجتمع هنا قد تعني ما هو أكثر من مجموعة طوائف ومذاهب وأعراق ، بل مجتمعاً من الأمم ارتضى أن يشكل دولة، ولكن يبقى أنه يركز على حق المجتمع في البقاء من دون الإشارة إلى كيفية البقاء في أمن، وهنا يظهر الأثر اليهودي في تعريف كيسنجر عندما يمنح المشروعية لأي تصرف، ضد أي جهة يعتبرها المجتمع خطراً يهدّد بقاءه، ومن هذه الجهة نفهم كيف يقوم هذا التعريف بتبرير ممارسة العنف المطلق ضد الآخرين، عن طريق تصويرهم بالمبالغة اللغوية والإعلامية على أنهم يشكلون خطراً على البقاء.
بكلمة أخرى: يساعدنا هذا التعريف على فهم نمط سائد في السياستين الأميركية والصهيونية، يقوم على تحويل أي جهة مستهدفة، إلى خطر على بقاء الأمة، ثم المبالغة في تضخيم قدرات هذا الهدف، لتبرير استخدام العنف المطلق ضده. حدث ذلك، عندما سخرت كل ماكينة الدعاية الأميركية، لتصوير الاتحاد السوفياتي كخطر داهم، لتبرير المبالغة في التسلح، ثم تبين أن البنية الاقتصادية للاتحاد السوفياتي، ليست فقط عاجزة عن دعم حرب نووية، بل هي عاجزة عن صيانة مفاعل نووي، وكشف الانهيار الدراماتيكي للاتحاد، عن دولة عاجزة عن صيانة غواصة… وفيما كان الاتحاد يهوي ببطء كانت أميركا تطلق حرب النجوم، بذريعة الخطر السوفياتي.
السياسة نفسها مورست مع القاعدة، وما يُسمّى الإرهاب، وتُمارس اليوم مع إيران، لكي يبقى الخليج أسير الخوف، والإنفاق على التسلح بدلاً من التنمية، ولكي تبقى معامل صناعة السلاح مزدهرة في الولايات المتحدة.
ومنذ أكثر من نصف قرن، تروّج إسرائيل لصورة الخطر العربي، ثم تهاجم وتعتدي وتحتل، وتتعامل مع أي معركة حتى مع فصيل عربي مقاوم على أنها معركة وجود، حياة أو موت على حد تعبير شيمون بيريز، صاحب مشروع الشرق الأوسط الكبير.
يبقى أن نشير إلى الدور الخطير للإعلام في هذه، السياسة الاستراتيجية العدوانية، فماكينة الإعلام الضخمة لا تكتفي أبداً بنقل الأحداث بل تشارك في صنعها عبر التمهيد لها بحملات صناعة رأي عام يتقبل العدوان على أي جهة مستهدفة تم تصويرها بوصفها خطراً وجودياً.
المهم أن التعريف أكاديمي – سياسي، يغلّف العدوان بلغة الدفاع عن البقاء، ولا يزال ساري المفعول حتى الآن في لغة الإدارة الأميركية التي تطلق على أي عدوان أميركي أو إسرائيلي تعريفاً واحداً هو "الدفاع عن النفس".
تطور الاستخدام السياسي لهذا التعريف في ممارسات الإدارة الأميركية الى مستوى متقدم جداً مع ظاهرة "داعش"، فوصلت الإدارة الأميركية الى مستوى خلق الخطر لتبرير التدخل العسكري، وعولمة الإرهاب لعسكرة العالم.
التحديد الثالث:
من أبرز ما كتب عن "الأمن" هو ما أوضحه "روبرت مكنمارا" وزير الدفاع الأميركي الأسبق وأحد مفكري الاستراتيجية البارزين في كتابه "جوهر الأمن".. حيث قال: "إن الأمن يعني التطور والتنمية، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية في ظل حماية مضمونة". واستطرد قائلاً: "إن الأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التي تهدّد مختلف قدراتها ومواجهتها؛ لإعطاء الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في المجالات كافة سواء في الحاضر أو المستقبل". يتميّز هذا التعريف بالشمولية، والعمق ويمكننا أن نطلق في إطار التعليق عليه سلسلة من الأبحاث، ولكنني سأكتفي هنا، بالعناوين المؤسسة لهذه الأبحاث في مجموعة من الملاحظات.
أولاً: يقدم الأمن في هذا التحديد على أنه دينامية إنسانية في مقابل تصوير الأمن بأنه ثمرة سلسلة من إجراءات الضبط والكبت، وسكونية خانقة عرفناها وخبرناها في تجارب الأنظمة الشمولية العربية، فالتطور والتنمية حركة ناتجة عن إطلاق القدرات البشرية وتحريرها من قيود الكسل والجهل والفقر والمرض، في أجواء مفعمة بالحرية والإبداع العلمي والعملي، ووراء الإبداع العلمي حرية التفكير، ووراء الإبداع العملي حرية الإرادة والتنفيذ، والتطور هو ثمرة النقد المستمر لما هو قائم بروح إيجابية، ليس فيها غضب مكبوت أو طاقة مهدورة في العنف ومحاولات السيطرة، والتنمية المستدامة هي استمرار في الاستثمار الرشيد للموارد والطاقات، الأمن بهذا المعنى عملية وليس سكونية، إنجاز متدفق وليس سلسلة تعليمات، مسؤولية أمة وليس فقط مسؤولية جهاز ولا حتى سلطة سياسية، وأقصى ما يجب أن تفعله السلطة وأجهزتها هو توفير الأجواء الملائمة للنهوض بالتطور والتنمية الشاملة، وهنا تبرز العلاقة بين الأمن والحريات العامة، إذ لا تنمية من دون حريات، ولا أمن من دون تنمية، والعنف والتخلف وهدر الموارد نتائج طبيعية لكبت الحريات وبناء السدود أمام قدرات الأمة.
ثانيا: الغاية في الغرب تبرر الوسيلة، وقد عرفنا في التجربة الغربية تنمية لذات الغرب على حساب الآخرين، بل عرفنا أنماطا من التطور المطلوب لذاته على حساب الإنسان، كل إنسان، ولذلك لم تنتج التنمية الغربية مزيدا من الأمن بل ها هي تبرهن أنها أنتجت مزيدا من الخوف، والسبب في ذلك في تقديري يعود إلى أن العقل الغربي يتجاهل باستمرار أن الأمن هو ثمرة التنمية والتطور بوسائل مشروعة، والإصرار على نمط التنمية المبنية على الاستعمار ونهب ثروات الأمم، والإسراف في استخدام القوة، هو عملية خلق مستمرة للأعداء، ستولد بالتأكيد تهديداً مستمراً للأمن، وهنا تنكشف الثغرة الكبيرة في هذا التحديد على الرغم من تميّزه، إذ لا توجد حماية مضمونة إذا كانت التنمية قد حصلت بوسائل غير مشروعة، ولذلك يحرص القيمون على نمط التنمية الظالمة، على أن تواكب كل قفزة تنمية بحملة تعمية عن النتائج الخطيرة لهذا النمط، وآخر ما توصل إليه العقل الغربي في هذا المجال هو تطوير آليات صناعة الخوف وخلق الأعداء، لحماية مصالح كبرى أصبحت قائمة على هذا النمط الظالم من التنمية؛ يعني أن التنمية أصبحت مطلوبة لذاتها ولو على حساب الأمن والإنسان، وهذا يعكس خواء واضحاً في العقل الغربي، ناتجاً عن خلل في منظومة القيم المؤسسة لتجربته التنموية، يظهر هذا الخلل القيمي بصورة أوضح عندما نفند مقولة "الحماية المضمونة".
لو سألنا مكنمارا ماذا تعني بالحماية المضمونة، لقال إنها تهذيب أكاديمي لكلمة "قوة"، وحتى لو كان الرجل يعني ما هو أكثر من القوة، فإن الممارسة الغربية تكشف عن أنها المصداق العملي للحماية كما يفهمونها.
صناعة القوة، واستخدامها، والمزيد منها، هو الهاجس الذي يتحكّم بالسلوك الغربي اليوم، على حساب الحرية، ومن دون أي اعتبار للعدالة، والنتيجة مجتمع متوتر وعالم متفجر، وخلل في بنية التنمية، واتجاهات التطور.
وبما أن للقوة حدوداً مهما بلغت، فإن حدود الحماية هي حدود القوة، وبما أن القوة نسبية وليست مطلقة، فإن الحماية ستبقى نسبية يمكن اختراقها من الجوانب الرخوة في منظومة القوة، فلا تشكّل القوة بالتالي حماية مضمونة إذا قامت على حساب الحرية، مع تجاهل تام للعدالة.
ثالثاً: في الشق الثاني من التعريف يؤكد مكنمارا: "إن الأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التي تهدد مختلف قدراتها ومواجهتها؛ لإعطاء الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في المجالات كافة سواء في الحاضر أو المستقبل".
إذا طبقنا هذا المفهوم على التجربة الغربية، يظهر أن الغرب إما لا يعي أو يتجاهل أن مصدر الخطر الحقيقي عليه، يكمن في طبيعة تنميته، القائمة من جهة على العدوان ومن جهة أخرى على الإتراف، وبما أنه من الصعب تصور جهل الخبراء الغربيين بما يفعلون فهم على الأرجح يدركون ويتجاهلون، لأن تفكيك شبكة المصالح القائمة على النهب أصبح مكلفاً لدرجة لا يتحمّلها سلطان المال والاقتصاد والسياسة هناك.
لقد توصّلنا حتى الآن إلى نتائج مهمة:
أ) التنمية الصانعة للأمن، هي تلك المبنية على وسائل مشروعة ومتوازنة وعادلة.
ب) الحماية المضمونة هي القوة الخادمة للعدالة والتوازن في التنمية، والتنمية الظالمة ليست إلا تهديداً مستمراً للأمن بمعناه الشامل، بل هي آلية خلق للمزيد من المظلومين، أي المزيد من الأعداء.
قد يُقال في نقد هذه النتائج: إن العدالة أيضاً نسبية ومحدودة، وبالتالي لا تشكل حماية مضمونة للأمن؟ نقول: إن حجم الأخطار والتهديدات الذي يواكب تجربة تنموية عادلة لا ينشأ منها ولا من طبيعتها، فعلى الأقل هذه تنمية لا تهدّد نفسها، ثم أننا لم نكتف بالعدالة كحماية، بل قلنا القوة الخادمة للعدالة، فالعدالة هنا بسبب نسبيتها شرط ضروري ولكنه غير كافٍ، بدون القوة، وتوفر هذين الشرطين يجعل من التهديدات الخارجية، أقل بكثير، من تهديد نابع من الداخل يتسبب بتهديدات لا حدّ لها من الخارج. إن الغرب الآن يصرف على الحماية فقط ما يكفي لإحداث ثورة تنموية في العالم أجمع، وهذا بالمفهوم الاقتصادي هدر خطير لموارد الأمم، وثروات البشرية.
قال تعالى: ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (النحل، 112).
التحديد الرابع:
ولعل أدق مفهوم "للأمن" هو ما ورد في القرآن الكريم في قوله – سبحانه وتعالى -: "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ". ( قريش، 3 و4)، ومن هنا نؤكد أن الأمن هو ضد الخوف، والخوف بالمفهوم الحديث يعني التهديد الشامل، سواء منه الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، الداخلي منه والخارجي.
تكرّر الآية تعبيرَي الجوع والخوف، الجوع تهديد لأصل البقاء، والخوف تهديد لكيفية البقاء، وإذا تخلّصنا من الجوع، يبقى علينا نزع أسباب الخوف، وإذا لم نفعل فإن أي معالجة سطحية للخوف ستنتج مخاوف جديدة، هذا ما يحصل بالضبط، في عالم اليوم، بل إن الوقائع تثبت أن العواصم الكبرى تنتج خوفاً متجدداً بإجراءاتها الأمنية، وتصطنع مخاوف لتبرر سياساتها، القائمة على زعزعة الاستقرار في العالم، تحت تأثير أوهام الفصل بين العالم المتقدّم والعالم المتخلّف.
ومن العجيب أن لا يلتفت الباحثون، لخصوصية التعريف القرآني للأمن، فهو ينطلق من أن الأمن نفسي قبل كل شيء، والدولة التي يفتقد مواطنوها للأمن النفسي، هي دولة فاقدة للأمن، حتى ولو لم تتعرّض لأي اعتداء، وهنا يطوّر القرآن مفهوم الأمن ليقول إننا قبل أن نبحث في نمط التنمية، دعونا نناقش أنماط الحياة، فكل حياة مبنية على الشرك، وعبادة غير الله، هي حياة غير آمنة ومصدر قلق وقلاقل دائمة، وهذا التعبير الأخير "القلق" هو ما تستخدمه دراسات علم النفس الحديث، منذ مطلع القرن الماضي كأعمق أشكال الخوف التي أنتجها نمط الحياة الحديث، وتحضرني الآن مجموعة عناوين كتب، أصبحت مألوفة بعد أن تتطرق إليها كبار العلماء، وهي "قلق في الحضارة" لسيغموند فرويد، و"دع القلق وأبدأ الحياة" لدايل كارنيجي، وأفضل كتب إريك فروم على الإطلاق الذي ترجم في سلسلة عالم المعرفة تحت عنوان "الإنسان بين الجوهر والمظهر" وعنوانه الأساسي "نتملّك أو نكون"… وغيرها من الأبحاث الجادة التي تمكننا من القول إن هناك فرعاً قائماً بذاته في الغرب هو علم القلق.
النقاش هنا يذهب إلى أبعد، من الحديث عن تهديدات مرئية، إنه يتحدث عن خوف يعيشه مجتمع محصّن من داخل حياته، في ظل استقرار وأمان نسبي من الخطر الخارجي. إريك فروم في كتابه "نتملك أو نكون" يشرح بصورة رائعة كيف تؤثر الثقافة الاستهلاكية على الأمن النفسي، وكيف يتحوّل الاستهلاك إلى مسكن سرعان ما يفقد مفعوله، فيلهث الإنسان للحصول على جرعة أكبر منه، نفهم مع هذا العالم والفيلسوف العملاق لماذا ينتشر استخدام المخدرات في مجتمعات مترفة، ولماذا أصبحت المخدرات آفة العصر، أو كما يسمّيها روجيه غارودي: "بخور معبد السوق".
العنف الجنسي، والجرائم المنظمة وغير المنظمة، والعنف الأسري، والاجتماعي، والمخدرات والأحياء المسلحة، وسفاح القربى، والشذوذ، والانتحار الفردي والجماعي، ليست من نتائج التهديدات الخارجية، إنها من نتائج نمط الحياة القائمة على القيم الاستهلاكية، المتحكمة ببقية القيم الإنسانية، وبتعبير أفضل من نتائج غياب السكينة التي تؤمنها الحياة القائمة على الإيمان "برب هذا البيت" الذي هو ركن التوحيد.
فإذا كان الأمن ثمرة القوة الخادمة للعدالة التي تحمي التنمية المستدامة، فالإيمان هو السياج الحامي للعدالة ومصدر القوة الذي لا ينضب، وروح السكينة والسلام والأمان في شرايين الحياة، وكل عملية صناعة سطحية للأمن تتجاهل هذه الحقيقة هي في الواقع مصدر لمخاوف متجددة، وقلق مستمر، وسأستعين هنا لإثبات هذه المقولة بمشاهد من لندن ونيويورك، عرضتها تقارير مختلفة المصادر (2).
بريطانيا لندن:
500 ألف كاميرا تراقب شوارع وحوانيت ومحطات لندن، وأربعة ملايين في أنحاء البلاد كافة، أي ما معدله 10% من كاميرات المراقبة في العالم. وقد أبدى مسؤولون عن الحقوق المدنية قلقهم من إساءة استخدام هذه الثقة الزائدة بالحكومة في بريطانيا، كما أعلن رئيس لجنة المعلوماتية والحريات الفردية في بريطانيا أن الخطر قائم من أن تصبح بريطانيا مجتمعاً تحت المراقبة، بسبب الكمّ الهائل من المعلومات التي تجمعها الحكومة حول المواطنين.
وقال ريتشارد توماس في مقابلة مع صحيفة "التايمز"، لا أريد أن أكون مهووساً، لكن بعض نظرائي في اسبانيا أو في أوروبا الشرقية رأوا خلال القرن الماضي ما يمكن أن يحصل حين تصبح الحكومة قوية جداً وتملك الكثير من المعلومات حول مواطنيها في إشارة إلى نظام الجنرال فرانكو أو آل شتاسي في ألمانيا الشرقية سابقاً.
وفي مطار هيثرو أقدمت السلطات على تعريض مجموعة عشوائية من المسافرين للآلة السافرة التي تعرّي الناس بهدف الكشف عن السلاح والممنوعات. وعلى أثر ذلك نشر جفري روزن، وهو أستاذ القانون في جامعة واشنطن مقالاً عن الآلة السافرة، التي تعرّي الناس بواسطة الأشعة السينية، واستعرض الاعتراضات مطالباً بالتوازن بين الأمن والخصوصية، وقد تبين أن السلطات الأميركية طلبت آنذاك من الشركة المصنعة، وهي مختبر المحيط الهادي الشمالي، أن تطوّر الآلة بشكل يمنع التعدّي على حرمة الجسد، وقد توصل الباحثون في الشركة إلى إمكانية ذلك، عن طريق إدراج السلاح والممنوعات في خانة معينة من برنامج الآلة، لإبرازها وتصغير الجسد العاري إلى حدود نقطة، أي أن آلة التعرية تتحوّل إلى آلة النقطة.
وقد اعتبر ذلك مثالاً على التوفيق بين متطلبات الأمن، والحرمة الشخصية بواسطة البحث العلمي، وما سمعناه مؤخراً عن تشغيل آلة التعرية من جديد في مطار فينيكس بولاية أريزونا يعني أن السلطات هناك لا تريد الاستفادة من التقنية الجديدة في ما يشبه الإصرار على انتهاك حرمة الأشخاص.
ولا يقتصر الأمر على المسافرين، فالمراقبة بالأشعة السينية أصبحت نشاطاً يومياً في عواصم الغرب، وهذا يضيف إلى التعدي على الأخلاق تعدياً آخر على حقائق العلم، فالتسامح الشديد مع هذا الاستخدام العمومي للأشعة السينية، يدفع العلماء إلى الصراخ.
فقد تعوّدنا أن نقترب من غرفة الأشعة، في المستشفيات، مجهّزين بدروع واقية من الآثار السلبية للتعرّض للإشعاع، وبرهنت أبحاث واسعة الانتشار، كما يقول الدكتور بنك: "أن كل عملية تعرّض للأشعة السينية تحمل درجة من المخاطر، وكل طاقة إشعاعية توجّه إلى نسيج بيولوجي لها تأثيرات صحية خطيرة أسوأ من أي طاقة أخرى، فهي باختراقها لنواة الخلية يمكنها أن تسبب أضراراً جدية للحامض النووي، ومن هذه الأضرار إطلاق عملية انقسام خارج إطار السيطرة على شكل سرطان، أما التعرّض للإشعاع بدرجات عالية، فيمكنه أن يتسبب بتدمير عدد هائل من الخلايا، ويؤدي إلى فشل في وظائف الأعضاء، وخسارة الشعر، وتدمير جدار الأمعاء، ومتانة العظام، فضلاً عن آثاره على الجهاز العصبي، واحتراق الجلد… .
وقد برهن كوهين: أنه توجد أدلة على أن عملية السرطنة يمكن أن تطلق من عمليتي تعرّض للأشعة، وأن جرعة من 100 (ريم) لكلا الوالدين قد ترفع إمكانية التشوّه بمعدل 15،0%, فالمعروف أن خلايا الحامض النووي من أكثر الخلايا حساسية تجاه الإشعاع ويمكن للأشعة أن تتسبب بموت خلاياه في ظروف معينة.
لو أخذنا بعين الاعتبار هذه الحقائق العلمية، وقرأنا من جديد أخبار التكاثر الفطري للكاميرات المتطورة، لا بد أن يتبادر إلى أذهاننا هذه الحزمة من الأسئلة:
ما هو معدل الجرعة الإشعاعية التي يتعرّض لها المشاة والمسافرون في بحر من كاميرات المراقبة؟ وما هي الأخطار المستقبلية على الصحة العامة نتيجة انتشار هذا النوع من الكاميرات؟ وماذا سيكون مصير الأبحاث الكاشفة عن الآثار السلبية لهذا الاستخدام؟ هذه مخاوف صحية، ثم هل يعقل أن يتم التعامل مع المواطن بوصفه عدواً محتملاً بهذا الشكل؟ ومن يضمن عدم إساءة استخدام المعلومات ضد الأشخاص والمؤسسات؟ في ظل الإمكانيات التقنية والخيارات المتقدمة التي تعرضها الكاميرات؟ هذه مخاوف متعددة الاتجاهات تمسّ الأمن الشخصي والنفسي والأمن العام للمعلومات.
نيويورك، الولايات المتحدة الأميركية:
تحت عنوان "مَن يراقب؟" أصدر الاتحاد النيويوركي للحريات المدنية، تقريراً في العام المنصرم، حذر فيه من تزايد الاعتماد على تكنولوجيا المراقبة بالكاميرات، ومن أهم ما ورد في التقرير: أن عدد الكاميرات في أنحاء مختلفة من نيويورك زاد بنسبة خمسة أضعاف من سنة 1998 ولغاية العام 2005، وقد عرض التقرير لخرائط، تبرهن أن الكاميرات تغطي كل بقعة من 125 شارع في هارلم وحدها.
وقد فصل التقرير، حجم التهديد الذي تمثله هذه الكاميرات على الحقوق المدنية، مركزاً على ما يمكن أن تفعله الكاميرا اليوم وعلى دراسات إحصائية تقلل من أهمية الكاميرا في تفادي الجريمة، يقول التقرير: إن نقل الصورة إلى مركز مراقبة هو أبسط ما يمكن أن تفعله الكاميرا، الحديث يدور اليوم حول نوع الصورة، وما بعد النقل والتخزين للصور. فعن طريق عملية التقريب، (زوم إن)، تمكنت سارا دوغيد – وهي صحافية في الفيننشال تايمز- من قراءة شاشة الخلوي لمجموعة من المراهقين ثم علّقت: "من الناحية النظرية يمكنني أن أقرأ رسائلهم الصغيرة على الشاشة". وفيما بعد النقل والتخزين يمكن للكاميرا بث ما التقطته عبر الإنترنت، مما يسمح بدخول آخرين على خط المراقبة والاستعلام، ولا يوجد أي فرق في الوضوح بين الليل والنهار، فكثيراً ما تمكّنت الكاميرات من التقاط لحظات حميمة في جوف الليل، من الأماكن العامة.
في محاولة للدفاع عن كاميرات المراقبة، تمّت الاستعانة بإحصاءات تتحدث عن انخفاض معدل الجريمة حيث تنتشر الكاميرات، ولكن دراسة بريطانية ضعفت من مصداقية هذه الدراسات عندما تبين أن منطقة واحدة من 13 شهدت انخفاضاً في معدل الجريمة، وأن سبع مناطق من 13 شهدت ارتفاعاً في معدل الجريمة على الرغم من انتشار الكاميرات فيها. والنتيجة: أن بإمكان الكاميرا أن تساعد التحقيق بعد الجريمة، ولكن ليس هناك أدلة دامغة على أنها تخفض من معدل الجرائم.
واعتبر آخرون أن زيادة عدد كاميرات المراقبة، هو مؤشر لزيادة تأثير الشركات على الحكومات، أكثر مما هو إجراء يؤدي إلى الشعور بالأمن.
لم يكتف التقرير النيويوركي، بالإشارة إلى المخاوف بل أكد أن هناك انتهاكات فعلية حصلت، ضد الملوّنين، وأن القيّمين على المراقبة مارسوا بالفعل تمييزاً عنصرياً، سواء في توزيع الكاميرات، أو في استخدام معلوماتها، وأن أهداف الكاميرات كانت مبنيّة على أسس عرقية أو إثنية، أو تمييز على أساس الجنس، من دون مبررات قانونية، فضلاً عن أن 3100 كاميرا في نيويورك وحدها تركّز على أحياء وجماعات الملوّنين.
صناعة الخوف:
لقد تعدّت هذه المشاهد نطاق البحث، فصناعة الأمن أصبحت وراءنا، نحن نعيش بالفعل في حقبة صناعة الخوف، الكل يجب أن يخاف من الكل، الحكومة من الناس، والناس من بعضهم، والأبيض من الملوّن، والشركة من الدولة، والغرب من الإسلام، والمسلمون من بعضهم، السنة من الشيعة، والشيعة من السنة، والعرب من الفرس، والفرس من الكرد والعرب،… فهذا يمثل فرصة عمل متجددة لشرطي العالم، والحكومة الأمنية العسكرية العالمية، التي تبيع السلاح والتجهيزات والخبرات الأمنية، للخائفين في ظل وهم كبير أنها بمنأى عن نتائج هذه السياسة الجهنمية.
من هذه الجهة يمكن تفسير الإسراف في استخدام الكاميرات في شوارع المدن الغربية، كعلامة خوف من الحكومات القائمة، التي تمثل في النهاية خليطاً من المصالح يضطهد طبقات من المهمّشين، داخل المجتمع الغربي. العملية ببساطة تقضي بإرهاب الناس بالأمن بحجة محاربة الإرهاب، يعني أن هذه الحكومات مصرّة على السير في طريق التمييز العنصري، والتمييز ضد المسلمين والملوّنين والمهمشين، وهي في الوقت نفسه مدركة لعواقب هذه السياسة، وطالما أنها مصرّة على الاضطهاد والتمييز والتهميش، ومدركة في الوقت نفسه عواقب هذه السياسات، من دون أي تأثير لهذا الإدراك يدفع إلى تغييرها، لأن نظام المصالح أصبح قائماً عليها، فإن على الحكومات أن تراقب مظاهر الرفض والغضب التي تتصاعد ضد هذه السياسات، والتي تعبر عن نفسها أحياناً بأعمال إرهابية، أو بجرائم انتقامية… وإذا حصل ما هو متوقع ضمن معادلة الفعل ورد الفعل، فإن الحكومة تلجأ إلى استثمار الجريمة، أو الاعتداء الإرهابي، بماكينة إعلامية ضخمة تسلط الضوء على الحدث، بمعزل عن أسبابه، في عملية مسح للذاكرة وكبت للتأمل والتعقل، بغية التسويق لمزيد من الإجراءات الأمنية أو لمزيد من الانتهاك للحريات المدنية والحرمات الشخصية، تحت مسمى الإجراءات الأمنية.
يبدو أن القاعدة التي حكمت الأعمال، على مدى القرن الماضي، والتي تقول: نرغّب الزبون ثم نبيعه، قد استنفدت دورها نحن نعيش اليوم تطبيقاً لقاعدة أكثر شراسة هي: نخوّف الزبون ثم نبيعه، وتتحقق عبر هذه القاعدة أهداف لم يكن من الممكن تحقيقها وفقاً للقاعدة القديمة، ومن هذه الأهداف:
أن المواطن الخائف على أصل وجوده وبقائه، لا يناقش في كيفية البقاء، يعني لا يناقش النظام القائم على حراسة نمط الحياة الاستهلاكية… في ما هو يريد أن يبقى بأي ثمن، الحياة بمعناها البيولوجي تصبح في هذا الإطار منحة يقدمها نظام صناعة الخوف للناس، عندما يقتل فيهم معاني الحياة الأخرى.
الحديث عن الحقوق المدنية والحريات العامة، يصبح في مثل هذه الظروف لوناً من ألوان الترف الزائد، والذي يبدي تسامحاً في هذه الحقوق، يروّج له على أنه الأكثر وعياً للمخاطر المحدقة بالأمة، وبالتالي خادم مطيع لنظام صناعة الخوف.
يتم التسويق اليوم لنمط الحياة الغربي عن طريق تصنيع "إرهاب إسلامي" يحوّل مدن الغرب إلى توبيا بالنسبة للأمة التي وقعت ضحية الإرهاب، بدون الالتفات إلى أننا اليوم ضحية عنف غربي بثوب إسلامي، فقد سبقنا الغرب في تقطيع الرؤوس واغتصاب الفتيات المقاومات وانتهاك الحرمات، وكل جرائم المجرم البربري _ الذي تمّ إنتاجه عن طريق دعم فقه الاستبداد ثم فقه الإرهاب ثم دوائر المخابرات _ لا تساوي ذرة مما أنتجه "المجرم الأنيق" بقنابل تحول الضحية إلى غبار لا يظهر في الصورة، وبالتالي لا يركز في الذاكرة والمخيلة الضحية للمتلقي.
إذا أكملنا هذا المسار إلى النهاية فنحن أمام مشهد هليوودي عن عالم للمرفهين، بأبواب حديدية محكمة وكاميرات تراقب الأنفاس والأفكار والأحلام، وعالم للمهمشين خارج السور الحديدي العظيم.
1 زكريا حسين، الأمن القومي، صفحة المصطلحات والمفاهيم، في الإسلام أون لاين
2 المنتدى (Pdf file,who’s watching,www.nyclu.org) .
العربية (www.spoksmanreview.com) .