قال سعادة:" إنّ فيكم قوّةً لو فعلت، لغيّرت وجه التاريخ" فمن هم "الأنتم" الذين خاطبهم سعادة؟ ولماذا استخدم "إنّ" التوكيديّة و"لو" الشرطية التي تفيد امتناع حدوث الجواب لامتناع حدوث الفعل؟ ما أسباب امتناع حدوث الفعل المؤدي إلى حدوث التغيير؟ فهل يعجز هؤلاء "الأنتم" عن تغيير وجه التاريخ أم أنّهم لا يمتلكون إرادة التغيير؟ وهل غياب الإرادة سببه عوامل ذاتيّة أم عوامل خارجيّة؟
تؤكّد حقيقة الحياة أنّ إرادة الشعوب تصنع قدرها، وعندما تعتلّ الإرادة ينتصر الاستسلام، ويفرض التبعيةَ قدراً، والتبعيّة، نهايتها السقوط حيث يشاء المتبوع، وشعوب هذه المنطقة من العالم، على الرغم من عظمة إنسانها، فقد ابتليت بعلّة التبعيّة فسقطت رغباتها في أكثر من مستنقع، كان أكثرها تسميماً مستنقع المشيئة العثمانيّة الذي ما زالت أمراضه تفتك في جسد هذه الأمّة المتمردة على الفناء بفضل طاقات كمونيّة قادرة على التغيير، ولكنها تحتاج إلى فعل قدح يفجّرها لتعيد صياغة العالم. فهل سيفجّر الوعي بالانتماء بعد مجازر الربيع العربيّ المزعوم هذه الطاقات؟ وهل سينهض الوعي الموعود بقضايا أمّة تمتلك مقوّمات الوحدة والاتحاد؟ وهل سيكون غدٌ يفخر بهذه النهضة وبنتائجها العلميّة والحضاريّة والثقافيّة والإنسانيّة؟
تحاول الكاتبة صفية سعادة في كتابها "سوراقيا بديلاً عن سايكس– بيكو"، والذي ضمّ عدداً من المقالات المنشورة في صحف لبنانيّة، أن تقرأ مظاهر الحرب الكونيّة التي تدور رحاها على جغرافيا الأمّة السوريّة، فقامت بعمليّة توصيف لواقع هذه الأمّة، جغرافيّاً وتاريخيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، وركّزت على العوامل الموحّدة دون أن تذكر المقوّمات الذاتيّة لأبناء هذه الأرض، فهل تكون أمّة من دون شعب، وجبران يرى أنّ "الأمّة مجموع أفراد متبايني الأخلاق والمشارب والآراء تضمّهم رابطة معنويّة أقوى من الأخلاق وأعمق من المشارب وأعمّ من الآراء… لكلّ شعب ذات عامّة تشابه بجوهرها وطبيعتها ذات الفرد، ومع أنّ هذه الذات العامّة تستمدّ كيانها من أفراد الشعب… فهي مستقلة عن الشعب ولها حياة خاصة وإرادة منفردة.. فذات الأمّة العامّة تنام ولكن نوم الأزاهر.. أمّا عطرها… فهو الحقيقة المجرّدة" .
ركّزت سعادة في مقالاتها على توصيف الأسباب الكامنة وراء انتكاسات هذه الأمّة، وقدّمت تصوّراً اجتماعيّاً وتاريخيّاً وجغرافيّاً وحضاريّاً وسياسيّاً دقيقاً يحمل إجابات عن عدد كبير من الإشكاليات التي طرحتها، ويصحّح، أيضاً، مفاهيم المصطلحات المتداولة، ويرسم رؤيا مستقبليّة تبشّر بانبعاث سوراقيا أمّة موحدة قويّة.
توظّف الباحثة أفكار الزعيم أنطون سعادة في تحديد الجغرافيا التي ينتمي إليها هؤلاء الأنتم القادرون على التغيير، فسوراقيا "تضمّ بشكل رئيس كلاً من فلسطين المحتلة والأردن وسوريا والعراق، وكانت تُعرف ببلاد الشام والعراق حتى نهاية السلطنة العثمانيّة" ، وتستند إلى معطيات تاريخيّة قديمة وحديثة، لتظهر، من خلالها، حقيقة الأطماع الاستعماريّة التي لم تتوقّف، والتي اتخذت من الدين عامل تباعد وتفتيت، فالسلطنة العثمانيّة همّشت دور عدد كبير من الطوائف، ونشرت أفكاراً طائفيّة ومذهبيّة كان نتيجتها شعور الأكثريّة بالتفوّق وشعور الأقليّات بالقهر، وما بين التفوّق والقهر تخاذلت الإرادة الوطنيّة، وضاعت الهوّية وصارت شعوب هذه المنطقة المختبر الأكثر تلبية لرغبات دول صارت كبرى، وأمعنت في إفساد اللحمة الوطنيّة بإزكاء الحقد الديني والطائفيّ والمذهبيّ، لأنّ هذه الدول تُدرك أنّ التقاتل والتناحر المذهبيّ والطائفيّ يضعف أيّ متحد اجتماعيّ، وهذه القضيّة نبّه إليها أنطون سعادة، ورأى أنّ كلّ دولة دينيّة تحمل في طياتها بذور زوالها وتفكّكها، لأنها تحاول الجمع بين مبدأين متناقضين، هما الوظيفة الروحية والسلطة الزمنية.
ومهما طال الزمن، فإن الإرادة الشعبية ستُجبر السلطة الدينية على التنازل عن سلطاتها الزمنية التي يأخذها الشعب لنفسه. فـهو يؤكّد أنّ "الدين في أصله لاقومي، ومنافٍ للقوميّة وتكوين الأمة، لأنّه إنساني ذو صبغة عالمية" ، ومثاله، في رأيه، ما حدث في أوروبا مع نهاية القرون الوسطى وتفكك الإمبراطورية الكاثوليكية لصالح الدول القومية الممثلة لشعوبها، وكذلك ما لحق بالسلطنة العثمانية التي تحاول، في هذه المرحلة من التاريخ، امتطاء الفكر الإخوانيّ لإعادة هيكلة دولة عثمانيّة جديدة.
تحاول الدكتورة صفيّة أن تبرّر امتناع حدوث فعل التغيير، فتحيله على أسباب خارجيّة وعلى تخاذل بعض حكّام سوراقيا والمسؤولين الذين باعوا شرف الانتماء ورهنوا ضمائرهم، فكانوا الأدوات الأكثر خدمة لإرادات القوى العالميّة الساعية إلى التوسّع والغزو والاستعمار بأشكال متنوعّة، وإلى تفتيت جغرافيّة أرض يتمتع أبناؤها بمقوّمات مشتركة رأى فيها سعادة قوّة قادرة على تغيير مايراه الآخرون قدر هذه المنطقة، وهذه الأسباب تستمد معطياتها من مرجعيات جغرافيّة وتاريخيّة واجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة وإقليميّة ودوليّة.
تكشف المعطيات الجغرافيّة التي استندت إليها الباحثة أنّ الحدود "ما بين سوريا ولبنان حدود وهميّة فلا بحار أو جبال أو أنهر… بل خطوط وضعها الأجنبيّ… ولا فرق في اللغة بين البلدين أو في العادات والتقاليد" ، والتماسك الجغرافيّ، في رأيي، قوامه جسدٌ متكامل الأعضاء، فإذا اعتلّ منه عضو شاركته بقية الأعضاء الوجع والألم، ومثاله ما يدور من حرب عالميّة في سوريا والعراق التي أثّرت في دول سوراقيا كلّها، فـ"برهنت الأحداث الأخيرة أنّ مصير سوراقيا واحد فما يصيب العراق يصيب سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، أيضاً، والعكس صحيح" ، لأنّ وحدة هذه المنطقة وحدة طبيعية واقتصاديّة واجتماعيّة، فهي تضمّ "كلّ المكوّنات الاجتماعيّة من دينيّة ومذهبيّة وعرقيّة على نحو متكافئ… وتمثّل وحدة اقتصاديّة متكاملة ودورة حياة واحدة من غير الممكن تجزئتها إلاّ إذا أردنا تدميرها"
ترى الباحثة أنّ أسباب الامتناع خارجيّة صنّعتها وتصنّعها السياسات الأميركيّة، ودول استعماريّة غربيّة وأطماع إقليميّة شجّعت على نشر الفكر الوهابيّ ليكون القضاء على الحضارة العربيّة بفكر عربيّ إسلاميّ، وهذا الفكر، في رأيها، فكر إلغائيّ بدأ مشروعه في بداية ثمانينيات القرن الماضي بشكل ممنهج وهادف، فتقول: "إنّ الفكر الوهابيّ الإلغائيّ لم يبرز في سوراقيا الآن بل ما نشاهده هو الخطوة الأخيرة في سلسلة طويلة من الدعاية والتمويل والتحريض الطائفيّ والمذهبي بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي… قامت السعودية بتطبيع ثقافيّ- دينيّ لعقود طويلة فأعادت سوراقيا قروناً إلى الوراء التي تمتدّ جذورها عميقاً في القضاء على أشكال الحضارة العربيّة" .
ممّا لا شكّ فيه أنّ الفكر الوهابيّ غذّى التعصب الديني والطائفي والمذهبي الذي رسخته مشيئة السلطنة العثمانيّة، فصار التعصب سلاحاً ساعد على فتح حروب استباقيّة تقضي على حضارة بلاد الشام التي "تنشر حضارتها وعقلانيتها في أرجاء الجزيرة العربيّة عبر آلاف وآلاف من مواطنيها الذين يعملون ويكدّون في غربتهم لبنائها وتحديثها، فالتيار الزاحف من سوراقيا باتجاه الخليج هو التيار الأقوى والأقدر على البقاء" ، فالأسباب الخارجيّة، في رأي الكاتبة، ليست نتاج فكر دينيّ فقط، بل هي نتاج حقد على حضارة لم تعرفها الصحراء العربيّة، وربّما كان هذا الحقد المضاف إلى مخططات استعماريّة السبب الكامن وراء تدمير حضارة سوراقيا.
تحاول الدكتورة صفيّة أن تُسند معظم أسباب التدمير في سوراقيا الحديثة إلى الولايات المتحدة الأميركيّة وإسرائيل، ومن ثم السعودية وتركيا، وتسوق أحداثاً تاريخيّة دقيقة لتبني عليها آراءها وتطلعاتها، ومن ثم لترسم رؤاها المستقبليّة بعد أن قرأت نتائج اتفاق الدول الكبرى في بدايات القرن العشرين، وربطتها بما يحدث على جغرافية الأمّة السوريّة بشكل خاص وعلى جغرافية الأمة العربيّة بشكل عام، فجاء توصيفها الظواهر والأحداث دقيقاً، بعد أن حاولت تقديم مقاربة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فالماضي بالنسبة إليها له بعدان، بعد جغرافيّ يثبّت وحدة الأرض السوريّة، وبعد سياسيّ دوليّ كان هدفه الرئيس تفتيت المنطقة واستخدام شعوبها في تجارب الهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة.
تدعم صفيّة سعادة رؤيتها بتقديم عرضٍ للأحداث التي اجتاحت سوراقيا منذ عام 2002، فترى أنّها "التطبيق العمليّ والدقيق لخطة القطع مع الماضي الأميركيّة التي تهدف إلى التدمير المنهجي لدول سوراقيا…" ، وتعتقد أنّ تطبيق خطة التدمير بدأت يوم إسقاط نظام الرئيس العراقيّ الأسبق "صدّام حسين"، لأنّ إسقاطه "يحجّم الدور الإقليميّ السوريّ… وتدمير العراق يؤدي إلى تغيير ميزان القوى لمصلحة إسرائيل وتركيا" وهذه النتائج تضمن بيئة استراتيجيّة ملائمة لإسرائيل عبر تعاونها الوثيق مع الأردن وتركيا، وتجعل منها "القوة الضاربة الأميركيّة والعصا التي تهدّد عبرها كلّ من تسوّل له نفسه أن يتمرّد" .
تذكر الكاتبة حرب 1967 والتي فرضت الاستيلاء على الجولان والضفة الغربيّة وشبه جزيرة سيناء، وتشير إلى تفكك الاتحاد السوفييتي، وتزعّم الولايات المتحدة الأميركية قيادة العالم، فحكمته عبر إلغاء قوانين الدول القوميّة واكتسحت الأسواق وسيطرت على القرارات، وأرغمت "الدول على التخلي عن حماية صناعاتها الوطنيّة وتصفية إدارات الدولة ومشاريعها القوميّة عبر الخصخصة ما يعني القضاء على الطبقة الوسطى القائمة على الإنتاج الصناعي والزراعي وعلى الأدمغة الخلاّقة، والطبقة الوسطى هي الدعامة الأساس لقيامة الدول" ، فجعلت من العولمة قدراً للشعوب الضعيفة، وداعماً رئيساً للنمط الإمبراطوري الحاكم العالم.
تسوق الباحثة أحداثاً، كان لها تأثير كبير في كلّ ما يحدث في سوراقيا، وذلد بدءاً من أحداث 11 أيلول 2001، مروراً بتدمير العراق 2003، واستشهاد الرئيس الحريريّ وخروج الجيش السوريّ من لبنان 2005، وحرب تموز 2006 وصولاً إلى الحرب العالميّة في سوريا التي بدأت عام 2011 والتي كان من أهدافها خلق حرب طائفيّة ومذهبيّة ودينيّة تعيد تفتيت المنطقة وتقسيمها، وتشظي طاقات جيشها، لأنّ التعصب الدينيّ، كما رأى الزعيم سعادة، "من أعظم العقبات التي قامت في سبيل استقلال سورية ذلك الداء العضال الذي أحدث شللاً في أعضاء الأمة السورية ووقف حاجزاً منيعاً بينها وبين ما ترمي إليه من النهوض إلى مصاف الأمم الحية" ، ولذلك نبّه إلى ضرورة وحدة الجيش، لأنّ "تحويل الوطن إلى ميدان ينقسم فيه الشعب الواحد، الموحّد المصير، إلى جيشين يتطاحنان للوصول إلى غاية واحدة هي الخراب القوميّ، عمل شائن لا يليق إلا بالشعوب البربرية" . وهذا ما سعت إليه أميركا في بداية الأزمة السوريّة، فكانت الحرب الطائفيّة وتفتيت الجيش العربيّ السوريّ من أهم الوسائل التي وُضعت في مخطط الحرب الكونيّة الهادفة إلى تفتيت المنطقة وإذلال إنسانها.
تطرح الكاتبة إشكاليات تؤكّد فرضياتها ازدواجية المعايير الدولية، فالظاهرة التي تشجّع على تصنيعها أميركا والدائرون في فلكها في جغرافيّة ما، ترفض حدوثها الطبيعيّ في سوراقيا وتشجّع على تشويهها ومحاربتها، فالاتحاد الأوربيّ، على سبيل المثال، لايحقّق مقوّمات الوحدة التي تتمتّع بها دول سوراقيا، ومع ذلك لقي القبول والرضى والاعتراف والتعاون، وكذلك الموقف الأميركيّ من الحدود الاقتصاديّة ليس واحداً، ففي الوقت الذي يُضغط فيه على الدول لفتح أسواقها وإلغاء حدودها أمام الرساميل الأميركيّة والبضائع والفنادق والمطاعم والاستثمارات، يُشجّع لبنان على المطالبة بترسيم حدوده مع سوريا ، والديمقراطيّة التي تكثر الدعوات إلى تطبيقها في سوراقيا، ما هيّ إلاّ أداة من أدوات التحريض التي توظّفها الحرب الإعلاميّة، ولذلك ترى الباحثة أنّ "كل الكلام الأميركيّ حول ترسيخ الديمقراطيّة مجرد حملة دعائيّة مخاتلة، لأنّ الديمقراطيّة الحقّة لاتستطيع إلاّ أن تكون في دولة قوميّة بما أنّها تمثّل الشعب الموجود على أرضه" فتذهب إلى القول إنّ الديمقراطيّة التوافقيّة التي ينادون بها ما هي إلاّ ديمقراطيّة مشوّهة: "لأنّ المراد من رغبة الغرب في تطبيق الديمقراطيّة التوافقيّة هو شرذمة المجتمع ومنع الجيش من أن يكون موحّداً وقويّاً لأنّ الهاجس الأكبر للولايات المتحدة الأميركيّة هو ضمانة تفوّق إسرائيل… فتحصر السلطة بالخاصة لا العامة وتؤسس للتفرقة بين أفراد المجتمع، فلا مساواة تُرتجى ولا عدالة تُحقّق، ولا حريّة تُسبغ، ولا مواطنة حقّة" .
تقترن المطالبة بالديمقراطيّة بوجود أفراد يُدركون مفهومها الحقيقيّ، فلا تكون شعارات مفرّغة من القيمة، ومصطلحات لا يُدرك منها إلا اسمها، ولا يُستدّل على مقوماتها إلاّ بالفوضى، فالديقراطيّة الحقيقيّة مرتبطة بوجود دولة قوميّة، وحيث لا مقوّمات دولة قوميّة لا يمكن أن تُنفخ روح الديمقراطية وتنتشر وتفعل، ولذلك تؤكّد الدكتورة صفيّة أنّه "لا إمكانيّة لإرساء نظام ديمقراطيّ إذ لم تكن الدولة قوميّة فالديمقراطيّة تعني وجود شعب هو مصدر السلطات وله تعود الكلمة الفصل في قرارات دولته" .
ذكرت الباحثة معظم الأسباب الخارجيّة التي تمنع قدح كمون طاقات الإنسان السوريّ ليعيد تشكيل التاريخ، ولكن لم أعثر في الكتاب على أسباب داخليّة تمنع حدوث فعل التغيير، ولم تذكر الأضراس المسوّسة التي تكلّم عليها جبران خليل جبران، فقال: "إذا قلنا إنّ الأمّة السوريّة تقضم قوة الحياة بأضراس مسوّسة وإنّ كلّ لقمة تلوكها تمتزج بلعاب مسمم، وإنّه قد نتج عن ذلك مرضٌ في أمعائها… يجيبون بقولهم: نعم نحن الآن منصرفون إلى درس أحدث المساحيق وأجد المخدرات" ، فلماذا نأت ابنة النهضة بنفسها عن ذكر انشغال المسؤولين بالمظاهر وتخدير الطاقات بمساحيق التجميل والمسكّنات؟
اكتفت الباحثة بالكلام على تآمر بعض السياسيين المرتهنين، وعلى تخاذل المثقفين الذين "يوافقون على التعاون مع الأحلاف الدوليّة التي تدعي محاربة الإرهاب بينما يرفضون التنسيق مع جيرانهم" ، وكذلك تكلّمت على رغبة الأكراد السوريين في الانفصال عن جسد الأمّة التي استقبلتهم، وصاروا جزءاً من نسيجها الاجتماعيّ، ثمّ تذكّر بهويّة الأرض التي ينتسبون إليها فتقول: "كانت نينوى المدينة الأكبر في العالم القديم، فلقد وصلت المملكة الآشوريّة إلى ذروة ازدهارها في القرن السابع قبل الميلاد… وكردستان العراق قائمة على أنقاض المملكة الآشوريّة" .
إنّ النأي بالنفس عن ذكر الأسباب الداخليّة، يُبقي الأسئلة مفتوحة، وهي تحتاح إلى بحث وجواب، ومن هذه الأسئلة: ما الأسباب الكامنة وراء تخلي الإنسان السوريّ عن مقوّماته الحضاريّة، وانغراسه في تيارات دينيّة عابرة الحدود؟ كيف يستعيض عن سوراقيا الحضارة والمجد والتاريخ العريق، بفكر داعشيّ أوجده الأميركيون والغرب بديلاً عن سوراقيا؟ فالمصطلحان من حيث ظاهر التشكيل اللغويّ لهما الدلالة الجغرافيّة عينها. فكيف يُستبدل فكر حضاريّ إنسانيّ بفكر لا إنسانيّ، قوامه التخريب والذبح وابتكار أساليب تعذيب لا تقوم بها الوحوش؟ وهل هؤلاء هم أبناء سوراقيا؟
تقود الأسئلة السابقة إلى فرضية تختزل رؤية صفية سعادة إلى حقيقة الموقف الأميركيّ، فصاغت من قراءة الوقائع نتيجة حتميّة، قادتها إلى الاعتقاد بأنّ الولايات المتحدة الأميركيّة لا تريد تقسيم المنطقة، لأنّ مشروعها الرئيس إعادة تشكيل المنطقة بما يتوافق وأهدافها، فيكون العمل على إلغاء الدولة الوطنيّة والطموحات القوميّة وفق ما تبتغيه مشاريع العولمة، لأنّها بذلك "تكسر سيادة الدول على أراضيها وتقيم مكانها تياراً إخوانياً جارفاً موالياً لها سياسيّاً واقتصاديّاً، يضع ولاءه الديني فوق ولائه الوطنيّ" .
تؤسّس صفية سعادة على هذه الفرضية رؤى مستقبليّة تبشّر بانتصار سوريا لأنّها القلعة الأخيرة في صمود الأمّة السوريّة، وترى الباحثة أنّ سوريا تحارب دفاعاً عن نفسها ودفاعاً عن كلّ دول سوراقيا، لذلك تدعو إلى التعاون والتنسيق بين دول سوراقيا، ليتحقّق فعل النصر ويتمّ تفعيل الطاقات القادرة على التغيير، لأنّ "هجمة الولايات المتحدة الأميركيّة على سوراقيا بعد أحداث أيلول 2001 ستؤدي إلى توحيدها" ، وإلى التحرر من التقسيمات المصطنعة والعودة إلى "وحدة بلاد الشام، أقلّه اقتصادياً وأمنيّاً وعسكريّاً"، وإلى "جعل الدين في خدمة المتحد القوميّ" .
ربطت الباحثة تحقيق الرؤيا بتعاون شامل مع إيران، وتستند في رأيها إلى معطيات تاريخيّة تؤكّد أنّ إيران شاركت في ازدهار حضارة هذه المنطقة في الفترة العباسيّة، لأنّ الحضارتين اندمجتا "وخلقتا إبداعاً في الشعر والفلسفة والأدب القصصيّ وفي الطب والعلوم الطبيعيّة وفي الفيزياء والكيمياء وفي الرياضيات والهندسة وامتزجت أسماء الأعلام الإيرانيّة والعربيّة" لذلك تؤكّد أنّ "ما يجمع سوراقيا وإيران ليس فقط الإسلام.. بل تراث حضاريّ فكريّ عقلانيّ يحيا في كلّ فرد منّا بمعزل عن دينه أو معتقده. هو تراث مشترك أعلى من شأن المعرفة" .
تعتقد الباحثة أنّ هذا التعاون سيلغي ما تسعى إلى إنتاجه عولمة اقتصاديّة، في ظاهرها، عسكريّة إرهابيّة، في حقيقتها، فالعولمة والتعصّب الدينيّ، في رأيي، وجهان لعملة واحدة، لأنّ الفكر الدينيّ المتطرف لا جغرافيا تحدّه، والعولمة اجتياح للحدود، لذلك يمكن القول إنّ أهداف التكفيريين لا تتناقض وأهداف العولمة، فالعولمة تجتاح الحدود الجغرافيّة بطروحات ظاهرها نشر المعرفة وتحويل العالم إلى قريّة صغيرة، وباطنها اغتيال الوعي القوميّ، وإلغاء الهويّات، وحصر القدرة الإبداعيّة في قلّة يحكمون العالم فكريّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، وكذلك الحركة التكفيريّة، ظاهرها نشر الوعي الدينيّ وإلغاء الحدود الجغرافيّة، وباطنها التجهيل والاستعباد والإلغاء والقضاء على الهويات الوطنيّة والقوميّة باسم الدين، وربّما قرأت صفية سعادة في مقاربة هاتين الظاهرتين حتمية سقوط العولمة، وسقوط المدرسة الوهابيّة التكفيريّة، وتعتقد "أنّ سوراقيا ستهضمهما كما هضمت هجمات هولاكو" ، وهي تعتقد أنّ هذا الانتصار لن يكون إلاّ نتيجة صمود الإنسان السوريّ المنتمي والجيش العربيّ السوريّ العقائدي الموحّد، فعبّرت عن رؤيتها بفخر واعتزاز وقالت: "هؤلاء السوريون المنخرطون في المواجهة إلى جانب الجيش السوريّ يردّون عنّا الأذى نحن الذين نقطن في جوارهم وعلى تماس معهم" .
تبشّر رياح التغيير بأنّ رؤيا صفية سعادة ستصدق، لأنّ الإنسان السوريّ المتسلّح بصدق الانتماء، سيكون صموده مدرسة تعلّم أساليب المواجهة والدفاع؛ لأنّه استطاع بصموده وانتمائه وإيمانه أن يوقف "دحرجة كرة الثلج الأميركيّة، ثمّ البدء بذوبانها، بدءاً بسقوط المشروع التركيّ الإخوانيّ، فلولا صمود سوريا لما سقط مرسي وحكم الإخوان في مصر، ولولا قرار المواجهة لما تراجعت الهجمات التكفيريّة وارتدّت نحو البلدان التي صنّعتها وموّلتها… هذا الصمود أطاح بالخريطة السياسيّة للشرق الأوسط كما ثبّتتها الولايات المتحدّة الأميركيّة مع نهاية الحرب العالميّة الثانية" .
هؤلاء السوريون هم الأنتم الذين بشّر بهم سعادة، وبكمون انتمائهم القوميّ سيفجّرون الوعي بالانتماء بعد مجازر الربيع العربيّ المزعوم، وسينهض هذا الوعي الموعود بقضايا أمّة تمتلك مقوّمات الوحدة والاتحاد، فيكون غدٌ يفخر بأمّة سيعيد أبناؤها صياغة العالم وصناعة التاريخ، وسيصدق وعد "جبران خليل جبران" "إنّ ما تدعينه انحطاطاً يا سوريا أدعوه نوماً واجباً يعقبه النشاط والعمل، فالزهرة لا تعود إلى الحياة إلاّ بالموت، والمحبّة لا تصير عظيمة إلاّ بعد الفراق" . نعم ستؤكّد قوة الإنسان السوريّ أنّ سوراقيا هي الحقيقة والخلاص.