ها قد أزفّ موعد انتهاء الالتزام بالمعاهدة بين فرنسا وانكلترة، فهذه سنتها الأخيرة قد أتت بعد انقضاء مئة عام على توقيعها، وهاهما السيدان سايكس وبيكو يتصافحان متوادعَيْن وهما يعرفان أن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر ومنها (يالطا) أو إعادة اقتسام العالم، ولكن ذلك لم يفسد للود الاستعماري قضية، فالود والعواطف مسألة شديدة الثانوية بالمقارنة مع الاستثمار الاستعماري. ربما شعرا ببعض الفخر الشخصي، وهاهما يرنوان إلى ذاك النجاح غير المتوقع لمخططهما "على الرغم من انكشافه قبل أن يتم تصنيفه تحت مسميات المؤامرة"، مسارعين القول سوية (أوَلم اقل لك)!
ترى ماذا قال سايكس لبيكو (أو العكس) وقتئذ؟ تُرى هل قال أحدهما للآخر وعلى طريقة الشرير في الأفلام العربية والهندية "إن حقدنا على الإسلام والعروبة" يقتضي منا أن نجازف ونحطم أنوف هؤلاء الحضاريين و"نفتح" بلادهم غازين، كما "فتحوا" اسبانيا والقسطنطينية؟ أو هل تكلما عن الخلاف العقائدي معنا؟ وعن الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق وزهق ما هو باطل بالنسبة إليهم؟ عماذا تكلما؟، وعلى ماذا اتفقا؟ هل تكلما عن منافع الاستثمار الاستراتيجي في المنطقة؟ هذه المنطقة التي لا اسم لها إلا بدلالة الجغرافيا، شرق أدنى أو شرق أوسط يحوي بلاداً تسمى بلاد الشام وبلاد العراق، فاضطرا للبحث في (لاروس) في محاولة للعودة إلى الأصل ليكتشفا أن اسماً لها اشتق من آشور، أنها سوريا، مشيرين إلى تلك البلاد المرسومة خريطتها على لوحة رخامية مقابل (كوليزيوم روما) والتي تظهر الأراضي التي ضمها التمدد الروماني في عصره، حيث شد انتباههما، إلى أن هذه الأراضي هي مجرد بلاد وليست اوطاناً بعد، فرياح الأنوار لم تصلها، وإذا كانت قد وصلت إلى بعض نخبها فواقع الاجتماع فيها ونوعه سوف يقضي ذاتياً على تأثرات كهذه، فالاجتماع البشري ثقافة، قد تفضي إلى تأسيس مجتمع وقد لا تؤدي إلى ذلك، ما يقسم الثقافة إلى نوعين، فالجهل هو أيضاً ثقافة تتراصف مع ثقافة المعرفة وتستفيد منها بحدود الاستهلاك السلعي من جهة، ومن استخدام أدواتها للقضاء على التأثيرات الأنوارية من جهة ثانية، محافظة في ذلك على اجتماعها البشري قبل المجتمعي بصفته سوقاً لكل شيء، وهنا بيت القصيد السايكسبيكوي، ومربط جمله، إذ ما دام هناك من يقوض ثقافة تأسيس المجتمع بمعناه الأنواري، ويهاجمها بكل ما أوتي من ثقافة، سوف يجعل هذه المناطق سوقاً لكل شيء من إبرة الخياطة حتى آخر مبتكرات الجيوسياسة، حيث يأتي هدف المحافظة على ثقافة الجهل في المراتب الأولى لعملية الاستثمار الاستعماري.
إلى يومنا هذا لم نعرف، في موضوع المعاهدة، بماذا تداول السيدان سايكس وبيكو، فالمسألة لم تدرس على أي مستوى معرفي إلا في نتائجها الظاهرة، أو عبر تقديرات حكائية تنفع في تدريس التاريخ الرسمي المدرسي، أو في شتم المستشرقين، ما حصل هو انها أخضعت إلى تحليلات تنظرية تثبت أن هذه المعاهدة كانت ضارة على بعض الصعد، أهمها التقسيم، والانتداب (أو الاحتلال)، إذ لولاهما لكان لهذه المناطق شأن آخر!، ولكن ما هو هذا الشأن الآخر؟ لا أحد يدري! مَن كنا؟ وماذا سنكون؟ كيف كنا؟ وكيف سنكون؟ من نحن؟ كلها أسئلة كانت خارج هاتيك التحليلات التنظيرية ذات الصلة الوثيقة مع ثقافة الجهل، التي توصلت إلى خلاصة أن الاستعمار ما هو إلا انتهاك للخصوصية الثقافية، ناقلة الصراع إلى ساحة خارجية هامشية، لتخوض في ساحاتها أعتى المعارك خوفاً على هذه الخصوصية (أو ما يُسمى هوية)، منكرة أن الاستعمار يسعى للمحافظة على هذه الخصوصية الثقافية بالذات، فهي مفيدة تماماً للاستثمار الاستعماري، عبر الإزاحة عن التنافس المنفعي بين المجتمعات، فعادت هي نفسها (المعاهدة) إلى استخدام هذه الخصوصية الثقافية في استبدال العثماني بالعربي، اتكاء على حيوية الفتح الثقافية (الخصوصية) بقيادة لورانس وجحافل "عودة ابو تايه" التي تعشق الوحدة العربية، ورسالتها الخالدة، واستثنائها الثقافي!!، لتقطع البلاد (أو المناطق أو الأراضي) إلى محميات استثمارية باسم هذه الخصوصية تحديداً، وهكذا تمّ فصم لب الصراع، عبر تكذيب التفكير الاستعماري وتوصيفه بالغزو الثأري فقط، ليزاح الاستثمار الاستعماري جانباً، ويبقى صراع "الخصوصية والهوية والوعي والرجل الأبيض الخ" في الواجهة، حيث يتجمد الصراع الأول الذي يعني بناء الإنسان والمجتمع والدولة والحضور في ساحات التنافس الإنتاجي وصنع المكانة والدفاع عنها، ويتوهج الصراع الثاني حول العقائد والمعتقدات والمكانة الأخلاقية المشتهاة، لتبدو كل حركات التحرر في ما بعد ما هي إلا حروب دفاع عن استقلالية الخصوصية الثقافية من معتقدات وعادات وتقاليد، وهي ساحة بعيدة تمام البعد عن مواجهة الاستثمار الاستعماري، لتتحوّل المعركة برمتها إلى معركة مع الغرب، ولكن أي غرب؟
ببساطة (وليس بتبسيط) نكتشف أنه الغرب المقصود هو غرب معركة اليرموك وفتح الأندلس والقسطنطينية، انه الغرب العقائدي الصليبي، وليس الغرب (الفرنجي) الاستعماري الذي لا تهمه لا العقائد ولا العواطف ولا الأخلاق في مبناها التقليدي التراثي، وليتم بعدها تفعيل ثقافة، تتحرك وتنتج على هذا الأساس في محاولة لرد الاستعمار إلى أصول تحاقدية مبنية على أسس الاختلاف العقائدي، وليس على المصالح الاستثمارية، ففي الاوقات نفسها التي يشتد فيها التعاون مع الاستعمار ومشاريعه، كانت نبرة العداء للغرب تعلو ملغية أي أساس لصراع تنافسي، يقوم على الجدارة والجدوى، لتصل هذه النبرة إلى ذرى مثل، 11 ايلول/سبتمبر 2001، وما بعدها من أحداث لندن وباريس الخ حيث يمكن إرجاع فعاليتها إلى التعاون الأميركي/ الجهادي، في افغانستان وغيرها من بلدان جنوب آسيا وحتى جمهوريات السوفيات وكوسفو (التي تتشابه مع فلسطين على أكثر من صعيد). وهذا ما حصل تماما في سايكس بيكو قبلها، ففي الوقت نفسه الذي تم فيه التعاون مع الاستعمار في مسألتي التقسيم والانتداب (الاحتلال)، كانت نبرة العداء العقائدي تعلو (ولا شيء يعلو عليها) في وجه الغرب الصليبي الذي أدّى إلى تفكيك "الخلافة" العثمانية، وعدم إيجاد ودعم بديل لها، ما صنع تلك الازدواجية الثقافية المؤدية إلى ابتلاع التقدم والارتقاء اللازمين لمواجهة الاستثمار الاستعماري الغربي ووقفه، (لا أحد ينتبه إلى الصين كأداء استعماري مثلاً)، معتبرين أن هيمنة ثقافة العداء العقائدي الشمولية هذه تتضمن مكافحة الاستعمار كتحصيل حاصل، وهو هدف سام وشريف لا يختلف عليه اثنان، فالقضاء على الغرب يعني القضاء على استعماره واستثماره حكماً، على الرغم من العلاقة (التكتيكية) معه، بمعنى أن نتعاون معه للقضاء عليه، في استثمار أيديولوجي للخيبة التي صدمت ولايات سوريا العثمانية، أو المملكة السورية العربية في عام 1919 عبر مؤتمر الصلح في باريس، الذي أدى إلى الفصل فصلاً عملياً بين الأداء الاستعماري والأداء الأخلاقوي بشكله التراثوي المشتهى، والى تبني هذا الأداء الافتراضي على انه وجه العداء الأوحد الذي ينسجم تماماً مع الأداء الثقافي (التكفيري/ التسامحي) الذي يقسم العالم إلى فسطاطين واجبَي العداء في ما بينهما معاً وحتماً، إذ تم الإقرار نهائياً وقتها أن الغرب يعتدي لأسباب أيديولوجية، وليس لأسباب استعمارية!
في موضوع التجزئة، لم يكن وقتذاك من كيان أو هيكل دولتي محدد ومعلن "لسوريا" أو في بلاد "العربة" حتى يتم تقسيمهما وتقاسمهما، فكما اسلفنا كانت بلاداً من بلدان الخلافة، أو ولايات من بين ولاياتها، والصراع الأوروبي مع الرجل المريض أدى إلى أن تؤول بعض ولاياته للمنتصر في الحرب التجارية (التسمية الانكليزية للحرب العالمية الأولى)، التي على نتائجها أُقرّت عصبة الأمم مسألة الانتداب كعملية "خيرية" لم تأخذ "ويا للأسف!!" بعين الاعتبار عوامل اللغة والدين (في ما بعد تمت إضافة الآمال والآلام المشتركة) التي تثبت أن المناطق التي تم تقسيمها امة واحدة أو جزءاً من امة واحدة كبدهية تاريخية تجب ممارستها معرفياً من قبل المستعمرين أنفسهم، وإلا فسوف يكونون من الحاقدين على امتنا، على الرغم من ان هذه "الأمة" لم تكن مهيكلة ثقافياً أو معلنة سياسياً، وبناء على هذا الإجراء (أي التقاسم) الذي لم يكتشف أو يراعي (هو) خصوصية المنطقة وهويتها تم التأسيس لهذا النوع من العداء الذي تحول مع الوقت إلى مشجب تعلق عليه آلاف الأخطاء والخطايا من قبل السلطات المحلية أثناء الانتداب وبعده، وتحول الغرب إلى طوطم التكاره من جميع النواحي عدا الناحية الاستعمارية بشفاعة الاستهلاك، وصارت التجزئة إلى واقع يدافع عنها أهل الوحدة أنفسهم، إذ لم يحدث أن تولت الشعوب أو السلطات في هذه البلدان مسألة الإطاحة بواقع التجزئة هذا، بل دافعت عملياً عن حدود سايكس بيكو (وتقاسمات يالطا فيما بعد) وذادت عنها بالدماء تثبيتاً لها وتكريساً لأجهزة الحكم القطرية تحت شعارات الوحدة والتحرير شرط أن يتم القضاء على الغرب أولاً، في دوران لانهائي بين الأسباب الواهية وسرابات الانتصار الهلامية.
في الواقع وبعد توقيع اتفاقية سايكس بيكو، كانت التجزئة هي الإعلان الأول والأخير عن هوية مهيكلة ومعلنة وممارسة، على الرغم من مكوثها فوق تلال هائلة من التنظير الشفوي حول هويات جامعة كبرى تتذاكى وتتشارف على هويات مبنية على الأسس التفكيرية نفسها لهذه الهويات الكبرى، فتم اختلاق هويات كلامية مبنية على تراثيات جاهزة، تؤدي إلى تعريف الذات بمعاكسة الآخر الآثم والحاقد، كما تم القضاء على كل رؤية أو صوت عقلاني، يفصل ثقافة الصراع عن ثقافة الغزو (تراثياً لا يوجد صراع يوجد فقط غزو)، فنشأت "دول" ذات علم ونشيد وعيد استقلال، وزعامات لا يأتيها الباطل من حدب، وبرلمانات ووزارات وقضاء، وكلها (أي "الدول") على تهادن مع "هويات" صغرى مؤسسة على منتجات النشوء التفكيرية المؤدية إلى ما يُسمى التعايش، تحت سلطة المستبد العادل، الذي استخدمها على وجهين متوازيين، أولهما هو مصادرتها بما يتناسب مع الثقافة التراثية للمحكومين، وثانياً إعلانها في محافل الاعتراف كدولة قومية تناسب ولو بشكل ضئيل معايير هذه المحافل.
من الاصطلاح الخارجي استقى هذا التعايش (سايكس بيكو ـ عصبة الأمم ـ يالطا ـ الأمم المتحدة الخ) الاعتراف بهوية يرفضها هو نظرياً مع انه يمارس هوية أدنى منها عملياً، بالإضافة إلى الاتكاء على شعارات الوحدة والتوحد في هوية بدهية غير مدرجة في معايير الهويات المعاصر، وهي هوية جامعة مانعة، ولكنها غير قابلة للممارسة إلا عن طريق التعانف، حيث استشرى ذلك التعاكس بين "هويات" جميعها افتراضية (فهي تفتقد إلى مجتمع بالمعايير المعاصرة)، ليس بسبب فيض المعرفة على مبدأ الأواني المستطرقة فقط، بل بفعل التنازع على الاصطلاح الخارجي للاعتراف بها، ولم تكن المسألة هنا إلا مسألة وقت حتى ينفجر الصراع على المنطق والأسلوب والمعايير نفسه التي تأسس عليها، منتجاً تجزئة من أنواع أعمق وأخطر.
أما الأهم بين أثمان التجزئة التي ارتضت "الدول" دفعه ثمناً لوجودها، هو تلك الأراضي السليبة والمغتصبة والمحتلة، إذ يصعب إيجاد حالة سلب أو اغتصاب لهذه الأراضي دون مشاركة زعامات ـ "وطنية" أو "شعبية" أو ذات حق "تراثي" بهاـ، في تسهيلها ومباركتها والرضى بها، وربما شكلت حالة فلسطين فيما بعد الاستثناء المقاوم الوحيد لأسباب عقائدية، ولكن عموم حالات القضم والاغتصاب من أراضي الوحدة المفترضة، كانت عبر اتفاقات ومواثيق موقعة من قبل رجالات "الوحدة" ومن ورائهم شعوب تسعى إلى العيش الحلال.
خلال المئة سنة تمّ تطنيش الفعل الاستعماري كفعل معرفي (إلا في ما ندر)، فالاكتمال المعرفي جعلنا ندركه كتحصيل حاصل انتقامي، ذو أصل عقائدي، وتمّ عملياً رفض مخرجاته المعرفية، إلا في حدود الاستخدام الاستهلاكي، وهذا بالضبط ما سعى إليه الفعل الاستعماري، الحرمان من المعرفة واعتماد الاستهلاك، ولكن وحتى هذه الحدود قد تمّ تجاوزها عكساً في الكثير من الحالات، بمعنى رفض المعرفة الاستهلاكية نفسها بدعوى أنها من منتجات الكفار، مع العلم أن البديل هو أيضاً من منتجات الكفار، ولكن الأهمية هنا تكمن في قيمة العداء المنتج للغزو، وليس في قيمة الصراع التنافسي المؤدي إلى الإنتاج، وهذا ما أدى إلى إنتاج أسباب التجزئة (أو عدم ضرورة الوحدة)، إذ لا مصالح إنتاجية يمكن التجمّع حولها، ليتحوّل واقع التجزئة نفسه إلى وقائع من الفساد المؤدي إلى الاستبداد، الذي تمكّن الاكتمال المعرفي من إنتاجه وتطويره، وضخه في شرايين التجمعات السكانية التي فشلت بالتحول إلى مجتمعات تمتلك إرادتها في تنظيم مصالحها، وآلت التجربة "الدولتية" في تمظهراتها كافة، من شكلها الولاياتي العثماني إلى شكلها الجهازي الحالي، بما لا يعاكس توقعات المستشرقين الذين افترضوا في ولاة الأقاليم والأمصار، الشكل التراثي المناسب والمقبول في ثقافة الاكتمال المعرفي لهذه الأقوام، لتتحول التجزئة إلى واقع مقبول في ظلال التراث.
أما في موضوعة الانتداب (الاحتلال)، والذي اشرنا إليه بالفعل الخيري، فقد تم بفعل استعماري بارد اقتضى تشكيل وتنظيم هذه التجمعات السكانية القاطنة في هذه الأراضي في تشكيلات معاصرة تسمى دولاً يمكن الإشارة إليها بصفة سياسية/ حقوقية، كجزء من تطويرها كي تناسب متلازمة الاستهلاك/ الإنتاج، فعلى التوازي انوجدت البرلمانات والوزارات وقصور القضاء من جهة، والترامواي والكهرباء ووكالات بيع وشراء المنتجات من كل صنف ولون، لتبدو هذه البلدان ظاهرياً كمناطق متمدنة قادرة على الاستهلاك، بحيث أصبحت قابلة للاعتراف بها، والاصطلاح على ولادتها، بناء على وجود "دولة" فيها تتكفل بناء مجتمع بالمعنى المناسب لتمدنها المرتبط حتما بالتوافق والرضا الدوليين على وجودها.
إلى هنا والمنطق الاستعماري واضح وجلي معرفياً، ومبرر في سياق الصراع العالمي على المصالح، ولكن ماذا عنا نحن؟
لولا ميسلون، تلك المعركة الكبيرة على الصعيد الرمزي، لتم الانتقال إلى حال الانتداب (الاحتلال) بصمت ورضا، فهذه البلاد كانت تعاني (ولما تزل) بنقص فادح في الثقافة الحقوقية التي تنظم الوجود البشري في مجتمعات ودول، كما أنها بعيدة كل البعد عن عصر الأنوار المؤسس الفعلي لمفاهيم المجتمع والدولة التي تحول الأراضي المسكونة إلى أوطان، لا بل تمّت هزيمة أفكار ورجال النهضة هزيمة منكرة شعبياً وحكومياً (عثمانياً)، بحيث لم يبق مكان لتفسير فعل الانتداب الاستعماري على أسس عقلانية أنوارية تحديداً (الاستعمار مفهوم أنواري)، بل تمّ لجوء النخبة المنتصرة على رجال النهضة ومفكّريها إلى طبقات التراث لتفسير هذه الظاهرة، وما لبثوا أن أقروا أنها (غزو) ناتج عن حقد تاريخي، فتبني التراث "المكتمل" معرفياً لم يستطع تفسير الانتداب/ الاحتلال على أسس الهيمنة والاستغلال الاستثماريين، فذهب إلى تفسيره شرعياً، بالاعتماد على الروايات التاريخية للغزو والفتوح، ليتحول هو إلى غزو وفتوح صليبية معاكسة، لأن ثقافة كهذه لم تحتوِ يوماً على تفسير للاستعمار، فالاستعمار مفهومياً هو ابن عصر الأنوار والثورة الصناعية.
بل إن المتوفر محلياً لتفسير هذه الظاهرة، اعتبار أي احتلال هو غزو أو فتح يجب أن يكون مشرعناً إلهياً، (وهذا ما توفر عند العثمانيين وافتقد عند الأوروبيين)، وهذا ما تمّ في الغالب الاتكاء عليه في حركات المقاومة السياسية والمسلحة، مباشرة أو مداورة، إلا في القليل النادر، والذي لم يفض في نتائجه إلى حصول ثورة معرفية/ ثقافية تؤدي إلى مقاومة تخرج الأجنبي ومن ثم إلى مجتمعات قادرة على تأسيس دول، وهذا تحديداً ما جعل الاستقلالات التي حصلت لاحقاً موسومة بتوقيعات (يالطا) أكثر منها كنتائج لمقاومة أخرجت الأجنبي، فالاستعمار عملياً لم يخرج إلى يومنا هذا، ان كان بسبب احتلالات أجزاء من خريطة سياكس بيكو ومفاعيلها، أو كان بسبب اعتبار هذه المنطقة سوقاً استثمارية يمكن التحكم بها من ناحيتي الشبع والمنعة، حتى أن البلدان المستقلة من احتلالات سايكس بيكو لما تزل تتخبط في مساراتها وأدائها المعرفي/ الثقافي داخلة في دورات عنف همجية ودورية، معطية المبرر الأخلاقي للانتداب كفعل خيري، وكقوة قادرة على لجم الانتحار الذاتي أو تنظيمه على الأقل.
ربما كان الاستعمار واحداً من أهم وأقسى الدروس في حياة الشعوب، وربما كان الأكثر فائدة معرفياً، خصوصاً على الصعيد الحقوقي، فهو ومقاومته قائمان تماماً على المفاهيم الحقوقية، أي بين كسرها وإعادتها لنصابها حسب المقتضيات الحقوقية للعصر، حيث تواجه الإرادة القوة الغاشمة، محتكمة إلى هذا المنطق المعلن، للحصول على حق المقاومة، وهو ما أقرته جميع الهيئات الحقوقية العالمية، وهذا ما يتطلب الانتقال من حالة حقوقية ماضية وبائدة، إلى حالة حقوقية مواكبة للبيئة العالمية التي تتبنى السباق العالمي التنافسي الناتج عن فيضان المعرفة وتحويلها قوة فاعلة على الأرض، ومن هذه الثنائية يبدو الوعي وأي وعي غير مترافق مع إنتاج ما هو وعي، أما زائف أو وعي خائن، ومن هنا تبدو الاستقلالات الوطنية كناتج عن وعي ما، أو مؤسسة عليه هي استقلالات زائفة، فهي لم تستطع خلال سيرورتها السايكسبيكوية (أي في النصف الثاني من زمن المعاهدة المتفق عليه) من إنتاج أي منتج يساعد على المنعة (ناهيك عن الشبع) حتى ولو كانت مداخيلها الاقتصادية هائلة، فهي وبشكل تأسيسي لم تقم بإنتاج أي مجتمع واضح ومعلن الحقوق، كبنية أساسية لمقاومة الاستعمار أو الانتداب أو الاستثمار، ولم تفرز أي "دولة" مخلصة لعقد وجودها، (حتى لو كانت هذه الدولة مجرد جهاز سلطوي مفرغ من مسؤوليته الحقوقية)، ولم تقم أية دولة بإنجاز معرفي قابل للاستثمار وذي جدوى يذكر، كما أنها لم تستطع أن تشارك في السوق العالمية المتنافسة إلا بصفة مستهلك..الخ، لتبدو هذه الاستقلالات والاحتفاء بها، كناتج للمقاومة المؤسسة ثقافياً على الشرعية التراثية في دحر الغزو ليتبلور على أساسها كل "فكر مقاوم"، في تخييب شامت لكل النهضويين الذين يرون في ثقافة كهذه انتكاساً لمفهوم الاستقلال بمعناه المعاصر عبر استشراف نتائج هذا النوع من الثقافة (والذي أشرنا إليه أعلاه) الذي سوف يودي إلى مهالك لا مناص منها.
ربما لم يسع الاستعمار بعد (يالطا) للحفاظ على مفاعيل سايكس بيكو الجغرافية (من تقسيم واحتلالات)، كما لم تعلن فرنسا وانكلترا وروسيا اهتمامها بالإبقاء على هذه المفاعيل، وعدم الاحتفاظ هذا هو أحد معاني الاستقلالات على أية حال، ولكن الاحتلالات والتجزئة لما تزل موجودة ومستمرة لا بل مرشحة إلى المزيد من التقسيم والاحتلالات، على الرغم من كمية التأكيدات في الاحتفالات الوطنية والدينية وغيرها، إنه قد تمّ رد الغزو والانتصار عليه على صورة دحر آخر جندي أجنبي عن الأراضي، لا بل ورد الصاع صاعين كي تشفى الصدور فقط، في افغانستان والشيشان وكوسوفو الخ بغزو "مماثل" هو استمرار معرفي وثقافي للمقاومة التي أخرجت احتلالات سايكس بيكو ومستمرة بالثأر من المعتدي الذي سولت له نفسه (وليس مصالحه) الاعتداء على هذه البقاع المقدسة، وما زالت هذه "الدول" ترفل بالاعتراف في أروقة (الأمم المتحدة /يالطا) متهمة الغرب بالتآمر واستمرار التآمر واستمرار استمرار التآمر، على أساس أنها "دول" ذات سيادة ناتجة عن استقلال ودحر أجنبي، أي أن أمرها بيدها نظرياً وعملياً، ولها أن تضع من الخطط والتوجهات والسياسات ما يثبت ذلك من جهة، وما يجعلها ذات مكانة من جهة ثانية، وهذا من أبسط مقومات الاستقلال، ومع أن هذه "الدول" قد وعدت بوضع هذه الخطط موضع التنفيذ، وحصلت على الصلاحيات العادية والاستثنائية كافة، ولكن أين نتائج هذه الخطط وتلك السياسات؟ فعلى الرغم من مرور وقت على حدوث الاستقلال ما يساوي الزمن الذي قضاه المحتل في هذه البلاد وأكثر، وعلى الرغم من انتشار العلوم والمعارف والتكنولوجيات بحكم تكوينها الإنساني، وعلى الرغم من "عبور" الأموال اللازمة لهذه الخطط عبر هذه "الدول"، ولكن الاستقلال لم يصبح ناجزاً ولا التجزئة تغيّر شكلها، وظلت شعارات التنمية والتحرير والوحدة هي نفسها، بانتداب أو من دونه، تدور حول نفسها ملتهمة ذاتها وإمكانياتها دون تحقيق شيء يذكر، وها قد دار الزمن دورته، ولما تزل الثقافة ذاتها تعيد إنتاج نفسها بمظاهر وأشكال مختلفة خضوعاً لمقتضيات الاستهلاك، الدور الذي حدّده لها الاستعمار ولما يزل.
في المنظر العام الحالي لهذه البلدان التي لم تتحوّل إلى أوطان بفعل ثقافة المعرفة، بل تبدو وكأنها بحاجة إلى فعل خيري (انتدابي) يضعها على بداية طريق صحيح، ولكن ما الذي يضمن ألا تعود إلى ممارسة ثقافة الجهل، لتقوّض نفسها وهي تسعى إلى استقلال لا تصدقه هي نفسها، في سعي محموم إلى تدعيمه بانتداب جديد، فسايكس بيكو انتهت عملياً في يالطا، ولكنها استمرت بقوة "المجتمعات" الذاتية. وها هما السيدان سايكس وبيكو بحلتهما الجديدتين، يتصافحان من جديد ضاحكين من ذلك المغفل الذي اكتشف أنه حصل على مئة صفعة…. على حين غرّة.