عكست الأزمة على قطاع الثقافة في سورية أثراً سلبياً فنصف كتابها غادروا البلاد وآخرون اعتزلوا الكتابة وأغلق عدد كبير من دور السينما والمراكز الثقافية والمسارح وأصبحت النشاطات الثقافية فقيرة بكل جوانبها في سورية.
وعن واقع المسرح في سورية تحدث الكاتب الصحافي سامر محمد اسماعيل من خلال حوار أجرته معه "تحولات":
الدراما يجب أن تكون حاضرة وبقوة، وأخذ النص السينمائي أو المسرحي أو الأدبي إلى مناخات شعرية لا يعني إطلاقاً التخلي عن الدراما، سوفوكليس وشكسبير وراسين وأحمد شوقي وممدوح عدوان كانوا شعراء، لكنهم كتبوا للمسرح أهم التراجيديات وأجمل النصوص، ما قصدته تماماً من المستويات الشعرية للنص ليس إلغاء درامية النص، لكن الدراما هنا يجب أن تكون قادرة على فهم الكائن الإنساني في كنه وجوده، في علاقتنا مع الآخر، ولهذا ليس مطلوباً مسرحيات شعرية أو سينما شعرية، المطلوب هو قدرة النص على أن يكون جديداً في كل مرة تتم العودة إليه، وهذا بالضرورة يتطلب خبرة عالية في تطويع الحدث الدرامي بجعله حدثاً استثنائياً، حدثاً بعيداً عن المعالجة التلفزيونية، فالشخصية المكتوبة للمسرح والسينما يجب أن تكون شخصيات استثنائية، لا مجرد أدوار وظائفية.
مسرحية "ليلي داخلي" التي قمت أعتقد أولاً أن المشكلة هي في الفكرة القديمة عن الكتابة المسرحية التي عززتها النصوص المترجمة بشكل سيئ ساهمت بنوع هذياني يلفه الهذر والاستهلال، البعض يظن أن كتابة مسرحية هي ذاتها كتابة نص مسرحي، وهذا سوء فهم مزمن، فكتابة المسرح تحتاج إلى دراية حقيقية بالفن المسرحي، لا كتابة نصوص أدبية جافة ومريضة، كتابة المسرح هي كتابة للخشبة، هي كتابة لا يمكن الخلاص لها إلا في زمن البروفة التي أقوم مع فرق العمل على إنجازها على خشبة مسرح القباني، زمن التخلص من النبرة الأدبية التي لا تمّت للفن المسرحي بصلة، ولهذا تجد أن سعد الله ونوس مثلاً لم يكن يمانع في تعريض نصه للكثير من التعديلات وإعدادات المخرج وفريق العمل، النص المسرحي الأدبي لا علاقة له بنص الكتابة للممثل، هذا شيء آخر تماماً، ولهذا نحتاج اليوم في مسرحنا العربي ما يشبه ورشات إبداعية، فرق مسرحية تعمل على تطوير مسوداتها للانتقال من الصيغة شبه الأدبية إلى تقديم نصوص ذات حمولات إخراجية حقيقية، فالنص المسرحي هو قبل كل شيء تصور دقيق للأفعال وللشخصيات وللفضاء يتم تطويره من الكتابة الأدبية الخرساء إلى مادة درامية تضج بالصراع والحركة، حيث يساهم في ذلك كامل فريق العمل وفق مبدأ التأمل الجماعي نحو "الانعتاق من الالتصاق الأحمق بالنص" كما يسميها أنطونان آرتو.
في مسرحيتي "ليلي داخلي" قمتُ بإنجاز النص الراهن السوري عبر مسرحية ماركيز:
النص الذي كتبه صاحب "مئة عام من العزلة" هو النص المسرحي الوحيد الذي أنجزه ماركيز للخشبة، لكنه نص رائع وخاص جداً، قمت بإعداده بما يتناسب مع الحدث السوري، ليكون بمثابة احتجاج علني على العنف، على القتل، على براعة النخب الانتهازية عبر مونولوج تلقيه امرأة في عيد زواجها العاشر على زوجها المثقف، زوجها الذي ينتمي بقوة لعالم النخبة، والذي يمزج بخبث بين طبقة رجال الأعمال وصفقات البزنس وتبييض الأموال والنجومية التلفزيونية من جهة، وبين طبقة الإنتلجنسيا، هي خطبة لاذعة بلهجة شامية بيضاء، وقفة صراحة مع الذات السورية التي شبعت دماءً وفساداً وتهميشاً للآخر، وأوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم، ولذلك أحاول مع الممثلة روبين عيسى والروائي خليل صويلح تقديم مادة غنية على الخشبة عبر معطيات معاصرة يكون فيها المسرح وجهاً لوجه مع السينما والفيديو والفوتوغراف والإنترنت، عناصر متعددة أستخدمها هنا لتحقيق العرض، بعيداً عن استعمال هذه المعطيات كعناصر تزيينية، بل لتكون السينما والصورة في جوهر بنية العرض المسرحي.
لطالما قلت إن المسرح هو الدراما..
التلفزيون شيء آخر لكونه يقدم دائماً بصيغ ترفيهية بغية اعتقال الناس في بيوتها، المسرح ظاهرة اجتماعية ووسيلة من وسائل الاتصال الجماهيري، وهذا الاتصال لا يمكن أن يتم إلا عبر هذا البرلمان الشعبي الحر، ليس هناك أزمة مسرح في سورية، بل هناك أزمة تشخيص أزمة، بمعنى ثمة تركيز إعلامي جاهل على أن موديل المسرح أو المشتغلين في المسرح في أزمة لا خلاص منها، وهذا عائد إلى شكل السلطة العربية وطريقتها في التعامل مع المسرح كفن يدعو للاجتماع والتجمع، أي للحوار، للجدل، للسؤال، وهذا ما تخاف منه السلطة وتدفعه دائماً إلى أن يكون في أزمة، هناك تجارب جديدة هامة في سوريا لم تلقَ التشجيع الكافي، ثم أنه هناك تركيز على تقديم النصوص المترجمة من دون الالتفات إلى الراهن، ومن دون العمل على إعداد إنشاء درامي للنصوص المنقولة، وهذا بدوره يلغي أن الجمهور في النهاية كائن تاريخي وجغرافي، مما يدفع إلى "تطفيش" المتفرج، الجمهور بحاجة إلى أن يشاهد نفسه على الخشبة، يشاهد ما يعنيه لا أن يظل يشاهد عطيل يقتل ديزديمونة من دون أن يتدخل ولو لمرة، بالله عليك كيف لجمهور سورية 2012 أن يتعاطف مع مسرحيات من عصر النهضة، المطلوب اليوم هو مسرح طازج وراهن يحاكي هموم الناس، يتكلم بلغتهم لا يتفاصح عليهم.
هل ينضوي "ليلي داخلي" في سياق الأعمال المسرحية التي قدمتها مع اليوم؟ اجاب:
بعد انقضاء أكثر من خمسة عشر عاماً على فرقتي المسرحية "أنصار المسرح" التي كانت تجوب المحافظات السورية لتقديم عروضها في القرى النائية وعلى خشبات ومسارح المدن، أجد أن النقد المسرحي يوفر لي مساحة جديدة للتفكير؛ مساحة أظنها تنتهي اليوم إلى العودة إلى التأليف والإخراج المسرحي، خاصةً أنني أرى أن هناك مجالاً اليوم لبزوغ طليعة ثقافية جديدة في المسرح والسينما والشعر.. النقد المسرحي دائماً يعني لي كتابة للنص من جديد وتقديم رؤية إخراجية لما كان يمكن أن يكون عليه العرض الذي أنقده، إضافةً إلى أن معظم خريجي قسم النقد المسرحي ـ من أسف ـ لم يتصدوا لهذه المهمة.. أنا لم أدرس النقد، كما تعرف، أنا خريج قسم الصحافة في جامعة دمشق، لكنني لا أجد مندوحة من تعزيز أي نشاط مسرحي سوري، فعلى مدى السنوات العشر الأخيرة تصدّيت لكتابة نصوص نقدية عن عشرات الأعمال المسرحية، في الوقت الذي كان فيه من يتخرّج في قسم النقد، أو معظمهم، يذهبون إلى كتابة التلفزيون.. حتى أن معظمهم لا يحضرون مسرحاً، فمعظمهم ـ من أسف ـ دخل إلى المعهد ليشتغل في التلفزيون.. اليوم نحتاج إلى الكتابة ضد البروشور؛ إنها الكتابة المعقمة من التدليس؛ كتابة قادرة على مواكبة التجربة المسرحية السورية.
لا أدّعي أنني أستطيع القيام بهذه المهمة بمفردي.. لكنني من خلال إشرافي على ملفّ المسرح في جريدة «شرفات الشام» التابعة إلى وزارة الثقافة، استطعت أن أجمع حولي العديد من الأقلام النقدية الجادة التي رافقتني منذ خمس سنوات في تحرير ملف المسرح بقصد مواكبة الحراك المسرحي السوري، ليس في دمشق وحدها؛ بل في كامل المحافظات السورية.. حلمي اليوم هو طباعة كتابي عن المسرح السوري المعاصر، الذي يحمل عنوان "الكتابة ضد البروشور" هذا الكتاب الذي حققته عن حوالي ثلاثمئة عرض مسرحي سوري معاصر، بالإضافة إلى أرشيف خاص بصور هذه العروض.
لقد استطعت مع فرقتي المسرحية الجديدة "تجمع أشجار المسرحي" أن نتفوق على الظروف القاهرة التي تمر بها سورية، فقدمنا المسرحية لثلاثة اسابيع متتالية على مسرح القباني بدمشق في آذار 2013 كما قدمناها على المسرح القومي في اللاذقية لمدة ستة أيام متتالية وبحضور جماهيري كبير ورشح العرض للمشاركة في الدورة السادسة لمهرجان قرطاج المسرحي بتونس حيث قدمنا هناك عرضين الأول بجنوب تونس في مدينة "مدنين" والثاني على مسرح الحمراء في العاصمة تونس، حيث لاقى عرض ليلي داخلي احتفاء منقطع النظير من الجمهور التونسي الحبيب والذواقة.
كل هذه المشاركات لهذا العرض لم تكن لولا إيمان فرقة أشجار أن المسرح عصي على الهزيمة وأنه يشكل إرادة السوريين وإصرارهم على قيد الحياة.
سامر اسماعيل: أزمة تشخيص في المسرح السوري
102
المقالة السابقة