177
المقدّمة:
كثيرة هي الدراسات والأبحاث التي تناولت تجربة بدر شاكر السياب الشعرية، وتوقفت بإسهاب أمام القفزة النوعية التي أحدثها في مجال التجديد في الشعر العربي الحديث على مستوى القصيدة في الشكل والمضمون.
إن طبيعة السياب المبدعة جعلت نصّه قابلًا للتأويل والتحليل والتأمل، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالرمز والأسطورة، هذه الأسطورة التي لاقت رواجًا ملفتًا في شعرنا العربي المعاصر نتيجة لتأثر شعراء الحداثة بمجموعة من الشعراء الغربيين. لقد انعكس هذا الأمر على شعراء الحداثة، فبادروا إلى توظيف الأسطورة في نصوصهم وعبّروا عن وجدانهم وأخرجوا رؤيتهم إلى العالم، ومنهم: السياب، وأدونيس، وصلاح عبد الصبور، ومحمود درويش، وخليل حاوي… وغيرهم من شعراء الحداثة الذين اتّكؤوا على الرمز والبعد الأسطوري "وليس غريبًا أن يستخدم الشاعر الرموز والأساطير في شعره، فالعلاقة القديمة بينهما وبين الشعر علاقة ترشح لهذا الاستخدام"(1).
وتُعرّف الأسطورة بأنها "الشكل الرمزي الذي تعبّر به الثقافة عما هو بالنسبة إليها حقائق وجودية وكونية".
كما يعرفها كامبل بأنها "الفتحة السحرية التي تنصبّ فيها طاقات الكون، التي لا تنفد إلى مظاهر الحضارة الإنسانية"(2).
إذًا، فالأساطير ورموزها إحدى مرجعيات الشاعر الثقافية والمعرفية. إن شعراء الحداثة حشدوا الكثير من الرموز الأسطورية في نصوصهم الشعرية، ومنهم بدر شاكر السياب موضوع دراستنا. لقد ارتكز السياب على تلك الرموز، وضمّن نصوصه الكثير منها. ومن يقرأ قصيدة (المومس العمياء)، يجد ذلك البعد واضحًا جليًا.
أحفاد "أوديب" الضرير ووارثوه المبصرون.
(جوكست) أرملة كأمسِ، وباب "طيبة" ما يزال
يُلقي "أبو الهول" الرهيب عليه، من رعبٍ ظلال
والموت يلهث في سؤال
باقٍ كما كان السؤال، ومات معناه القديم
من طول ما اهترأ الجواب على الشفاه.(3)
لن أقف كثيرًا في سياق هذه الدراسة عند البعد الأسطوري في شعر السياب، وسأشير بإيجاز إليه عندما تقتضي الضرورة، وسوف أعالج رموزًا محدّدة استوقفتني لأن الشاعر كررها مرارًا في نصوصه الشعرية.
من البدهي ألا يستطيع الإنسان من خلال دراسة موجزة أن يحيط بجميع الرموز الطبيعية التي ذكرها السياب في شعره، غير أن هناك رموزًا بارزة اعتمدها السياب وأضحت بمثابة اللازمة التي ترافق مجموعة غير قليلة من قصائده. الأمر الذي يستوقف الدارس، ويجعله يستكشف أبعادها، ويستبطن دلالاتها، ويفتش عن الأسباب التي جعلته يعتمدها بشكل متكرر، وخصوصًا أن السياب من الشعراء الرمزيين الذين تركوا بصمتهم في الشعر العربي الحديث، وكانت لرموزه دلالات عميقة استطاع من خلالها إخراج رؤيته إلى العالم بالصورة التي أرادها.
اتخذ السياب من عناصر الطبيعة مادة أساسية ارتكزت عليها نصوصه الشعرية، وأضحت الطبيعة بالنسبة للشاعر الأليف الذي يأنس إليه، والأنيس الذي يغذي خيال الذات الشاعرة، وصارت العلاقة بينه وبينها علاقة تكامل واندماج، فجعل من عناصرها مادة تعبير، وضمّن تلك العناصر أبعادًا رمزية موحية، غير أن هناك بعض الرموز التي حجزت لها مكانًا متميزًا في قصائده جعلت المتلقي يقف أمامها متأملًا محللًا باحثًا عن دلالاتها كرمز الماء، والليل، والنخيل.
ولأن شعر السياب بحر عميق الأغوار، ولا تكتنفه دراسة موجزة، فسوف أقتصر على تلك الرموز التي ذكرت، محاولًا اكتناه الدلالات والأبعاد التي أرادها الشاعر.
وعندما أتناول رمز الماء في شعر السياب فمن الطبيعي أن أقف عند مفردات المطر، والبحر، والنهر، وموقع هذه المفردات ورمزيتها في نص السياب الشعري، والغاية التي كان يصبو إليها انطلاقًا من تلك الرموز.
أولًا- رموز الطبيعة:
تماهى السياب مع الطبيعة، واستخدم عناصرها في نصه الشعري مضيفًا أبعادًا إيحائية إلى تلك الرموز ومركزًا فيها شحناته العاطفية والفكرية والشعورية، راسمًا صورةً لشخصيته الإنسانية من جهة، وباثًّا الحيوية في نصه من جهة أخرى. فالرمز الشخصي "هو ذلك الرمز الذي يبتكره الشاعر ابتكارًا محضًا أو يقتلعه من حائطه الأوّل، أو من منبته الأساس ليفرغه جزئيًا أو كليًا من شحنته الأولى، أو ميراثه الأصلي من الدلالة، ثم يشحنه بشحنة شخصية، أو مدلول ذاتي"(4).
وإذا كان السياب قد أكثر من رمز الموت والبعث في ديوانه، إلاّ أن رموز الطبيعة كان لها الحضور الكثيف، فقد استدعى تلك الرموز وبث فيها رؤاه وأفكاره مثبتًا قدرة فائقة على تمثل أبعادها الدلالية والتخييلية والجمالية، فحولها إلى مركز إشعاعات إيحائية أغنت القصيدة وعمقت المعنى، وجعلت المتلقي يندفع وراء التأويل والتحليل. من هنا نجد كيف حظيت لفظة (المطر) بتفسيرات وتأويلات عديدة لدى النقّاد، فبعضهم وجد فيها الثورة، والبعض الآخر اعتبرها رمزًا للانبعاث الخصب والنماء الذي هو رمز (لتموز) تارة، و(لعشتار) تارة أخرى.
لقد أحسن السياب استخدام الرمز وتوظيفه خصوصًا عندما اتكأ على الصورة المجازية لخدمة رموزه، فأتت متسمة بجمالية وإيحائية عميقة "وعندما يستخدم الشاعر كلمات مثل «البحر، الريح، القمر، النجم..» فإنه يستخدم عندئذٍ كلمات ذات دلالة رمزية، وربما كانت بعض هذه الدلالات –على الأقل- مشتركة بين معظم الناس، ولكن استخدامه لها لن يكون له قوة التأثير الشعري ما لم يحسن الشاعر استغلال العلاقات أو الأبعاد القديمة لهذا الرمز، وما لم يضف إلى ذلك أبعادًا جديدة هي من كشفه الخاص"(5).
ثانيًا- رمز الماء:
الماء مصدر الحياة وعمادها، والأساس في مقومات العيش على كوكبنا الأرضي لكل الكائنات الحية، وهل يمكن للحياة أن تستمر بلا وجود الماء؟ وقد ورد ذكر الماء في القرآن الكريم بعددٍ غير قليل من الآيات، وبأنواع متعدّدة، ولكل نوع طبيعته الخاصة ومنها: المغيض (أي الذي نزل في الأرض وغاب). ومنها الصديد (وهو شراب أهل جنهم) ومنها المهل «وإن يستغيثوا يُغاثوا بماءٍ كالمُهْلِ يشوي الوجوه"(6). والحميم (أي الساخن) والمنهمر (أي المتدفق بغزارة) وماء الأنهار والينابيع، الثجاج (أي السيل) وغيرها من الأنواع. أما الآية القرآنية التي تلخص الحياة بوجود الماء، فهي الآية التي وردت في سورة الأنبياء «وَجَعَلْنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ أفلا يؤمنون»(7).
إذًا، فالماء عنوان الحياة، لذلك كان من البدهي أن نجد ذكر الماء في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي وحتى عصرنا الحديث لأن الماء عنوان الحياة والباعث على الجمال وركيزة الطبيعة الأساسية.
لقد اتسم الشعر العربي المعاصر بحضور ملفت لمفهوم "الماء" ضمن مفردات القصيدة، بوصفه مكونًا طبيعيًا يؤثر في وجدان الشاعر.
ومن خلال القصيدة تتضح علاقته الجمالية بالعديد من الدلالات والمفاهيم والأبعاد حسب القصد الذي يبتغيه الشاعر والرؤية التي يريد إخراجها إلى العالم والرمز الذي يقصده من خلال الماء، وكان السياب من الشعراء البارزين الذين وظَّفوا رمز الماء في قصائدهم، وبرزت جماليات هذا الرمز في شعره من حيث كونه مطرًا حينًا وبحرًا، أو نهرًا حينًا آخر.
يعتبر السياب من الشعراء الذين أكثروا من استخدام رمز الماء في شعرهم وربطه بالحياة والأمل والثورة والانبعاث والخصب الذي يمحو الجدب. كان تعامل السياب مع الماء (المطر) تعاملًا استثنائيًا كونه رمزًا سحريًا يدل على الحياة والأمل والانبعاث والتمرّد والمستقبل الذي يصبو إليه.
علاقة السياب مع الماء لا ترتبط بدلالة محدّدة، بل هي مفتوحة على فضاءات واسعة وإذا كان البعد الأسطوري قد فرض حضورهُ في قصيدته "أنشودة المطر" فإن الرمز كان ينقل المفردة "مطر" من دلالة إلى أخرى، لم يكن هدف السياب التموضع في إطار الأسطورة ضمن هذه القصيدة في موضع المثقف العالم بأساطير الأمم وميثولوجياتها، من خلال استحضار الأساطير "فبعد أن استفحل الجفاف وحل البوار في الخريف والشتاء بسبب تمزيق الخنزير البري لأدونيس، يعود هذا الأخير إلى الحبيبة أفروديت (أو عشتروت) فيخصبها ويزرع فيها بذرة الحياة، فتورق الأغصان وتبتسم الأزهار، وينبعث الربيع في أرجاء الطبيعة فتحل البركة ويعم الخير"(8) بل كان هدفه إضرام الثورة في ذات المتلقي، وبالتحديد الإنسان العراقي وحثّه على التمرّد ورفض الظلم والانبعاث من رقاده، وعليه أن يكون السيل الجارف الذي يرمي بعروش الطغاة والظالمين إلى قعر الهاوية.
قلنا إن الماء اتخذ دلالات عديدة ومتغيرة، لكنها تلتقي على هدف مركزي يتمثل بانتظار الغد الذي يحمل الأمل.
وبالعودة إلى رمز الماء في قصيدة (أنشودة المطر) نجد أن الشاعر ربطه بالحزن حين قال:
أتعلمين أيَّ حُزنٍ يبعث المطرْ؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمرْ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياعْ؟
بلا انتهاء –كالدَّم المراق- كالجياعْ،
كالحب، كالأطفال، كالموتى- هو المطرْ!(9)
لقد وضعنا الشاعر أمام دلالتين مختلفتين، واتكأ على المستوى البياني المتمثل بالاستعارة والتشبيه. الدلالة الأولى دلالة الحزن التي انفتحت على بعدٍ دلالي أكثر عمقًا في الصورة التي تجسدت في نشيج المزاريب والتي فرضت إيحاءً بعيد الغور، عميق التأثير في ذات المتلقي حين استعار للمزاريب لازمة من لوازم الإنسان وهي النشيج الذي يشير إلى البكاء أو التنهّد بأنفاس سريعة وأسندها إلى المزاريب. علمًا أن للمزاريب إيقاعًا يجسّد الخير والحياة لأنه أداة تصريف للمطر. أما عند الشاعر فحوَّله إلى أداة معاكسة يصدر عنها الأنين والبكاء. إنه المناخ الحزين بفعل التحول والخروج الكلي عن النسق الموضوعي، فبات المزراب رمزًا للبكاء الناجم عن الحزن والأسى وهو رمز أسس لفكرة أوحت لنا بصورة رسمها الشاعر للمزاريب "الشعر تفكير بالصورة"(10).
وهذا الجاحظ يعتبر مسألة التصوير في الشعر بقوله: "إنما الشعر صناعة وضرب من ضروب النسج وجنس من التصوير"(11) لقد صور لنا السياب حجم الحزن المفضي إلى النشيج والمؤدي إلى الضياع. هذه الدلالة الأولى للمطر.
أما الدلالة الثانية فاستعان فيها بالتشبيه ليظهر بأن الماء (المطر) كالحرب، كالأطفال. الحبّ رمز للحياة والسعادة والأمل، والأطفال رمز للتجدد والمستقبل الواعد. غير أن المقارنة تكمن في التشبيه الثالث (كالموت). هنا يتوقف القارئ مليًا أمام هذه الصورة ليسأل، ما الرابط بين الحب والأطفال، بين السعادة والمستقبل، برابطة الموت؟ ولماذا استحضر هذا التشبه؟ ماذا لو أكمل البيت بعبارة (كالأمل)؟ أعتقد بأن صورة الحزن هي الماثلة في خلده، وأن الفرح ومضات خُلَّبيّة تزول سريعًا تتلاشى.
كأن صيادًا حزينًا يجمع الشِّباكْ
ويلعن المياه والقَدَرْ
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ.
مطر…
مطر…
مطر…
عودة إلى الحزن في رمز (المطر) جسّده الصياد هذه المرّة، بل وانبرى يلعن المياه والقدر. أهو الصياد الذي يقوم بفعل اللعن؟ أم الشاعر نفسه، ولكنه رمز إلى الصياد من خلال هذه الصورة. ذلك الصياد الذي يجسّد –إلى جانب الحزن- التشاؤم في صبِّ لعناته على القدر. تجدر الإشارة إلى أنه في المفهوم الإسلامي وفي سائر الديانات لا يجوز للإنسان أن يلعن القدر فهو أمر من الله، وقد ورد في القرآن الكريم: «وكان أمرُ الله قدَرًا مقدورًا»(11) وكأن المقدس قد تراخى في مفهوم الحداثة الشعرية العربية، وقد تحدث كمال أبو ديب في هذا الاتجاه عندما شخص الحداثة: «إنها انقطاع معرفي! ذلك أن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر، والفكر العلماني، وكون الإنسان مركز الوجود، وكون الشعب الخاضع للسلطة مدار النّشاط الفنّي، وكون الداخل مصدر المعرفة اليقينيّة، إذا كان ثمة معرفة يقينيّة، وكون الفن خلقًا لواقع جديد"(12).
لقد سعى السياب إلى إطلاق صرخةٍ مقاومة بوجه الظلم والاستبداد، وكانت الرموز وسيلته للتعبير عن غضبه وإخراج رؤيته إلى العالم لجعل المتلقي يتفاعل معه كي لا يبقى في مرحلة الانتظار السلبي لعملية التغيير والخروج من الواقع المتردي الذي ينوء فيه الشعب تحت ثقل الظلم والطغيان. وللخروج من السلبية المذكورة كرر لفظة المطر وضمنها رؤيته ورغبته. ولو تعمقنا أكثر في الدلالة للمسنا في خباياها نوعًا من التقريع المغلّف بالإيحاء التضميني للفظة المطر، ذلك التقريع الموجه إلى الشعب الذي يرضى بالذل ولا يحرك ساكنًا ويسعى إلى التحرّر الذاتي وإذا كان بعض الدارسين والنقاد قد وجدوا في ذلك التكرار نوعًا من الإيقاع الذي أضفى جرسًا موسيقيًا على القصيدة، فإن الواقع يحتم علينا أن نلتفت إلى البعد الأوّل أيضًا لأن التكرار الذي حملته العبارة موجّه إلى قارئ لا يحرّك ساكنًا تجاه القضايا الوطنية التي تحتم عليه الحراك والتغيير والثورة على الخنوع. لذلك نرى السياب يوظف رمز الماء (المطر) في ذلك التغيير الذي يسعى إليه ونلمس في ذلك التوظيف مرارة في نفس الشاعر لعدم حصول الحراك المجدي الذي يؤدي إلى النتيجة المرجوة، فانبرى يوظف عناصرها الطبيعية ليس تنفيسًا للكرب فحسب، بل استثارة للهمم ورهانًا على المستقبل الذي لا بد أن يحمل الأمل فجاء هذا الحوار والتركيز على المطر. يقول إحسان عباس: "إن المطر لا بد أن يلد عشبًا، وشبعًا وريًّا، وهذا الشبع والريّ من حق الذين يصنعون الحياة بدمائهم وليس من حق الغربان والجراد والأفاعي"(13).
وفي العراق جوعْ(14)
وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجَرادْ
وتطحن الشوّان والحجرْ
رحىً تدور في الحقول… حولها بشرْ
مطرْ…
مطرْ…
مطرْ…
هذا المقطع يرسم الهمّ الذي يحمله الشاعر في داخله تجاه وطنه العراق وشعبه الذي يكدح وتنتهب ثرواته، وتسرق خيراته وهو يقف بلا حراك إيجابي يؤدّي إلى الثورة والتغيير. الغلال وفيرة والطبيعة تجود على أبنائها الكادحين فيأتي الاستبداد والإقطاع والنفوذ ليسيطر على ذلك كله ويبقى الفلاح جائعًا لأن (الجراد) يقضي على الأخضر واليابس، ذلك الجراد الذي يجسّد الطبقة المستأثرة بالسلطة والتي تفرض الاستبداد على المواطن وتنهب خيراته، لذلك يأتي تكرار المطر لحث الشعب على انتزاع حريّته وحفظ حقوقه والنضال من أجل حياة خالية من الجور والاستبداد مفعمة بالحرية.
وكما تضمن المطر رمز الثورة كذلك ضمّنه دلالة (الأمل) بغد جديد مشرق وتمناه جسرًا للعبور من الجمود إلى الحركة ومن الموت إلى الحياة.
في كل قطرةٍ من المطرْ(15)
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ.
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراةْ
وكلّ قطرةٍ تُراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسم جديدْ
أو حَلْمةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياةْ!
مطرْ…
مطرْ…
مطرْ…
لقد اختصر هذا المقطع واقع العراق، وعبّر عن رؤية الشاعر. انطلاقًا من مجموعة من الدلالات تآزرت مع بعضها البعض لترفد (لفظة) مطر في نهاية المطاف بشحنة معبّرة، وتكوّن بنية دلالية كبرى ببعدها الرمزي. إن أجنّة الزهر، ودمعة الجياع والعراة، ودم العبيد، دلالات تختصر الواقع وترسم بإيحائيتها صورة حزينة وموجعة لواقع الشعب والوطن، وتعبّر عن تاريخ من المرارة والعذاب، ذلك العذاب الذي ينتظر الأجيال القادمة كي تقوم بالتغيير، ونجد في فم الوليد وعالم الغد الفتي واهب الحياة دلالة أكيدة على الأمل المشرق الذي يرفع المعاناة عن كاهل الإنسان المعذب في وطن السياب.
أشرت في سياق البحث إلى أن اعتماد السياب على رمز المطر حمل نوعًا من اللوم والتقريع لكل من لم يثر على الظلم ورضي بالخنوع، وهذا ما نجده في قصيدة له بعنوان "مدينة بلا مطر"(16)
سحائبٌ مرعداتٌ مبرقاتٌ دون إمطار
قضينا العامَ، بعد العام، بعد العام، نرعاها،
وريح تشبه الإعصار، لا مرَّت كإعصار
ولا هدأت ننام ونستفيق ونحن نخشاها.
إنه يبحث عن حراك نافع وعمل مثمر ولكن دون نتيجة، لقد حملت عبارة المطر دلالة على عدم الإيجابية ورمزت إلى الخنوع، فالبيت الأول أوحى بهذه الدلالة وأكد رمزية الخنوع في عبارة (أمطار) من خلال تلك السحب التي تضمّنت الرعد والبرق الخلّبي. ضجيج وضوضاء بلا فائدة، ليأتي البيت الثاني ويؤكد الدلالة عندما قال: قضينا العام، بعد العام، بعد العام نرعاها. فهل أدت تلك الرعاية الفائدة المرجوة؟ لو كان الأمر كذلك لما كنا أمام هذا الخطاب في هذا النص الشعري.
ولكن مرَّت الأعوام، كثيرًا ما حسبناها،(17)
بلا مطرٍ… ولو قطرَه
ولا زهرٍ.. ولو زهرة.
وكأننا أمام عقم أصاب البلاد، وتخدير عمّ العباد، (بلا مطرٍ) ولو قطرة. هنا يُظهِرُ رمزُ المطر بعدًا جديدًا، فهو لا يشير إلى الحياة والخصب والثورة، بل يرسم لنا صورة سلبية للواقع، فالأمل ما زال بعيدًا وإرادة الحياة ما زالت في سبات والليل طويل قاتم والقيد لم يتحطم، فمن أين ستأتي الحرية وينشق الدجى وتتفتح الأزهار التي تحمل ضوع الكرامة؟
إن هذا الرمز تضمّن دلالات متحركة وغير ثابتة، فتارة نجد السياب يحمله معنى الحياة والثورة، والتجدد، والانبعاث عندما كان يستشعر حراكًا يغير الواقع، وتارة ينسب إليه دلالة الخنوع والبعد السلبي عندما لا يلمس إرادة حقيقة تسعى إلى التغيير والتخلص من المعاناة.
على رعشاتِ ماءٍ، قطرةٌ همستْ بها نسمة(18)
لنعلم أن بابل سوف تغسَل من خطاياها.
سوف نرى هنا أن رمز الماء قد جاء بدلالة جديدة فيها بارقة أمل بالتغيير مع أنّ البيت يشير إلى شيء من الخفوت والبطء في الحراك والحركة، وقد أوحى الفعل همست بذلك. ففي الهمس خفوت وقلق، ولكنه بداية لعبور الطريق في نهاية المطاف، حتى وإن كانت الرعشات ترسم لنا واقع الماء، فإن الخطوة الأولى هي بداية الألف ميل. ثم إن الشاعر أضاف إلى البعد الأول بعدًا ثانيًا شكل نتيجة مفادها أن المطر سوف يغسل بابل ويطهرها من خطاياها، وبمعزل عن أي بعد أسطوري فرمزية العبور من حالة إلى أخرى واضحة جلية للتخلص من رجس الخطايا والوصول إلى مرحلة الطهر والإيمان بالمستقبل والإرادة التي لا بد أن تفرض التغيير بعيدًا عن مناخ الانكسارات النفسية، والغرائم المحبطة وخيبات الأمل المتكررة بحصول التغيير. وإذا كان اليأس جوًا مسيطرًا في تلك المرحلة الزمنية التي عاشها شعراء الحداثة ومنهم بدر شاكر السياب فإن التفاؤل بالأمل كان يرتسم رموزًا إيحائية تستنفر الهمم وتثير في الشعوب جذوة التمرد وإرادة التغيير.
نلاحظ أن تدفق الرمز المرتبط (بالماء)، وعناصره، وإشاراته، وتحولاته في قصائد السياب يتحول من دلالة إلى أخرى، ويرسم أطرًا متعددة المعاني تفرضها حالة الشاعر والمستوى النفسي إضافة إلى الواقع الذي يفرض حضوره في النص الشعري، وهذا ما يحتم على المتلقي التكيف مع قراءة الرمز ويستدعي التعمق في دراسة دلالاته وأبعاده على ضوء العملية الشعورية وقد أشار الدكتور عز الدين اسماعيل إلى هذه الناحية: "وينبغي أن ندرك بوضوح أن استخدام الرمز في السياق الشعري يضفي عليه طابعًا شعريًا، بمعنى أنه يكون أداة لنقل المشاعر المصاحبة للموقف وتحديد أبعاده النفسية. وفي هذا الضوء ينبغي تفهم الرمز في السياق الشعري، أي في ضوء العملية الشعورية التي تتخذ الرمز أداة وواجهة لها"(19).
من هنا نرى الرمز عند السياب يحيا حركية لا تقف عند ثبات أو معنى بذاته أو لنقل عند دلالة محورية، بل تختلف تلك الدلالات تبعًا لحالة الشاعر من جهة، والتماسًا للوظيفة التي أراد أن يحملها الرمز من جهة ثانية، ففي قصيدة له عنوانها "مدينة السندباد" نجد كيف حاور المطر وطلب منه أن يقض مضاجع العظام والثلوج…
أقِضّ يا مطر(20)
مضاجع العظام والثلوج والهباء،
مضاجع الحجر
وأنبتِ البذور، ولتفتِّح الزهر.
نجد كيف يشخص المطر ويؤنسنه عندما يخاطبه طالبًا منه أن يقض مضاجع العظام والثلوج والهباء. فالعظام موت بلا حياة، وهل يتحرك العظم بلا عصب أو دم أو إرادة؟ والثلوج صقيع وبرد بلا دفء وحرارة، ومضاجع الحجر تكمل الدلالة. إذًا، فالمطر لم يعد مجرد عنصر من عناصر الطبيعة يحمل الخير والحياة، بل تحوّل عند السياب في هذا المقطع إلى غضب عارم وسيل جارف يسعى من خلاله إلى إحداث تغيير جذري في حالة الركود، والتخلص من حالة الخنوع وزمن القهر والخوف، وعقد الآمال على الأجيال القادمة لأن الجيل الذي يعاصره الشاعر ما زال خانعًا جاثمًا مكانه كالحجر، ولا بد للمطر أن يروي بذورًا تنبت لتحمل الوعد بالغد المشرق.
إذًا، فالرمز حمّال أوجه متعددة في شعر بدر شاكر السياب، وهذا ما يكتشفه القارئ عندما يتفاعل مع النصّ الذي قدمه الشاعر وضمنه رموزه لإبراز رؤيته، فالقراءة التفاعلية عملية ضرورية وتجربة مهمة في استكناه الأبعاد التي تضمّنتها رموز السياب الطبيعية.
ومن دون هذه التجربة يظل النصّ –كما تقول لويز روز نبلات- "مجرد حبرٍ على ورق، إذ بهذه التجربة أو العملية يتحول هذا الحبر إلى رموز يحقنها القارئ بمضامين عاطفية وفكرية"(21).
من هنا تنفتح دلالات الرموز وتأويلها على مصراعيها، ويتبدّى دور القارئ في هذا المجال "فالقراءة ليست مسألة اكتشاف لما يعنيه النصّ، وإنما سيرورة اختبار لما يفعله، بنا، لكن ما "يفعله" النص بنا متعلق بما نفعله به"(22).
أما الماء في قصيدة "المعبد الغريق" فيرمز إلى التلاشي والفناء، فالغرق لا يكون إلاّ في الماء.
طواه الماء في غَلَسِ البحيرة بين أحراش مبعثرة(23)
ثم يحمل رمزًا آخر يتجلى في القهر والمنع لتصبح الطريق صعبة وشاقة وكأنه الحاجز المستحيل الذي يمنع الزمن من تخطيه.
كأن الماء في ثبج البحيرة يمنع الزّمنا
فلا يتقحم الأغوار لا يخطو إلى الغرف(24)
أما في قصيدة "النهر والموت" فيتحول المطر إلى بنية تشبيهية تشير إلى الحزن والألم، فالشاعر شبّه الدماء والدموع المنهمرة بالمطر للدلالة على الكثرة وحقل الحزن المسيطر.
أحسُّ بالدماء والدموع، كالمطر
ينضحَهُنَّ العالم الحزين(25)
ونجد في مكان آخر أن الشاعر يحول رمز المطر إلى دعوة للتضحية، فالإنسان العربي لن يعرف معنى التحرر إذا لم يبذل الدماء في سبيل ذلك.
جاء زمانٌ كان فيه البشرْ
يفرون من أبنائهم للحجر.
يا ربّ عطشى نحن. هات المطر!
روِّ العطاشى منه. روِّ الشّجر(26)
يحاول السياب أن يدخل في روع الإنسان المتعطش إلى الحرية والتحرّر ضرورة أن يسعى إلى ذلك بالثورة كي يحصل على التغيير المنشود، وإن أيّ ثورة مهرها الدماء، وإذا كان القدماء يقدّمون أبناءهم قرابين فداء للأصنام الحجرية، فإن الأولى بالشعب الرازح تحت سطوة الظلم والفقر والجهل أن يجود بالدماء قربانًا للحرية والكرامة. من هنا جاء النداء في قوله: يا رب عطشى نحن. هات المطر!. لا يتحدث الشاعر هنا عن العطش المادي إنما يختزن لفظ المطر دلالة عميقة الأغوار.
إن العطش المذكور على لسان البشر يزيد من حرارة الطلب ويجعله يقدم صورة واضحة عن المعاناة والقهر والاضطهاد الذي يكابده الشعب العراقي.
إن عملية السقاية التي يبتغيها السياب "روِّ العطاشى" عملية جراحية تنهي الألم مرة واحدة من خلال ثورة المضطهدين، يعني الجماعة التي ينتمي إليها، والمطر هنا يرمز إلى الدم الذي لا بد من إراقته على مذبح (الحرية الحمراء). الشاعر يتحدث بصيغة الجماعة (نحن) فهو ينتمي إلى هذا العالم المقهور، وينطق باسمه، ويخرج رؤيته إلى العالم من خلال نصه الشعري وجاء (المطر) ليوضح تلك الرؤية بما يختزنه من أبعاد تتبدى حين يلجأ القارئ إلى تفكيك تلك الرموز. فالشاعر جزء من ذلك النسيج. لقد انصهر مع الجماعة والرؤية التي يمتلكها عادة، فامتلكته داخل النص وعبّر من خلال نصه الشعري عن وجهة نظره إلى العالم، وهذه إحدى وظائف العمل الأدبي كما يحددها غولدمان، فالأديب عنده هو "الإنسان الذي عثر على الشكل الملائم؛ لخلق هذا العالم وتفسيره"(27).
وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى ارتباط هذا الشكل بالمجتمع وهمومه. وهذا يعني أن الرؤية التي يعبّر عنها الأديب "ليست واقعة فردية بل واقعة اجتماعية تنتمي إلى مجموعة أو إلى طبقة"(28).
إن الماء أو المطر، وكل ما يتصل به من عناصر تشير إلى وجوده أثناء القصيدة، الرمز الذي تكرر غالبًا في بعض قصائد السياب، إذ قلما لا نجد الماء وما يتصل به من عناصر في شعره. ثم إن هذا الرمز كان يحمل دلالات متغيرة يحمّلها الشاعر رؤيته وكأنه وجد في (الماء) وما يتصل به من عناصر المتنفس الذي يتنسم من خلاله عبق التحرّر الذي كان يعتبره ارتكازًا بنيويًا لأي شعب من الشعوب، فرأيناه يحمّل ذلك الرمز دلالات متحولة فالماء (المطر) هو الثورة، والانبعاث، والتضحية، والغضب، والخصب والنماء، وهو رمز لتموز تارة ولعشتار أخرى، ونجده يجسّد الحزن في بعض القصائد، وهو الأمل بالغد الآتي في مواضيع أخرى ففي قصيدة "صياح البط البري" نجد المطر عنوان الحياة في الطبيعة يرمز إلى الأمل بالغد المشرق القادم الذي يروي الشطآن اليابسة، وما تلك الشطآن إلاّ تلك النفوس المتعطشة لغيث الحرية ونميرها العذب، من تلك الطبيعة استمدّ السّياب رموزه وحوّلها إلى عناصر تتفاعل معها ذات الشاعر وتنعكس بالتالي على المتلقي العادي والقارئ الذي يحلل النص فيتفاعل معه، وهذا القارئ عند منظري التلقي لم يعد مجرد مستوعب للنص مستهلك لمعناه؛ وإنما أصبح يتضمن كونه طاقة أو قوة موجهة بانية منتجة مشكّلة للمعنى، حتى إن كثيرًا من أعمال هؤلاء لا يمكن فهمها على أن القارئ هو "المصدر النهائي للمعنى"(29) وهو عند (أدونيس) (القارئ) قد تحول إلى مبدع، إلى "شاعر" آخر ينتج في شراكة عميقة مع الشاعر، نصًا حول العالم وأشيائه عبر القراءة "ولهذا فعنده أنه" إذا كانت كتابة القصيدة قراءة للعالم، فإن قراءة هذه القصيدة كتابة لهذا العالم"(30).
في العودة إلى قصيدة "صياح البط البرّي" نتلمس في رمز المطر عنوانًا للأمل والتفاؤل.
وعند الضحى وانسكاب السماء
على الطين والعشبة اليابسة،
يشقّ إلينا غصون الهواء
صياحٌ، بكاء، غناء، نداء
يبشر شطآننا اليابسة
بأنّ المَطَر
على مَهْمهِ الريح مدّ القلوع(31)
إلى قوله:
صياحٌ كأجراس ماءٍ… كأجراس حقلٍ من النرجسِ
يدندنُ والشمسُ تُصغي، يقول
بأن المطر
سيهطل قبل انطواء الجناح
وقبل انتهاء السفر.(32)
هكذا بدا المطر في هذه القصيدة عنوانًا للتفاؤل بالغد القادم، حيث سيحمل بشارة التغيير. إن الماء (المطر) طغى بشكل كبير على ديوان السياب، وقدّم من خلاله أفكاره ورؤاه، ولا شك بأن من يريد التعمق أكثر بهذا الرمز الطبيعي سيكتشف المزيد من الأبعاد ولكننا نقتصر على ما أوردناه من شواهد لأن دراستنا القصيرة لن تكتنف هذا الرمز بكامل أبعاده، بل يحتاج إلى دراسة معمقة؛ إنما اتخذناه كشاهد على مجموعة من رموز الطبيعة التي سنتابع الحديث عنها في السياق.
ثالثًا- رمز البحر:
للبحر رمزية خاصة في الآداب العالمية، كما في الأدب العربي. اتخذه الشعراء رمزًا وكناية منذ الجاهلية وحتى عصرنا الحالي، وكانت لفظة البحر تتضمن معانيَ مختلفة تبعًا لرؤية الإنسان الذي اعتمد هذه المفردة.
لقد ورد ذكر البحر في القرآن الكريم مراتٍ عديدة في آياتٍ مختلفة وفي سياقات متعدّدة ومن تلك الآيات ما جاء في سورة النور(33) «أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ»(40)
إن هذه الآية تختصر حكاية الضال الذي لم يهتدِ إلى نور الإيمان بالله. ونجد أن المتنبي قد اعتمد على مفردة البحر في بعض قصائده، وكان يضمنها تارة معنى الكرم، وطورًا معنى الرهبة، ففي قصيدة له يمدح فيها كافور الإخشيدي عبر عن الكرم بالبحر حين قال:
قواصِدَ كافورٍ تواركَ غَيرِه
ومن قَصَدَ البحر استقلَّ السَّواقيا(34)
هنا كنّى بالبحر للدلالة على الكرم والعطاء الذي قدّمه له كافور الإخشيدي.
وفي صورة أخرى له في قصيدة يمدح فيها سيف الدولة يشبهه بالبحر الذي يودي بالفتى، يقول:
هُو البحرُ غُص فيهِ إذا كانَ ساكِنًا
على الدرِّ واحذَرْهُ إذا كان مَزبدا(35)
فسيف الدولة كالبحر، فمن جاءه موادعًا فاز بإحسانه، ومن جاءه مغاضبًا لم يأمن الهلكة، لذلك نرى الشاعر يحذِّر من هذا البحر الذي هو سيف الدولة فإذا غضب يقذف الزّبد إشارة إلى اضطراب البحر وجيشانه.
في العودة إلى رمز البحر عند السياب، نجد أن للشاعر علاقة خاصة بالبحر فهو النافذة على الوطن، وعلى شواطئه ترسو سفن الأمل ومنها تنطلق نحو العالم الفسيح لكن علاقة السياب بالبحر كانت تشير إلى الخوف والقلق وكأن المغادِرَ عبره لن يعود، وستحمله الأمواج إلى فضاءات كئيبة ومجهولة الآفاق. إن المتمعن في قصيدتي الشاعر "رحل النهار" و"غريب على الخليج" يلمس البعد السوداوي ومناخ الإحباط النفسي والحضور القوي للصور القاتمة التي جسدت واقع الشاعر. ففي قصيدة "رحل النهار" حيث يوحِّد السياب بين رمزي "السندباد البحري العربي" و"عوليس" الإغريقي، ثم يتوحد بهما. ففي هذه القصيدة صور انتظار الحبيبة له تشبه انتظار "بنيلوب" لـ"عوليس" في الأُوديسّة. هو انتظار لا أمل منه، ولا فائدة تُرجى لأن الحكم القاطع الذي أصدره بأن الحبيب لن يعود.
رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالتهُ على أفقٍ توهّج دون نار
وجلستِ تنتظرين عودة سندبادَ من السَّفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود
هُوَ لَنْ يعود،
أوّ ما علمتِ بأنّه أسرَتْه آلهةُ البحار.(36)
إنه الانتظار المؤلم لا أمل يرجى منه، ولكنها تنتظر بالرغم من ذلك علّ تلك الأمواج تحمل إليها الخبر السار، غير أن الشاعر يحكم بعدم العودة.
أمّا البحر فقد بات رمزًا للإنسان الذي يصرخ ويشير إلى نبأ غير سار، هو لن يعود. إن فعل الصراخ الذي أسنده للبحر انطلاقًا من عناصر طبيعية تحمل في طياتها الحركية المخيفة المتمثلة بالعواصف والرعود، أضاف للبحر صورة مخيفة كئيبة تبدّت للشاعر انطلاقًا من ذلك الفعل الصاخب الذي جسّده الفعل المضارع (يصرخ).
إذًا، فالبحر لم يعد فقط رمزًا للغربة والرحيل، بل هو رمزٌ من رموز الخوف والقلق وعدم الاستقرار.
إن الدفق الشعوري في هذه القصيدة يرسم لنا مقدار التلاحم بين الشاعر والرمز الذي استخدمه، فالشعور بالغربة الدائمة دفعت السيّاب إلى تفريغ شحناته الإنسانية ودفقه الشعوري في ذلك الرمز الطبيعي المتمثل بالبحر ليعبر عن خلجات نفسه ويرسم مرآة ذاته.
في قلعة سوداء في جزر من الدم والمحار
هو لن يعود
رحل النهار
فلترحلي، هو لن يعود(37)
إنه أمر قاطع بعدم العودة، فالأمل معدوم والفراق طويل والجو مشحون بالكآبة. فالسندباد المغامر الذي كانت رحلاته مكلّلة بالنجاح الدائم هذه المرة لن يعود من سفرته. قد يكون للمرض تأثيره على طريقة تعاطي الشاعر في هذه القصيدة مع رمز البحر حين قارنه "بشاطئ الموت"، ثم إن الشاعر قد كرر عبارة الموت خمس مرات في هذه القصيدة إضافة إلى قرينة مرتبطة بالموت هي قرينة (اللحود). نحن أمام مناخات سوداوية قاتمة أنتجت جوًا محبطًا لا أثر فيه للتفاؤل، فبتنا أمام مشهد قاسٍ وكئيب، والبحر لم يعد رمزًا للندى والكرم والعطاء والكنوز، بل بات رمزًا لغربة مريرة ولشراع ممزق رنّحته العواصف.
وكأن ساعدك اليسار، وراء ساعته فنار
في شاطئ للموت يحلم بالسفين على انتظار.(38)
إن الشواطئ مصادر حياة، وهي معالم ازدهار الأوطان، أما في هذه القصيدة فنرى انقلابًا في الوظيفة، إذ بات الشاطئ حيّزًا للموت يحلم بأن ترسو السفن ولكن هيهات!
ثم يحمّل البحر في خاتمة القصيدة بعدًا حزينًا ورمزًا لغربة قاسية ثقيلة ودلالة توغل في لجة المجهول.
رحل النهار
والبحر متسع وخاوٍ. لا غناء فيه سوى الهدير
وما يبين سوى شراع رنحته العاصفات، وما يطير
إلاّ فؤادك فوق سطح الماء يخفق في انتظار
رحل النهار
فلترحلي، رحل النهار(39)
عندما درسنا رمز "المطر" في شعره، وجدناه دلالة الانبعاث والتجدد والأمل بالمستقبل إحدى دلالات ذلك الرمز، أما مع قصيدته "رحل النهار" فلم نلمس ذلك أبدًا، ثم إن تكرار لازمة الرحيل تشير إلى الأفول وكأننا أمام إخطار باقتراب النهاية مع ذلك الرحيل، وبداية القصيدة كنهايتها فعندما أخبرنا بالرحيل لم يقل بأن شمس النهار غابت، لأن غياب الشمس سيتبعه شروق، إنما عبر عن ذلك بقوله "انطفأت ذبالته" وكأنه فتيلة السراج التي احترقت وذوت وتلاشت وهي في طور الزوال، ثم يربط ذلك بصراخ البحر وعويله وكأننا أمام مشهد جنائزي حزين والبحر يحمل السفين إلى النهاية.
وإذا كان السياب قد صور البحر في بعض قصائده مكانًا للاستئناس بالطبيعة، فإنه في قصائد أخرى جعله رمزًا للخوف والقلق والرهبة والمستقبل المجهول.
إن قصيدة السياب "غريب على الخليج" كانت من القصائد التي عبّر فيها عن إحساسه بالقلق والرهبة ومرارة الغربة، فاستخدمه استخدامًا رمزيًا معبرًا عن وجدانه وقلقه، فأضحى بذلك رمز الخوف والغربة. "وعندما نقول إن الشاعر قد استخدم كلمة «البحر» مثلًا استخدامًا رمزيًا (أو أي كلمة أخرى صار لها في سياق الشعر قوة الرمز) فلا معنى لقولنا عندئذٍ إن البحر هنا يرمز إلى الخوف أو الرهبة مثلًا، ما لم نتدبر هذا المعنى في السياق الشعري نفسه. فالبحر ليس رمزًا أبديًا ومطلقًا للخوف أو الرهبة، ولكنه يكون كذلك عندما يشحن الشاعر صورة البحر بمشاعر خاصة تستثير في نفسي مشاعر الخوف أو الرهبة"(40).
إن البعد عن العراق، والخوف والترقب وانتظار المجهول، ودلالات تضمنها رمز البحر في هذه القصيدة "غريب على الخليج"(41).
وعلى الرِّمال، على الخليجِ
جلس الغريبُ، يسرِّح البَصر المحَّير في الخليجِ
ويهدّ أعمدة الضياء، بما يصعّد من نشيجِ
أعلى من العباب يهدر رغوُهُ ومن الضجيجِ
صوتٌ تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عِراقْ،
كالمدِّ يصعَدُ، كالسحابةِ، كالدموع إلى العيون.
الرّيح تصرخ بي: عراق،
والموج يعوِلُ بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق!
البحرُ أوسع ما يكون وأنت أبعدُ ما تَكونْ
والبحر دونَك ياعِراقْ.(42)
إن البحر الذي يرمز إلى الغربة وعذابها، يمثل أيضًا ذروة حنين الشاعر للعودة إلى وطنه. إننا أمام صورة الاغتراب النفسي التي جسدها الشاعر ونوازع الشوق للعودة إلى الوطن. وإذا كان البحر يصرخ صادحًا باسم العراق، فإنه على الرغم من اتساعه فهو يحول دون عودة الشاعر إلى وطنه، وذلك المنع ليس من باب الحيّز الجغرافي إنما لجهة المنع السياسي والقمع والاضطهاد. لقد حملت دلالات المفردات ذلك الشحن النفسي العنيف الذي يحياه السياب وقدم لنا صورة الخليج ببعدها السلبي لأنه يحول بينه وبين بلده الحبيب، فالرمال مكان التأمل لصورة ذلك البحر، أما المفردات الدالة على رمزية الغربة التي جسدّها ذلك البحر فهي: الغريب، النشيج، الرغوة، الضجيج، نفسي الثكلى، كالسحابة، كالدموع،… وجاء النداء يا عراق ليجسد دلالة إنسانية ترسم صورة لإنسانٍ منفيٍّ من وطنه يطلق صرخته من المكان لتدوي في آفاق الزمان وتضع المتلقي في صورة الوضع المأزوم الذي يحياه السيّاب فيتضامن معه إنسانيًا وشعوريًا ووجدانيًا.
لقد اتكأ السياب على الطبيعة فاستمد من عناصرها مادة شعره، وضمن تلك العناصر رموزًا عبرت عن ذاته، وكان البحر كما رأينا، واحدًا من تلك العناصر التي جسّد فيها رمز الغربة والظلمة والرهبة والرحيل في كثير من قصائده كي يشير إلى آلامه وغربته، وفي بعض الأحيان تعبيرًا عن نقمته وثورته النفسية تجاه ما يحصل في بلده.
أشراع يطوي بحار الظلام؟
أم سراج في غرفة المستهام.(43)
نجد كيف أسند صفة الظلام للبحار، وهي ليست صفة حقيقية وثابتة بأيّ حال لكنه شاء أن يرمز إلى البحر بهذه الصفة.
إنه البحر رمز الغربة والآلام وعند شواطئه تتحطم الآمال وهذه أمواجه تبتلع الأحلام.
على الشاطئ أحلامي
طواها الموج يا حبُّ
وفي حلكة أيامي
غدا نجم الهوى يخبو.(44)
وإذا كان قد رسم لنا في بعض الأحيان مشاهد جميلة للبحر إشارة منه إلى ومضات مَسَرّةٍ في حياته.
يا عين طوفي وامرحي
فمطافُك الشط الجميل
وامشي على تبج الميا
هِ كما مشى النَّسَمُ العليل(45)
فإنه لا يلبث أن يعود إلى بحره الخاص الذي ضمنه رمز الغربة والألم
والبحر كان سوى جدول
ينير في الليل سبيل الرعاة
فما دهاه اليوم حتى غدا
ملحًا أجاجًا بعد عذبٍ فرات(46)
ذلك هو البحر الذي غاص السياب في ملح أجاجه، وضمنه رمز غربته وآلامه، وأضحت دلالته تشير إلى الحزن والألم، إن لم نقل إنها تمحورت في كثير من الأحيان حول دلالة الموت والنهاية التي كان السياب يشعر بأنها تحوم فوق رأسه وتنبئه بدنو أجله.
رابعًا- رمز النهر:
عندما يذكر السياب رمز النهر في شعره، نجده يحمله وجهين متعاكسين: الوجه الأول هو وجه الحياة والانبعاث والخصب. أما الوجه الثاني فهو وجه الحزن والموت.
وأنت يا بويب…
أودّ لو غرقت فيك ألقِطُ المحارْ
أشيدُ منه دار
يضيء فيها خضرةَ المياهِ والشجر
ما تنضح النجومُ والقمر
وأغتدي فيك مع الجزر إلى البحر(47)
هنا يضعنا الشاعر أمام صورة الحياة المنبعثة من خضرة الشجر، وعودة المياه إلى البحر يعني إلى مصدرها الأول وبعدها يتكاثف النهر في الغيوم من جديد في دورة الحياة المستمرة.
وفي قصيدة "مرحى غيلان" يمثل النهر (بويب) ذلك الرمز الذي يمثل الحياة والخصوبة، ويعيد التجدد والألق للأرض فتعود إلى الحياة من جديد تدب في عروق الكائنات.
بابا…بابا…"
أنا في قرار بُوَيْبَ أرقدُ في فراشٍ من رمالهْ،
من طينه المعطورِ، والدمُ من عروقي في زلالهْ
ينثالُ كي يَهبَ الحياةَ لكلِّ أعراقِ النخيلِ
أنا بَعْلُ: أخطرُ في الجليلِ…
على المياهِ، أنثُّ في الورقاتِ روحي والثمارِ
والماءُ يهمسُ بالخريرِ، يصلُّ حولي بالمحارِ
وأنا بوَيْبُ أذوبُ في فَرَحي وأرقدُ في قراري.(48)
كتب السياب هذه القصيدة بعد ولادة ابنه "غيلان" ذلك الطفل الذي رأى فيه الخير الذي ينساب مع الماء في بويب، ليمنح الحياة لكل أعراق النخيل. إن مفردات الخصب والحياة تتوالى في هذا المقطع الشعري مبشرة بعراق مزدهر وخصب بفعل الولادة الجديدة التي تبشر بجيل ينقذ العراق من معاناته.
في العودة إلى قصيدة "النهر والموت" نجد أن النهر يمثل الحياة كما يمثل الموت والحزن.
يا نهري الحزين كالمطر.(49)
نجد كيف عاد الشاعر ليرمز إلى النهر بالحزن مستحضرًا رمز المطر ليقيم مشابهة بينهما.
وفي بيت آخر من القصيدة يسأل السياب ذلك النهر:
أغابة من الدموع أنت أم نَهَر.(50)
هنا أعادنا إلى الحزن والجوّ القاتم، فالنهر تارة رمز للحياة والخصب والتجدد، وطورًا هو رمز للحزن وباب الموت الخفي.
فالموت عالمٌ غريب يفتن الصّغار،
وبابه الخفيُّ كان فيكَ، يا بويب…(51)
نحن إزاء بعدين دلاليين، الأول يجسد الحياة، والثاني يمثل النهاية والحزن والموت. إن هذه الثنائية الضدية تختصر وضع الإنسان والكائنات في هذه الأرض موت وحياة ونهاية وبداية، وهكذا دواليك. إن مثل هذه الصورة لازمت السياب في كثير من نصوصه الشعرية، وكثيرًا ما كان يخاطب العالم انطلاقًا من بعدين: البعد الأوّل هو بعد وجداني ناجم عن تجربته الشعرية التي ارتبطت بقضايا الوطن العربي عمومًا والعراق خصوصًا، والبعد الثاني نابع من ذات الشاعر الخاصة والحالة النفسية التي كانت تحكم نصه في كثير من الأحيان.
وعندما كان السياب يريد أن يعبر عن اللظى المتأجج في داخله كان يتخذ من النهر والجدول مادة تخمد ذلك اللهب.
جيكور لمّي عظامي وانفضي كفني
من طينه، واغسلي بالجدول الجاري
قلبي الذي كان شباكًا على النارِ.(52)
إن حضور رمز الماء في شعر السياب وكذلك البحر، والمطر، والنهر أسهم في إبراز رؤية الشاعر، وجسّد انفعاله في كثير من الأحيان، وأضحى وسيلة للإيحاء بالمضمون العاطفي والفكري الكامن في ذلك الرمز الذي تتولد منه المعاني وتتفتح من خلاله الدلالات العميقة، فتصبح الأشياء غير الأشياء فتزدحم التأويلات المستمدة من إيحاءات تلك الرموز، وقد نجح السياب في التعبير من خلالها تعبيرًا شفافًا يومئ إلى المقصود من طرفٍ خفيّ. والواضح أن السياب قد بلغ من خلال استعماله لرمز (الماء) الغاية التي كان ينشدها من ذلك الاستخدام، ذلك الماء الذي بات رمزًا حاضرًا في كثير من قصائده يعبّر من خلاله عن رؤية ويكشف عن دلالات تتفاوت غاياتها وكل ذلك مرتبط بطبيعة النص وسياقه وحضور الرمز فيه.
خامسًا- رمز الليل:
وردَ في الذكر الحكيم قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا»(53). فإذا كان الليل زمن السكينة والراحة والهدوء، والنهار يقتضي السعي والعمل والتدبُّر؛ فإن ليل السياب مجبول بالألم والغربة والوحشة والدجى القاتم، بل هو أشبه بالطيف المخيف الذي يرتسم في مخيلته دائمًا.
إن من يتابع سيرورة الليل وصوره في قصيدة "حفار القبور" يكتشف حجم القلق الذي يجسّده هذا الرمز، والمناخات الدلالية التي أنتجها حتى وكأن الليل بات كابوسًا يجثم على صدره، إن جاز لنا التعبير، وقاتم أسود ممتد من الزمن وموغل في طيات القبور.
الليلُ يطبق مرّة أخرى، فتشربه المدينة
والعابرون إلى القرارة… مثل أغنية حزينه.(54)
هكذا ابتدأ الشاعر قصيدته "المومس العمياء" بصورة الليل الذي تحوّل إلى ماء تشربه المدينة، حتى يصل إلى معنى آخر يجسده رمز الليل في القصيدة.
من أيّ غابٍ جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف
من أي وجر للذئاب؟
من أي عشٍّ في المقابر دفَّ أسفع كالغراب؟(55)
ثم يقول في نهاية القصيدة:
فاتركيها للتراب
في ظلمة اللحد الصغير تنام فيه بلا مآب.(56)
إن هذه المزاوجة في الدلالة بين الليل والوحشة تشير إشارة واضحة إلى بذرة التشاؤم التي جسّدها الليل في هذه القصيدة، فهو يرمز إلى القسوة والوحشة والبربرية في السلوك وكأنه يفجر مكامن الشاعر المكبوتة في صدره، ذلك الرمز الذي يُخرج صورة الكآبة المحكومة بالخوف والقلق. فالليل صنو الغربان عند الشاعر، وهو صفة القبور وذلك البهيم الذي يستحضر الدموع. هكذا بدا الليل في قصيدة "حفار القبور" يرسم الشاعر من خلاله صورًا قاتمة ويتخذ من سواده الحالك رمزًا للنهاية والعدم.
وتثاءب الطللُ البعيد- يحدِّق الليل البهيمْ
من بابه الأعمى ومن شبّاكه الخرِبِ البليد.
والجوّ يملؤه النعيب.(57)
هي صورة من صور الليل الذي يرمز إلى الموت والوحشة، حيث جعل القبر يتثاءب ويحدّق في الليل البهيم، ليجعل الصورة أكثر وحشة ويعطيها البعد السوداوي القاتم، والنفسي المشحون بصورة الموت وما يحيط به من هالات الخوف والاضطراب والتوتر. واستحضر نعيب الغربان ليصبح المشهد أكثر تراجيدية ويأخذ المتلقي إلى أقصى الأبعاد النفسية المتوترة حين تتموضع الفكرة بكل ثقلها وعمق وطأتها في خلده، وتصبح صورة الموت والقبور متوحدة مع الليل وظلامه الدامس.
وبما أن الصورة جزء من الأدب، بل هي بنيته الأساسية، فإنها وسيلة الأديب لإخراج رؤيته والتعبير عن همومه، وتصوير مشاهده.
ويقدم لنا زكي مبارك، وصفًا عن أثر تلك الصورة فيقول: "هي أثر الشاعر، الذي يصف المرئيات، وصفًا يجعل قارئ شعره ما يدري أيقرأ قصيدة مسطورة، أم يشاهد منظرًا من مناظر الوجود، والذي يصف الوجدانيات وصفًا يخيل للقارئ أنه يناجي نفسه، ويحاور ضميره، وأنه يقرأ قطعة مختارة لشاعر مجيد"(58).
ولم يكتفِ الشاعر بتقديم صورة موحشة عن الليل، بل جعله رمزًا من رموز العذاب بعد الموت إذ حوّله إلى وحش يلتهم الأجساد بالتعاون مع الدود.
واهًا لأجساد الحسان! أيأكل الليل الرهيبْ
والدودُ، منها، ما تمناه الهوى؟ واخيبتاه!(59)
وكأن الليل بات رمزًا للفناء وإيذانًا بالنهاية التي لا بد أن كل إنسان سوف يصل إليها وسوف يكون نزيل المقابر، ثم إن تكثيف الرمز وحشد الصورة الإيحائية التي تحيط بظلاله جعله رمزًا يثير الخوف والقلق في خيال المتلقي، واستطاع الشاعر من خلاله أن ينفذ إلى وجدان القارئ ويجعله متفاعلًا معه متخيلًا قساوة المشهد وشدة تأثيره.
فالليل جاء وما أزال
مستوحدًا أرعى القبور وأنفض الدرب البعيد.
وكأن يا بشرى! كأنّ هناك في أقصى الجنوب
خطًا كأذيال الظلام ولمعةٌ كدمِ الغروب!
لكأنه ضيف جديد!(60)
وكأني بالليل محطة انتظار قاسية وبطيئة جدًا في حياة السياب، اتخذه رمزًا من رموز الطبيعة لينفذ من خلاله إلى أعماق النفس البشرية المثقلة بالمهموم، والتي ترزح تحت وطأة الألم النفسي والجسدي بفعل عوامل عديدة جعلت الشاعر يسرج الليل مطية يسرح عبرها في أعماق الحياة وألغازها، ونراه يصف وقع الليل على نفسه في قصيدة "ليلة انتظار" حيث يقول:
وحلَّ الليلُ ما أطويهِ من سهرٍ إلى سهرٍ ومن ظلمٍ إلى ظلم
ولكن اليد النديانةَ الكسلى ترشُّ سنابلَ القمح
على دربٍ من الهمسات في حُلُم
بلا نومٍ يرفّ على جفوني ثم يحشوهنّ بالملح(61)
وفي قصيدة أخرى له بعنوان "إقبال والليل" نراه يرمز إلى ذلك الليل بالغربة والوحشة والظلم.
الليل طال وما نهاري حينَ يُقبل بالقصيرِ
الليل طال: نباح آلاف الكلاب من الغيومِ
ينهلُّ، ترفعه الرياح، يرنُّ في الليل الضريرِ
وهتافُ حرّاسٍ سهارى يجلسون على الغيومِ
الليل والعشاق ينتظرون فيه على سنا النجم الأخير(62)
عندما يكرر الشاعر لفظ الليل في مقطع واحدٍ أربع مرات، فهو يرمز من خلاله إلى الغربة القسريّة المفروضة عليه، وشدة الظلم والقهر بفعل المراقبة الشديدة له والقبض عليه في حال قرر العودة إلى بلده. إنه ليل العراق الطويل الذي لا نهاية له، وهي الدلالة الأكيدة على العَسَف والجور والتسلط.
أين الهوى مما ألاقي والأسى مما ألاقي؟
يا ليتني طفل يجوع، يئن في ليل العراق!
أنا ميّت ما زال يختصر الحياة.(63)
إنه الليل، جرحٌ نازف، وألم مستمر في ذات الشاعر، وسواد يكلل حياته وحياة بلده العراق بالقهر والاستبداد. ومهما يكن من أمر فإن هذه الرموز قد أمّنت لنصوص السياب مناخات المرحلة الزمنية التي تفيّأ تحت ظلالها. وهي مناخات قاسية أسهمت بشكل فعال في إنتاج البنية الدلالية الكبرى التي أخرجت رؤية الشاعر إلى العالم.
سادسًا- رمز النخيل:
إن لشجرة النخيل حضورًا ملفتًا في شعر بدر شاكر السياب، ربما لأنّ بلدته "جيكور" "عامرة بأشجار النخيل التي تظلل المسارح المنبسطة ويحلو لأسراب الغربان أن تردد نعيبها فيها، وعند أطراف هذه القرى مسارح أخرى منكشفة تسمى البيادر تصلح للعب الصبيان ولهوهم في الربيع والخريف"(64) لذلك وجدنا أن الشاعر حين يعبّر عن جمال الطبيعة يعمد إلى استعارة صورة النخيل التي لها وقع جميل في نفسه.
عيناكِ غابتا نخيل ساعةَ السحر(65)
فالنخيل في هذه الصورة يشير إلى الجمال والعطاء المنبعث من المقلتين كعطاء النخلة وفي قصيدة له عنوانها "تحية القرية" يشير إلى روعة النخيل وتكامله مع الماء والطبيعة.
وعن الشّط والنخيل السكارى في الليالي القمراء والمظلمات
رنحتها الأنسام لمّا سقتها العطرَ في أكؤسِ النّدى المترعات.(66)
غير أن هذه الصورة الرومانسية للنخيل لا تلبث أن تختفي، وتظهر الصورة الرمزية بشكل أعمق، ويحمل الشاعر هذا الرمز الطبيعي دلالات متعدّدة تتضمن معنى الحنين والغربة والنقمة وغير ذلك من المعاني التي أوحى بها هذا الرمز بالتحديد. إن النخيل الذي كان الشاعر يأنسُ به أصبح يخشاه في قصيدة "غريب على الخليج".
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهمَّ مع الغروب
فاكتظ بالأشباح تخطف كلَّ طفلٍ لا يؤوب
من الدروب.(67)
هنا نجد أن النخيل أصبح موطنًا للأشباح، ولم يعد ذلك المكان الرومانسي الذي يعبّر عن فرح الشاعر. إن الرمز هنا يشير إلى القلق والتوتر النفسي فاكتظاظ النخيل بالأشباح كناية عن عامل من عوامل عدم الاستقرار، وقد تكون الأشباح تلك زبانية الحكم وعسسه لذلك استحضر الشاعر تلك المخلوقات الوهمية وأسكنها في غابة النخيل. إذًا، لم يعد النخيل موطن الحب والجمال؛ بل أضحى موضع الخوف والاستبداد.
وفي قصيدته "أنشودة المطر" جعل النخيل يشارك في انتفاضة العناصر ويشارك البرق والرعد في استعداده للثورة.
أكاد أسمع النخيل يشرب المطر.(68)
أما إذا أراد السياب أن يرمز إلى الحزن فكان يتكئ على رمز النخيل لإخراج دلالة ذلك الحزن ووقعه، وقد قدّم لنا صورة تبرز صدى الأنين في سعف النخيل.
غريق في عباب الموج تنحب عند الغاقة
تئنُّ الريح في سَعَف النخيل، عليه.. ترثيه.(69)
فالأنين علامة فارقة عاد صداها لينطلق من سعف النخيل بعدما ضجّت به الريح، فالرمز هنا يشير إلى الألم والحزن. فالبعد الاستعاري "تئن الريح" ينتمي إلى رؤية الشاعر في هذا النص الذي أطلق الأنين من أعماق غابة النخيل ليضعنا في حجم الحزن والمعاناة.
إن جمالية الصورة هنا نابعة من دلالة الرؤية، حيث تحولت الريح إلى إنسان يئن ويصرخ والأنين دلالة على الألم، ذلك الألم الذي جسّده أنين الريح وتردد صداه في غابة النخيل.
وإذا كان النخيل يرمز إلى الألم والمعاناة، فإن السياب أبرز من خلال هذا الرمز معنى الحنين إلى الوطن، فكان النخيل رمزًا لذلك الشوق والحنين والحلم بالعودة إلى موطن النفس ومرتع الطفولة والصبا.
يا ليل ضمّخكَ العراق
بعبير تربته وهدأة مائه بين النخيل
إنّي أُحسُّك في الكويت وأنت تُثقل بالأغاني والهديل.(70)
وإذا عدنا إلى قصيدة "مدينة السندباد" نجد السياب يحمل النخيل بعدًا استعاريًا، حيث جعله يعمد إلى العويل، وكأنه إنسان وقع في طامّة كبرى فعبّر عن آلامه بالبكاء والعويل.
على مهود إخوتي الصغار… والبيوت،
تأكل من لحومهم. وفي القرى تموت
عشتار عطشي، ليس في جبينها زهَره،
وفي يديها سلَّةٌ ثمارها من حَجرْ
تُرجَم كلُّ زوجة به. وللنخيلْ
في شطّها عويل.(71)
هكذا أسند الشاعر للنخيل هوية فنية تمثلت بالاستعارة التشخيصية، فجسد النخيل إنسانًا يعْوِل ذلك العويل الذي يثير الخوف والحزن. إن هذا العويل الذي أخرج النخيل من طبيعته وأدخله في طبيعة أخرى دلّ على عمق الحزن والألم والمخزون في نفس الشاعر، فانعكس ذلك رموزًا ضمنها عناصر الطبيعة لتشير إلى الحزن وقت الحزن وإلى دلالات أخرى كالحب والحنين والألم، وكل تلك الرموز كشفت عن واقع الشاعر وهمومه ورؤاه وأغنت تجربته الشعرية بدلالات إيحائية آسِرَة.
الخاتمة:
حاولت من خلال هذه الدراسة "رموز الطبيعة ودلالاتها في شعر بدر شاكر السياب" أن أفتح نافذة في هذا المنحى ولا أدعي السبق أو الفرادة؛ إنما هي دراسة تستحق التمعن والتقصي. كثيرة هي الرموز الطبيعية التي اتكأ عليها السياب في قصائده، ولكنني وجدت أن أكثر تلك الرموز تكرارًا وحضورًا هي تلك التي ذكرتها في سياق البحث وكأن الشاعر أراد أن يجسّد من خلالها آلامه وهمومه الشخصية والقومية والوطنية فأوغل في الأسطورة والرمز، وأجاد في المنحى الثاني، حيث استطاع أن يضع المتلقي في عمق تجربته الشعرية الشعورية وفاض الرمز حزنًا وأسىً وحنينًا وثورة وغضبًا ونقمة في كثير من الأحيان. كما إن رموزه شكلت صورة للمعاناة وحملت وجهًا من وجوه التحرر الذي كان الهاجس الكبير الذي حكم رؤية السياب، حيث تطلّع إلى الغد المشرق وآمن بأن الانبعاث والتجدد مرهون بالأجيال القادمة التي سوف تحمل هذا اللواء، وقد عبر عن ذلك في قصيدته "أنشودة المطر"، حيث حمل ذلك الرمز الكثير من الأحلام والأمنيات واعتبر أن عالم الغد الفتي هو الذي سيتبنى التغيير الكبير، وسيحدث انقلابًا جذريًا في وطنه، وبات رمز المطر علامة تفاؤل بالإصلاح والازدهار وأمنية تمنى الشاعر أن تتحقق.
إن توزع الرموز في شعر السياب أضفى عليه جمالية فائقة، خصوصًا عندما نهض المستوى البلاغي بذلك الرمز فأكسبه إيحاءات رائعة ودلالات بعيدة الغور.
إن الرموز الطبيعية جسّدت لنا الواقع الذي عاشه السياب، حيث مزج بين الذات والموضوع، واستطاع من خلال تلك الرموز أن ينتج ثقافة جعلت الكثير من الشعراء ينسجون على نوله، وفتح بابًا للدارسين والنقاد كي يلجوا غمار هذا النتاج الثقافي والفكري ويغنوا تلك التجربة بالبحث والتحليل والتفكيك وإعادة التركيب.
الهوامش:
1-محمد عبد الحي، الأسطورة الإغريقية في الشعر العربي الحديث، ص 87.
2-السعيد الورقي، لغة الشعر العربي الحديث، ص 141.
3-بدر شاكر السياب، الديوان، دار العودة، مج (2)، ص 195.
4-بطرس أنطونيوس، بدر شاكر السياب شاعر الوجع، ص 106.
5-عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، ص 198.
6-القرآن الكريم، الكهف، الآية 29.
7-م.ن، الأنبياء، الآية 30.
8-يوسف حلاوي، الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، ص 53.
9-بدر شاكر السياب، م.س، ص 120-121.
10-الوالي محمد، الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي، ص 8.
11-القرآن الكريم، الأحزاب، الآية 38.
12-كمال أبو ديب، الحداثة، السلطة، النص، مجلة فصول، ص 37.
13-إحسان عباس، بدر شاكر السياب، ص 212.
14-بدر شاكر السياب، م.س، ص 122.
15-م.ن، ص 123.
16-م.ن، ص 129.
17-م.ن، ص 130.
18-م.ن، ص 132.
19-عز الدين اسماعيل، م.س، ص 200.
20-بدر شاكر السياب، م.س، ص 111.
21-لويز روز نبلات، الأدب عملية اكتشاف، ص 27.
22-تيري إيغلتون، نظرية الأدب، ص 149.
23-بدر شاكر السياب، م.س، ص 250.
24-م.ن، ص 252.
25-م.ن، ص 105.
26-م.ن، ص 51.
27-لوسيان غولدمان، المنهج البنيوي التكويني في تاريخ الأدب، ص12.
28-م.ن، ص.ن.
29-روبرت هولب، نظرية المتلقي، ص 232.
30-أدونيس، مدارات، جريدة الحياة، عدد 12038.
31-بدر شاكر السياب، م.س، ص 248.
32-م.ن، ص 249.
33-القرآن الكريم، النور، الآية 248.
34-المتبني، شرح الديوان، الشيخ ناصيف اليازجي، ص 474.
35-م.ن، ص 384.
36-بدر شاكر السياب، م.س، ص 284.
37-م.ن، ص.ن.
38-م.ن، ص 285.
39-م.ن، ص 286.
40-عز الدين اسماعيل، م.س، ص 200.
41-بدر شاكر السياب، م.س.
42-بدر شاكر السياب، م.س، ص 4.
43-م.ن، مج (1)، ص 94.
44-م.ن، ص 97.
45-م.ن، ص 394.
46-م.ن، ص 112.
47-م.ن، مج (2)، ص 104.
48-م.ن، ص 11.
49-م.ن، ص 103.
50-م.ن، ص 104.
51-م.ن، ص.ن.
52-م.ن، ص259.
53-القرآن الكريم، يونس، 67.
54-بدر شاكر السياب، م.س، ص 142.
55-م.ن، ص.ن.
56-م.ن، ص 166.
57-م.ن، ص 167.
58-زكي مبارك، الموازنة بين الشعراء، ص 62.
59-السياب، مس، ص 170.
60-م.ن، ص 174.
61-م.ن، ص 435.
62-م.ن، ص 439.
63-م.ن، ص 440.
64-إحسان عباس، م.س، ص 117.
65-السياب، م.س، ص 119.
66-السياب، مج (1)، ص 116.
67-م.ن، مج (1)، ص 5.
68-م.ن، ص 121.
69-م.ن، ص 370.
70-م.ن، ص 439.
71-م.ن، ص 118.
المصادر والمراجع:
1-إحسان عباس، بدر شاكر السياب، دراسة في حياته وشعره، ط 5، بيروت، دار الثقافة، 1983م.
2-القرآن الكريم.
3-السعيد الورقي، لغة الشعر العربي الحديث، دار النهضة العربية، ط3، 1984م.
4-الوالي محمد، الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي، المركز الثقافي العربي، لبنان، 1990م.
5-بدر شاكر السياب، الديوان، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت- لبنان، 2005م.
6-بطرس أنطونيوس، بدر شاكر السياب شاعر الوجع، ط1، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس (د.ت).
7-تيري إيغلتون، نظرية الأدب، ترجمة ثائر ديب، وزارة الثقافة سوريا، 1995م.
8-روبرت حولب، نظرية المتلقي، ترجمة الدكتور عز الدين اسماعيل، المكتبة الأكاديمية، 2000م.
9-زكي مبارك، الموازنة بين الشعراء، (د. دار النشر)، القاهرة، 1936م.
10-عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، دار الآداب، ط1، 1994م.
11-لويزروز نبلات، الأدب عمليّة اكتشاف، ترجمة: عزت بن عبد المجيد خطاب، النشر العلمي والمطابع، 1419هـ.
12-محمد عبد الحي، الأسطورة الإغريقية في الشعر العربي الحديث، دار النهضة العربية، 1977م.
13-ناصيف اليازجي (الشيخ)، شرح ديوان المتبني، دار القلم، ط2، بيروت- لبنان (د.ت).
14-يوسف حلاوي، الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، دار الآداب، ط1، 1994م.
الجرائد والمجلات:
1-أدونيس، مدارات، جريدة الحياة، عدد 12038، 8 شباط، 1986م.
2-كمال أبو ديب، الحداثة، السلطة، النصّ، مجلة فصول، م4، ع3، 1984م.
3-لوسيان غولدمان، المنهج البنيوي التكويني في تاريخ الأدب، الفكر العربي المعاصر، العدد الأول، أيار 1980م.