خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
المعري
لهذا المقال خلفية قديمة تعود الى الزمن الذي وقف فيه الإنسان حائراً أمام ظاهرتي الحياة والموت. يوم أدرك، بعد فترة لا يستهان بها من عصور ما قبل التاريخ، أنه بتأثير حركة الشمس وانتظامها بين ليل ونهار، يستطيع أن ينظم حياته وفقاً لإيقاعها ويخرج في نظام جماعي للصيد نهاراً والإحتماء في المغاور ليلا ً، والتنعم بالدفء حول النار التي تهبط عليه ، بين الحين والآخر، بشكل كرات نارية من السماء فيحمل جمراتها في وعاء من الطين المحمى ويصطنع لنفسه الأدوات كالمدي والحراب المسننة ويرتدي فراء الحيوان ويمسك بشظايا عظمية صلبة وينسق استراتيجيات بدائية لغزوات أهلية .
وقلما تجاوز إنساننا هذا العقد الثالث من العمر قبل ان يسقط فريسة مرض أوعراك أو رحلة صيد وحوش كاسرة كونه الحلقة الضعيفة في توازن القوى مقارنة بالضواري إلى أن تحققت له الغلبة باستعمال الرماح والهراوات.
وكان يقف حائراً أمام بني جنسه الذين يسقطون ولا يملك أكثر من أن يهيل عليهم التراب لإبعاد الضواري وطرد الروائح. وكان تارة يدفن قتلاه وتارة أخرى يحرقها وسط شعائر وطقوس كطلي الأموات وصبغهم بلون أحمر لإضفاء شيء من مظاهر الحياة عليهم، دلالة على إلإيمان بأن ثمة شيء وراء الوجود.
ويقول العلماء أن أصل العادات ليس الأساطير وإنما هو عبادة الإنسان القديم لأجداده الموتى. وأن هذا الإنسان آمن بـ"حياة " الموتى بسبب أحلامه التي كان يراهم فيها. وكان الإنسان القديم يخشى جثث أحداده الموتى ويحفر القبور ويدفنها أو يقيدها ويبتر بعض أعضائها قبل الدفن بسبب الخوف منها. ويقدر العلماء أن حرق الجثث يعود على الأقل عشرين ألف سنة إلى الوراء مقابل مائة ألف سنة للدفن.
وفي رحلة الحضارة البشرية لم تتخل المؤسسات الروحية يوماً عن ممارسة الطقوس التي تدعم كيانها كونها سلاحها الأمضى في ضمان السيطرة على المجتمع . وحرمت الكنيسة حرق الأموات واعتبرته خطيئة دينية كبرى. وفي عصورنا الحديثة أصبح الحرق خيار أصحاب الفكر الحر من علماء وفنانين ومفكرين وتقدميين لاعتبارات شخصية تسمو برأيهم على ما في الأديان من تقاليد. وأعطت بعض المجتمعات الحرق تعبيراً ملحمياً تكرم به أعمال البطولة .
ومن أشد العراقيل التي كانت ولا تزال تقف أمام الترميد التعلق بالطقوس الدينية تمسكاً بالقول:" من تراب والى تراب تعود". ولكن لبعض المؤمنين المصلحين ردهم " إذا كان الله سبحانه يستطيع أن يُحيي حفنة تراب فهو لن يعجزعن إحياء حفنة رماد".
واجه أسلوب الحرق صعوداً وهبوطاً. وقلما يوجد اليوم بلد غربي لا تتوفر فيه خدمة حرق الموتى. وسيأتي اليوم الذي يصبح فيه الحرق القاعدة لأن المقابر ستحتل كل مترين مكعب من الأرض.
الذي يراجع أسماء بعض الذين اختاروا أن يُحرق جثمانهم بعد الموت يجد أمثال: سيغموند فرويد، أبو التحليل النفسي وابنته آنا، وهي بدورها محللة نفسية، وهربرت ج ويلز، الكاتب الألمعي وأحد مؤسسي القصص العلمية، والكاتب برنارد شو، وفريديك انجلز، شريك كارل ماركس في تأسيس الفكر الماركسي، وتشارلز لندبرج، أول عابر للمحيط بالطائرة، وفنسنت برايس، اشتهر في تمثيل أفلام الرعب، وبيتر سلرز، صاحب شخصية المفتش كلوزو، وفيفيان لي، بطلة فلم "ذهب مع الريح"، وماريا كالاس، مغنية الأوبرا الشهيرة، وبول تيبتس، قائد الطائرة التي أسقطت القنبلة الذرية على هيروشيما، جميع هؤلاء والألوف غيرهم، لاجامع مشتركاً بالضرورة بينهم اللهم باستثناء النزعة العقلية والذوق الخاص للخروج عن طقوس تعود الى ألوف السنين.
وهناك عامل رئيسي يدفع بالمرء الى تفضيل الترميد، وقد يكون عاملاً مبدئياً عقلانياً ظاهرياً وعاماً، كما قد يكون عاملاً نفسياً خُلُقياً مزاجياً ومستتراً.
والصفة المشتركة هي النظرة الشخصية المتحررة تجاه الطقوس عامة. قد يقول قائل وما هي قيمة خيارات ما بعد الموت إن كنا لا نعي منها شيئاً؟ والجواب أوليس البديل (الدفن) خياراً مفروضاً لما بعد الموت؟
ومن العوامل الهامة الأخرى في اختيار طقوس لادينية احترام الإنسان لكيانه ولذاته وطريقة موته ونفوره مما يصيبه من صور تقزز لها النفس؟ لمثل هذا السبب أوصى الكاتب المصري التقدمي سلامة موسى أن يحرق جثمانه بعد وفاته.
من أسباب تفضيل الحرق على الدفن بساطته بصورة عامة وانخفاض كلفته وصداقته للبيئة وسرعة إجراءاته ( لا يستغرق الحرق أكثر من ساعة لكل 50 كيلوغرام). وإمكان إضفاء الطابع الشخصي على هذه الإجراءات. كتحويل الرماد الى بلورات من الكريستال. يضاف الى ذلك أسباباً أخرى أبرزها الخوف من الأماكن الضيقة (الكلوستروفوبيا) و سرقة الجثث وبيعها لمعاهد التشريح الطبى .
ومن المشاهير الذين جاهرو بالخوف من الأماكن الضيقة واختاروا الحرق بديلا من الدفن شبلي شميّل، الطبيب والكاتب النهضوي اللبناني الأصل الذي أوصى بأن يُحرق جثمانه خوفاً مما أسماه بـ"يقظة" القبر. وقال شميل إن العلامات المعروفة التي ترافق الموت ويعول عليها الناس حتى اليوم كأدلة على الموت، همود الجسم وبرده، وانقطاع التنفس، وانقطاع النبض ووقوف دقات القلب، وهي علامات تخطيء أحيانا فيدفن المرء حياً بالواقع وميت ظاهرياُ. ويختتم شميّل بالقول " لا أخاف الموت ولا أخاف ما بعد الموت ولا يهمني أأحرقت في النار أم دفنت في التراب…لا أخاف إلا "يقظة " القبر". والواقع أنه لهذه الأسباب سنت بعض الدول الغربية تشريعات تمنع الدفن أو الحرق قبل مرور حوالى يومين بانتظار حصول تعفن .
أما بالنسبة الى كلفة الحرق مقارنة بكلفة شراء أو استئجار قطعة أرض للدفن. ففي الترميد يستغنى عن الخشب المتين والجيد وتعتمد صناديق من الكرتون المقوى أو أشباه الخشب إذا لزم الأمر. وبصورة عامة تتراوح كلفة الترميد ما بين خمسمائة الى ثلاثة آلاف دولار بما فيه ثمن الإناء لحفظ الرماد. وقد يكتفى بذر الرماد في البحر أو النهر أو الحديقة أو منزل الفقيد أو تحويله كما أشرنا الى كريستال.
وتكمن المشكلة في عدم معرفة الناس بما يحصل لهم بعد موتهم من تغييرات وبشاعات. وقد لا يعلمون أيضا أنهم يمارسون مع الموت مفاهيم وشعائر تعود الى الانسان القديم قبل مئات ألوف السنين. لماذا لا ندعهم يرسمون صورة بهية قائمة على البساطة والنظافة في مواجهة الموت؟ لماذا نترك الإنسانية فريسة صورة مرعبة لتطوره، عوضاً عن هذه المرحلة البشعة من كيانها حتى وإن كان يجهلها في هذه المرحلة من حضارته. أو ليس من الأنسب جملة وتفصيلا تجنيب الجنس البشري هذه الصورة المرعبة لمفهوم الكيان والحضارة.
وفيما يلي صورتين افتراضيتين واحدة لسيناريو الدفن والآخر لسيناريو الترميد تحضيراُ لمسرح الأبدية:
المشهد الأول ( الدفن):
صندوق خشبي مغلق على إنسان تحول فجأة من جسد حي لطيف الملمس خلال لحظات الى كائن بارد لاتعابير له يخيفك إن أطلت النظر إليه. وخلال أيام يصبح من المتعذر الإقتراب منه لذا يوارى الثرى تحت الأرض أو في جارور مستطيل من الإسمنت المسلح ويوصد عليه بواسطة لوح من الحديد. و ابتداء من هذه اللحظة أصبح غير ذي وجود فيزيائي ولا نعرف شيئا عنه. إلا إذا استيقظ وأمكن إخراجه وإعادته الى الوجود. كثيرون ممن مروا في تجربة مشابهة ذكروا أنهم وقفوا أمام دهليز مشع بالضوء لكنهم لم يكملوا عبوره واستفاقوا وعادوا الى الحياة. إنها حالات نادرة جداً وغامضة والعلم لا يعترف بأن أحداً عاد من الموت (باستثناء السيد المسيح ومن كان حوله مثل أليعازار وطابيثا التي قيل إن الله أقامها على يد بطرس بعد موتها).
في جميع الأحوال أهيل التراب فوق فقيدنا ومضى في رحلته الى ما يسمى بالأبدية. وتسود المكان رائحة كريهة جداً ناتجة عن ملايين البكتريا والديدان التي تنهش جسد الفقيد (أو الفقيدة) عملاً بقول السيد المسيح " لأنكم تشبهون قبوراً مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة (متى 27:23) الى أن يصبح المدفون هيكلا عظميا أين منه ذلك الرجل الوسيم أو تلك الصبية الحلوة.
المشهد الثاني (وصية طالب الحرق):
أما بالنسبة للإجراءات الشخصية فقد اخترت أن يحرق جثماني صباح غد اً مع إنبلاج الفجر فوق روابي بلدتي (…) حيث عشت وأسرتي السنوات الخمسون الأخيرة من عمري. إنها بلدة الصوت الساحر والموسيقى والثقافة والعامية الأولى.
أطلب أن يذر رمادي في الفضاء الفسيح وفوق أشجار الصنوبر الأخضر وبساتين البرتقال العطر، تحت سماء صافية والهواء الندي الذي عبر الجبال والوديان بنسيمه العليل ونقاوته الشافية.
وحسبي أن أشارك في استقبال الشمس في بداية يومها وهي تغمر الأرض شيئاً فشيئاً وتحتضنني أشعتها وتدب الحياة على صنوفها. فتتفتح الزهور وتزقزق العصافير ويباشر النحل غزواته فوق مساكب الورود ويراكم الشهد على نوافذ الحسناوات.
وتحملني الطبيعة على كفيها وتطير بي على بساط سحري. وأرى طيفي في الحقول وأسمع نفسي في أنغام الطبيعة وأحلق مع الطيور المهاجرة الى كل مكان وكل زمان حتى أصبح جزء من عمارة الكون فأعيد للوجود ما سبق وأخذته من خير وبركة.
وحسبي أن يظل الانسان نظيفاً وإن تعفى دورة وجوده من البشاعة فيذهب الى حيث اختارت العوامل أن يمضي فلا أبواب موصدة ولا أزهار يابسة…
وفي المساء يسحرني الغروب مثلما يسحرني الشروق. وأتماهى مع عبور القمر وحركة النجوم ودوران الزوابع والمجرات التي تدور كساعة عملاقة تنظم الكون على وقع أنغام خفيفة تمنح الكون حركته وجيويته.
وأنا من أنا قد أصبحت كائناً كونياً لامراقباً لما يجري بل متحسساً بما يجري.
وبعد يقولون أنني ميتٌ وغير ذي وجود وأن "الحي" هو من اختار الحفرة الأبدية وقفص الإسمنت المسلح .