نيابة عن السيد مدير عام الآثار والمتاحف السورية د. مأمون عبد الكريم الذي اعتذر عن الحضور بسبب ارتباطه بموعد سابق وكلفني بتمثيل وزارة الثقافة ــ المديرية العامة للآثار والمتاحف بهذه الندوة الهامة.
إن سوريا بلادنا بلاد التاريخ والثقافة العريق موطن أقدم الحضارات على وجه المعمورة من ماري وإبلا إلى أوغاريت، وأفاميا وتدمر. موطن لأكثر من عشرة آلاف موقع أثري؛ إنها موطن الإنسان الأول وأول أبجدية في التاريخ؛ إنها بلاد الإبداع المعماري والفني والفلسفي والأدبي؛ بلاد المعري وأبو تمام وأبو الطيب المتنبي ومحي الدين بن عربي، إن بلادنا وتراثها الحضاري العظيم هذا تتعرض الآن لأكبر هجمة ظلامية عرفها التاريخ.
يقوم الهمجيون المجرمون في المناطق التي سيطروا عليها، بنهب مواقع الآثار وتخريبها، وتدمير الأوابد الأثرية كما جرى سابقاً في نمرود والموصل في العراق ويجري حالياً في تدمر وغيرها، وتقوم العصابات المسلحة المدعومة خارجياً من بعض الدول بتهديد السكان الآمنين وإجبارهم بقوة السلاح، لمنعهم من التدخل للحؤول دون ذلك وتم ويتم اغتيال العديد من الكوادر والمختصين كان آخرها الباحث السوري الأستاذ خالد الأسعد.
إن مواقع التراث العالمي الستة المسجلة على لائحة اليونسكو قد وضعت كمواقع معرضة للخطر، وحتى الآن لم نتمكن من حصر أضرارها وأضرار غيرها من المواقع بسبب صعوبة الوصول إليها لكونها تقع في المناطق المسيطر عليها من قبل الإرهابيين.
أيها السادة إن الإرث الحضاري العريق في بلادي، على الرغم من أنه جاء نتيجة لعمل وجهود أجيال متتالية من السوريين، إنه من إبداع الشعب السوري المتجذر تاريخياً، إلا أنه وبالوقت نفسه إرث إنساني لأنه تأثر ومارس تأثيره على العديد من الحضارات العالمية، وتشابك معها، فهو إذاً ملك للحضارة الإنسانية جمعاء.
إن مهمة حماية الآثار السورية من هذه الغزوة البربرية التي تجتاح بلادي، ولن تسلم منها في حال نجحت بلدان عديدة أخرى، لا تقع فقط على السوريين وحدهم، وإنما تقع على عاتق المجتمع العالمي المتحضر بأسره.
إن خسارة هذا التراث، هو خسارة للإنسانية جمعاء. من هنا، فإن ما نرجوه هو أن تكون الشعوب والمؤسسات ذات الصلة بهذا المجال على مستوى المسؤولية، وأن تكون مساهمتها في حماية آثار سورية كبيرة، بمقدار عظمة هذا التراث. وفي هذا السياق لا يسعنا إلا أن نتقدم بالشكر العميق لمؤسسة سعادة للثقافة والقائمين عليها لدعوتنا لحضور هذا اللقاء الهام الذي يهدف إلى الوقوف على الأخطار المحدقة بالتراث الثقافي في منطقتنا وما يتعرض له من سرقة وتخريب ونهب ممنهج من قبل فاقدي هذا التاريخ الحضاري الطويل الذي تتميز به المنطقة، ولا بد من الإشارة إلى الدور الهام الذي قامت به هذه المؤسسة في مفاصل عديدة من أجل حماية التراث في سوريا، خصوصاً الجهود الكبيرة التي قامت بها بالتعاون مع المديرية من أجل إيقاف بيع النصب الآشوري المكتشف في تل الشيخ حمد الذي كان معروضاً للبيع في مزاد علني في بونهامز.
أمَّا من جهة الدور الذي قامت به مديرية الآثار والمتاحف في سورية لحماية التراث السوري، وما قدمته من عمل حثيث لحفظه، فإننا نؤكد أن المديرية لم تأل جهداً لأجل تحقيق ذلك، منطلقة في ذلك من رؤية عامة استندت لخمسة أسس رئيسية:
التوعية :
ركّزت المديرية العامة للآثار والمتاحف في نشاطها منذ بدء الأحداث المؤلمة، على إشراك جميع السوريين في الدفاع عن التراث الأثري الذي يجسد تاريخهم وذاكرتهم المشتركة، وكلّ ما جمعهم على مرّ الزمن، ضد أعمال السرقة والنهب والتخريب.
تماسك الموظفين على جميع المستويات:
بفضل هذه الرؤية كان أداء الموظفين في المديرية العامة للآثار والمتاحف مهنياً وعلمياً وفعالاً، وقد ظلت الكوادر متحدة في جميع المحافظات، أسفرت جهودهم بالنجاح في كثير من المناطق والحالات.
حيث تمَّت حماية المقتنيات من أغلب المتاحف في سورية ونقلها إلى أماكن آمنة، وكان من أهم أولوياتنا الحفاظ عليها، مما أدى إلى تحقيق نتائج إيجابية بالتعاون مع أعضاء المجتمعات المحلية لحماية المواقع الأثرية والحفاظ عليها.
المهنية:
حالت المديرية العامة للآثار والمتاحف منذ بدء الأحداث المؤلمة، دون توظيف قضية الآثار لغايات سياسية تسيء لها، وناشدت المديرية العامة الجميع بالابتعاد عن المواقع الأثرية واحترام حرمتها، اتفاقاً مع التزامات سورية الدولية التي تنص على حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاع.
الحد من الأضرار والعمل على تقليصه:
منذ بداية الأزمة قمنا بإطلاق حملة وطنية لتوعية الناس بضرورة حماية المتاحف والمواقع الأثرية, واستجبنا على الفور مع أول إشارات الخطر، ووضعت الأمورفي نصابها منذ البداية. وقد ظهر ذلك من خلال الحفاظ على طواقم الكوادر بصورة كاملة من الموظفين والحراس، الذين استمروا بتقاضي رواتبهم من دون انقطاع. وتمَّ تفريغ المتاحف من القطع الأثرية وتخزينها في أماكن آمنة مما جعلنا لم نفقد أياً من هذه المقتنيات الثمينة، باستثناء بعض الحالات حيث لم نكن قادرين على منع أعمال النهب التي طالت المواقع الأثرية، بسبب عنف الأحداث في بعض المناطق. حيث نستطيع القول بأن المديرية انقذت أكثر من 98% من مقتنياتها المتحفية.
التعاون الخارجي مع جميع الجهات الدولية المعنية بالتراث الثقافي لجهة تبادل المعلومات فيما يخص حصر الأضرار والتعاون مع المنظمات لوقف الاتجارغير المشروع بالآثار. ومن جانب آخر التزامنا بالتعاون الدولي مع بعثات التنقيب الخارجية. لما لدى سورية من تعاون طويل الأمد مع عدد كبير من هذه البعثات.
إننا واثقون من أن تظافر الجهود السورية والدولية سيحول دون تدمير هذا التراث الإنساني العظيم، مؤكدين بأن تخريب هذه الكنوز التي لا تقدر بثمن هو إضرار بروح الشعب وهويته، هو جريمة بكل المقاييس تمسّ السوريين جميعاً، وتشكل انتهاكاً صارخاً لا يجوز أن نقف أمامه صامتين، لكونه ينذر بخسارة قد تكون أبدية لبعض مكونات التراث الأثري السوري.
أشعر بالفخر لكوني أعمل في هذه المؤسسة، التي تمكنت من حشد كل الطاقات على الرغم من كل المخاطر. كما أنني فخور بزملائي الذين لم يترددوا بالقيام بواجبهم اليومي لحماية آثار بلدهم في هذا التوقيت الخطير.
تلك هي إحدى اللحظات التي كشفت عن عظمة بلادنا. على الرغم من أن الأخطار التي تحيط بالتراث الأثري السوري خارج قدراتنا لأن مواردنا محدودة، ولكنها لا يمكن بأي حال من الأحوال، هزيمة إرادتنا.
إن الأحداث التي تجري في سورية اليوم دعوة لنا جميعاً لكي نبذل قصارى جهدنا معاً لوضع حد لهذه الجريمة الكبرى التي يتعرض لها التراث الثقافي الإنساني في بلادي.
لن نستسلم على الرغم من الظروف السيئة التي تمر بها سورية، وتأتي مشاركتنا اليوم بسبب إيماننا بقدرتنا (كسوريين يحبون بلدهم وتاريخها العظيم) على إنقاذ ثقافتها.