في كل مرة أتكلم فيها عن المجتمع الذي نعيش معه تظهر لنا ظاهرة (القتل) دالة محورية، حيث لا تبدو الكلمة (قتلة) صادمة إلا في حدود ثقافتنا المستعارة من الغرب، حين نتحدث عن سمات اجتماعية وفردية تصبح كلمة (قتلة) سمة اجتماعية لها تاريخ طويل ملتصقة بنا نحن "العرب"!. التلذذ بالقتل يستدعي شهوة الحيازة على سمة البطولة الذكورية حد الهوس، كقيمة اعتبارية لوجود البطل اليوتوبي، حيث يكون كل شيء مباحاً له دون غيره، وأنا هنا لا أتحدث عني كبطل، بل كقاتل هاوٍ، يرى من حوله قتلة مأجورين في وسط ظلامي، لكنني كشاعر أريد أن أعيش صفة القتلة، أستخدم اللغة للتواصل مع الصور الكثيرة التي تواجهني باعتباري قاتلاً محترفاً ذا مغزى مجازي لا يقبل الانفصال عن كينونته القديمة لقتل المختلف الآخر، بكل تفاصيله الاجتماسياسية، ومنه إلى التآلف مع أفراد تجمعها العصبية الفكرية للتمثيل المشعرن لكلمة (قتل- قتلة).
القتل ظاهرة نستفيد منها براغماتياً للحصول على حجاب آخر للوقوف أمام تيار قوي ومدمر من العدمية المحض في المجتمع العراقي، ومنا نحن بالتحديد (ميليشيا الثقافة) لنكون في صورة واحدة منسجمين مع المجموع الكلي للهوية، حيث الشعر لم يعد مكاناً ليوتوبيات مستهلكة ونائمة على حجارة المخيلة الوهمية التي استعارتها الحداثة العربية من الغرب بطريقة مشوهة، لتعميم فكرة القانون الإنساني وحقوق الإنسان وغيرها، فالعالم هنا تسوقه القوة التي تقتل كل شيء.
الداعم الوحيد الذي نستمد منه شرعية القتل هو التاريخ، كل رموزنا التاريخية قتلة من الطراز الرفيع، يمثلون بالجثث ويمتصون دماء الآخرين، في جوّ من القداسة الدينية التي تحكم وجودنا الشرقي المتدين تماماً دون استثناء، حتى بالنسبة لمن ألْحدوا، ففي كل مرحلة من حركة الصراع نجد تحولات القتلة ذات بعد فكري وأيديولوجي يبرر قتل الآخر.
القتلة هم الأيديولوجيون.. كل قاتل يحمل كتابه معه ليؤكد أن ما فعله صحيح ومقدس، وهؤلاء ليسوا غريبين عن المجتمع، بل هم خلاصاته المستمرة، وعلينا أن نرى بوضوح رضا الناس عن القتلة وانضمامهم لهم وموافقتهم على القتل أياً كان الفعل والظاهرة أو الصورة المنتقاة لفعل القتل، لأن المجتمع كله ببساطة مؤدلج دينياً لقبول ظاهرة القتل والإبادة الجماعية واستباحة الآخر.
القتلة هم العائلة والناس الذين يعيشون في الحي والجيران والمدينة والريف وعمال البناء وأصحاب المحلات وصولاً إلى أعلى الهرم في السلطة والأحزاب وغيرها، سيعتقد البعض أنني أتهم كل الناس وهذا خطأ، لكن الواقع العملي يؤكد أن الجميع يقف شاهداً على كل شيء ويتنصلون من مسؤولية القتل، لكننا في النهاية نبقى قتلة.. لا بأس إنها الحقيقة وعلينا أن نتقبلها، وهذا يعني أننا (ميليشيا الثقافة) يمكن أن نكون قتلة بروح شعراء!.
من هنا، أستطيع أن أدخل إلى حافة الأدب، في محاولة لقتل تقاليد رومانسية استلمناها من رواد الحداثة العربية على يد السياب ونازك الملائكة وغيرهم، هذا الإرث الكبير من الخطاب المغيِّب (بكسر الياء وتشديدها) للواقع كما يحدث، بل إنه خطاب مؤدلج ينتمي لأحزاب وسمت المرحلة كلها، وأقصد منتصف القرن الماضي وحتى 2003، وكل ذلك الزمن من التغييب المقنن والمقصود على المستوى الدولي والإقليمي وضع الأدب والأدباء والتاريخ الأدبي على المحك مع السؤال الأخلاقي لشخصيات طالما كانت رموزاً تستحق التقدير، حتى مطلع وسائل الإنترنت والميديا السريعة والتواصل الاجتماعي الافتراضي وبروز تحولات كبرى أحدثتها مرحلة الصراع الجديد في العراق وسوريا واليمن كمناطق استراتيجية للصدام المباشر بين القوى العالمية، فما هو موقف الشاعر العربي الرومانسي الآن؟.
لا أقصد التجريح، لكن لابد من قول الحقيقة، طالما أننا في جحيم واحد، ولا مكان للمجاملات الأيديولوجية بعد اليوم، فقد كشف المجتمع وحشيته بشكل مفرط، لدرجة أننا لا نستوعب المشاهد أو الفضائح التي أعتبرها ثقافية أكثر منها أخلاقية، فبعد 100 سنة من الحداثة العربية نرى جنوداً يأكلون جثة أحدهم ويضعون رأسه قرب مائدة الأكل، وغيرها من آلاف المشاهد الواقعية التي لا تحدث حتى في أفلام الرعب والفنتازيا، أنا لا أؤمن بالمؤامرة الخارجية طالما أننا نملك الاستعداد الكافي لصناعة الكوارث الإنسانية، وعليه فإن مسؤولية التعامل مع الأدب أصبحت أكثر تعقيداً في ظل تزاحمات وملابسات الواقع، إذ لا مجال للانتماء السياسي سوى الإبداع بكل أشكاله، في ضوء حركة التجربة المعاشة كما هي، لدرجة أن النص قد يتحول إلى وثيقة تأريخية وشاهد على العصر.
عند ذلك وجدنا أنفسنا في تجربة (ميليشيا الثقافة) نعمل على تبيان الحدث من أجل الكشف عن هوياتنا المبطنة بالأقنعة، وكأننا نمارس فعل التماهي والتواصل مع موجوداتنا اليومية دون مكياج أو تلوين قبائحنا، نحن لا نستعير مفاهيم غربية مثل (الإنسانية) لنغطي وحشيتنا الحقيقية، لأننا ببساطة نشبه ما نراه إلى حد اللعنة، هكذا هو وجهنا الحقيقي وهكذا هي نصوصنا الشعرية.