عندما يصل اللبنانيون في مدارج حوارهم الوطني إلى الحديث عما يسمونه "التسوية التاريخية" سرعان ما تنعقد حيرتهم حول سؤال في غاية التعقيد: من أين يبدأ تاريخ لبنان.. وكيف يُكتب هذا التاريخ على النحو الذي يكون بالنسبة إليهم معياراً لإدراك ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم؟
لا يكاد النقاش يبلغ مآلاته المرجوة، حتى تعصفه ريح القطيعة، ثم ليتوقف عند حدود الجدل المستحيل.
هذا المحل من النقاش ليس جديداً ولا طارئاً على تقاليد الثقافة السياسية في لبنان. والكلام المستأنف بين نخب الطوائف على إعادة هندسة الهوية الوطنية الجامعة لا ينفك يصطدم باستحالة الجواب على السؤال المركّب الآنف الذكر.
واقع الحال الآن، هو أشبه بدوران في الفراغ. فلا شيء أمرّ على اللبنانيين من الكلام على تاريخهم. فإنه مبعث كل خلاف حصل بينهم في الماضي وقد يحصل في المستقبل. وهو الذي يعيدهم إلى الانحباس ضمن حلقات لا حصر لها من السجال حول الهوية والمواطنة والانتماء والولاء. فضلاً عن أنه مبعث الخلاف حول طبيعة الدولة وصورتها في وطن متعدد الطوائف والمذاهب.
وللنخب الطوائفية اللبنانية مرافعات عزّت نظائرها لجهة ما تسبغه على تواريخها من صفات ميتافيزيقية. سواء على صعيد كل طائفة بعينها أو على مستوى لبنان ككيان فريد.
فإذا كان لأية مجموعة من البشر، في أي مكان، أن تخلق لنفسها شعوراً بكونها جماعةً سياسية، وأن تحافظ على مثل هذا الشعور، فلا بد من أن يكون لها رؤية موحدة لماضيها. وكثيراً ما يكون التاريخ المُتصوّر كافياً لهذا الغرض في المجتمعات التي يسودها تضامن طبيعي، ومنها القبائل أو العشائر التي تزعم لنفسها تحدّراً من أجداد أسطوريين وتكرم ذكرى أبطال خياليين. وهو ما يعزّز التلاحم بين العناصر التي تتكون منها القبيلة أو العشيرة الواحدة. هناك أيضاً أمم كبرى في غاية الرقي تزعم لنفسها من التاريخ، وللغاية نفسها، ما هو أعرق أو أهم مما تستحق، أو أنها تحرِّف تاريخها الحقيقي بطريقة أكثر إشباعاً لغرورها القومي. مع ذلك فإن شرطاً هنا لا بدّ من أخذه في الاعتبار. فإذا كان للتصوّر التاريخي – مهما يكن نوعه – أن يخدم الغرض الذي اختُلِقَ من أجله، يبقى من الضروري أن يأتي اختلاقُه مقبولاً من الجميع.
يقدم لبنان اليوم مثالاً ممتازاً للمجتمع السياسي المحكوم عليه بأن يعرف ويفهم الحقائق الصحيحة لتاريخه إن هو أراد البقاء في الوجود. وليست مسألة كيفية حل التعقيدات الشائكة للنزاع الحالي في لبنان مسألة يقررها المؤرخون في النهاية. لكن المؤكد هو أن أية تسوية سياسية في البلد، لا يمكن أن يكتب لها الدوام إن هي لم تأخذ مسائل التاريخ في اعتبارها. ومن قبل أن يأمل أهل لبنان في الوصول إلى درجة من التضامن الاجتماعي تمكنهم من الوقوف جنباً إلى جنب كجماعة سياسية منسجمة وقابلة للديمومة، عليهم أن يعرفوا بدقة لماذا هم لبنانيون، وكيف أصبحوا لبنانيين، وهم لم يكونوا في الأصل إلاَّ مجموعة من الطوائف المتفرّقة صودف تواجدها في بقعة واحدة من الأرض. وإذا لم يفعلوا ذلك – كما يبين المؤرخ كمال الصليبي – فإنهم سيستمرون في البقاء مجموعةً من العشائر البدائية المتنافرة أصلاً، تسمّي نفسها "عائلات روحية" من دون أن يكون لها بالضرورة أية علاقة بالروحانيات، وسيظلون جميعاً على حذر دائم، يطلقون مجسّاتهم إلى العالم الخارجي في كل الاتجاهات لسبر ما يمكن الحصول عليه هنا أو هناك من مساعدة ودعم، استعداداً لجولة أخرى من النزاع المكشوف.
ثمة تصور يضعه الصليبي لإمكان بلورة مقترح نظري لكي تغادر النخب اللبنانية بواسطة مأزق إيجاد تصور واحد لتاريخ بلدها.
ينطلق الصليبي من حقائق التجربة التاريخية اللبنانية المعاصرة لينتهي إلى ثلاثة استنتاجات:
– الاستنتاج الأول، هو أن تجربة الحرب الأهلية في لبنان قد أثبتت، بما لا يقبل الشكّ، أن أي طرف من اللبنانيين لا يمكنه أن يفرض رأيه بسهولة على الطرف الآخر. وهذا يعني أنه لا يمكن حل مشاكل لبنان – بما فيها تلك المتعلقة بالتاريخ اللبناني – إلا من خلال تنازعات عقلانية متبادلة تتم بين اللبنانيين على ضوء حقائق معينة.
– الاستنتاج الثاني، هو وجود مؤشرات واضحة على أن البلد قد بلغ الإجماع السياسي الأساسي لدى الأكثرية المواطنية غير المتقاتلة من مختلف الطوائف اللبنانية، وربما أيضاً عن عناصر كثيرة من الفئات المتقاتلة. مما يجعل استمرار وجود لبنان كدولة مستقلة ذات سيادة داخل حدوده الراهنة أمراً ممكناً.
– الاستنتاج الثالث، هو أن العالم العربي، ومهما يكن موقفه الأولي من لبنان، أصبح يقبل بالجمهورية اللبنانية، كما هي موجودة فعلاً؛ ويفهم البنية الحساسة للمجتمع اللبناني ويقدرها كما لم يقدرْها في السابق. وهذا يعني أن التسليم بعروبة لبنان – إلى الحد الذي قد يكون فيه هذا المفهوم صحيحاً – لم يعد يشكّل خطراً على استمرار سيادة البلد ووحدته، ولا على منزلة أية مجموعة معينة من اللبنانيين، هذا إن كان قد شكّل مثل هذا الخطر في الماضي. بل قد يقال اليوم إن للعرب رغبة خاصّة في المحافظة على استمرار سيادة لبنان ووحدة أراضيه، لأنهم فهموا أخيراً أن عملية تفكيك لبنان قد تتسرب بسهولة إلى بقية أنحاء العالم العربي، وتؤدي إلى تفكيك بلدان وأنظمة عربية أخرى. وإذا كان هذا هو الوضع بالفعل، فإن ما يعبر عنه العرب من اهتمام راهن بإعادة لبنان إلى ما كان عليه من استقرار قبل اندلاع الحرب الأهلية فيه، هو اهتمام حقيقي، له دوافع معقدة بالمصالح العربية عموماً.
لعل استنتاجات كهذه، لو صحت في اختبارات الحوار الذي يستعد له ممثلو الطوائف اللبنانية، يمكن أن تشق سبيلاً إلى التفاؤل. غير أن مثل هذا التفاؤل الذي نريد له أن يُنقل من المجاز إلى الحقيقة، يبقى رهناً بتبدلات جذرية في المفاهيم التقليدية التي تلقي بثقلها على البنية الصمّاء للثقافة السياسية اللبنانية.
مع ذلك فلا مناص لنا من رجاء..
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية