88
تمهيد
تميزت الديموغرافية الاجتماعية- السكانية في بلدان المشرق العربي. العراق- سوريا- فلسطين- لبنان بالتنوع الطائفي والقبلي والإثني والقومي. مع ما لهذا التنوع من صلة بالتحولات السياسية والاقتصادية، خاصة في الحروب التي جرت وتجري ليس فقط بين أطراف النسيج المجتمعي المشرقي، أيضاً مع ما يحيط المنطقة من صراعات وحروب أدت بنتائجها لهجرات واسعة من وإلى بلدان المنطقة.
لذا فقد أدت تلك التحولات الاجتماعية إلى تكوين خصوصيات مجتمعية وعرقية وطائفية هي ما حملته الهجرات من ترسبات سببتها الحروب التي جرت وتجري منذ آلاف السنين، وصولاً لما يحصل اليوم.
تلك التحولات التي رسمت أحياناً توازنات إيجابية معينة، وأحياناً أخرى أدت إلى تناقضات وصراعات وحروب، وكما يحصل ليس فقط في فلسطين، وفلسطين بؤرة صنعتها ليس فقط المصالح الغربية، بل أيضاً ساهم في صناعتها الكثير من العوامل، ومنها موقع المنطقة وثرواتها الطبيعية، لذا عمل المستعمرون لاستغلال الخصوصيات العرقية والطائفية وما يحصل في فلسطين والعراق وسوريا والسودان واليمن وليبيا، إضافة إلى ما تم التمهيد له في لبنان، من الدلالات ليس فقط حول أهمية المنطقة، بل أيضاً حول الأطماع الخارجية في خيرات المنطقة.
وإذا كنا نتحدث عن المشرق العربي، وعن أهمية موقعه، فإن على الباحثين ألا يتجاهلوا تناقضاته الداخلية، كذلك أطماع ومصالح ما يبتعد ويحيط به من دول- روسيا- إيران- تركيا- وغيرها من دول أوروبية – وبالأخص منها الولايات المتحدة الأمريكية- التي تحاول اللعب على التناقضات الداخلية ضمن النسيج المجتمعي المشرقي والمغاربي الذي يتشابه ويتكامل مع بقية أعضاء الجسم العربي المتنوع في مكوناته، وإن توحدت مصالح سكانه، تلك التي تحاول الجهات الاستعمارية- قديماً وحديثاً – ضرب وحدته الداخلية، تسهيلاً للسيطرة عليه.
إن مصر، التي كان لها تجربتان قريبتان مؤثرتان في الأوضاع السياسية والاجتماعية مع سكان المشرق، تمثلتا بتجربة محمد علي باشا، 1805- 1849 الذي امتد نفوذه إلى المشرق العربي ما بين عامي 1832 – 1840– وتجربة جمال عبد الناصر 1952- 1970- التي تميزت بما قام به من مقاربات للتعاون بين الدول العربية، ارتقت أحياناً إلى وحدة مصر وسوريا- 1958- 1961- وإلى مشاريع اتحادية مع العراق والسودان واليمن وليبيا وغيرها من أقطار عربية.
وسنحاول في هذه الدراسة مراجعة العلاقة التاريخية بين مصر وبلدان المشرق، انطلاقاً من تجربة محمد علي ومؤثراتها التاريخية، فمصر التي كان عدد سكانها في بداية القرن التاسع عشر، أربعة ملايين نسمة، في حين بلغ عدد أفراد جيشها، أربعمائة ألف جندي. بينما كان عدد السكان الأقباط حوالي المليون نسمة (الإحصاءات الفرنسية). وكان الأقباط هم الشريحة المتعلمة والتي تقلصت نسبة الأمية بينهم إلى الحدود الدنيا.
أما سبب هذا التمايز التربوي بين الأقباط والمسلمين فناتج عن السياسات التي قامت بها الإرساليات الغربية على الصعد التربوية – التعليمية، تلك الإرساليات التي حصرت مهمتها بتعليم المسيحيين، حاملة فيما حملته ليس فقط مؤثرات عصر التنوير، حيث أجبرت الكنيسة مواطنيها سواء في مصر، أم في بلدان المشرق العربي على التعليم تحت طائلة المحاسبة القاسية، بل كان هدف الإرساليات أيضاً خلق مناخات عند قوى اجتماعية معينة يراد تحضيرها كوسيط تجاري بين البلدان العربية والبلدان الغربية.
وفي عودة إلى ما قامت به الإرساليات، فإن المشروع الناصري قام أيضاً بتجربة مماثلة ما بين عامي 1952 – 1970 إذ طرح مشروعاً لمكافحة الأمية، فكان للمساجد والكنائس والمدارس وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني دور في تنفيذ مضامين هذا المشروع الذي كانت نتائجه استفادة حوالى خمسة ملايين مواطن مصري منه. أيضاً فإن سوريا كانت الخاصرة الرخوة التي عبرها تمت محاصرة مصر، وكان الانفصال الذي قام به ضمنياً حزب البعث المدخل لذلك. أما عن سوريا والتي هي مفتاح آسيا وملتقى القارات والبحار، كما أنها أيضاً قلب المسألة الشرقية، خاصة أنها على أبواب الدول النفطية، وهي بالإضافة لذلك في قلب المجال البري الواصل بين منابع النفط وموانئ البحر المتوسط. لذا، وكما ورد عند د.عصام خليفة، فإن سوريا وفي موقعها الجغرافي كنقطة وصل بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، قد وضعت أمامها خيارات قاتلة: إما أن تكون قاعدة لتهديد الدول النفطية، وإما أن تكون قاعدة حماية لهذه الدول، لقد شكل موقع سوريا تأثيراً ليس فقط على ما يحيط بها، خاصة على فلسطين ولبنان بل على المحيط بها من الأناضول إلى المحيط الهادي. لهذا كله تدور فيها وحولها صراعات لتقرير مصيرها، فالصراع على سوريا سيحدد مصير دول عديدة.
1 – التنوع الطائفي والسياسات الاستعمارية
في المشرق العربي
1805 – 1840
أما الصورة التي كانت عليها الطوائف غير الإسلامية فتبدو كالتالي: بلغ عدد السكان في المشرق العربي من غير المسلمين- مليون ونصف المليون نسمة- كان هذا في الربع الأول من القرن التاسع عشر. لكن هذه الطوائف لم تكن على وئام مع بعضها البعض، وهذا ما أدى في فترة تاريخية معينة إلى انقسام الكنيسة إلى قسمين؛ الأول: يتبع الكنيسة اللاتينية الغربية. الثاني: يتبع الكنيسة اليونانية الشرقية، حيث قسمت الكنيسة الكاثوليكية إلى عدة كنائس، ولكل كنيسة توجهاتها الخاصة من حيث ارتباطها ليس فقط بالخلافة، بل أيضاً بالبابوية وبالرعايا التابعين لها.
لقد احتفظت الكنيسة اللاتينية في الشرق بوحدتها، كونها تمثل الإرث الباقي من التراث الثقافي للعالم القديم. لكنها كانت قد انفتحت على الثقافة الغربية خلال فترة حكم محمد علي، فعمل قسم من نخبها بعد عودتهم إلى بلادهم في المؤسسات العامة، وقسم آخر تم تأهيله للتعامل التجاري مع الدول الأوروبية، كما أن نخباً متنوعة كانت قد أخذت مواقع لها في المؤسسات التي أشرف عليها هو وولده إبراهيم، سواءً في مصر أم في بلدان المشرق – الإدارية والمالية والخدماتية- وخاصة أن من يتم اختيارهم كانوا يتقنون ليس فقط اللغة العربية، وإنما أيضاً اللغات الأجنبية (الإنكليزية – الفرنسية).
أما بشأن الكنيسة الشرقية التي قسمت إلى ست كنائس، فقد أطلق عليها اسم الكنيسة الأرثوذكسية، بينما الكنائس الأخرى فقد انقسمت إلى نساطرة ويعاقبة، حيث أثر الانشقاق الذي حصل في العام 1054 على هذه التقسيمات، بين الكنيسة الرومية والكنيسة القسطنطينية التي انفصل قسم من رعاياها تحت تأثير الحملات التبشيرية الغربية والمرسلين الأجانب، ليلتحقوا بطوائف أو أديان أخرى. أما بالنسبة للموارنة في لبنان، الذين بلغ عددهم خلال فترة حكم محمد علي، مائة وخمسين ألف نسمة، فقد تعاونوا مع محمد علي، خلال وقبل سيطرته على بلدان المشرق العربي، وبقي هذا التعاون مستمراً حتى عام 1840.
لقد كان وقع العلاقات الأرمنية مع محمد علي، حين سيطر على مقاطعة كيليكيا إيجابياً، حيث تم التعاون بينهم وبين محمد علي، وذلك بهدف السيطرة على كرسي القدس، لكن الأرمن كانوا يرغبون أيضًا بأن يشملهم نظام الامتيازات الذي تتمتع به الطوائف المسيحية الأخرى، ولكن خاب ظنهم.
أما عن وضعية الطائفة الإنجيلية التي كانت تعترض على سلطة البابا ولا تعترف بها، وهم ممن لا يعترفون سوى بالإنجيل كمرشد ودليل وحيد لهم، فلم يحظوا بالامتيازات، وبالتالي لم تتم معاملتهم كما كانوا يرغبون من قبل الدول الراعية (راجع قاسم سمحات، محمد علي والمشروع الفرنسي في بلاد الشام). هذه هي وضعية الطوائف المسيحية واتجاهاتها والمتناقضات الموروثة بين بعضها البعض. أما عن واقع اليهود، حيث بدأ الاهتمام بهم نتيجة قوتهم الاقتصادية والمالية في البلدان الأوروبية. فقد كانوا قبل حملة نابليون بونابرت يعيشون مضطهدين في الدول الأوروبية، وكان هناك تمييز صارخ بينهم وبين الطوائف المسيحية، إذ كان الموروث الشعبي المسيحي يتهمهم بأنهم ساهموا (بصلب السيد المسيح).
لكن موقعهم المالي والاقتصادي كان سبباً من أهم أسباب إعادة الاعتبار والتعامل معهم بشكل مختلف، وكقوى محتملة يمكن استغلالها لتنفيذ المصالح الاستعمارية في المنطقة العربية.
هكذا بدأ نابليون يتصرف مع قضية اليهود، ومن بعده الساسة الإنكليز. فنابليون كان قد وعد القادة الصهاينة حين حملته على مصر عام 1798، بتبني مطالبهم السياسية في فلسطين. ومنذ ذلك التاريخ استمرت الوعود الإنكليزية، والإنكليز هم الذين رأوا في المطالب الصهيونية فرصة لهم لاستعمار المنطقة، واستغلال خيراتها، وهم الإنكليز أيضًا، من ساهموا في نشوء الحركة الوهابية مبكراً، أي منذ نشأتها 1736. أيضاً فقد فتحوا أقنية مبكرة مع الإخوان المسلمين، كما يقول أحد المؤسسين للإخوان أحمد سكري، وبهذا فقد أصبح للإنكليز أذرع يمكن استغلالها لتنفيذ السياسات الاستعمارية في المنطقة العربية.
لكن الفرنسيين كانوا قد طوروا علاقاتهم مع الطائفة المارونية، هذه الطائفة التي انفتحت مبكراً على الثقافة الغربية، وكان للإرساليات الفرنسية دور مهم في هذا الانفتاح.
لقد أصبح لبنان بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، ومن خلال علاقة الموارنة بفرنسا، قلعة ومركزاً للتبشير الغربي، إذ سهلت الامتيازات التي أبرمت مع الدول الغربية، وأدت إلى علاقات مميزة بين فرنسا والموارنة إلى تسلل النفوذ الفرنسي إلى البلاد التي تخضع للخلافة. إن نظام الامتيازات قد أعطى ذريعة للفرنسيين والإنكليز وغيرهما للتدخل في شؤون المنطقة، وذلك على حساب وحدة المجتمعات المنضوية تحت علم الخلافة. لقد أصبح الموارنة كما غيرهم من الطوائف المسيحية يخضعون للقوانين الأجنبية- الفرنسية، خاصة أن العلاقات بين فرنسا وهذه الطوائف كانت قد بدأت منذ الحروب الصليبية (1096) حيث كان هدف تلك الحملة كما قال البابا آنذاك، إقامة علاقات وطيدة بين مسيحيي الدول الأوروبية ومسيحيي الشرق. لقد حاول الفرنسيون أن يجعلوا من الموارنة خصوصًا والمسيحيين عمومًا ركيزة أساسية للنفوذ الفرنسي، وسط المنطقة العربية. لقد شكلت التنوعات الدينية المسيحية الإسلامية قاعدة لهذه العلاقة، أيضاً ساهمت في فتح أسواق المنطقة لتصريف الإنتاج الغربي (وهذا الهدف من الأهداف الحقيقية للدول الاستعمارية)، تلك التي لم تقتصر على ما أشرنا إليه، بل كان الهدف الأساسي وجوداً دائماً من القواعد الطائفية التي يمكن تحريكها بوجه بعضها بعضاً.
كما استغلت الدول الغربية هذا الواقع لتسويق سياساتها ليس فقط التجارية، وإنما أيضاً في منع وجود وحدة أو اتحادات سياسية بين دول المنطقة. لقد عمل الفرنسيون على تأسيس بنية ثقافية وسياسية ليس فقط داخل الطوائف المسيحية، وإنما أيضاً ضمن النخب الإسلامية. فمصر أيضًا، حيث حاول الفرنسيون جعلها أنموذجاً لسياستهم، كان ذلك من خلال تبني فرنسا لمشروع محمد علي، وقد بدت سياستهم في أول الأمر على أنها سياسة تعاون بين دولتين، ولكن بعد حرب المورة – اليونان – 1827، والبدء بتنسيقهم مع الإنكليز، بدأت تتضح السياسة الاستعمارية للفرنسيين والإنكليز، وإن كانت مصر قد بدأت تتعامل بندية مع الغرب، وتَبدَّى ذلك من خلال المنحى التحديثي الذي سارت عليه خاصة وهي تتوجَّه للانفصال عن الخلافة العثمانية، ومحمد علي هو من أخذ بأفكار عصر التنوير في بناء مؤسسات اجتماعية يتم الفصل فيها بين الدين والدولة. لقد بدأ محمد علي يسير على خطا الغربيين في تبنيه لمشروع دولة مدنية. فالخلافة التي كانت تتعامل مع السكان الأقباط كطائفة منبوذة، بدأ محمد علي يشرع القوانين الجديدة لإزالة هذا الغبن، فأخذ بسياسة (التنوير الغربية) تلك التي عمل على تطبيقها في مجتمع ذي سمات سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة عما في المجتمعات الأوروبية. هذه السياسة هي ما ساهمت في إعطاء القيمة للمساواة بين المواطنين، سواءً انتموا إلى هذه الطائفة أو تلك. ليس على أسس دينية، بل على أسس مهنية ووظيفية وكفاءة. ويلاحظ أيضًا أن السبب في توجهات محمد علي كون تلك الشريحة من الأقباط، كان أفرادها يتمتعون بأرضية ثقافية وعلمية تؤهلهم للمساهمة في تسويق مشروع محمد علي التحديثي. خاصة أن الأقباط، مثلهم مثل غيرهم من الطوائف غير الإسلامية في المشرق، كانوا قد ساهموا في خلق المناخات الإيجابية التي ساعدت محمد علي على تحقيق مشروعه، كما حصل ذلك في المشرق بين إبراهيم باشا وبعض الأمراء الآخرين، خاصة الأمير بشير الشهابي الماروني، حيث ساهمت الطوائف المسيحية في الشرق برفد المشروع المصري، في حين أخذت معظم قيادات الطوائف الإسلامية موقفاً ملتبساً.
لقد كانت مجمل الطوائف تعيش فيما يشبه الغيتوهات من حيث انغلاقها على نفسها، ما أفقد كلاً منها الشعور بالأمان، خاصة أن النظام المللي العثماني كان يعزز هذا الخوف، ومما أعطى معنى مضاعفاً لهذا الخوف نظام الامتيازات العثماني الذي أُعطي للدول الغربية، وساعد على خلق التباسات في هوية هذه الشرائح الوطنية. إن السياسة الغربية كانت تعزز الخلافات بين الطوائف- فرق تسد- خاصة أن سكان بلاد الشام الذين يتجاوز عددهم المليون والنصف، كان ربعهم من الأقليات غير الإسلامية، كان الوالي العثماني يعمل على تحريك هذه الطائفة ضد تلك، وقد ازدادت هذه الحساسية بعد حصول الدول الغربية على الامتيازات.
لذا، كانت سياسة محمد علي وإصلاحاته تهدف لخروج هذه الشرائح من عزلتها. لكن سكان دمشق المسلمين على ما يشير أكثر من مؤرخ، خاصة قاسم سمحات في كتابه "محمد علي باشا والمشروع الفرنسي في بلاد الشام"، كانوا يحاربون الأفكار الجديدة التي يعتقدون أنها تفسد عقل الناشئة. في حين كان المسيحيون ينفتحون على كل جديد، خاصة أن الإرساليات الأجنبية قد وطدت في مدارسهم المناهج التي تحمل بعض سمات ما هي عليه الحياة في الدول الغربية، وبهذا تمكن العثمانيون ومعهم الغربيون من تعميق وتجذير التمايزات بين المسلمين والمسيحيين، وللمفارقة الملفتة من أن السياسات الغربية وحتى بداية القرن التاسع عشر، لم تكن تهتم بمصير الطوائف اليهودية، ذلك الإهمال الذي رافقه اضطهاد أوروبي لهم، ما اضطرهم إلى اللجوء إلى الشرق ليصبحوا بدءاً من عام 1948، لُقمة سائغة للتوجهات الاستعمارية الأوروبية، خاصة الإنكليزية منها. وفي عودة إلى التاريخ نجد أن ما يسمى بازدهار "الحضارة اليهودية"، كان قد برز في ظل التسامح العربي- الإسلامي، خاصة في إسبانيا، في حين كان للسياسة العنصرية الغربية تجاه اليهود، أن ساهمت ولا زالت في نمو الثقافة العنصرية والعدوانية السياسية ضدهم، ليس فقط في أوروبا بل أيضًا في المنطقة العربية.
لقد تطورت التوجهات الثقافية ذات النزعة التجارية لليهود في ظل الحضارة العربية، حيث كانت النخب اليهودية من أصحاب رؤوس الأموال تبرز وتأخذ مكانها في تلك المجتمعات. وهذا ما حاول الغرب استثماره والاستناد إليه في علاقاته مع الرأسماليين من ذوي الانتساب للديانة اليهودية في الدول الغربية.
هذا ويمكن اعتبار الحملة الفرنسية على مصر، أنها شكلت مرحلة جديدة، بعد المرحلة الصليبية في مصر. لقد توجت المشاريع الاستعمارية ليس فقط بوعد بلفور، وإنما فيما بعد بما قام به هتلر بحق اليهود وهذا ما فتح الطرق لهجرة اليهود الغربيين من مواطنهم الأوروبية إلى فلسطين ومن ثم إلى نزوح اليهود العرب من مواطنهم، حيث مورست بحقهم كل الضغوطات والأساليب الصهيونية الاستعمارية، الدافعة لهجرتهم، وهذا ما سهل تحقيق المشروع الاستعماري الصهيوني عام 1948. راجع بتصرف كتاب مصر في القرن التاسع عشر- ادوار جوان- تعريب محمد مسعود ط/1921 القاهرة.
2 – الإنكليز والمشروع الصهيوني في فلسطين
في الشرق فشلت حملة نابليون، فأخذ الإنكليز يعملون على تحقيق ما بدأ به نابليون، وهم الآباء الحقيقيون للمشروع الصهيوني في فلسطين. فبريطانيا كانت بحاجة لتوظيف الرأسمال الصهيوني المتنامي في مشاريعها السياسية والاقتصادية. ولهذا فقد وجدوا فيما يسعون إليه من أن الرأسماليين اليهود هم الطبقة الأكثر نشاطاً في المجالات التجارية والمالية الغربية وغير الغربية. لذا عملوا على توظيف الرأسمال اليهودي في استغلال اقتصاديات أسواق الشرق، فالرأسمال اليهودي كان يملك مؤسسات مصرفية كبيرة خاصة في ألمانيا، وبالأخص في البورصة في برلين، إذ نرى أن خمسة من أصل تسعة أفراد هم من الرأسماليين اليهود ممن كانوا يوقعون على جدول الأسعار في البورصة الألمانية. لهذا سعى البعض من المتمولين الصهاينة لتوظيف الرأسمال اليهودي في المشاريع السياسية، ليس فقط في الغرب وإنما أيضاً في الشرق. لذا عمل الإنكليز على توظيف هذه الإمكانيات في فلسطين، حيث بدأ اليهود المضطهدون يهاجرون من أوروبا إلى فلسطين.
إن هذه التوجهات التي بدأ الصهاينة يعملون لتحقيقها، كانت من بنات أفكار الساسة الإنكليز الذين رسموا معالم المشروع الصهيوني، وعملوا على تنفيذه خطوة خطوة. إن رئيس الوزراء البريطاني بالمرستون، والذي كانت تربطه صداقة متينة ليس فقط باللورد الصهيوني (اشلي) صاحب النفوذ في جمعية يهود لندن، بل أيضاً بغيره من الرأسماليين اليهود، وهم كثر ممن لهم نفوذ في البلاط الملكي في بريطانيا. وقد عمل هؤلاء وغيرهم على تبني المشروع الصهيوني والسير بتنفيذه حتى يتحقق. لذا كان المخطط يقتضي بأن تحتل إنكلترا سوريا. ضماناً لتحقيق المشروع الصهيوني. وتمهيداً لاستعمار فلسطين وتحقيق إنشاء الكيان الصهيوني. وكانت البدايات بأن قام الإنكليز بدفع الجماعات اليهودية المضطهدة في أوروبا لتعود إلى (بلادها القديمة) كما جاء في التوراه. وكما كان يروج لذلك الإنكليز، ولتحقيق هذا الهدف، قابل بعض الساسة والمتمولين من الصهاينة محمد علي وابنه إبراهيم، وعرضوا عليه إمكانية استثمار أراضٍ في الجليل قدرت مساحتها بمائتي قرية، لمدة خمسين عاماً، على أن يتخذ الباشا قراراً بإعفاء سكانها من الضرائب. وطلبوا منه الموافقة على استقدام خبراء زراعيين لتدريب الفلاحين على الطرق الحديثة في استغلال الأرض. وكانت هذه البداية العملية لتحقيق المشروع الصهيوني، الذي تكتلت وراءه المصالح الغربية.
جاءت موافقة محمد علي، مقابل تعهد من الرأسماليين اليهود بمضاعفة الرأسمال اليهودي في المناطق التي تقع تحت إدارة السلطة المصرية. لقد تعهد الرأسماليون الصهاينة بإقامة العديد من المشاريع ومنها إنشاء البنوك في المدن المصرية والسورية والفلسطينية، ولكن شيئاً من هذا لم ينفذ. وما حصل أن الرأسماليين الصهاينة، كان دورهم ينحصر في المجالات التجارية، حيث سيطروا على جزء مهم من اقتصاديات بلدان المشرق العربي، كان ذلك بمساعدة الإنكليز. لقد كان بالمرستون الراعي الأول للمشروع الصهيوني، هذا المشروع بدأ يدفع اليهود الأوروبيين كذلك القاطنين في المناطق المختلفة من الدولة العثمانية للهجرة إلى فلسطين. وهذه الدعوة كانت المقدمة الأولى للاستيطان في فلسطين. لقد أصبح اليهود تحت الحماية الإنكليزية، على غرار ما بدأه الفرنسيون من حماية للرعايا الكاثوليك. وبهذا التوجه يكون الإنكليز قد قدموا خدمة لدولتهم أولاً، وليس لليهود الذين تم دفعهم للهجرة من الدول الأوروبية والاستيطان في فلسطين. لقد تقاطعت مصالح الخلافة العثمانية مع مصالح الإنكليز في خلق حاجز قوي أمام مطامع محمد علي في السيطرة على البلاد السورية. فالإنكليز، وعلى لسان بالمرستون اعتبروا أن الكيان الصهيوني في فلسطين يعتبر ذا وظيفة حيوية كونه سيستخدم لفصل المشرق العربي عن المغرب العربي وبالتالي عن مصر، إضافة لكونه يستخدم لإقامة منطقة عازلة، ما سيؤمن للإنكليز طرق التجارة إلى الهند
إن توسع محمد علي في بلدان المشرق العربي – كما يشير إلى ذلك جورج أنطونيوس في كتابه يقظة العرب – وامتداده إلى الجزيرة العربية والبحر الأحمر، ومن ثم إلى بلاد الشام – قد أكسبه السيطرة على المناطق الواقعة على طريق من أخطر الطرق التجارية في العالم. لذلك كان هدف المشروع الإنكليزي إحداث بلبلة داخل المؤسسات التابعة للحكم المصري في بلاد الشام وبالتالي إفشاله، كما اعتبر المشروع الإنكليزي خطوة تهدف لإضعاف السيطرة والدور الفرنسي في سوريا.
إن المشروع الإنكليزي الاستعماري لم يقف عند تبنيهم للمشروع الصهيوني، بل كان الإنكليز من قبل قد بسطوا حمايتهم على المشروع الوهابي في الجزيرة العربية، وعملوا على رعايته إلى أن أصبح قابلاً للحياة، كما أن الإنكليز ذاتهم هم من ساهموا في تأسيس منظمة الإخوان المسلمين بعد انهيار الخلافة العثمانية. وحسن البنا لم يكن إلا واحداً من البنائين الماسونيين.
لقد اصطدم محمد علي بالمشروع الوهابي 1811- 1819، وقضى على هذا المشروع، مؤقتاً، ولكن الإنكليز أعادوا إحياءه قبل الحرب العالمية الأولى. كما اصطدم العرب، ولازالوا مع المشروع الصهيوني، خاصة مصر التي تواجهه بطرق وأساليب متنوعة. بدءاً من اصطدام عبد الناصر ذاته مع المشروع الصهيوني الاستعماري. كذلك مع مشروع الإخوان المسلمين، ومن ثم اصطدم مع المشروع الوهابي في اليمن 1962- 1968. بتصرف عن أدوار جوان، مصر في القرن التاسع عشر، مرجع سابق، خاصة التقرير عن حملة سوريا، ص 796.
3 – محمد علي يمد نفوذه إلى بلدان المشرق
يرى المتابع لتاريخ العلاقات المصرية مع بلدان المشرق العربي- فلسطين- سوريا- لبنان- العراق- العلاقات المميزة والراسخة، خاصة بين لبنان ومصر أي بين محمد علي وبشير الشهابي، وبين عبد الناصر وفؤاد شهاب. نتابع ذلك ليس فقط من خلال العدد الضخم من أصحاب الكفاءات من اللبانيين الذين احتضنتهم مصر، أي بين محمد علي وبشير الشهابي، وبين عبد الناصر وفؤاد شهاب. ففي عصر محمد علي 1805- 1849. لم يقتصر الأمر على تحالف عسكري استمر طوال فترة حكم الباشا والأمير بشير الشهابي، بل تجاوز ذلك ليستعين محمد علي بالكفاءات الزراعية والطبية والإدارية، كذلك ممن لهم خبرة في الطباعة، أيضاً في الإدارة خاصة في الشؤون المالية وغير ذلك. وفي هذا الشأن هاجر إلى مصر من اللبنانيين الآلاف من الكفاءات المهنية، والذين برز منهم العديد ممن ساهموا في تأسيس المسرح والسينما والصحافة. كذلك كان للبنانيين دور فعال في النهضة الثقافية والعلمية والزراعية التي عرفتها مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، تلك الفترة التي برزت فيها المخططات الأجنبية الآيلة لاحتلال المنطقة وتقسيمها ما بين الثنائي المستعمر الإنكليزي والفرنسي، أما في العهد الناصري فقد قام لبنان بدور إعلامي وثقافي وتربوي قومي عربي فعال، وظف لخدمه المشروع الناصري..
لقد عرفت بلدان المشرق حالات تمرد وثورات عديدة، ليس فقط ضد الخلافة، بل أيضاً ضد الإنكليز والفرنسيين. ويلاحظ المؤرخون أن معظم التمردات التي قامت ضد الحكم المصري في الشرق، وإن كان لها جذور اجتماعية وسياسية، إلا أن الاستعمار بشقيه الفرنسي- الإنكليزي، ومن بعده الأمريكي- كانت مصالحهم كقوى استعمارية هي المحركة لهذه التمردات.
4 – ثورة الدروز الأسباب والنتائج
كان للثورة الدرزية التي بدأت في لبنان، ومن ثم امتدت إلى السويداء في سوريا، دور أساسي في إضعاف شوكة إبراهيم باشا. هذه الثورة كان الجيش المصري قد دفع ثمنها العدد الكبير من الضحايا والذين قدروا بالآلاف. تلك الثورة التي استعرت وتطورت نتيجة جهل محمد علي وعدم استيعابه للخصوصيات السياسية والاجتماعية والطائفية التي تتشكل منها الخصوصيات الأثنية والطائفية المتنوعة في المشرق، خاصة تلك العلاقة المعقدة التي بنيت على أساسها دولة لبنان، وبالأخص علاقة دروز لبنان بمواطنيهم اللبنانيين من الموارنة.
لقد تسرع محمد علي حينما ألغى الامتيازات التي كان يتمتع بها دروز لبنان، تلك الامتيازات التي دفع الدروز وغيرهم ثمناً عالياً لتحقيقها، وأدت إلى عدم شمولهم بنظام السخرة، كذلك عدم إلحاقهم بالتجنيد الإجباري، إضافة لعدم التعرض لحملة السلاح منهم.
لقد حصل الدروز وغيرهم من مكونات مجتمعية على هذه الامتيازات من الخلافة العثمانية، بعد أن دفعوا ثمناً غالياً. فمعظم الشرائح الاجتماعية متحدة بالأرض وبالمكان، دون الأرض لا حياة لهم، ودون المكان هم ضعفاء. بينهم وبين المكان الذي يعيشون فيه وحدة عضوية، هم بمعظمهم فلاحون يقدسون الأرض التي يعتبرونها أماً وأباً لهم. المناطق التي يعيشون فيها يمكن القول إنها مناطق جبلية وعرة. لذا، فهم دوماً وأبداً في مواجهة المجهول. هذا الوضع هو الذي أعطى معنى لثقافتهم حيث يقدسون الحرية. فضلاً عن ذلك فهم من الطوائف المتمسكة بتقاليد توارثوها أباً عن جد، وقد تكون عزلتهم في الأمكنة التي عاشوا فيها، هي التي أعطت معنى للتمسك بسلاحهم، فسلاحهم هو الوجه الآخر لحريتهم، أما مفهومهم للكرامة فيرتبط ليس فقط بكونهم (أقليات)؟ متجذرة بالأرض، وبالتالي فإن حمل الدروز للسلاح يهدف لتأكيد هذه الخصوصية. لذا لم يكن الدروز فقط يرفضون التجنيد الإجباري والسخرة معاً بل أيضاً المسيحيين وغيرهم من المسلمين، وما بين هذا وذاك فإن الدوافع المضافة بالنسبة للدروز تمثَّلت بتقاربهم مع الإنكليز في مواجهة ما كانت عليه علاقة الموارنة بالفرنسيين، وعلاقة السنة بالخلافة، وعلى رأس هذه العوامل المضافة بين الدروز والموارنة، العلاقة المتوترة مع جيرانهم من المسيحيين، تلك الناجمة عن مقتل بشير جنبلاط، وهذا ما عبر عنه بوضوح كمال جنبلاط في مذكراته التي ترجمت إلى العربية ونشرت مباشرة بعد اغتياله عام 1977.
ولا عجب فالدروز إضافة لما ذكر، مثلهم مثل الشيعة كان القسم الأكبر منهم قد نزح من مصر إلى لبنان بعد انهيار دولة الفاطميين في نهاية القرن الحادي عشر. لذا، فقد تكون التحالفات التي قام بها محمد علي مع بشير الشهابي، عنواناً من العناوين التي ساهمت في خلق المناخات لنمو وبروز التوترات والصراعات بين الدروز والموارنة والتي تكثفت وأدت إلى إعدام بشير جنبلاط عام 1825، إلا أن تلك الصراعات تقلصت، حيث أدت إلى تشكيل جبهة لبنانية ليس فقط ضد النفوذ المصري والتي أدت إلى انسحابه من لبنان ومن المواطن العربية الأخرى في سوريا وفلسطين عام 1840، بل أدت إلى ما يفتخر به الطرفان- الماروني- الدرزي- اليوم ويتباهى فيه كل منهما، حيث توحدوا مع مكونات مجتمعية أخرى ضد الوجود المصري، وأعلنوا عن ذلك في اجتماع جمعهم في أنطلياس وأطلقوا عليه عامية أنطلياس، هذه العامية التي وظفت مطالب المشاركين فيها وإن بشكل غير مباشر لصالح الخلافة العثمانية، وبشكل غير مباشر فتحت تلك الانتفاضة الأبواب واسعة للنفوذ الاستعماري الإنكليزي- الفرنسي.
5 – أحداث القرن التاسع عشر وامتداداتها في القرن العشرين
لقد استمرت التوترات والصراعات بين الطوائف اللبنانية، تلك التي أخذت أقصى درجاتها عام 1860، إذ أدت إلى قتل وتشريد الآلاف من اللبنانيين، خاصة من المسيحيين، وحيث شهدت هذه الفترة التاريخية حالة من المتغيرات الديموغرافية السكانية، حيث أبيد سكان قرى لبنانية بكاملها (يمكن مراجعة ما كتبه جوزف نعمة وغيره من المؤرخين حول الموضوع)، وهذا هو ذاته الذي حصل في القرن العشرين 1975-1990. ففي حين أن الرئيس فؤاد شهاب وكمال جنبلاط ورشيد كرامي وصائب سلام وأحمد الأسعد وغيرهم قد دخلوا في تسوية أدت إلى هزيمة المشروع الهادف إلى إلحاق لبنان بالسياسات الغربية عام 1958. حيث استطاع كل منهم أي الرئيس شهاب وجنبلاط التكيف مع تلك التطورات مستفيدين من التوازنات الإقليمية والدولية التي نشأت وساعدت فؤاد شهاب وغيره إلى السير في بناء مؤسسات الدولة اللبنانية، رافقها وجود كتلة صلبة من النخب السياسية والتنويرية تمثلت بموريس الجميل وفؤاد بطرس، وأيضًا من قوى ومؤسسات ثقافية تمثلت بالندوة اللبنانية- ميشال الأسمر وعبد الله العلايلي وفؤاد أفرام البستاني ومارون عبود وميخائيل نعيمة وغيرهم من قوى سياسية تقليدية لها حضورها التمثيلي وحركة السلم، ذي الميول الشيوعية التي كان من أبرز قادتها عبد الله العلايلي وطانيوس منعم ورئيف خوري وأنطوان ثابت وآخرين، وتمثلت أيضاً بوجوه سياسية تقليدية منها الرئيس صائب سلام والرئيس أحمد الأسعد وصبري حمادة وغيرهم. كما تمثلت بالمقابل بنهوض واسع لحركة سياسية نشطة كانت قد اخترقت الطوائف اللبنانية مجتمعة. لقد رسم جيل فؤاد شهاب مع قوى ثقافية متنوعة صورة جديدة لجمهورية لبنانية تنادي بالتعاون العربي، ومن تلك النخب من دعا للوحدة العربية وآخرون دعوا للاتحاد. ما أدى إلى انحسار النزعة الطائفية. لكن هذا المد كان قد بدأ ينكفئ خاصة بعد عام 1967 وبالأخص بعد اغتيال جمال عبد الناصر، ومن ثم كمال جنبلاط عام 1977، وقبل ذلك كان قد وصول حزب البعث في سوريا والعراق إلى السلطة، إذ برزت تيارات سياسية عربية، أخذت تتكيف مع تحولات سياسية جديدة. هذا الوضع هو ما ساهم في تفاقم ليس فقط حدة الصراعات العربية- العربية، بل أيضاً في عدم وجود بدائل تكمل المشروع القومي العربي الذي حمله جمال عبد الناصر. ففي لبنان على سبيل المثال نرى أن بعض النخب السياسية المسيحية التمثيلية كانت قد رأت في وجود المقاومة الفلسطينية نقيضاً لفكرة الدولة اللبنانية المستقلة، أما القوى اللبنانية ذات التوجهات القومية المنفتحة على العروبة، والتي مثلها كمال جنبلاط كانت قد تقدمت في لبنان بمشروع، كان يمكن أن يفتح حواراً بين اللبنانيين، وأيضاً بين اللبنانيين والفلسطينيين يساعد على وقف الحرب الأهلية التي أخذت تستعر وتقوى. لقد رأى صادق جلال العظم أن حقبة ما بعد عبد الناصر هي الحقبة السعودية الوهابية. ولم يكن حافظ الأسد، الذي رأى في سيطرته على لبنان حماية لنظامه، سوى المتعهد لما تريده وتطلبه الولايات المتحدة، وكان وجوده في لبنان برعاية أمريكية وبموافقة ضمنية إسرائيلية. لقد تكيف النظام السوري مع كل ما تطلبه منه الولايات المتحدة السكوت عن احتلال إسرائيل للجولان وعدم تحريك جبهة الجولان- تصفية الحركة الوطنية في لبنان، اغتيال قائدها كمال جنبلاط وجورج حاوي وغيرهما، تصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان، إرسال قوات من الجيش السوري عام 1990، لضرب العراق، كما أن النظام العراقي كان قد فتح الباب واسعاً لحرب مع جيرانه الإيرانيين، وبالتالي فقد كانت ممارسات النظام السوري كذلك العراقي نقيضاً لكل الشعارات التي يطرحها كل منهما. إن مجمل هذه المواقف والممارسات لم يدفع ثمنها فقط اللبنانيون والعراقيون والفلسطينيون، بل دفعت ثمنها الاتجاهات القومية العربية كلها، خاصة العراقية- السورية والتي عانى الشعبان السوري والعراقي ما يعانيانه من هذا الحزب. وأيضاً من النظام الإيراني الذي تحول من نظام تحرري من الشاه وبالتالي من النفوذ الأميركي، إلى نظام ذي نزعة توسعية طائفية شيعية. إن ممارسات النظام السوري كذلك العراقي كانت قد جاءت تحت شعار- أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، في حين أننا نرى أن الممارسات التي قام بها هذان النظامان، كانت النقيض لما يطرحه كل منهما من شعارات. أيضاً كان للنظام السوري الدور الأسوأ في الحرب الأهلية اللبنانية 1975- 1990 إذ كانت مهمته تأجيج الخلافات بين اللبنانين واضطهاد بل إعدام وسجن كل من ينتقد سياساته.
6 – عودة إلى محمد علي ومخططاته العسكرية تجاه المشرق العربي
يلاحظ المؤرخ للفترة الممتدة من 1805 إلى 1827، من أن محمد علي قد خطا خلالها خطوات مهمة، ليس فقط في إنشاء مؤسسات الدولة المصرية، بل الملفت تحديثه للقوانين وصولاً لتحقيق خطوة مهمة باتجاه تبنيه للأنظمة والقوانين المعاصرة والنقيضة لنظام الخلافة شبه الإقطاعي، نظام تسود فيه الكثير من ثقافة عصر التنوير، خاصة قيم المواطنة والمساواة. ونلاحظ ونحن نستعرض الأوضاع التاريخية التي مرت بها المنطقة، المؤثرات السلبية للخلافة العثمانية تجاه كل ما كان يخطط له محمد علي ويتخذه من قرارات. لقد حملت مؤثرات العصر السياسية والثقافية والاجتماعية، آراء متناقضة ومتباينة بين مشروعين للسياسة المصرية، هما مشروع محمد علي الذي رسم فيه موقعاً لمصر الممتدة إلى محيطها وعمل من أجل تحقيق ذلك على التكيف مع السياسة الدولية، إذ إن جل ما كان يطمح إليه الباشا تأكيد زعامته لمصر وبسط نفوذه على الولايات العربية الشرقية سوريا- العراق- فلسطين- لبنان، وهذا ما تحقق له، في حين كان مشروع إبراهيم باشا مختلفاً، إذ رأى أن الظروف السياسية والاجتماعية في الولايات المشرقية لا يمكن أن تسري عليها القوانين والتشريعات الضرائبية المعمول بها في مصر، أيضاً كان يرى أن على مصر أن تعمل لتحقيق حالة انفصال عن الخلافة العثمانية، وهذا ما قام بتنفيذه على الأرض بعد عام 1833، حيث حاصر الأستانة واحتل كل المدن والمناطق المحيطة بها، تمهيداً لاحتلال عاصمة الخلافة، ولكن كانت مراسلات إبراهيم إلى والده، تطالب بإسقاط الخلافة وتشريعاتها وقوانينها الإقطاعية، في حين أن محمد علي كان يرفض ذلك، وهذا ما أدى إلى وصول مصر إلى العزلة التي عرفتها بعد عام 1841. لقد كان إبراهيم مجبراً على احترام وتنفيذ كل القرارات التي تأتيه من والده في مصر، وإن لم يكن مقتنعاً بالكثير منها، كما أن محمد علي كان يريد فرض التشريعات والقوانين العثمانية السارية في مصر على البلدان المشرقية، السخرة التجنيد الإجباري والضرائب الباهظة على الفلاحين وغيرهم من شرائح المجتمع. وهذا ما كان يرفضه إبراهيم باشا، وإن كان مجبراً على تنفيذه.
7 – إبراهيم باشا يصطدم بالإرث العثماني- الاستعماري
لقد كانت الولايات العربية المشرقية قبل دخول القوات العسكرية المصرية إليها مقسمة إلى أربع مقاطعات، وهي حلب ودمشق وعكا وطرابلس، فالعثمانيون كانوا يعتبرون عكا هي المدينة الأهم، وذلك لموقعها الجغرافي البحري، ولوجود حاكم موثوق وتابع وقوى على رأسها، في حين كان محمد علي يرى أن السيطرة على عكا تفتح الطريق له للوصول إلى كل المناطق السورية- اللبنانية، وهذا ما كانت ترفضه الخلافة. لقد كانت عكا وحاكمها حاجزًا بين محمد علي وطموحاته. لكن تلك المنطقة كانت قد خضعت لحكم الباشا منذ العام، 1833، إضافة إلى نابلس وطرابلس والقدس وجبل لبنان والمدن السورية المتعددة، تلك المناطق التي كانت تخضع للخلافة والتي أصبحت فيما بعد تخضع لمحمد علي، إذ إنه قبل السيطرة المصرية على فلسطين كانت الخلافة قد أصدرت فرماناً بتنحية عبد الله باشا والي عكا والأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان، وذلك لوجود مقاربات وتعاون بينهما وبين حاكم مصر محمد علي. إن هذا القرار هو ما دفع كليهما إلى اللجوء إلى مصر عام 1822، والطلب من محمد علي التوسط مع الباب العالي لإعادتهما إلى منصبيهما، وبموجب هذه الوساطة أصدر الباب العالي فرماناً بإعادتهما إلى منصبيهما. وبهذا فقد توطدت العلاقة بينهما وبين الحكم المصري، خاصة بين حاكم مصر والأمير بشير الشهابي. بحيث أصبح الشهابي طوع بنان محمد علي. لكن الباب العالي الذي لم يرقه ذلك، كان يعمل في السر على إثارة المشاكل ليس فقط في وجه طموحات محمد علي الذي كان يرغب في مد نفوذه للولايات العربية في المشرق، بل أيضاً في وجه بشير الشهابي. لذا، فقد توحَّدت السياسة العثمانية مع بشير جنبلاط ومع الأرسلانيين- الموحدين، أيضًا مع عبد الله باشا والي عكا الذي تنكر بعد ذلك لمحمد علي، وقام بمواجهته حين تقدم بجيشه للسيطرة على فلسطين وسوريا.
بدأت الخلافة تخطط لإضعاف الأمير بشير الشهابي، ما أدى إلى صراعات سياسية بين الدروز والموارنة. ثم ما لبثت أن تحولت إلى صراعات عسكرية أدت إلى إعدام بشير جنبلاط على يد عبد الله باشا والي عكا. هذا وبمقتل بشير جنبلاط كان قد أصبح بشير الشهابي الحاكم المطلق على جبل لبنان، أيضاً الركيزة الأساسية التي سيعتمد عليها محمد علي خلال سيطرته على بلدان المشرق العربي. لم يقف الأمر عند مقتل بشير جنبلاط، ولكن هذا الحادث كان قد فتح أبوابًا واسعة لصراعات مفتوحة بين الطوائف المختلفة خاصة بين الدروز والمسيحيين. تلك الصراعات التي بدأت عام 1517، والتي كان من نتيجتها أن تعاقب على حكم دمشق مائة وثلاثة وثلاثون باشا، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على ضعف الخلافة التي لم تستطع أن تضع حداً لهذه الصراعات ليس فقط في دمشق، وإنما أيضاً في معظم أنحاء الولايات العربية المشرقية.
أمام هذا الواقع الذي لم تستطع الخلافة وضع حدٍ له، أو إرادة لإيقافه، كانت أنظار محمد علي تتطلع نحو هذه الولايات وقد مهد الباشا لذلك بالعديد من الاتفاقيات التي كان قد أبرمها مع عبد الله باشا والي عكا الذي تنكر لاحقًا لمحمد علي ومن ثم رضخ له مرغماً، ومع بشير الشهابي والي جبل لبنان، ومع آخرين من الزعماء الذين كلفوا من الخلافة العثمانية لإدارة الولايات المشرقية، وبهذه الاتفاقات كان محمد علي يمهد لمد نفوذه إليها، إذ أرسل في هذا الصدد العديد من الرسائل إلى الباب العالي يطلب فيها إسناد ولاية دمشق إليه لكي يتمكن من فرض الأمن كما أرسل مبعوثين من قبله للولاة المعينين من قبل الخلافة يطلب ودهم ويطمئنهم على مصيرهم في حال سيطرة الجيش المصري على سوريا وفلسطين ولبنان. لقد أُجبرت الخلافة على مطلب محمد علي، وهي التي كانت تخشى من زيادة نفوذه، إذ كانت الخلافة واقعة كما يقولون بين تهديدين؛ تهديد محمد علي من جهة، والتهديد الذي يأتيها من بعض الولايات التي كانت تطالب بالاستقلال عن الخلافة من جهة ثانية، بالإضافة للخطر المحدق والمتمثل بالأطماع الفرنسية الإنكليزية.
بدأ محمد علي يعمل على تعزيز نفوذه، ولهذا الغرض بدأ يستقطب الحلفاء، خاصة أولئك الذين كانوا يقومون بالتمرد أو بالثورة ضد الخلافة، تلك التمردات التي لا يمكن ردعها إلا من قبل جيش قوي. وهذا الجيش هو تحديداً الجيش المصري، لذا بدأ إبراهيم باشا يخطط للتعاون مع بعض الولاة الموثوقين كذلك لتعيين ولاة جدد مكان الولاة الذين كان يعتقد عدم ولائهم، أيضاً كان يخطط لكسب ود الأهالي الذين أنهكتهم الضرائب وتعسف الولاة المنتدبين من قبل الخلافة.
لقد أدرك محمد علي أن حماية سلطته في مصر، لا يمكن أن تتحقق إلا بضم سوريا إلى مصر، فإذا نظرنا إلى المجريات التاريخية لأمكننا أن نرى أن غزوة الفاطميين وكذلك الحملة الفرنسية على مصر، إضافة إلى سائر الغزوات كانت تأتي عن طريق العراق وسوريا، كغزو الفرس في عهد قمبيز، وغزو الاسكندر، والفتح الإسلامي، وغزو الأيوبيين والأتراك، جميعها كانت تأتي من خلال دمشق. لذلك لا يمكن الاطمئنان إلى بقاء مصر مستقلة إلا بمد نفوذها إلى الأراضي السورية.
إن حدود مصر لا تبدأ من السويس، بل تبدأ من طوروس، كما كان لمحمد علي دوافع اقتصادية وسياسية أخرى خاصة حاجته للمواد الأولية التي ستكون عوناً للباشا لتطوير مشروعه الاقتصادي، أضف إلى ذلك حاجته لتجنيد السكان في الجيش، سواء إجبارياً أو بالسخرة، وذلك لفرض النظام والأمن داخل البلاد المصرية وغيرها من المناطق التي امتد نفوذها إليها. هكذا بدأت أحلام محمد علي تتحقق.
لقد استفاد محمد علي من اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية في الولايات العربية المشرقية- سوريا- فلسطين- لبنان، فاتصل بحلفائه المفترضين الأمير بشير شهابي ومصطفى بربر آغا الذي أقدم على تحريك الوضع في طرابلس، طارداً الحاكم العثماني، معلناً الولاء لمحمد علي.
8 – إبراهيم باشا في سوريا
أمام هذا الوضع من فلتان أمني وتمرد، ومن ضعف وعدم مسؤولية للولاة العثمانيين، وعدم قدرة على ضبط الأوضاع الأمنية، كان لابد للخلافة العثمانية من دعوة محمد علي لقمع التمردات، وإعادة الأمور إلى نصابها.
توجه الجيش المصري إلى عكا، فدخلها، ثم استمر زحفه باتجاه دمشق التي رحب أهلها به، ظناً أن حكم الباشا سيكون أفضل من حكم الولاة العثمانيين.
ترافقت الحملة المصرية مع نمو النزعة العدوانية الطورانية، يقابلها وبنفس الوتيرة النزعة التي يمكن اعتبارها ردات فعل ضد الطورانية العثمانية، التي قام بها التيار القومي العربي، الذي بدأ يظهر متجاوزاَ الثقافة الطائفية وبالتالي النظام المللي العثماني.
استغل إبراهيم باشا بفطرته هذه المناخات، فبدأ يؤلب العرب ضد العثمانيين، وكان هدفه كما كان يصرح "بناء الدولة العربية المستقلة التي ستكون مصر ركيزتها الأساسية". وفي هذا الصدد يورد عبد الرحمن الرافعي في كتابه (تاريخ الحركة القومية- ج 3- ص233) ما يلي: "إن إبراهيم باشا كان يجاهر علناً بأنه يعمل لإحياء القومية العربية، وإعادة الحقوق العربية إلى أصحابها، وذلك من خلال إسناد المناصب إليهم، فإبراهيم كان يريد أن يجعل من الشعب العربي شعباً مستقلاً وغير تابع للخلافة، شعباً يدير شؤونه العامة بنفسه." ويضيف الرافعي مستشهداً بقول إبراهيم باشا "إن أباه الذي يحكم مصر والسودان وسوريا عليه أن يسعى لضم العراق والجزيرة العربية إلى حكمه".
لقد استخدم إبراهيم، وفي كل مراسلاته "اللغة العربية، معتبراً نفسه عربياً، وهو من كان يعمل من أجل تغليب سيطرة النفوذ العربي في إدارته، لم يميز فيما يسعى إليه بين الأديان. بل كان يريد أن تكون الكفاءة والنزاهة هي المعيار في خياراته".
ومن أجل تحقيق أهدافه، كان إبراهيم باشا بعد سيطرته على البلدات الشرقية، قد قسم السلطة الإدارية في بلاد الشام إلى إيالات:
1-دمشق- وكان يديرها محمد شريف- صهر محمد علي.
2- حلب- يديرها إسماعيل عاصم.
3-طرابلس- يديرها مصطفى بربر آغا.
4-صيدا- يديرها عبد الهادي.
5-أضنة وطرسون- ويديرها أحمد سنكلي.
6-جبل لبنان- ويديرها بشير الشهابي.
بهذه التقسيمات وبهؤلاء القادة حاول إبراهيم ضبط الأمور في الولايات التي كانت عرضة لتمردات متواصلة ضد العثمانيين. لقد كانت المرحلة التي حكم فيها إبراهيم باشا الولايات المشرقية، من أهم المراحل التاريخية، نظراً لما عرفته من تغيرات في مختلف طرق الحياة.. حيث قضى إبراهيم على السلطة الإقطاعية، وأحل محلها نظام مؤسساتي تشريعي، الحكم فيه للقانون، وليس للتشريعات الدينية والأعراف التي كانت سائدة من قبل.
توجه من ثم للشؤون المالية والسياسية، فكانت التقسيمات الإدارية الجديدة أن ساهمت في إحكام سيطرته، حيث فرض النظام الجديد، أيضًا المفاهيم الإدارية الحديثة، وبدا ذلك من خلال إلغاء الفوارق بين الطوائف، ما أوجد انفتاحاً وقبولاً وترحيباً من معظم مكونات المجتمع، وبالمقابل سخطاً من الطبقات المستبدة- شبه الإقطاعية والتي كانت مستفيدة من التشريعات السابقة.
لقد رحب المسيحيون وغيرهم بتلك الإجراءات التي استفاد منها الفلاحون، وبهذا فقد أصبح لهذه الشرائح مكانتها بين مكونات الشعب، خاصة من حيث مشاركتها في الخدمة العامة، أم من خلال مشاركتها – كما يشير قاسم سمحات الذي أرخ لتلك الفترة- في إدارة مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية وبشكل خاص التعليمية. لقد أسهمت قرارات إبراهيم باشا بتفعيل الرقابة، ما أدى إلى تسهيل تنفيذ إصلاحاته المتنوعة، فإبراهيم باشا كان يمارس سلطته كواحد من الشعب، وهو الذي كان ينتقل بين المدن والمناطق، ويفتش المجالس والدواوين، ويتشدد في معاقبة المقصرين من المواطنين، حتى إنه منع الهدايا التي كانت تقدم إلى الولاة وحكام النواحي والمقاطعات. تلك الهدايا التي اعتبرها بمثابة رشاوى، فأبطلها كي لا تؤثر على قرارات السلطة، وبالتالي على العلاقة بين الموظف وعامة الناس. كما أبطل المصادرات، ونظم الجباية العشوائية التي كانت تسبب الفوضى، وبالتالي تساهم في التمردات التي كانت تحصل.
بهذه الأساليب، يكون إبراهيم باشا قد ساهم فيما اتخذه من قرارات في رسم صورة حديثة ومعاصرة ومختلفة لإدارة المؤسسات، صورة جديدة لعلاقة السلطة بالشعب، وبالتالي فقد وضع حداً ليس فقط للتمرد الذي كانت يقوم به بعض من فئات الشعب بين الفينة والأخرى. بل وضع حداً لغزوات البدو على القوافل التجارية.
9 – الضرائب وسياسة إبراهيم تجاه البدو
لقد وضع إبراهيم تشريعات تهدف إلى تدجين البدو الذين كانوا يستغلون أي أحداث تقع، فيغيرون على القوافل التجارية، وعلى الفلاحين الآمنين في قراهم. لقد اتخذ قراراً بإعفاء البدو من الضرائب لمدة تسع سنوات، بغية توجيههم للاستقرار والعمل في الزراعة، حيث ركز إبراهيم على القطاع الزراعي الذي أصبح من أهم مصادر الدخل الاقتصادي. لقد أعطى الباشا اهتماماً كبيراً للزراعة خاصة التحويلية منها، زراعة الحرير والتبغ والقطن والكرمة، التي كان الهدف من الاهتمام فيها وزراعتها إنعاش صناعة البيرة وغير ذلك. وبهذا التوجه تكون سياسة إبراهيم ساهمت بزيادة الصادرات التي ارتفعت وتضاعفت مجموعة مرات ما بين عامي 1833- 1836. كما اهتم بالصناعة فأنشأ في صيدا معملاً لنسج الصوف الذي اشتهرت به صيدا وغيرها من المدن اللبنانية. كما اهتم بزراعة كل أنواع الحبوب، وشجع زراعة الأنواع المتعددة من الأشجار المثمرة. كذلك اهتم بالصناعات التي عرفت تطوراً في تلك الأيام، مثل صناعة الزجاج والسيوف، وأوجد في طرابلس مناشير حديثة لقطع الأخشاب التي تحتاجها مصر، والهدف تطوير الأسطول البحري المصري، كما أوجد في ضواحي صور معامل للقماش، كذلك اهتم بالصناعات التعدينية وقام بتوفير المواد الأولية من الحرير والفحم.
وفي مقابل هذا التطور، فقد تعددت الضرائب، تلك الضرائب التي كانت تعيد إلى أذهان الناس سياسة الولاة العثمانيين، ففي حين أن إبراهيم كان مدركاً لخطورة فرض هذه الضرائب، إلا أن الباشا في مصر محمد علي لم يكن مدركاً للخصوصيات التي عليها الوضع السكاني- الطائفي في بلدان المشرق- سوريا- لبنان- فلسطين. لقد أراد محمد علي تطبيق نفس الأساليب الضريبية التي تنفذ في مصر مضيفاً إليها ضرائب موروثة عن الأنظمة العثمانية، فأقر الضريبة العقارية- الميري- على المزارعين، والتي كانت تتجاوز أحياناً الـ10% من قيمة الإنتاج، كذلك ضريبة الجزية التي فرضت على غير المسلمين، كذلك ضريبة الفردة، تلك التي فرضت في زمن الحروب. لقد أدت هذه الضرائب لزيادة الفقر، وبالتالي إلى إهلاك أعداد كبيرة من الناس، سواءً بالإفلاس، أو بفقدانهم العمل في مؤسساتهم وأراضيهم، إضافة لما تم إقراره من خلال فرض أعمال السخرة التي طبقت على الفلاحين وعلى كل العاملين في القطاعات الأخرى.
لقد ساهمت هذه السياسة في تمرد الفلاحين وغيرهم، وهذا ما أشعل مجدداً الثورات ضد حكم إبراهيم باشا. وذلك بسبب زيادة الضرائب، الذي أدى إلى انتشار الفقر وأيضًا القلق والبؤس، فالناس وأمام هذا الواقع رأوا أنفسهم أمام مستبد ظالم لا يمكن إلا مواجهته.
10- الإنجازات الأخرى لإبراهيم باشا
ورغم ما ذكر، فإننا في المقابل نرى من أن الحكومة المصرية ممثَّلة بإبراهيم باشا، كانت قد بذلت جهوداً كبيرة في سبيل النهضة في بلدان المشرق العربي. فأنشأت المدارس الابتدائية- والثانوية الحديثة التي أدخلت إليها البرامج والنظم التعليمية المعاصرة. كما أرسل إبراهيم مئات البعثات إلى الدول الغربية، والهدف ليس فقط تحديث الإدارة، بل أيضاً استيعاب الأسلحة الأوروبية المستوردة من الغرب. لقد خصص إبراهيم لهذه الغاية رواتب شهرية للجنود الذين يرغبون الالتحاق بتلك المدارس، كما أمن للطلاب الملبس والسكن. وبهذا فقد كان إبراهيم يحرص على غرس بذور الوعي القومي العربي والعلمي في صفوف هؤلاء الطلاب. لقد تعممت المدارس والكليات الحكومية في دمشق وحلب وأنطاكية، وكانت برامج التعليم باللغة العربية. حيث كان الطلاب يتلقون إلى جانب دروسهم العلوم العسكرية، بالإضافة إلى التدريب على بعض الحرف التي تدخل ضمن المجال العسكري. كما أرسل إبراهيم البعثات المتواصلة من الطلبة إلى الدول الأوروبية بهدف اكتساب العلوم والمعارف الحديثة.
بهذا التوجه، لإبراهيم باشا، كانت تتفاعل علاقة المسلمين والمسيحيين. ففي حين أن إبراهيم شرع الترقي في الجيش للمواطنين في الولايات العربية إلى أية جهة انتسبوا، إلا أن والده محمد علي كان يشترط على أي ضابط يدخل إلى المؤسسة العسكرية أن يتقن إحدى اللغتين، سواء الفرنسية منها أو الإنكليزية وبالتالي فقد كانت أغلبية قيادات الجيش من النخب الأجنبية ومن العثمانيين، أما القيادات الإدارية فكانت من نصيب اللبنانيين والألبان والأرمن والأتراك. ومن المفارقات أن نظام الامتيازات والانفتاح الذي حققته الإرساليات الأجنبية، كان قد ساعد في تحقيق الشروط التي كان يطالب بها محمد علي، إذ سهل محمد علي للأفراد المسيحيين الدخول إلى المؤسسات كافة، بما فيها المؤسسة العسكرية، وذلك بسبب معرفتهم اللغات الأجنبية. خاصة الفرنسية منها.. أيضاً فقد ساهمت الكنيسة في تحقيق هذا الغرض. حيث قرر المجمع الماروني في لبنان عام 1736، إجبار الأسر المسيحية على التعليم والذهاب إلى المدارس، تحت طائلة المحاسبة القاسية الصارمة، وحيث تقرر التدريس باللغتين العربية والفرنسية.
وبهذا تكون قرارات إبراهيم باشا ونشاط الإرساليات، كذلك قرارات المجامع المسكونية ساهمت في خلق أنتلجنسيا محلية برزت أول ما برزت في الأوساط المسيحية.
كما قام إبراهيم بتحديث القطاع الصحي، فأنشأ المشافي، واهتم من ثم بالقضاء، إذ إن مصر بعد عودة رفاعة الطهطاوي من باريس، كانت قد بدأت تأخذ وتتبنى تشريعات عصر النهضة الأوروبي. سواءً فيما يتعلق بحقوق الإنسان، أم بتطبيق مبدأ الإخاء والمساواة. تلك التشريعات التي كان يعرقل تنفيذها ليس فقط الضرائب التي كانت تفرض على السكان، خاصة على الفلاحين، سواء في مصر أو في بلدان المشرق العربي، بل أيضاً التشريعات المللية المطبقة في الخلافة العثمانية، وأيضاً الامتيازات المعطاة من الخلافة للدول الأجنبية، خاصة أن نشاط الإرساليات كان له وجهان إيجابي وسلبي، كل هذا كان قد أعطى معنى ملتبساً للهوية الوطنية..
لقد أدرك الطهطاوي- مهندس مشروع محمد علي- أن الأنظمة السياسية تستمد مشروعيتها من إرادة المواطنين، ومن مشاركتهم في الحياة العامة، لذا عمل دون جدوى تذكر، على تقسيم السلطة إلى سلطة تشريعية وإلى سلطة تنفيذية وقضائية، ترافقت هذه التشريعات مع قرارات جريئة كان قد اتخذها إبراهيم تنص على إلغاء الامتيازات المعطاة للأجانب، بحيث ساوت جميع الطوائف أمام القضاء والقانون. حيث ساعدت التشريعات التي وجدت خاصة في بلاد الشام، على الاستقرار الاجتماعي، إلا أن هذا الاستقرار الذي لم يطل، كانت قد ساهمت في زعزعته القرارات التعسفية لمحمد علي، كذلك مصالح الخلافة والأطماع الاستعمارية، جميعها ساهمت في تحريفه والقضاء عليه، وأدت بعد علم 1840 إلى فشل الحلم الذي كان يهدف لخلق المناخات لتحقيق أول وحدة أو اتحاد بين مصر وبلدان المشرق العربي.
***
11 – محمد علي، أو عصر التحولات الكبرى
مع بروز محمد على باشا وتوليه السلطة في مصر- 1805- 1849، بدأت المرحلة الأهم والجديدة من تاريخ التحولات الاجتماعية والسياسية، التي عرفتها الدولة العثمانية في شبكة علاقاتها ليس فقط الداخلية مع رعاياها وامتدادات نفوذها، وإنما أيضاً في علاقاتها الخارجية. وفيما إذا كانت قد بدأت المحاولات الأولى لنمو حركات استقلالية في أكثر من مكان تسيطر عليه الخلافة، ترافق ذلك مع حركات تمرد وثورات في الولايات العربية المشرقية، سوريا، لبنان، فلسطين، فإن الخلافة ذاتها المنهارة والتابعة لم تصبح فقط تحت رحمة المشروع الغربي الإنكليزي- الفرنسي، بل أيضاً تحت رحمة مشروع آخر، مشروع محمد علي باشا، حيث الخلافة كانت قد اعتمدت عليه، وبالتالي على قدرات الجيش المصري لمواجهة تمردات الأعداء المتربصين بها في داخل الخلافة وخارجها. وفي حين أن مشروع محمد علي كان يحاول التكيف مع الموازين التي فرضتها المصالح الاستعمارية مع الخلافة، إلا أن إبراهيم باشا، كان قد تبلور لديه مشروع مختلف في تفاصيله وفي أهدافه عن مشروع والده. لقد أصبح الجيش المصري يسيطر على الولايات العربية في المشرق، بل على مناطق واسعة من الدولة العثمانية ذاتها. لذا، بدأ إبراهيم يمارس نهجاً لا يمكن وصفه، إلا أنه يهدف إلى اتحاد مصر مع جناحها المشرقي المكمل لجسدها، وغير المنفصل عنه. فمصر دون الولايات المشرقية جسد مشوه وعليل، وهكذا هو وضع الولايات المشرقية التي تعاني من الخلافة ومن السياسة العنصرية التي تمارسها، خاصة في المناطق التي لا يتكلم سكانها اللغة التركية. لقد بدأ هناك تباين بين مشروع محمد علي ومشروع إبراهيم الذي كان يريد إسقاط الخلافة تمهيداً لاستقلالية القرار المصري.
إن الخلافة التي أخذت تعاني من هرمها وضعفها، بدأ جسمها الهزيل المفكك بفعل تدهور قوتها، وبفعل قوة خصومها، خاصة المستعمرين منهم- الإنكليز والفرنسيين- اللذين بدأا يفرضان حضورهما الاستعماري، وكانت الامتيازات التي (تكرمت بها الخلافة وقدمتها لهما) من المبررات التي ساعدت تدريجياً على فرض شروط وجودهما الاستعماري. تلك الامتيازات التي ساهمت في تفكيك جسم الخلافة وتقسيمها إرباً بين أعدائها، ومن المبررات أيضاً التي ساهمت إضافة لذلك والتي استغلتها الدول الاستعمارية، النظام المللي الذي يقسم الخلافة، لا على الأسس الاجتماعية والطبقية، بل على أسسِ طائفية وعرقية.
إذاً، بدأ يبرز في الخلافة تياران، الأول تيار استعماري، هو ما كان يسعى لتحقيق أهدافه تدريجياً، وقد حقق كل ما يريد بعد الحرب العالمية الأولى، وتيار داخلي عربي، أخذ يتبلور أيضاً تدريجياً، وإن كانت مشاكل هذا التيار مختلفة عن المشاكل والمصاعب التي يتعرض لها المشروع الاستعماري.
إن مشروع محمد علي بجانبه الأساسي الذي يتقاطع مع المصالح الفرنسية، كان هناك خلل داخله، فمحمد علي باشا له حساباته في علاقاته مع الخلافة، ومع الدول الغربية، وإبراهيم باشا، ابن محمد علي، له مشروعه الذي يلتقي في بعض تفاصيله مع مشروع والده، إلا أنه يختلف في تفاصيله الأساسية، ليس فقط في الكيفية التي يتعامل بها مع الخلافة العثمانية، أيضاً مع القوى الاستعمارية التي بدأت حرباً عليه، مباشرة ًحيناً، وبالوكالة، حيث كانت تحرك عملاءها لإضعافه وإحباط مخططاته حيناً آخر.
لقد استمر النظام المللي في صيغتيه العثمانية وما أدخله إليه الاستعمار الإنكليزي- الفرنسي، حينما قاما بعد الحرب العالمية الأولى بتقسيم المنطقة على أسس عرقية وطائفية، ومرجعيتهما ليس فقط الامتيازات التي حصلوا عليها من الخلافة، بل أيضاً النظام المللي. إذ يبدو اليوم، ومن خلال الأحداث التي تمر بها المنطقة العربية، حيث تحاول الأجيال الجديدة، رسم صورة مستقبلها، إن التشريعات الموروثة عن الخلافة، وما يقابلها من امتيازات أعطيت للمستعمرين لازالت تشكل الخطر الداهم وليس لبنان بمفرده هو من يعاني من هذا المرض، بل كل الدول العربية دون استثناء. وها هي العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان وغير بلد عربي من النماذج الساطعة والمتجذرة بها تلك الرواسب من النظام المللي الذي يمرر تحت مسمى من أن دين الدولة الإسلام، أو تحت مسميات أخرى، وبهذه الثقافة يتم بلبلة مفهوم الهوية، ليس فقط من أن هذه الدول هي عربية، بل أيضاً إلغاء النزعة الإنسانية والمساواتية بين مكونات المجتمع العربي. وها هي فلسطين تبدو من النماذج الساطعة التي يمكن القول إنها تعاني من هذا المرض، فالمشاريع التي تتحدث عن دولتين للشعب الفلسطيني، ليست في النتيجة النهائية سوى أنها تقدم تبريراً لما يطرحه الكيان الصهيوني حول الدولة اليهودية، في حين في المقابل يطرح الطرف الثاني دولة إسلامية خاصة بالمسلمين الفلسطينيين.
12 – العلمانية والمجتمع المدني في عصر محمد علي
لقد اعترف عبد الرحمن الجبرتي، المؤرخ المصري المنفتح بحدود والمحافظ التقليدي بحدود، من أن الحملة الفرنسية كانت جلبت معها (المفيد والسيئ). ومن الأشياء المفيدة مرافقة عشرات العلماء الفرنسيين لنابليون في رحلته، ودراساتهم التي قدموها فيما بعد حول الواقع المصري. تلك الدراسات التي كان لها أثر كبير، حيث إنها لازالت مرجعاً علمياً للباحثين، كما أشار الجبرتي إلى أهمية إنشاء الأكاديمية العلمية في حي الناصرية في القاهرة. وفي لفتة ذكية كان قد ميز بين عدل القضاة العثمانيين وعدل القضاة الفرنسيين، فرأى أن القضاة الفرنسيين في أحكامهم هم الأقرب إلى العدل من القضاة العثمانيين.
يتبين من عرضنا هذا، أن النخب المصرية التي تحكمها الشرائع الدينية شبه الإقطاعية، كانت قد ميزت بين وجهي الحملة، السلبي منها والإيجابي.
ومن المآخذ التي اعتبرها الجبرتي سلبية، من أن الفرنسيين محتلون، وبالتالي يجب على الشعب المصري محاربتهم، وهذا ما قام به الشعب، حيث تمت مواجهة الحملة (الغزاة) مكبداً الفرنسيين آلاف القتلى، ومتكبداً الشعب المصري الآلاف (تجاوزت خسائر المصريين الخمس وعشرون ألف شهيد)، كما انتقد الجبرتي المؤثرات الأخلاقية التي تركتها الحملة، خاصة لجهة علاقة الرجل بالمرأة. لقد رأى أن شريحة من النساء بدأت بتقليد المرأة الفرنسية لناحية التبرج، فالمرأة المصرية خرجت من عزلتها مختلطة بالمجتمع. مارست الرقص في الملاهي، وبهذا الانفتاح تعرفت المرأة على ما كان محرماَ عليها أن تعرفه، خاصة في علاقاتها بالرجل. يضيف الجبرتي منتقداً الفرنسيين الذين لا يدينون بأي دين، ويقولون بالحرية والتسوية.
لقد أحدثت حملة نابليون على ما يضيف الجبرتي انقلاباً لم يمس المجتمع المدني المصري فقط، بل أهمية ما طالته مؤثرات الحملة شريحة العلماء في المؤسسة الدينية، أي الأزهر. وبهذا الوصف فإن الحملة قد كانت مؤثراتها جماعية لا فردية، خاصة أن المصريين بعد انهزام الحملة كانوا يتلقفون تداعياتها على المجتمع. ويضيف الجبرتي في وصفه لتلك التداعيات من أن المصريين جنحوا بعد انهزام الحملة إلى التمسك بفكر ديني عدمي لا يسلك مسلكاً أتى به الشرع، إنما رسا مسلكهم على نوع من الاستكانة الروحية المرئية في محتوى غيبي في صورة تصوف سلبي جامد لا يتحرك، واعتقاد في كرامات البلهاء والمعتوهين والمقبورين، وأضاف إن المستعمرين ساعدوا على انتشار البغاء وعلى السفور عند النساء، كما ساعدت مؤثرات الحملة على الاختلاط، خاصة في المدارس، وهذا ما أوجد نزعة تمرد على التقاليد الموروثة التي بدأت تظهر في اللباس. وبهذا كانت الحملة قد خرقت الأعراف الإسلامية.
في حين كان حسن العطار- الأب الروحي لرفاعة الطهطاوي- قد أشاد بالمؤثرات التي أحدثتها الحملة، والعطار، هو من كان مؤمناً بضرورة الأخذ بالعلوم الغربية وتوطينها في المجتمع المصري، وهذا ما عمل على تحقيقه محمد علي، وإن كان بأساليب وطرق حملت في مضامينها رواسب الثقافة العثمانية شبه الإقطاعية- السُّخرة- التجنيد الإجباري- مصادرة الأراضي وتملك الدولة لها.
أما رفاعة الطهطاوي الذي يوصف بأنه "علماني المقصد والتوجه" فقد كان قد عبّر عن موقفه بقوله "من أن العلمانية لا تعني فقط فصل الدين عن الدولة، بل تعني أيضاً اتخاذ الأساليب والمسالك غير الدينية في السعي إلى النهضة والتقدم والتماسهما عن طريق علماني".
راجع كتاب جذور العلمانية للدكتور السيد أحمد فرج- دار الوفاء للنشر- طبعة 5- 1993.
نجد ونحن نتابع بعض الأدبيات التي أرّخت للأوضاع الاجتماعية والسياسية للحملة الفرنسية على مصر، من أنه كانت للحملة مؤثرات خطيرة على العادات والتقاليد المصرية، يقول الأفغاني: "من أن الفرنسيين يقصرون الوجود على الطبيعة المتطورة، فالطبيعة مستكفية بنفسها مستغنية عن خالق يوجدها". بينما يقول الجبرتي، وهو في قمة يأسه، لقد فشلت الحملة الفرنسية، ولكن الاستعمار استطاع تحقيق أهدافه عن طريق المسلمين، يقصد عن طريق محمد علي، حيث سيطر المستعمرون على الشرق وحطموا الخلافة. فمشروع محمد علي في معظم تفاصيله يحمل مؤثرات عبّر فيها معتنقوها عن التوجهات العلمانية المستقاة من روح الثورة الفرنسية (1789).
ولا عجب أن رأينا أن المسؤولين عن إدارة محمد علي كانوا بمعظمهم إما من الدولة العثمانية، أو فرنسيين، وإن كان بعضهم من جنسيات أخرى، إلا أنهم كانوا قد تلقوا تعليمهم في فرنسا. فضلاً عن أن إدارة الجيش المصري كانت تدار من قبل ضباط فرنسيين أو متأثرين بفرنسا وعلى علاقة إيجابية معها.
لقد قدمت فرنسا لمحمد علي، وبسخاء كل ما كان يريده لتحديث الجيش والإدارة أيضاً. وبهذا فقد تقاطع مشروع محمد علي مع المصالح الفرنسية، إذ كان محمد علي في تبنيه ونقله للتجربة الفرنسية في السياسة، أن حاول نقل التشريعات الآيلة لإنهاء الأعراف الدينية وإحلال محلها تشريعات دنيوية علمانية مأخوذة عن القوانين الوضعية.
وبهذا يكون محمد علي، بما عمل له وحققه على هذا الصعيد قد سبق كمال أتاتورك في تبنيه للعلمانية التي أخذ بها الأخير بعد إنشاء الجمهورية التركية عام 1928. في حين أن محمد علي كان قد أخذ بتنفيذ هذه التشريعات في الربع الأول من القرن التاسع عشر.
إن أفكار الثورة الفرنسية كانت قد ساعدت في خلق فكر أوروبي- عالمي جديد – فكر قائم على مبادئ الحرية وحقوق الإنسان، وبالتالي على تأسيس أرضية ثقافية وتشريعية مأخوذة ومعبرة عن قضايا المجتمع، فالإنسان يصنع بنفسه عالمه. وهذا ما تسرب إلى مصر وأصبح واقعاً في عصر محمد علي. وحيث الفرنسيون الذين ساعدوا محمد علي لتحقيق ما قام به، هم ذاتهم تحالفوا مع أعدائهم – المنافسين لهم – الإنكليز لضرب وإنهاء هذا المشروع، وهذا ما تحقق في مصر بعد عام 1840.
***
مكتبة البحث:
•أحمد بهاء الدين شعبان: صراع الطبقات في مصر، مقدمات ثورة 25 يناير 2011، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2012.
•أحمد صادق سعد: تاريخ العرب الاجتماعي، تحول التكوين المصري من النمط الآسيوي إلى النمط الرأسمالي، دار الحداثة، بيروت 1981.
•أدوار جوان، راجع بتصرف مصر في القرن التاسع عشر – سيرة جامعة – تعريب – محمد مسعود – ط1 – القاهرة 1921.
•ألبرت حوراني: تاريخ الشعوب العربية، ت. نبيل صلاح الدين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1997.
•أمين هويدي: مع عبد الناصر، دار الوحدة، بيروت 1984.
•الانتفاضة الطلابية في مصر، سلسلة وثائق، دار ابن خلدون، يناير 1972.
•أنطوان خليل ضومط: الدولة المملوكية، التاريخ السياسي والاقتصادي والعسكري، دار الحداثة 1982.
•إيريك رولو جاك فرنسيس هيلد، جان ريمون لاكوتير، إسرائيل والعرب الجولة الثالثة، ت. لجنة، الدار التونسية للنشر 1968، تونس.
•بابر يوهانزن، محمد حسنين هيكل: أوروبا والشرق من منظور واحد، من الليبراليين المصريين، ت. د. خليل الشيخ، كلمة، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، ط1 2010.
•بازيلي: سوريا ولبنان وفلسطين تحت الحكم التركي، ت. يسر جابر، مراجعة منذر جابر، دار الحداثة، بيروت 1988.
•برنابي روجرسون: ورثة محمد، ت. د. عبد الرحمن الشيخ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015، القاهرة.
•بولس قرالي: السوريون في مصر، ج1، بيت شباب 1933.
•بيير ديستريا: من السويس إلى العقبة، ت. يوسف مزاحم، لا ناشر، صدر 1974.
•ثورة 23 يوليو: الأحداث، الأهداف، الإنجازات، صفحات متعددة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1964.
•جابر عصفور، زمن جميل مضى، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2010.
•جاك بيرك: مصر الإمبريالية والثورة، ت. يونس شاهين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1981.
•جمال عبد الناصر: الميثاق، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1962.
•جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، القاهرة، لا تاريخ.
•حسر اللثام عن نكبات الشام، ط 1، مصر، 1895.
•حلمي النمنم: سيد قطب وثورة يوليو، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2010.
•حلمي النمنم: سيد قطب سيرة التحولات، الكرمة للنشر، القاهرة، 2014.
•رافق عبد الكريم: بلاد مصر والشام من الفتح العثماني إلى حملة نابليون، دمشق 1968.
•رأي المؤتمر الوطني في الأحلاف، 1955، لا دار نشر، بيروت.
•رؤوف عباس: ثورة يوليو، إيجابياتها وسلبياتها بعد نصف قرن، كتاب الهلال، يوليو 2013.
•سعد الدين إبراهيم: في سوسيولوجيا الصراع العربي- الإسرائيلي، دار الطليعة، بيروت 1973.
•سليمان أبو عز الدين: إبراهيم باشا في سوريا، دار الشروق، القاهرة 2009.
•سليمان البستاني: عبرة وذكرى أو الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده، تحقيق ودراسة خالد زيادة، دار الطليعة، بيروت 1978.
•سليمان الحكيم: مصر السادات، رؤية ناصرية، الكرمل، بيروت 1977.
•سماح ادريس، المثقف العربي والسلطة، دار الآداب، بيروت، 1992.
•سهام ذهني: من أيام عبد الناصر والسادات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2003.
•الشعب المصري يرفض كامب دايفيد، مركز الأبحاث المصري، دون تاريخ، دون دار نشر.
•عادل حسين: الانهيار بعد عبد الناصر… لماذا؟، دار المشعل العربي 1985.
•عبد الرازق عيسى: وثائق أساسية من تاريخ الشام في ظل حكم محمد علي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2012.
•عبد الرحمن الرافعي: الزعيم الثائر أحمد عرابي، دار الشعب، القاهرة 1968.
•عبد الرحمن عبد الرحيم: محمد علي وشبه الجزيرة العربية، دار الكتاب الجامعي، القاهرة 1986.
•عبد العال الباقوري: بوابة مصر الشرقية مصر وفلسطين عبر التاريخ، الثقافة العربية، القاهرة 1978.
•عبد الله إمام: حكايات عن عبد الناصر، دار الوطن العربي، دون تاريخ نشر.
•عبدالله امام: الناصرية، دراسة بالوثائق في الفكر الناصري، منشورات الوطن العربي، بيروت، لا تاريخ إصدار.
•عدنان السيد حسين: العامل القومي في السياسة المصرية، دار الوحدة، بيروت 1987.
•العروبة والقرن الحادي والعشرين: مجموعة، راجع دراسة سمير مرقص، وبرهان غليون ومشير عون وسيد يسين ورضوان السيد ومحمود حداد وحسن منيمنة وعبد الرؤوف سنو وغسان العزي وسعيد بن سعيد العلوي، منشورات تيار المستقبل، بيروت 2009.
•عفيف فراج، في السياسة والأدب السياسي، دار الآداب، بيروت، 2008.
•علي بركات: تطوير الملكية الزراعية في مصر، 1813- 1914، القاهرة 1970.
•عمر الليثي: اللحظات الأخيرة في حياة جمال عبد الناصر، كتاب اليوم، دار أخبار اليوم، القاهرة 2009.
•عمر لطفي بك: الامتيازات الأجنبية، مطبعة الشعب، القاهرة 1322 ه-.
•فرحان صالح: الحرب الأهلية اللبنانية وأزمة الثورة العربية، دار الكاتب، بيروت 1979.
•فرحان صالح: حول تجربة الإخوان المسلمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2015.
•قاسم سمحات: محمد علي باشا والمشروع الفرنسي في بلاد الشام، دار المواسم، بيروت 2016.
•قيس جواد العزاوي: الدولة العثمانية، قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، دار آفاق، القاهرة 2014.
•كامل إسماعيل الشريف: الإخوان المسلمون في حرب فلسطين، دون تاريخ، دون دار نشر.
•كلمة صريحة، ج10، صدر عن إدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة، القاهرة 1956.
•لقد سعى عبد الناصر، كما يذكر سمير مرقص، إلى العمل من أجل تحقيق المواطنة في بعدها الاجتماعي، تلك التي كانت على حساب السياسي والحداثي. لقد حققت ثورة يوليو في المجال الاجتماعي الإصلاح الزراعي وحققت التأميم، كما أنجزت المسألة الوطنية، محررة مصر من النفوذ الإنكليزي، لقد أتاحت الثورة الفرصة المتساوية أمام الجميع في التعليم، ما مكن الشعب المصري من الترقي. إن ما قامت به ثورة يوليو- عبد الناصر- كان من نتيجته تغيير جذري في البنية الاقتصادية الاجتماعية في مصر.
•مارلين نصر: الشعور القومي العربي في فكر جمال عبد الناصر، 1945- 1970، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، بيروت 1990.
•مجلة الهلال: إبراهيم باشا، جزء خاص، دراسة محمد عودة، رؤوف عباس، عاصم الدسوقي، يونان نجيب رزق، ديسمبر 2004.
•مجموعة من الوثائق: الاتحاد السوفياتي والعالم العربي، أعدها اسكندر أحمدوف، دار التقدم، موسكو 1975.
•مجموعة ندوة باريس، تقديم أنيس صايغ: الناصرية والنظام العالمي الجديد، دار الوحدة للطباعة والنشر، بيروت 1981.
•مجموعة: قصة السوفيات مع مصر، دار ابن خلدون، بيروت، دون تاريخ.
•محاسن محمد الوقاد: الطبقات الشعبية في القاهرة المملوكية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1999.
•محمد النويهي: نحو ثورة في الفكر الديني، دون تاريخ، دون ذكر دار نشر.
•محمد أمين حسونة: كفاح الشعب من عمر مكرم إلى جمال عبد الناصر، مطابع الصباح، القاهرة 1955.
•محمد حجيرة: الإنسان في الحياة السياسية المصرية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية 1979.
•محمد حسن: مصر في المشروع الإسرائيلي للسلام، دار الكلمة للنشر، بيروت 1980.
•محمد حسنين هيكل: الطريق إلى رمضان، دار النهار، بيروت 1975.
•محمد عودة: الوعي المفقود، القاهرة للثقافة العربية، 1975.
•محمد محمود زيتون: حرائق القاهرة في التاريخ، مكتبة وهبة، القاهرة 1959.
•مصطفى مؤمن: النقطة الرابعة تعني الحرب، دار النشر المصرية، القاهرة 1954.
•مهدي بندق: تفكيك الثقافة العربية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2006.
•مهدي حنا: الشعبوية بين هوغو تشافيز وجمال عبد الناصر، دار الطليعة، بيروت 2011.
•نبيل راغب: موسوعة الفكر القومي العربي، ج1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1988.
•هنري غيز: بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن، تعريب مارون عبود، جزءان، منشورات دار المكشوف، بيروت.
•الهيثم الأيوبي: اتفاق فصل القوات الثاني في سينا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1975.
•ياسين الحافظ: في المسألة القومية الديمقراطية، دار الطليعة، بيروت، 1980.
•يقول نابليون عن مصر، إنّ أهل مصر قوم مسالمون، نبلاء فيهم الكثير من الشهامة والنبل، ويوحى إليّ أنهم يحبوننا، الشعب هنا غير راض عن حكامه، لذلك فنحن لن نلقى عناء في اجتذاب أبناء الشعب، ولا سيما قلوب المزارعين والفلاحين الذين يعيشون في حال بؤس شديد، يضيف: إذا استطعت أن أحكم مصر، البلاد الغنية بشعبها وبتراثها، الفقيرة بحكامها فأنا سأجعل من مصر سيدة الشرق.
•يوسف صايغ، أحمد سامح الخالدي، ادغار أربلانس: حرب الاستنزاف، دار القدس، بيروت، دون تاريخ.