أن يكون أصرّ على قراءة أعداد جريدة "الهدى"، خلال ثلاث وثلاثين سنة من صدورها (25 شباط 1898– 10 نيسان 1931) تاريخ وفاة جبران، ليعثر على جديد جبراني، وعاد بكلمة واحدة عن سليمان الشباتي، صديق هوميروس، معلناً أسفه لكون بعض الدراسات تطلع بمعلومات واهية، لا مستند لها.
وأن يكون صمم من خلال صفحات "الهدى" على جميع نصوص الريحاني في كشكول الخواطر، وخارج كشكوله، ومشيراً إلى الأصل محدداً ما حُذف، وما أُضيف، شارحاً بعض ما يجب شرحه، مُعيناً التاريخ الدقيق مقارنة بما نُشر في شذرات في عهد الصبا، وغيره.
وأن يكون نهض كما جرت العادة ليقرأ مستوحياً مقالات الأمين، ساخراً، مُعبراً عن مواقف دينية وسياسية، فهذا دأبه، وهو يرى في البواكير الكثير الكثير من العبر، وفي فكر النهضويين ما يبقى صالحاً أبداً لبناء المستقبل، ولفهم روح الأمة، في ماضيها وحاضرها إذا كان ثمة بعد من أمة!
وأن يكون خصّ المقالات الخمسين بستٍ وخمسين صفحة من التوضيحات، والتحليلات، والموازنات، والمقارنات والابتسامات والدموع، والتصويبات والتأويلات.
ولأن يتمكن من مجاراة الريحاني في أسلوب مزج المحكي بالفصيح، والجد بالهزل، والسخرية بالخفاء، والسطح بالأعماق، والقداعة بالاستعلاء، والنقد باللطف والعنف أيضاً.
وأن يتمكن من جمع كل هذه الوثائق عن رجالات النهضة، وكل هذه التجليات الصالحة لتجميل الحياة، والارتقاء بها، في كل زمان ومكان، ولمعالجة الأدواء بالأدوية الفاعلة.
وأن يتمكن من الصبر والصمود والمغامرة والمواجهة، والسفر والتغرب، والوفاء لمبادئه، وتقاليده، وقيمة كل هذه السنين، وان ينتقل عبر العواصم العالمية والعربية كل هذا العمر، ليلحّ على تنويريي نهضتنا، من دون التلهي بما غدا مهلهلاً وغير قابل للحياة، في التراث.
وأن يتمكن من طرح سلة من الإشكاليات أمام القارئ كي يستكمل معه رسالة القراءة والاكتشاف والتأمل، والتغيّر، والتنوّر، والحوار، والانفتاح والتسامح.
فهذا كله، وغيره، لا يتسع له المقام ويقتضي منا القدر والاحترام، والشكر والوئام، لأننا لا نمتلك أوسمة تُبهر لنعلقها تحت عينيه المباركتين، بل لدينا قلوب تشعر بما يشعر به، وعقول تفهم مسار فكره، في شرق يعاني، ندرت فيه الملائكة، وتكاثرت الشياطين، ولم يعد من مطرح فيه للنبوات!
2 – ثلاث إشكاليات:
وقد اخترت ثلاث اشكاليات، محاولاً الإدلاء بدلوي في غورها وأبعادها، نظراً إلى كثرة القضايا المطروحة وضيق المجال:
1-2: هل كان الريحاني في "المحالفة الثلاثية" مصلحاً دينياً وقد كتبه وطبعه، في مرحلة "كشكول الخواطر" وأثار الجدال؟ (ص 29).
* قدح المكدي يجمع فيه رزقه، وقد ضمّ الكشكول ما كتب بين 1901-1904.
* آسف لأن ادونيس وأنسي الحاج وجوزيف صايغ، عدّلوا في بواكيرهم: "قالت الأرض" "كلمات كلمات كلمات" "الوطن المستحيل".
2-2: هل تأثر جبران بأمين الريحاني في "دمعة وابتسامة"، بعد قراءة "الزنبقة الذاوية"؟ (ص44–48).
2-3: هل كان الريحاني عميلاً أو عاملاً في خدمة الحقيقة، بخاصة من خلال نظرته إلى الواقع الاجتماعي الأميركي؟ (ص41).
3– الإصلاح المستحيل:
حاول دايه إبراز دور الريحاني شبيهاً بالكواكبي في أم القرى، من حيث التجديد والبعد عن التقليد، ونزع الريحاني كما صوره، في خطبه الشاهل الديني-1900، وهي "المحالفة الثلاثية" –1903، وبعض "كشكول الخواطر"، نحو امرين: وحدة الأديان وفصل الدين عن الدولة (ص34) ولعل ذلك يفسر تفهمه للبهائية ومداراته للإسلام، وتماديه في هدم ما رآه معوقات بإزاء فكرة التوحيد، في العقيدة المسيحية، وأكثر ما بدا في "المحالفة الثلاثية"، حيث تم بناء الرواية، بشكل ساخر، وجريء: مجموعة من الحيوانات تعالج مشكلات لاهوتية، لقد فهمت من قراءة الباحث داية أنه حسب الريحاني أديباً سياسياً لم يقله دايه في مقالة قاله نص الجلسة في بيت الأمير يوسف أبي اللمع، خلال الحوار بين نعوم مكرزل ونجيب دياب حول إنكار ألوهية المسيح وبكارة مريم العذراء والتثليث، ومصدر هذا الإنكار، وتأثير ذلك في الريحاني الذي حضر الحوار، ونصح مكرزل ودياب بإبقاء مكان الضحك (ص233)، فأنت بعد قراءة تفسيرات دايه، والمطارحات في بيت أبي اللمع، تتذكر أن الريحاني نصر الماسونية، كما قال جميل جبر، في حملته الكتابية على التعصب الديني، والإكليروس (أمين الريحاني الانسان والكاتب، الجامعة البنانية، ط1، 1987، ص16)، ومارس تفكيراً لا يوفر عقيدة أو مذهباً (أين تجد أمين الريحاني، ط1، 1979، ص27)، وقد اعتبر اليسوعيون أن الطريق الذي سلكه الريحاني مقوّض لأركان الدين (ميلاد عون، الاصلاح في روايات الريحان، الجامعة اللبنانية، الآداب، 1983، ص215)، إن ما حسبه الريحاني إصلاحاً لا ينسحب على كل الأديان، إنما اقتصر على الديانة المسيحية، وجوهر معتقداتها، وفي حين وعد خالد بأنه سوف يحرر الإسلام من عاداته البالية وتقاليده الخانقة وخرافاته المستحكمة ونفاق المدعين (خالد، ط1، 1986، ص323)، فهو لم يسلك اتجاه الاسلام كما سلك اتجاه المسيحية، وبالتالي فإنه بعد اكتشافه في القوميات تزلّف المصلحين (ج1، ص72)، أعلن أنه نأى عنهم (ن، ص77)، ونتيجة ذلك هدأت روح الريحاني، ولم يعد الهدم طريقة إلى التوحيد، إنما الحب، وهذه التجربة المُرّة التي عايشها، في ظل ندوة العشرة، التي رأسها الأمير يوسف أبي اللمع، وحوله شبان عملوا على إصلاح العالم قبل أن يصلحوا انفسهم، ويؤسسوا فكرهم على الحقيقة، والعقلانية، ومحاربة الهوس الأعمى، هذه التجربة عايشها جبران نفسه، ونعيمه، وسرعان ما تحول كل منهما من الثورة على الدين إلى الثورة على الذات، لأنه عبثاً نعمل على إصلاح الخارج والداخل فينا حقلٌ للسوس والدود! أقول ذلك لأنتهي إلى أن هدم العقيدة المسيحية تحت شعار إصلاح ديني في المحالفة الثلاثية، مثل إصلاحاً مستحيلاً، ولا أظن أن الريحاني على الرغم من دفاعه عن الكتاب، العام 1904، تشبث بموقفه لعدم إحراق المحالفة، وراح هو نفسه يحرق كل ما يساعد الذات البشرية على الارتقاء نحو الحق والخير والجمال، في خالد، لأنه يشمل الاصلاح في لقاء أبي اللمع (ص223)، كانت حماسته لا مسوغ لها ولا تؤشر إلى تفوق التلميذ الريحاني على معلمه المكرزل آنذاك.
4– الريحاني وجبران: تأثر المبدع!
وطرح دايه سؤاله: هل تأثر فتى بشرّي بفتى الفريكه؟ ص (43)، وقرأ الزنبقة الذاوية، (ك2، 1903) للريحاني وحكاية الشجرتين (1902) وحوار الزنبقة والخمر (1902)، ثم مناحة في الحقل وأنشودة الزهرة، وحكاية شجرة، لجبران من دمعة وابتسامة، وخلاصته أن جبران قرأ "الزنبقة الذاوية"، وغيرها من خواطر "الكشكول"، في "الهدى"، وتأثر بالمناخ الريحاني، لكنه سرعان ما خرج على الفضاء الريحاني لينسج طريقته المختلفة (ص 47-48). وفي هذا المقام من المعلوم أن الريحاني وجبران التقيا في باريس، وأن جبران أنجز رسوماً لكتاب خالد، وكان معجباً بالريحاني حتى تاريخ عودته من باريس، العام 1912، وما أريد أن أضيفه، على هذا الصعيد، هو أني كنت أشرت في كتابي "النزعة الصوفية في الأدب المهجري" إلى تأثر المفكرة الريفية، أمين نخلة بالتخييل الجبراني في "دمعة وابتسامة"، بخاصة: "مناحة في الحقل"، "أغنية المطر"، "أغنية الجمال"، "أنشودة الزهرة"، "أغنية الموج"، فحولها نخلة إلى "أغنية الإبريق"، و"إغنية المغزل"، "وأغنية العين"، و"أغنية السنبلة"، "وأغنية السنبلة"، "وأغنية نسيم الجبل" (النزعة ص 104-105). هذا المناخ المشترك، لغةً، وعاطفةً ، وتخييلاً، ولطفاً، وجمالاً، لدى الثلاثة الكتاب، عائد إلى تأثير لأرض لبنان، وطبيعته، في بناء الشخصية المبدعة، وقد لحظ الريحاني في نص بلادي، أن أوهار الطبيعة، ولا سيما زهر المسيح، والريحان، تدعو الإنسان إلى تأمل جمالها، وكان هو يركض حافياً على تلال لبنان، وعبر الهضبات المملوءة زهراً فينعطف يوم الجمعة العظيمة في نيسان، باقة زهر، ويضعها على قدم الصليب (ص 236)، أولم يقل في معرض كلامه على أيام الصبا الجميلة، ذات النقاوة، وسط الأشجار والأزهار والسواقي والتلال، إنها "سنوات مقدسة" في ذاكرته النقية، وهي لنفسه حياة (ص 283) هكذا كانت هضبات بشري والباروك، بثلوجها والورود، كما كانت وادي الفريكة، بالنسبة إلى الريحاني، ووادي الجمال، وأن يتأثر مَن في نفسه استعداد للإشعاع، ونشر الدفء، فالأمر طبيعي، وتلقائي، ويخدم رسالة الخلق"، فإذا كان جبران اشتعل وهو يحدق إلى نار الريحاني، وبواكير غمائه، قبل العام 1905، فإن سعيد عقل عايش الحالة عينها بإزاء بواكير أديب مظهر، وهكذا كان صلاح لبكي يتعشق سماع الغرابة والإيقاع الحار في تجربة مظهر الذي لمع في فضائنا وتهاوى كالأسطورة، إن جبران عرف كيف يتلقى النفحة الشعرية الريحانية فطورها بعبقريته، في حين سلط العقل الريحاني على شعريته، ما أفقد مسيرته حلاوة التخييل النادر!
5– الريحاني: في خدمة الإنسان والإنسانية :
وحاول من خلال طرح الاشكالية الثالثة، البرهان، على عكس المصريين محمد أنيس و مجدي الدقاق، أن الريحاني الذي وجّه نقداً لاذعاً إلى ملوك التجارة والصاغة في وول ستريت، وإلى "ملك" البيت الأبيض، وإلى المحتكرين الأغنياء (ص 39-42)، إنما كان مستقلاً إلى حد كبير، ولا يتبع أي استخبارات، ويثور على التمدن الكاذب، ولا وثائق تكشف صحة مزاعم أنيس والدقاق (ص 42) بل هناك ما يؤكد تعاطفه مع قضية فلسطين، وشؤون العرب، وشجونهم، وأجد من المجدي هنا، أن نكرر قراءة كتيب رفيق خوري "أمين الريحاني في حقيقة الديمقراطية الأميركية" 1948، ففيه عن نظام الاحتكار كيف يحرم الفقير الكتاب واللقمة، وعن ديكتاتورية الدولار، وأصحاب الملايين، وعن مصير الديمقراطية، والعدالة وسعادة الانسان في ظل حياة محمومة بعبادة المال، والسؤال المحوري هو: ما فائدة الحرية السياسية التي يكفلها القانون إذا كان القانون في قبضة المحتكرين؟ وينتج من هذا السؤال آخر: "متى يا ترى يتحرر الانسان حقاً وتشمل السعادة والراحة كل أسرة بشرية؟"، إن الريحاني الانسان في مداه الأقرب والأبعد ، وحامل هموم الشرق كما الغرب، والعامل على توازن الحياة فيهما، إنما هو عامل في حقل الحقيقة، بخاصة في ما يعود بالانسان والمجتمع إلى الاستقرار والانسجام، وصهر المتناقضات في وحدة المادي والروحي، وقد كان الريحاني صاحب رؤية عندما حذر القارة العجوز والولايات المتحدة الفتية من خطر الداخل (ص41). وما نراه اليوم ينبئ بكوارث اقتصادية، وانسانية غير مسبوقة، ويكشف مدى غنى رؤية هذا الاديب.
6– يبقى:
يبقى أني لم أتحدث عن نزعة السخرية في أدب الريحاني، وهي تعني للصديق دايه خاصة تميز صاحب "الكشكول" لكني أراها طبعاً فيه، وهي مزيح من سخرية ، أبي العلاء، الذي نصح بصداقة الحيوان والحجر بدلاً من البشر، وسخرية رجل الحداثة الدائمة الجاحظ، وكان هذا الأخير قال في مقدمة البخلاء، إنه بالضحك تطيب النفس، وبالمزاح والضحك يتحقق الجد والوقار، في حين قال الريحاني "لا تبخل على نفسك بالضحك" وعد الضحك، شأنه شأن الجاحظ، مصدر عافية وقوة ونشاط، وحذر الانسان من إساءة استخدام الضحك، فيتحول إلى بكاء والبكاء كما قال عمرو بن بحر (145)، "ربما أعمى البصر وأفسد الدماغ وقٌضى على صاحبه بالهلع" (مقدمة البخلاء) أما الريحاني فأراد الضحك خنجراً لطعن اليأس والكآبة وإذا كان من أمثولة نحملها، ونحن نودع الباحث والأديب معاً، فهي أن نتعلم من الأول خدمة المعرفة والنهضة والانسان بإخلاص، ومن الثاني أن نكون شأن تولستوي ومثاله المسيح، نبني عظمتنا بالإخلاص والصدق والاستقامة، والعمل الصالح، والمثل الصالح، فالاثنان قالا وفعلا، وبقية المصلحين الصغار يتفننون بأساليب القول، وبتفوهون بعبارات رنانة، ويشعوذون ويوهمون وهم في ضلال العقل هائمون" (ص 112).
هيهات!
6– ولكي أستطرد فأنا لم أقف بشكل مطول على اشكالية العمالة كما توهمها أنيس الدقاق لأني أحسب كتاب رئيف خوري هو الرد. وإن العودة إلى جريدة الحياة في 20 نيسان 2006، و20 أيار 2006، تساعدنا على توضيح المسألة. وما كتبه عبده وزان، وجان دايه وسمير عطا الله، ومحمد هيكل وخيري منصور، وماجد غنما، وارق شمس، وهنري زغيب، ومحمد علي شمس الدين، دع ما ورد في محمد البعلبكي، نقيب الصحافة ، ويوسف معوض، وسليمان بختي، وسوسن الأبطح، في ندوة نقابة الصحافة 22 أيار 2006، بدعوة من لجنة الريحاني الوطنية، وكنت حاضراً، إنما هي شهادات علمية كافية تذكر المصريين والعرب عموماً، بكلمة طه حسين، في بيت مري، أواخر الأربعينات، يوم كرّمه حبيب أبو شهلا، نائب رئيس الوزراء (الحياة 8 آب 2000، عدد 14385) قال حسين: "من زعم لكم من أدباء الشرق العربي، أنه ليس مديناً للبنان بشيء من أدبه فهو منكر للحق، كافر للنعمة، جاحد للجميل. إنني أستمتع في بلادكم، بأدب رائع غض، فيه لذة للنفس، وحياة للقلب، وتغذية للعقل، فإذا أثنيتم عليّ بأن لي حظاً من أدب فإنما تثنون على أنفسكم، لأني مدين لكم بهذا الادب، وكم كنت أريد أن أؤدي إليكم بعض ما لكم من حق". هكذا، تطلب الحقوق من الكبار وليس من الصغار الذين يجعلون الأبيض أسود، ويلاحقهم صوت المتنبي، وقعه صمت الريحاني:
…. … … هيهات تكتم في الظلام مشاعلُ
فإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كاملُ