تمهيد
ان تحولات العقود الأخيرة بأحداثها ومساراتها وتشابكاتها، تفرض نفسها في الواقع العالمي وعلى كل المستويات، بالنظر الى تحدياتها ومخاطرها وتأثيراتها وتداعياتها على حياة شعوب وأمم بأسرها.
فنحن نعيش في عالمٍ يتغير بوتائر سريعة، وهذه التغيّرات تطال البنى والأطر والمفاهيم والثقافات ومنظومات القيم التي تحكم العلاقات بين البشر شعوباً وأمماً ومجتمعات وحتى أفراداً.
ان قراءة معمقة في هذه التحولات تفترض العودة الى جذورها وإلى ظروفها التاريخية وإلى المعطيات الموضوعية التي رافقت نشأتها والتي أسست لكل هذه المتغيرات والأحداث التي مر بها العالم، ولا سيما عالمنا العربي، ومنطقتنا أي المشرق العربي بشكل خاص (بلاد الشام والعراق أو سوريا الطبيعية التاريخية).
فالبعد التاريخي ضروري لسبر أغوار كل هذه التطورات الحاصلة وتحليلها وفهم أسبابها ودينامياتها ومآلها وتداعياتها ونتائجها على كل المستويات.
بيد أن نطاق هذا البحث لا يتعدى في الاطار الزماني والمكاني التطورات الحاصلة على مستوى الهلال الخصيب (المشرق العربي) أي بلاد الشام والعراق منذ العقود الأولى للقرن العشرين وذلك انطلاقاً من كون هذه المنطقة تشكل اطاراً جغرافياً وتاريخياً وحضارياً له موقع المركز في تاريخ الانسانية جمعاء.
فبلادنا كانت منذ القدم تشكل الوعاء الانساني والحضاري الذي يحمل ارثاً انسانياً عالمياً بدءاً من الشرائع والقوانين والدول والممالك والحواضر التي قامت في ما يشبه مركز العالم القديم، هذا الارث الذي شكل المرتكز والقاعدة والأساس لتطور الانسانية جمعاء في مراحل لاحقة في مجالات السياسة والادارة والعلوم والتجارة والصناعة والدين والقيم والأخلاق والفلسفة وغيرها من مناحي الفكر الانساني ذي الطابع العالمي…
ولعل الموقع الاستراتيجي لبلادنا باعتبارها صلة الوصل بين الشرق والغرب، وعقدة مواصلات هامة على خطوط التجارة والنقل العالميين قد ساهم في إضفاء قيمة اضافية وأهمية استثنائية للواقع الجيو – سياسي الذي يحكم منطقتنا، وفي الوقت ذاته جعل بلادنا محط أنظار القوى العالمية الاستعمارية التي تطمح للهيمنة والسيطرة وامتلاك القرار العالمي وبالتالي التأثير على مسار الأحداث في العالم…
لمحة تاريخية
لا شك في أن الحرب العالمية الأولى التي شهدها العالم في العقد الثاني من القرن العشرين تركت بصماتها بوضوح على كامل المراحل التاريخية التي تلتها وبشكل خاص في عالمنا العربي والمشرق العربي، اذ أن الأحداث الكبرى والتطورات التي حصلت في بلادنا بعد الحرب العالمية الأولى كانت كلها من نتاجها وتداعياتها، ونستطيع القول بكل ثقة إن الخرائط الجيو – سياسية التي رسمها المنتصرون في تلك الحرب شكلت الأطر السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية التي تحركت في داخلها حركات الشعوب خلال العقود التي تلت، طبعاً مع الأخذ بعين الاعتبار الوقائع السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تمخضت عن الحرب العالمية الثانية وتوازنات القوى التي أرستها أيضاً حتى أيامنا هذه.
إن أخطر الاتفاقيات والمعاهدات التي هددت وحدة بلادنا ومجتمعنا تم عقدها في أعقاب الحرب العالمية الأولى من وعد بلفور الى اتفاقية سايكس – بيكو، الى تواطؤ دول الاستعمار الغربي والأوروبي بشكل خاص آنذاك على اقرار خطة اقامة «وطن قومي لليهود على أرض فلسطين»، مما شكل التهديد الوجودي الأساسي لمجتمعنا وعالمنا العربي منذ تلك الآونة وحتى يومنا هذا، وقد ترافق كل ذلك مع تركيب أشكال سلطوية في دول هزيلة ضعيفة تعاني خللاً بنيوياً في تركيبتها وهيكلها وبنائها العام، دول تعاني من اضطرابات وقلاقل تعود في جذورها الى الارث الاستعماري القديم المتمثل بأربعمئة عام من حكم تركي عثماني أعاق مسيرة التنمية والتطور والتقدم والنمو في شتى المجالات، وما زلنا حتى اللحظة نعيش تداعيات ونتائج وانعكاسات كل هذه التركة الثقيلة، أضف الى ذلك سيطرة استعمارية جشعة ساهمت في نهب ثرواتنا وخيراتنا والقبض على مقاليد السلطة والقرار في بلادنا والتأثير على كل الواقع الانساني الاجتماعي السياسي الحضاري المعيش في بلادنا.
لماذا العودة الى هذه الوقائع؟ ولمذا سبرُ أغوار هذه المسارات في تاريخنا السابق؟
السبب بسيط يتمثل في هذا التسلسل المنطقي التاريخي لما تم رسمه في العقود الأولى من القرن العشرين.
بالطبع، هناك مسارات متداخلة ومتشعبة حكمت تطور الأحداث خلال المراحل التاريخية السابقة، وكلها تنطلق من حقيقة استلاب يعيشها انساننا كنتيجة منطقية لغياب الوعي، واضمحلال الشخصية الوطنية والقومية والانسانية والحضارية وانسحاقها في آتون الصراعات المتعددة الأشكال والعناوين والتي شغلت العقل والتفكير وعطّلت كل امكانية للتقدم الصحيح، والتطور الايجابي البنّاء، والوصول الى الاستقرار النسبي المنشود الذي يشكل قاعدة الأمان الحقيقي لأي مجتمع والحاضن للاستمرار والحفاظ على الوجود.
واذا ما عدنا الى الوقائع، شكّل وعد بلفور الحلقة الأولى في حلقات التآمر المتمثل في زرع كيان الاستيطان اليهودي السرطاني على أرض فلسطين والمحيط الطبيعي، حيث أن المشروع الأصلي هو الاستيطان والتمدد في حركة إلغائية للتاريخ والحضارة والبنى، وإسقاط كل مداميك الحضارة والهوية المتشكلة في بلادنا عبر تاريخ طويل من الحراك والتفاعلات الانسانية العميقة التي ساهمت في بلورة معالم هوية إنسانية حضارية جذورها ضاربة في أعماق حضارات الإنسان منذ القدم.
وكما في نهاية الحرب العالمية الأولى، كذلك في أعقاب الحرب العالمية الثانية تم أخذ قرارات عالمية على مستوى المنتصرين في هذه الحرب طالت مصائر شعوب بأسرها، ولا سيما قرار انشاء «دولة اسرائيل» وتشريعها وقبولها في «منظمة الأمم المتحدة» مما شكل سابقة خطيرة في تاريخ نشوء الدول والكيانات السياسية، وجريمة كبرى بحق الانسانية.
ولعل التوازنات الدولية التي أرستها الحرب العالمية الثانية أرخت هي الأخرى بظلالها على العقود التي تلتها في ظل حرب باردة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق، هذه التوازنات ولدت أو ساهمت في توليد حروب وصراعات اقليمية متعددة غطت مساحتها كل القارات، ولكنها بقيت مضبوطة بايقاع تفاهمات ضمنية سلبية غير معلنة بين المحورين (الحرب الباردة).
واستمر الصراع مع الكيان الصهيوني في منطقتنا بأشكال مختلفة ومتعددة، وكان العدوان على مصر في الخمسينيات ومن بعدها حروب 1967 و 1973 وما بينهما من نشوء حركة المقاومة الفلسطينية وانطلاق ظاهرة الكفاح المسلح الفدائي في اطار منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المختلفة والمتنوعة، كل هذه الأحداث والتطورات أسست للعقود الأربعة التي تلت وصولاً الى أيامنا هذه.
الخلاصة المستقاة، تتمثل في هذا الترابط القوي بين الأحداث والتطورات في سياق المشاريع التي تهدف بشكل خاص الى المزج أو التماهي بين المشروع الصهيوني باعتباره غزوة استيطانية إحلالية إلغائية لها مرتكزاتها العقائدية التوراتية التلمودية وبين مشاريع السيطرة الاستعمارية الغربية وخاصة الأميركية على الثروات الخام ضبط ومصادر الطاقة ولا سيما النفط والبترول بالنظر الى أهميته الاستراتيجية على حياة ومسار تطور الأمم والشعوب حول العالم، وأيضاً التماهي مع الرجعية المحلية في بلادنا والتي كانت تقبض فيها على مقاليد السلطة بكل وجوهها وأشكالها.
مرحلة ما بعد السبعينيات
إن مرحلة السبعينيات من القرن العشرين كانت حافلة بالأحداث والتطورات والمتغيرات التي كانت تؤشر الى مقاربات مختلفة في منطقتنا للصراع مع الكيان الصهيوني، وجاءت حرب تشرين 1973 لتؤكد نظرية الاختلاف في قراءة طبيعة الصراع ومآله المستقبلية، بين نظرتين مختلفتين في الجوهر والمضمون، واحدة تسعى لإقامة تسوية سلمية مع الكيان الغاصب في فلسطين تتخلى فيه عن الحقوق في الأرض والسيادة والحرية والاستقلال الحقيقي، وقد مثل هذا التوجه على سبيل المثال لا الحصر أنور السادات الذي قرر المفاوضات وذهب بعيداً في خياراته الاستسلامية اذ زار فلسطين المحتلة ودخل نفق المفاوضات مع العدو الى أن قام بالتوقيع على معاهدة كامب – دايفيد التي أخرجت مصر من الصراع مع الكيان الصهيوني في صفقة تسووية هدفت الى تصفية المسألة الفلسطينية وتصفية الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني في تحرير أرضه التاريخية لقاء مكاسب آنية لمصر اذ حصلت على جائزة ترضية في صحراء سيناء بشروط اسرائيلية مهينة.
وفي المقابل، برزت جبهة رفض شامل لهذا الاتفاق المشؤوم على المستويين الشعبي والرسمي قادتها سوريا آنذاك وأيدتها بالشكل أغلب الدول العربية التي قطعت علاقاتها مع النظام المصري، وتم إخراج مصر من الجامعة العربية وعزلها سياسياً.
وتمحورت منذ تلك الآونة الصراعات في المنطقة حول الخيارات الأساسية المتعلقة بأصل النظرة الى هذا الصراع، وكانت كل جهة تعمل على تدعيم موقفها ومنطقها وعلى حشد الطاقات والامكانات في هذا أو ذاك الاتجاه.
وكانت الحرب الأهلية في لبنان في جانب أساسي منها تندرج في سياق هذا الصراع المحموم في ظل المشاريع الدولية التي ازدحمت في تلك الآونة والتي تركزت بشكل أساسي على التفتيت والتقسيم لإضعاف الجبهة الشعبية القومية الرافضة لتصفية المسألة الفلسطينية وتثبيت وجود «دولة اسرائيل» في قلب المعادلة الإقليمية وإضفاء شرعية دولية إضافية عليها.
لقد مثلت الحرب اللبنانية التي انطلقت فعلياً في 13 نيسان 1975 صورة مصغرة للواقع العربي والإقليمي والدولي، فقد شكلت هذه الحرب نقطة تقاطعات محلية واقليمية ودولية متشعبة ومتعددة ومتنوعة، وتداخلت فيها الأسباب والعوامل والدوافع على استمرارها لفترة ناهزت الـ 16 عاماً وأدت إلى كوارث بشرية انسانية واقتصادية ونفسية تجاوزت بكثير حدود الكيان اللبناني.
وقد طبع العمل المسلح الفلسطيني والقومي المرحلة بطابعه المميز وأعاد الألق الى حركات التحرر الوطني والقومي في بلادنا وعالمنا العربي، وحقق إنجازات في ضرب هيبة الدولة العبرية وتأكيد حق شعبنا في المقاومة والتحرير والوحدة، وتم نسج شبكة علاقات عربية وإقليمية ودولية استطاعت تحقيق أعلى نسبة تعاطف مع شعبنا الفلسطيني وقضيته المحقة، وقامت بتعرية الكيان الصهيوني وطبيعته العدوانية الإجرامية الاستئصالية للتاريخ والحضارة والإنسان، وتم استصدار قرار دولي يدين فيه الصهيونية ويعتبرها حركة عنصرية، وقد مثّل هذا الأمر بحد ذاته انجازاً للديبلوماسية المقاومة آنذاك، طبعاً ما كان لهذا القرار أن يصدر لولا احتضان قوى دولية صديقة كان على رأسها آنذاك الاتحاد السوفياتي.
وفي السبعينيات كان اجتياح إسرائيل لجزء من جنوب لبنان وإقامة شريط حدودي بعمق 15 كيلومتراً أقامت فيها شبه دويلة بقيادة سعد حداد أولاً وأنطوان لحد لاحقاً، دويلة صنيعة لإسرائيل وتأتمر بأوامر قادتها، وبعدها كان اجتياح 1982 الذي قامت فيه القوات الإسرائيلية بأشمل عملية غزو بري هدفت في ما هدفت إليه، إلى تصفية منظمة التحرير الفلسطينية وضرب خيار الكفاح المسلح من خلال تفكيك فصائل العمل الفلسطيني المسلح والتخلص بالكامل من مقاومة الشعب الفلسطيني في الخارج تمهيداً لضربها في الداخل، والمضي قدماً في المشاريع الاستسلامية التي كانت تخطط لها دوائر القرار العالمي بهدف اختزال القضية الفلسطينية وتصفيتها.
استطاعت القوات الإسرائيلية الوصول إلى بيروت بالنظر إلى عدم التكافؤ في القوى العسكرية الميدانية عدداً وعدة، ولكن هذا الخلل في موازين القوى الذي أوصل الجيش الإسرائيلي إلى بيروت، لم يستطع تحقيق أهدافه السياسية آنذاك، في إقامة حكم لبناني حليف أو صديق وإقامة معاهدة سلمية مع لبنان على غرار كامب دايفيد مع مصر، إذ إن المقاومة في لبنان وجهت ضربات قاسية للاحتلال أولها اسقاط بشير الجميل الذي انتخب رئيساً للجمهورية اللبنانية في ظل الحراب الإسرائيلية، وفي الميدان انطلقت وفي الأيام الأولى بعد الاجتياح عمليات المقاومة اللبنانية والفلسطينية فكانت العملية الأولى للمقاومة الميدانية «عملية إسقاط أمن وسلامة الجليل» التي أطلقت الصواريخ على كريات شمونة وغيرها من مستوطنات شمال فلسطين، وكرت سبحة العمليات العسكرية ضد الاحتلال في بيروت مع خالد علوان في مقهى الويمبي، وعملية بسترس وغيرها من العمليات في بيروت والجبل وجنوب لبنان، وبدأ تيار المقاومة بالتوسع والانتشار والتمدد، وحقق في السنوات التي تلت إنجازات كبيرة ولو في ظل الصراع الداخلي اللبناني – اللبناني الذي هو بالتالي يمثل صراعات على الخيارات الأساسية المتعلقة في جانب أساسي منها على موقع لبنان ودوره في الصراع القومي ضد الكيان الصهيوني وعملائه.
وقد جاء إسقاط اتفاق 17 أيار بمثابة صفعة قوية لكل المراهنين على سراب التطبيع والإلحاق والهيمنة الإسرائيلية على لبنان ومحيطه القومي، وقد تمت آنذاك إدارة معركة المواجهة بكثير من الحكمة والدقة والصبر والتأني.
على المستوى السياسي تعددت الأطر السياسية التي قامت في لبنان والتي جمعت القوى الوطنية الرافضة للتقسيم والتفتيت والمقاومة للاحتلال الإسرائيلي في آن، وتم عقد مؤتمرات سياسية عدة لحل الأزمة اللبنانية في لوزان وغيرها، لم توصل الى أية نتائج، الى أن وصلت الأطراف اللبنانية في لحظة اقليمية ودولية مناسبة الى اتفاق الطائف برعاية سعودية – سورية وتحت مظلة دولية تقاطعت فيها الرؤى والمصالح الدولية والرغبة الداخلية اللبنانية فدخل لبنان مع الطائف مرحلة جديدة كان عنوانها ارساء دعائم دولة الطائف التي شكلت متنفساً ومساحة لالتقاط الأنفاس وللتنعم بفترة من الاستقرار بالنظر طبعاً الى التشوهات البنيوية الموجودة في قلب هذا الاتفاق والذي تبين لاحقاً أنه – بطبيعة الحال – يمثل تسوية سياسية مؤقتة عكست توازنات قوى محلية واقليمية ودولية، أو مرحلة انتقالية تحاول الأطراف مجتمعة اعادة تفعيل قواها استعداداً للمستقبل.
فلسطينياً، شكلت حرب المخيمات في الثمانينيات مفصلاً أساسياً، اذ أنها حملت في طياتها بذور الاختلاف في الداخل الفلسطيني حول آفاق الصراع المستقبلي من أجل فلسطين، وكانت تمثل هذه الحرب صراع الخيارات الدائر حول مستقبل فلسطين.
وبالطبع، كان واضحاً أن الصراع على امتلاك ورقة المخيمات الفلسطينية بما تمثله من زخم وشرعية شعبية سيعطي الطرف المنتصر (بين هلالين) موقع قوة إما للمضي قدماً في عملية التفاوض وعقد التسويات السلمية في حال كان المنتصر يمثل وجهة النظر تلك، أو بالمقابل انتصار الطرح الذي يدعو الى المقاومة والتمسك بالحق القومي، وإعطاء الصراع طابعه القومي الطبيعي باعتبار أن اسرائيل تمثل خطراً وجودياً ليس فقط على فلسطين بل على كل المحيط الطبيعي من العراق إلى بلاد الشام أي على كامل سوريا الطبيعية التاريخية.
وبالنتيجة، مالت كفة القوة لجهة قوى المقاومة، وترافق هذا زمنياً مع اندلاع الانتفاضات الفلسطينية الأولى والثانية التي أثبتت أن الخيار المقاوم هو الأسلم والأقدر على إحقاق الحق وتحقيق الإنجازات، وقد أثبتت المقاومة الوطنية في لبنان نظرية أن «العين تقاوم المخرز» وأن إرادة الشعب المقاوم اذا ما اقترنت بالفعل الثوري المقاوم تستطيع أن تحقق الإنجازات، فمن العمليات الاستشهادية في اطار جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية إلى تزخيم العمليات المقاومة المسلحة ضد الجيش الاسرائيلي على أرض لبنان في اطار «المقاومة الاسلامية» لاحقاً، كان التحرير في العام 2000، ليثبت بالعين المجردة أن الإرادة وفعلها حققا بالفعل إنجاز التحرير، وقد شكل هذا الانتصار السند للشعب الفلسطيني في الداخل لتطوير نضاله الوطني بشتى الوسائل لتحقيق إنجاز التحرير على المدى الطويل، وإحداث خلل في المفهوم الإسرائيلي الوجودي مرحلياً.
هذه الانتصارات الميدانية عززت في عقل إنساننا ثقة بالذات كسرت المعادلات، وشكلت بداية تحرير لهذا العقل من كل المعطلات التي جمدت تطوره وارتقاءه، وحققت هذه الإنجازات خرقاً للصورة النمطية التي أراد الآخر تأبيدها في أذهاننا لتعميق حالات الاستلاب المجتمعي والحضاري والإنساني لأمتنا ومجتمعنا.
صراع الحضارات
بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي تظهر كتابات لكتّاب غربيين وأميركيين حول مفهوم صراع الحضارات ونهاية التاريخ، وكانت كلها تندرج في سياق التأسيس الفكري لتبرير السياسات الاستعمارية وإضفاء صفة شرعية أخلاقية عليها ليتسنى تسويقها واعتبارها واحدة من حقائق الصراع المستقبلي حول العالم.
بالطبع لا مجال للخوض تفصيلياً في تلك النظريات ولكنها تتمحور بطبيعة الحال حول تبرير الانقسامات والانشطارات حول العالم على قاعدة ثقافية ودينية وتأصيل هذه الانقسامات وتعميقها.
وجاءت أحداث أيلول 2001 في السياق المرسوم لها لتؤكد صحة هذه النظرية حول انقسام عميق على مدى الكوكب بين حضارتين إسلامية يتم لصق صفة الارهاب بها، وبين حضارة غربية مسيحية متسامحة تحارب من أجل الحرية والتطور والنمو.
وقد اندرج غزو أفغانستان تحت هذا العنوان «صراع الحضارات والمعركة ضد الارهاب»، وكذلك اجتياح العراق في العام 2003، أي بكلام آخر، شكل عنوان «الارهاب» و «نظرية صراع الحضارات» الأساس العقائدي الذي اعتمدته الادارة الأميركية لتسويق مشاريع سيطرتها على ثروات الشعوب ومصادرة خيراتها ولا سيما مصادر الطاقة حول العالم ولا سيما في منطقتنا العربية، وطبعاً فرض مشاريعها ورؤاها السياسية التي تتقاطع في بلادنا مع المشروع الصهيوني بكل تجلياته واستهدافاته.
وقد استهدفت هذه المشاريع وبشكل مباشر ضرب كل حركات المقاومة في بلادنا وتأليب العالم عليها، ومحاولة إلصاق تهمة الإرهاب بها، فكانت أحداث لبنان في العام 2005 واغتيال الحريري والحملة على حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين، وعلى سوريا باعتبارها العمق الاستراتيجي لكل حركات المقاومة في بلادنا، وما زالت هذه الحملة مستمرة بأشكال جديدة تتمثل في محاولات يائسة لاحداث فتن طائفية ومذهبية لا سيما منها سنية – شيعية وإدخال المنطقة في حروب استنزافية داخلية تدمر الهوية والكيانات السياسية القائمة وتعيد رسم خرائط جيو – سياسية على هذه القاعدة، وقد غدا مشروع التقسيم الجديد للمنطقة العنوان الحالي لكل الأحداث التي تجري من شمال افريقيا إلى كل المنطقة العربية ولا سيما المشرق العربي ومصر.
أكذوبة الربيع العربي وارادة التغيير المسلوبة
شكل العام 2011 بداية تغييرات دراماتيكية لافتة متزامنة في العديد من الدول العربية من تونس إلى مصر إلى ليبيا ومن بعدها سوريا، لا شك في أن واقع النظام العربي الرسمي يحمل في طياته بذور الثورة والرفض والتغيير، فالظلم وعدم المساواة وغياب الحريات وسوء توزيع الثروات القومية والاستغلال كلها أسباب كانت في صلب الحراك الذي شهدته هذه البلدان، فالعامل الداخلي أساسي ويعبر عن توق هذه الشعوب للتغيير والانعتاق من واقعها البائس.
بيد أن تطور الأحداث أخذ اتجاهات تجاوزت بكثير أصل الحراك، وكان واضحاً أن عملية استلاب هائلة لهذا الحراك قد حصلت، وتم أخذ الحراك الى مكان آخر يتصل بمشاريع مشبوهة ومكشوفة لها علاقة بإعادة رسم الخرائط الجديدة للمنطقة بأسرها تحقيقاً لمصالح دولية تتصارع في بلادنا بالنظر الى الموقع والأهمية الاستراتيجية في الأمن والسياسة والاقتصاد.
ولعل الحدث السوري هو الأكثر دلالة على ازدواجية المعايير، وعلى حقيقة الاستهدافات، وعلى طبيعة المشاريع التي يُراد تنفيذها وصولاً إلى التقسيم والتفتيت وترسيخ هيمنة إسرائيل على المنطقة.
آفاق التحولات الحالية ومساراتها المستقبلية
ما زلنا نواجه خيارات صعبة وتحولات مفصلية ستترك بصماتها على الحاضر والمستقبل، ولا إمكانية للخلاص من مستنقع الانقسام والتشظي والاندثار إلا بفكر نهضوي خلاق مبدع يرتكز على قواعد راسخة في العقل تؤسس لانطلاقة جديدة تعيد صياغة الحاضر والمستقبل بما يتلاءم وطموحاتنا وطموحات أجيالنا الحاضرة والآتية بالوحدة والتقدم والتنمية والازدهار والاستقرار والحرية والاستقلال.
وهذه القواعد شكلت عناوين انطلاقة كل حركات التحرر القومي النهضوي منذ بدايات القرن العشرين وحتى أيامنا هذه، وتتركز حول فصل الدين عن الدولة، تعزيز فكرة المواطنة، تعزيز الحريات، التأكيد على الهوية القومية الجامعة لكل أبناء الوطن، المساواة النسبية في توزيع الثروات الوطنية، العدالة الاجتماعية، منع الاستغلال وسوء استعمال السلطة، تعزيز الرقابة، تعزيز دور الدولة في حماية المجتمع وفي تعزيز الاستقرار والأمن والحريات.
خياراتنا في الثقافة والتربية وبناء الانسان الجديد… هي خيارات النهضة والعقل والعلمنة والهوية والانتماء الى التاريخ والجغرافيا والحضارة والانسان…