كان صباح يوم العاشر من شباط 2014، عاصفاً على أرواح متذوقي الجمال، فكيف على متذوقي عالم الشاعر جوزف حرب وأبجدية الخلق والتوليد التي تكشف عن إدهاش الروح في صفاء ألوهية وطيبة عميقة وسبر نفسي تاريخي، وفاء لشعره ولحضوره الذي سيسطع اكثر ببهائه المعتاد في نفوسنا ووجداننا أرادت تحولات ان تحييه بنشر مقابلة أجراها الزميل هاني الحلبي العام 2008، وبآراء كتبها شعراء وناشرون ونبذة موجزة من عطائه.
الشاعر جوزف حرب: نحتاج لقادة يستوحون الماء في نحته الأشياء والحياة
هنا أهم ما جاء في المقابلة:
"استأذنته بحوار فتذرع بسفر، ربما، وعندما زرته عذرته، أنه بين الأرض والسماء يأنف الانقطاع، لكننا توافقنا على موعد وانا واثق ان بين يدي استحقاقاً وأيقونة هما محاورة مستوحد العزوبة كبيرنا الشاعر جوزف حرب، في تطواف على حوافي الرخام ودهشة الماء وألق القصيدة ووهج الحياة.. هنا نصه..
الشاعر جوزف حرب أشهر من أن يُعرّف أو يسأل أن يُعرّف عن نفسه، لكنك قلت "لا شيء يحيا خارجي" فمن أنت؟
أنا الكل الذي أعيش العودة إليه.
لو قيض لك ان تختار بين الكتابة المحكية وبين الكتابة غير المحكية، أيهما تختار؟
ليس هناك من كتابة محكية إلا الكتابة الفصحى، وعندئذ أختار الفصحى على المحكية.
لماذا؟
لأنها أقدر من المحكية على التعبير وارتياد أبعاد لم تستطع حتى الآن المحكية في الذهاب إليها. هي أوسع قدرة على الوصول إلى أماكن الروح والفكر، وقد ساعدها في ذلك إرثها الذاتي التاريخي العظيم، فللفصحى تراث كبير وغني بينما للمحكية تراث بدأ الاهتمام به منذ زمن قليل. كان نتاج المحكية الشعري يعتمد على الذاكرة وليس لها إرث مكتوب أو مسجل كما للفصحى، بالإضافة إلى ذلك لا نستطيع أن نعتبرها لغة متكاملة، لأنها لا تقعّد أي لا نستطيع ان نضع لها قواعد..
لكني لاحظت ميزة للسان المحكي أن التداول يصقل الكلمة فتصبح أسلس كأن نقول جرايد بدلاً من جرائد، هذه السلاسة تكسب المحكي سهولة الالتقاط والاستيعاب والتداول، مثلاً "خليك بالبيت" أصبحت اسماً لبرنامج..
من صفات المحكية أمور تضعها في إطار النطق بشكل تظن معه أنه أسهل على استعمالها من استعمال الفصحى. صحيح أن جرايد أسهل من جرائد، ومثلها مفردات كثيرة يقع نطقها المحكي حسناً في السمع. فالمحكية قريبة جداً من سهولة النطق التي يتميز بها الأطفال عبر مخارج الحروف التي يستعملونها. ولكن هل تقبل هذه السهولة وهذه البساطة وهذه القدرة الجميلة في التعبير عن الحياة اليومية وضع قواعد لها؟ وهل يمكن تعميمها على عامة الشعب كافة لتتحول إلى لغة كتابة ولغة تستوعب كل أنماط التعبير الإبداعي والفكري؟ أؤكد لا يمكن ذلك. الحياة اليومية هي كحجر حنون يرقق الحروف والمفردات واللسان اليومي هو اقرب إلى تنقية اللفظة من صعوبتها في الفصحى، ولكن هذا لا يكفي لأن نضع المحكية مكانها.
لا أدري إن كنت توافق معي على ان المحكية هي ردهة استقبال الفصحى، فعندما تستقبل اللغة لفظة دخيلة، فإنها تستوعبها أولاً في المحكية ثم تقوننها في الصرف، حيث لا نجد في الفصحى هذا التعدد وهذا الغنى.
طبعاً، كما قلت المحكية غير مقعّدة بينما الفصحى هي مقعّدة بقواعد مفروضة على اللغة من أجل ضبط استعمالها بطريقة صحيحة.
ينعكس هذا على اللغة بوصفها معطى فكرياً فلسفياً ذا قوانين ضابطة مساعدة لنقل الحالة المعيشة إلى تصور قابل للفهم والتداول معبر عنها.
حسناً، ولكن نجد ان اللغة المحكية تبدأ بسكون، فهل هذا يعني تناقض عقليتين بين المحكية والفصحى في مصدريهما؟
السكون في المحكية مصدرها اللغة السريانية السابقة على العربية في هذه البلاد، وعندما يمكن تطوير المقاييس العقلية الاجتماعية ستجد هذه صداها في اللغة، الأهم إيجاد وحدة مقاييس مرعية الإجراء لكتابة عربية واحدة متداولة، ولو قامت على بعض القواعد الاصطلاحية التي قد لا نراها منطقية بالضرورة، لكن عموميتها تحقق وظيفة اللغة الفنية والاجتماعية.
شاعر الماء والخلق
في قراءة "رخام الماء" تواجه المتأمل حالة التغيير الفادح بين حيوية طبيعة الماء وسقسقته وتجميد ماهية المادة في نعومة الرخام، هنا تغيير سلبي!
يمكن ان تتم في الحس الواقعي إمكانية تحويل الحقيقة إلى خبز. تستطيع ان تنحتها سلاماً، طمأنينة، كتاباً، فهي أصبحت ذات هيولى. فرخام الماء هو سيرة ذاتية لنحات كلي واحد هو الماء، نحت الأعشاب والأشجار، نحت الصخر. وعلى صعيد الإنسان هناك الحقيقة والعدالة والحرية ثالوث نحات كلي واحد يمكنه نحت مجتمعات الإنسان الراقي. فهؤلاء النحاتون الثلاثة يستطيعون نحت الوردة كرمز للحرية والخبز كرمز للبقاء والشمس كرمز للنور والميزان كدلالة للعدل. فالماء هو النحات القدوة والمثال للقادة والمصلحين الذين نحتاج إليهم في عملية الثورة والإصلاح.
أهديت أكبر دواوين الشعر، ديوان "المحبرة"، إلى الموت، ألم تجد في الحياة ما يستحق الإهداء؟
الإهداء إلى الموت تعبير وكأني أقول له: "أنظر ما الذي تستطيع أن تفعله الحياة". وكل شيء قائم في وجود على نقيض..
أليس الموت تحولاً في أشكال الحياة؟
هذا يرجع المرء إلى النفس البشرية التي وقعت تحت حس مأساوي عميق، هو أن العالم مليء بالجمال المتاح للتمتع والتذوق وأن الحياة كريمة ومترعة بالحلاوة، لكن ما يغص في النفس عميقاً هو أننا نملك أجساماً على متانتها وأعجوبة نحتها وقوة ترابطها وإدهاش تحملها، تبقى إلى جانب كل ذلك هشة وعاجلة العطب. من منا لا يتوق لأن يكون عمره مديداً جداً ليغرف المزيد من كوثر الوجود؟
ألم تجد جدوى في رحلة جلجلمش في بحثة عن زهرة الحياة والخلود؟
هذه الرحلة سببها الموت والزوال، مثلاً صعّدها موت صديقه أنكيدو خلالها.
هل تخشى الموت؟
لا، لا أخشى الموت..
"ليش طالع عَ بالك تفلّ؟ مش عاجبينك يا أستاذ جوزف"..
لا، لا، هناك امور كثيرة في الحياة لا أرغب أن أعيش فيها، ولا أوافق عليها، ولا أقبل أن تفرض عليّ.
"لوين بدك تفلّ"؟!
إلى وطن أفضل، احلى، اجمل واكثر قدرة على إشعار الإنسان فيه أنه نموذج يتمتع بإنسانيته. انا الآن وهنا لا أشعر أني إنسان. هو شعور بالذل أن يتحول أحدنا إلى زلمة بيك، او ان يتحول إلى زبون تاجر. هذا أمر يؤلمني، فأنا لا أرغب أن أكون في حالة استرقاق كهذه. أنا إنسان ويكفيني. أنا إنسان مسالم لي أحاسيس روحية أستطيع ان أحولها إلى حياة أفضل. فهل أطلب المستحيل؟ والله عيب، عيب. (بغضب وقسوة).
لماذا تعتكف في المعمرية (قرية الشاعر)؟
عندي منزل في بيروت، لا مشكلة. أذهب إليه عندما أرغب. "هنا رواق، استقرار وبيت مريح، ثم بدي أشتغل".. أكتب ما يمكنني استكماله.
جوزيف حرب العصي على الموت والنسيان
«تحولات»
رحل الشاعر جوزف حرب تاركاً حديقة شعرية معلقة، أغنى من خلالها المكتبات بأعماله الفكريّة والنثرية ودواوينه وبقصائده التي غنّاها ولحّنها الكبار في عالم الغناء المحلّي والعربي.
برحيله يفقد لبنان علماً من أعلام الشعر هو الذي طبعت كلماته وأغانيه ودواوينه في ذاكرة الوطن والشعب وتميّز بأنه شاعر الاكتواء بالحّب والرحيل فرحل تاركاً وراءه ارثاً لا ينسى ابداً.
في رصيد الشاعر جوزف حرب العديد من القصائد التي غنّت بعضها سفيرة لبنان الى النجوم السيدة، كما لحّن وغّنى له قصائده الفنان مارسيل خليفة. أما أشهر دواوينه الشعرية فكانت شجرة الاكاسيا، مملكة الخبز والورد، الخصر والمزمار، السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية، شيخ الغيم وعّكازه الريح وغيرها وغيرها ….
قّدّم حرب أعمالاً اذاعية وبرامج دراميّة للتلفزيون نال جوائز تكريميّة أبرزها جائزة الابداع الادبي من مؤسسة الفكر العربي والجائزة الاولى للادب اللبناني من مجلس العمل اللبناني في دولة الامارات العربيّة.
الشاعر الكبير الراحل هو من بلدة المعمرية قضاء الزهراني وتنّقل في طفولته وشبابه بين مسقط رأسه وبيروت والبترون وجبيل وتلّقى دروسه في مدرسة القلبين الاقدسين في جبيل وفي المعهد الانطوني لاحقاً. اكمل تخصصه الجامعي في كليتي الحقوق والآداب فنال اجازة في الحقوق ومارس المحاماة وفتح مكتباً خاصاً له.
لروح الراحل الكبير كتب بعضهم انّ لروح الابجديّة نكهة لا تموت… يهوي الجسد وتخلد الروح …
جوزف حرب شاعر كبير الراحة الابدية ستـبقى بصماتك وأعمالك شعلة مضيئة …تذّكرنا فيك … تحت الشبابيك .
مخيلة وحشية تركض أحصنتها في براري العالم
شوقي بزيغ
لم يكن لدى جوزف دقيقة يضيّعها. فمنذ البدء تراءت له الحياة أقصر مما يجب. لذلك لم نكن لنراه في مطعم أو مقهى أو حانة. ولم نكن نلمحه على رصيف أو ناصية شارع أو شاشة تلفاز، رغم أنه كتب للإذاعة والتلفزيون الكثير من البرامج والأعمال اللافتة. كانت الحياة عنده مثلثاً ذهبياً تحتلّ القراءة ضلعه الأول والكتابة ضلعه الثاني، فيما يتم تقاسم ضلعه الثالث بين موجبات الصداقة والشغف بأطايب العيش والوله الصوفي بالأنوثة. لكن تبرمه بالاستعراضية وحب الظهور جعلاه أقرب إلى التنسك والزهد منه إلى أي شيء آخر. فقد كان يخلد إلى عزلته شهوراً طوالاً قبل أن يطل عبر أمسية أو مهرجان شعري أو مناسبة اجتماعية. ربما كان يعرف أن جوهره الحقيقي متمثل بالقصيدة ولغة المجاز الأدبي ولذلك فقد دفع بأعماله الشعرية الكثيرة والغزيرة إلى الواجهة، واختبأ في صومعته في الحمراء لكي يضيف المسافة بين ألق الكتابة وكاريزما الحضور الشخصي. وكان طوله الفارع وصوته الرجولي على بحّة مثخنة بالشجن، إضافة إلى وقفته الواثقة وإلقائه المسرحي المتمكّن، يجعلان منه في المهرجانات الحاشدة فارس المنابر الذي لا يُضاهى.
في وداع ولد السنديان
محمد علي شمس الدين
يعود اليوم ولد السنديان الضائع إلى بيته، يدق الباب، وحين يُفتح له سيجد وجه الله في استقباله. عاش جوزيف حرب عمره وهو يبحث عن لاهوت ضائع، لكنه في غمرة هذا البحث وقلقه كان يعيش في لاهوت آخر أرضي، هو الحقيقي الذي منه انبثق الشاعر وأشعاره وإليه الآن يعود. وفي امتداد شعره الساحر الريفي ما كان يروي سوى سيرته العائلية كولد بريّ أو ولد السنديان العائد اليوم بعناصر كثيرة من الدهشة والدمع والمغامرة، لا إلى القصر الذي شيّده من حجر في أعالي بلدته المعمرية، بل إلى شجرة السنديان التي نبت على جذعها قصره الطفْليّ العجيب الآخر، ولو نفضت اليوم كُمّ جوزيف أو لمست طرف نعشه لسقطت منه بلابل وأتربة كثيرة وحقول وعصافير وأعناق صخور وأفراس ريح وقصب على امتداد الينابيع. وما كنت أراه يأتي أو يذهب إلا وهو محتشد بالبراري، بما فيها من شيح وعرعر وصفصاف وهو يدلل العصفور المزقزق المعربد فيسميه أبا نؤاس، والحمار الصامت المتأمل كفيلسوف، والديك الذي تجسدت فيه العناية الإلهية فأكله الكاهن في ما أكل من طعام.
سليمان بختي
ترك جوزف "محبرته" مفتوحة ليمر الريح من شق الريشة ويغني. لبث يكتب حتى آخر لحظة كأنه يستعجل الرمقين: الزمن والشعر. في كتابه قبل الأخير "كم قديم غداً" (2013) يعترف جوزف حرب بقوله "وذبحت من اجل البياض/ من الوريد الى الوريد /لا شيء مما حملت/ كأنني ساعي البريد".
لا أعرف اذا كان جوزف حرب كان يشعر بحدس الشاعر بدنو الاجل. ولكنه أدرك ان أقسى فراق هو حين ينهي ما بين الاصابع والقلم من عناق. أقسى فراق ما يأخذ الانسان من الانسان.
كل الاغاني، كل الصور، كل القصائد، كل الاحلام تمشي الآن برفقته صوب الريح الفضية. كلماته بصوت فيروز ستعيش طويلاً (لماذا لا تجمع قصائده المغناة في كتاب) وقصائده التي كتبها لنفسه ولنا جميعاً سيظل عطرها يفوح في ارضنا وسمائنا. وقفاته البلاغية الواثقة الحضور سنذكرها دوماً.
في قصائده الاخيرة كان الحنين يطفو في قصائده ويبلل الحروف. حنين كل الذين سكنهم وسكنوه، الذين غابوا او حضروا. ولكن حنينه الاكبر كان لمنزله القديم الاول. لأمه التي رآها غزالة ويمامة ونجمة وشجرة ومسبحة وأفق وضياء. والى باب بيته القديم الذي تقف وراءه كل عائلته والصديق والحبيب والحبيبة .
عرف جوزف حرب كيف يمزج في شعره الجمالي بالإنساني والالتزامي بالرؤيوي. عرف ان "لا دور للشعراء الا انهم / قد اشعلوا الفانوس / كي يخرجوا الكلمات/ نحو شموسها من عتمة القاموس".
كان مثل المزارع الذي يرى عنقود العنب وهو يتأمل الشتلة بين يديه، ويعرف ان الشمس ستساعده والريح ستآزره والمطر سيلبيه والتراب سيعطيه. وان أجمل التاريخ ما كان غداً، وان القصيدة هي بالنهاية ملك العناصر وليست ملك صاحبها. ملك من يحتاجها لا من يكتبها . ملك من يغنيها لا من تغنيه.
إلى جوزف حرب شاعر الحب
أحمد منصور
كلما كانت الكلمات كالنبع ينشق من الصخر صدحت على الألسنة واستمرأها المدى وأنشدها ورددها… وكلما تألقت الكلمات على الاعين والرؤى تجلى طيف رسامها صورة، من بدء البدء الذي لم يكن سوى الكلمة.
الشعراء الحقيقيون لا يموتون يا جوزف فلا أقول إذن وادعاً.