قبل أشهر، لفتني مقطع في مقال للأستاذ سامي كليب: "لا تزال صرخة القائد المقدسي والمجاهد العربي البطل عبد القادر الحسيني ترجِّع صداها حتى اليوم حين خذله العرب وعاد يستشهد في معركة القسطل في فلسطين . قال قبيل استشهاده : " انني ذاهب إلى القسطل وسأقتحمها وسأحتلها ولو أدى ذلك إلى موتي ، والله لقد سئمت الحياة وأصبح الموت أحب إلي من نفسي من هذه المعاملة التي تعاملنا بها الجامعة ، إنني أصبحت أتمنى الموت قبل أن أرى اليهود يحتلون فلسطين ، إن رجال الجامعة والقيادة يخونون فلسطين".
في محيط المشرق اليوم، تتلاطم أمواج الإسلام والعروبة. نسمع اليوم كثيراً شعار: "فلسطين هي البوصلة". لنكن واضحين: بوصلة الشهيد القائد الحسيني وحدها تستحق الإجلال! أين هي في واقع اليوم ياترى؟
تأسست إسرائيل الصغرى بعد استشهاد القائد الحسيني. ثم أتمت احتلال باقي فلسطين عام 1967، ثلثي الجولان عام 1973، وحوالي 40% من لبنان عام 1982.
في النصف الأول من القرن العشرين، كان الإسلام رديفاً ومعزّزاً للعروبة. لكن على مدى خمسون عاماً منذ إعلان الكيان الصهيوني، منيت الأنظمة العربية التي رفعت راية العروبة بهزائم متتالية على يد إسرائيل. ثم مع انهيار الإتحاد السوفياتي، ازداد بؤس التنظيمات العروبية. أصبحت العروبة تدريجيا عنوانا لليأس والإحباط الجماهيري، والفشل في الوفاء بأهم وعودها التعبوية: مقارعة العدو الصهيوني.
لكن المد المقاوم أوقف هذه الهجمة التوسعية للعدو الصهيوني، وأجبر العدو على التراجع عن احتلال لبنان عام 2000 وغزة عام 2005، كما أنهت حرب تموز 2006 آمال العدو بالتوسع مستخدماً قواه العسكرية الذاتية. وجاءت معارك غزة الأربعة (2008 – 2014) لتعزز هذا العقم التوسعي للعدو.
أُقفلت الأبواب أمام إسرائيل التوراتية، وبعد حرب تموز 2006، حوصرت إسرائيل الصغرى داخل حدود 1973 ناقصاً سيناء. كما تميَّز إلتزام إيران بدعم المقاومات اللبنانية والفلسطينية، وكسرها الحصار الإقتصادي الذي فُرِض عليها، فتوفر عمق استراتيجي اقليمي لهذا المد المقاوم.
إذاً، الامتداد التوسعي لإسرائيل بات صعب المنال … اللهم إلاّ إذا حصل تفتيت لمداه الجغرافي من الداخل، يقوّض مصادر قُوَّته ويسحب الروح من المد المقاوم.
الحل لهذه المعضلة كان في مَحْو العروبة كمستند قومي وهوية انتماء، واستبدالها بهوية إسلامية عنصرية.
العروبة مبدأ جامع، يتعدى الحدود القطرية، الدينية، المذهبية والعرقية، ليوحّد بناء على التاريخ، اللغة، والإنتماء والتطلعات القومية المشتركة. الإسلام في المقلب الآخر، يحوي فوالق وبذور شقاق مذهبية، عرقية، قبلية وعقائدية، يمكن مع تعميقها أن يتحول بعضها إلى بؤر فكرية تتبنى العنصرية الدينية.
المسار البديل كان قتل العروبة واستبدالها بالعنصرية الإسلامية خاصة بين السُنّة الذين شكلوا جزءاً أساسياً من الزخم العروبي المعادي لإسرائيل، ثم تأجيج التوتر على الفالق السني-الشيعي.
المسار البديل أصبح ضرورة للعدو الصهيوني: جثة العروبة أمامه جاهزة للنهش، وليس أفضل من متوحش من رحم البيئة المحلية: عنصرية متطرفة لا تقيم وزنا للمعايير الإنسانية والأخلاقية … تتستر بالإسلام، وتدّعي حصرية الدين في عقيدتها المتطرفة.
كان من الضروري أن يتعزز تقبل جمهور العروبة لعنصرية الإنتماء الإسلامي المطروح، وذلك عبر التركيز على مقولات تدغدغ الغرائز، مستقاة من اختلافات مذهبية وطائفية، كانت العروبة قد نجحت في حجبها لعدة عقود، بحكم تجاوزها ومحوها لتلك الحواجز.
كان لابد من تدعيم هذه التحولات العقائدية بالإحساس بتحقيق الإنجازات عبر الغزو، العنف، الغنيمة، واجتياح العدو الجديد: الطوائف والمذاهب والأعراق الأخرى.
هدف أساسي للعنصرية الإسلامية كان تفجير كل ما أمكن من الروابط الاجتماعية بين الإسلام العنصري والطوائف والمذاهب والاقليات العرقِيّة. وهكذا تتم خلخلة وتدمير النسيج الاجتماعي للمشرق.
أمل العنصرية الصهيونية الوحيد في امكانية البقاء في المشرق، هو في زرع وتأصيل عنصريات دينية مستقرة تتقبلها، تتعايش معها، وجميعا تستقي ديمومتها ورخائها من امتدادها العضوي مع الغرب الإستعماري.
عرب الإنقراض رفعوا الراية البيضاء. هذا كان امتداداً لإفلاسهم عبر نصف قرن من العجز عن تحريك إبرة البوصلة إلا في الاتجاه المعاكس لفلسطين.
بالمقابل، قوى المد المقاوم، وبدور ريادي من حزب الله، اختلفت عن سابقاتها في المستوى الفعّال من التخطيط الإستراتيجي، فهم وتأمين المقدرات والمعطيات اللازمة للنصر، وتحقيق الإنجازات التي تحدثت ببلاغة وبالوقائع، عن مدى تطور وجدية هذه الحراكات الثورية، وقدرتها على مقارعة الإستعمار والصهيونية بنجاح.
عادت إبرة البوصلة تؤشّر في الإتجاه الصحيح: فلسطين.
بين الأعوام 1985 وحتى 2006، عانى الإستعمار والصهيونية هزائم متتالية، وبعد 2006، شاهدوا المقاومة تتوسع وتزداد صلابة، وتوصِلُ زخمها إلى البُؤَر المُقاوِمة على امتداد المشرق، بدءاً من العراق وغزة، وبعدهما سوريا، واليوم اليمن.
هذه الميادين الأربعة أنتجت على التوالي طرد الاحتلال الأمريكي من العراق عام 2011، صد العدوان الإسرائيلي على غزة بين 2008 وحتى 2014، وإفشال إسقاط النظام السوري منذ 2011 حتى اليوم؛ وفي أيامنا هذه، صمود عنيد للشعب اليمني خلال 100 يوم من العدوان الأمريكي المستتر بالسعودية.
إذاً … نحن اليوم نشهد معركة مصير للإستعمار والصهيونية، كما لقوى المقاومة.
الإستعمار سئم من الهزيمة والفشل على مدى 25 عاماً، فكانت هجمته المضادة بدءاً من عام 2010، ونجح في مصادرة الزخم الشعبي ل"الربيع العربي"، وتحويله إلى تيار جارف من التشرذم، التقاتل الداخلي واليأس من التغيير.
الاستثناء كان في معاقل قوى المقاومة. في العراق، سوريا ولبنان، وانضمت إليها اليمن: المعارك شرسة، مدمرة، ومستمرة منذ أكثر من أربعة سنوات.
في هذه المعركة، يستخدم الإستعمار جميع أوراقه، ويقامر بكل ما لديه. فَرَضَ الإستعمار معركةً على امتداد المشرق، ودخل معمعتها حلفاؤه، مناصريه، أتباعه، أدواته، عملاؤه، إعلاميوه، منظماته الحكومية وغير الحكومية، وموّلها بعشرات مليارات الدولارات، وجنّد لها خيرة خبراته الاستخباريه.
العروبة ماتت فعلاً مع انتهاء حرب 1973، والتي تمكنت الولايات المتحدة من تحويل نصر العرب فيها إلى هزيمة، عبر جسر السلاح الجوي للعدو الصهيوني.
نعم، العروبة في يومنا هذا لن تُنْتِج أية ثمار ذات قيمة … اللهم مثل تلك التي تجمع السعودية، مصر، السودان والمغرب في الإعتداء على اليمن: ثماراً مُرّة، كريهة … أو من نمط الجامعة العربية اللقيطة، التي لم تجد من يتبناها سوى تجار النخاسة في سوق الخيانة.
هذا لا يعني أن العرب انقرضوا. فبوصلة القائد الحسيني بخير، وهي أساس الحراك وقلبه النابض، وهي فاعلة بنشاط وقوة.
نعم التحديات غير مسبوقة، لكن السائرون بِهَدْيِ البوصلة أوسع وأكثر تأثيراً من حاملي راية العروبة في زمانهم الغابر.
أمّا التحدي الأكبر أمام قوى المقاومة، والضامن لانتصارها، فلم يحصل بعد.
هل تنجح قوى المقاومة في التبلور إلى جبهة تحرير مشرقية، موحدة القيادة، الاستراتيجية والحراك الميداني؟
هل تنجح في أن تبني حيثيتها في نقيض العنصرية: المصير الواحد للإنسان المشرقي الذي يتخطى الدين والمذهب والعرق؟
هذا هو التحول المستقبلي الذي ننتظر ونأمل حدوثه، لأنه السبيل الوحيد لمواجهة الهجمة الاستعمارية الهائلة في العشرين سنة القادمة.
الأمل في المستقبل، يكمن في وحدة قوى المقاومة وتكامل قواها في كافة ساحة المشرق، ليتحقق حلم القائد الحسيني، على هدي بوصلته.