هناك مقولة للفيلسوف الألماني هيجل تقول: "إننا نتعلّم من التاريخ أنه يستحيل على البشر التعلّم من التاريخ".
والتاريخ هنا يعيد نفسه ويتأرجح بين شرق أوسط قديم وشرق أوسط جديد، فالآن ومع نهاية اتفاقية سايكس – بيكو والتي تمّت في الخفاء – ووضعت ملامح الحدود السياسية لغالبية دول المنطقة قبل قرابة مئة عام خلت، يتم حالياً الشروع في تنفيذ سايكس بيكو جديدة ولكن هذه المرة وهذه المرة ليست في الخفاء بل في العلن، وإن اختلفت الأدوار والأماكن في لعبة الكراسي الموسيقية الشرق أوسطية، ولكن دائماً الفائز واحد وللأسف، هذا الفائز متربص ويقظ منذ مئات السنوات يُعِدّ الخطط والمؤامرات ويحيكها سواء من على بُعد أو من قلب الحديث مرتدياً أقنعة كثيرة قناع المنبوذ.. قناع العدو.. قناع الصداقة.. قناع السلام، ومؤخراً قناع العنصرية..
إنه فائز واحد.. لاعب واحد مهما اختلف مساندوه (بريطانيا، أميركا)، أو لاعبوه (الحكومة – جيش الاحتلال – الموساد – الدبلوماسيون – الإعلام). إنه عدو واحد وهو إسرائيل..
فتارة يكون الفاعل وتارة أخرى يكون المفعول من أجله، أما الملعب أو المفعول به فهو الشرق الأوسط.
فمن رحم الاستعمار الأوروبي ولد الاستيطان الإسرائيلي، اما الهدف فهو احتلال وتطهير عرقي متعمد لأرض فلسطين.. تشريد الآلاف.. تقسيم الشرق الأوسط واتفاقية سايكس بيكو.. مخططات لتقسيم الشرق الأوسط على الورق وعلى أرض الواقع في السر وفي العلن.. ابتداع مصطلح شرق أوسط جديد بحجة السلام.. حتى عندما ظهر وجه جديد للصراع في الشرق الأوسط والمسمّى بحرب أنابيب الغاز..
في كل الاضطرابات والكوارث التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط فتش دائماً عن إسرائيل؛ فمن اليمن إلى منطقة حوض النيل تمتدّ الأصابع الإسرائيلية لسكب مزيد من الزيت على النيران لتصبح هي الفائز الوحيد من كل ما يجرى في منطقة الشرق الأوسط ( ).
فحالياً، هناك اتفاق دولي أممي وإقليمي لبناء الوجه الجديد للمنطقة – مثلما حدث تماماً في سايكس بيكو الأولى – مع المصالح النفطية للشركات متعددة الجنسيات وخاصة الأميركية في الفترة الراهنة.
النمط إذاً حديث، أو هكذا يبدو على السطح، وهو على الأقل متطور سريع التغيير. ولكن تحت الجلد هل هو منفصل حقاً عما سبقه من تاريخ؟
إن الذي يستقرئ مراحل التاريخ السياسي والاستراتيجي المتعاقبة يجبه دائماً أو غالباً بنمط ثلاثي متواتر لصراع القوى قد يختلف عن النمط المعاصر في التفاصيل والظلال والأبعاد، ولكن لعله لا يختلف عنه كثيراً في أساسياته وجوهره، الشرق الأوسط الجديد أو سايكس بيكو الثانية والذي تبدو حديثة العهد هي الأخرى ظاهرة قديمة لها اصول تاريخية بعيدة بدرجة أو بأخرى.
والجدير بالذكر هنا أن استراتيجية سايكس بيكو الثانية غير المعلنة والخبيثة هي استراتيجية "جيوسياسية"( ) تقوم على حرب أنابيب الغاز، وتعتبر بمثابة الوجه الآخر للصراع في الشرق الأوسطـ، وتخضع إعادة ترسيم الشرق الأوسط لأهداف اقتصادية واستراتيجية وعسكرية واسعة النطاق، والتي هي جزء من برنامج طويل الأمد للسياسة الأنجلو-أميركية والإسرائيلية في المنطقة. فقد تمّ تحويل الشرق الأوسط من قبل قوى خارجية إلى قنبلة موقوتة قد تنفجر في حالة شن هجمات جوية أنجلو-أميركية أو إسرائيلية ضد إيران وسوريا. كما يمكن أن يؤدي قيام حرب أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط إلى إعادة ترسيم الحدود بما يخدم المصالح الاستراتيجية الأنجلو أميركية والإسرائيلية.
إن التحليل الدقيق للنظام الإقليمي الشرق أوسطي المطروح يبيّن بجلاء الدور الإسرائيلي فيه، والمصالح الكبرى التي تجنيها "إسرائيل" منه لحل جميع أزماتها المستعصية الاقتصادية والأمنية والسياسية والاجتماعية.
إن الصراع على ثروات وهوية المنطقة والمخططات الأميركية والإسرائيلية هي حجر الزاوية وجوهر صياغة النظام الإقليمي الجديد في المنطقة. فهذا الصراع الذي يعيشه عالم اليوم، هذا الصراع الذي يتمزّق بين كتل العقائديات المتناقضة، وثورات الربيع العربي ورواجع الماضي المتربّصة، ما نمطه الإقليمي؟ وما هي أصوله التاريخية؟ وهذه التطورات العميقة التي يشهدها توزيع القوى والأوزان السياسية بين الدول والكتل والقارات والانقلابات الكاملة في استراتيجية الاستعمار والسيطرة، هل هي تحولات أو تحويرات للماضي بدرجة ما؟ أم هي طفرات وليدة الظروف والأحداث في تاريخ البشرية؟
ولمعرفة ذلك بطريقة علمية كان لزاماً علينا وبعد مرور مئة عام على وضع مخطط سايكس بيكو الاولى أن نعود بالتاريخ لأكثر من مئة عام لنفهم ونعرف كيف سيولد الشرق الأوسط الجديد من رحم الشرق الأوسط القديم؛ فتاريخ كل أمة خط متصل، وقد يصعد الخط أو يهبط، وقد يدور حول نفسه أو ينحني، ولكنه لا ينقطع0
فالبعد التاريخي لهذا الصراع والذي بدأ مع الاستعمار الأوروبي يعتبر مدخلاً هاماً للدراسات العلمية الجادة العميقة لواقعنا السياسي والاستراتيجي المعاصر.
قوى الاستعمار وترسيم خرائط الشرق الأوسط
"ليس كل صراع بين القوى هو من أجل الاستعمار.. ولكن كل استعمار هو صراع من أجل القوة"
الاستعمار هو مصطلح يشير إلى ظاهرة سياسية، اجتماعية وثقافية تشمل إقامة مستوطنات أوروبية خارج أوروبا منذ القرن الـ15 واستيلاء الدول الأوروبية سياسياً واقتصادياً على مناطق واسعة في جميع القارات الأخرى، بما في ذلك إخضاع الشعوب القاطنة فيها لحكم الدول الأوروبية واستغلال كنوزها الطبيعية وعمل السكان المحليين لمصلحة الدول الأوروبية. انتهى الاستعمار تدريجياً خلال النصف الآخر من القرن الـ20، ولكنه يعتبر من أكثر الظواهر السياسية تأثيراً على صورة العالم المعاصر.
أدّت الثورة الصناعية التي عرفتها أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر إلى حاجة الدول الأوروبية إلى المواد الخام التي اعتمدت عليها الصناعات الجديدة.
ولسدّ حاجة مصانع الدول كافة من المواد الخام، اندفعت الدول الأوروبية تبحث عن هذه المواد في أرجاء العالم (كالقطن من مصر، والماس والذهب من جنوب أفريقيا والأراضي الزراعية في الشمال الإفريقي، ولذلك عندما بدأ أباطرة الاستعمار الأوروبي يضعون الخطط لتقاسم مناطق النفوذ في آسيا وإفريقيا خططوا لتفكيك هذه البلدان وإعادة تركيبها جغرافياً لإضعافها وتسهيل السيطرة عليها. أوجدت دول أوروبا الاستعمارية مصطلحات الشرق الأدنى والشرق الأوسط والشرق الأقصى، وذلك انطلاقاً من قرب أو بعد هذه المناطق عن أوروبا فأطلقوا على المناطق البعيدة عن أوروبا والممتدة من الهند غرباً "بالشرق الأقصى"( )، وعلى المناطق القريبة من شرق البحر المتوسط "الشرق الأدنى"( ) وأصبحت المنطقة التي تتوسط الشرقَين الأقصى والأدنى تسمّى الشرق الأوسط.
الشرق الأوسط:
خريطة الشرق الأقصى بالموسوعة العربية المجلدالحادي عشر ص. 649
قد يكون هذا المصطلح تمّ صكّه في عقد 1850 في مكتب الهند البريطاني, ثم أصبح أكثر استعمالاً عندما استخدمه الاستراتيجي البحري الأميركي "ألفريد ثاير ماهان"( ). أثناء ذلك الوقت، كانت الإمبراطوريتان البريطانية والروسية تتصارعان على النفوذ في وسط آسيا, ذلك التنافس الذي صار معروفاً باسم اللعبة الكبرى. استوعب ماهان ليس فقط الأهمية الاستراتيجية للمنطقة, بل أيضاً أن مركزها هو الخليج العربي. فقد أطلق على المنطقة المحيطة بالخليج العربي اسم "الشرق الأوسط", وقد قال إنها بعد قناة السويس, هي أهم ممر يجب أن تسيطر عليه بريطانيا لتمنع الروس من التقدم نحو الهند.. ( )
الاستعمار الأوروبي للشرق الأوسط "الإمبراطورية العثمانية"( )
وصل عدد الولايات العثمانية إلى 29 ولاية، وكان للدولة سيادة اسمية على عدد من الدول والإمارات المجاورة في أوروبا، التي أضحى بعضها يُشكل جزءاً فعلياً من الدولة مع مرور الزمن، واستمرت قائمة لما يقرب من 600 سنة، وبالتحديد منذ حوالي 27 يوليو سنة 1299م حتى 29 أكتوبر سنة 1923م.
مراحلانكماش الاستعمار العثماني
يمكن القول إن السيطرة الاستعمارية على العالم العربي كانت بطيئة جداً حيث إنها لم تكتمل إلا في خلال حوالي تسعين عاماً، اي في الفترة من 1830 إلى 1920، وعلى ثلاث مراحل:
موجاتالاستعمار في العالم العربي
الموجة الأولى: ثلاثينيات القرن التاسع عشر حيث وقعت الجزائر تحت قبضة الاستعمار الفرنسي عام 1830، وعدن تحت سيطرة الاستعمار البريطاني عام 1839. ثم تم زحف الاستعمار البريطاني من عدن على طول الساحل الجنوبي والشرقي للجزيرة العربية حتى تمت له السيطرة عليها حتى الكويت شمالاً قبل نهاية القرن.
الموجة الثانية: مرحلة ثمانينيات القرن التاسع عشر، حيث مدت فرنسا نفوذها من الجزائر شرقا إلى تونس عام 1881. واحتلت بريطانيا مصر عام 1882م. ومن مصر توسعت بريطانيا نحو السودان تحت ستار استرداد السودان للتبعية التركية عام 1898 وتحت ستار اتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899.
الموجة الثالثة والأخيرة: في العقد الثاني من القرن العشرين قبل الحرب العالمية الأولى وأثناءها حيث بدأت ايطاليا باقتطاع ليبيا من الدولة العثمانية في 1911- 1912.
وفي الوقت نفسه بدأت فرنسا تتوسع من الجزائر غرباً نحو المغرب الأقصى لتنفرد بها من بين مناورات القوى المختلفة، وتم لها هذا خلال الحرب حتى 1914.
أما المشرق العربي فقد كانت هذا الموجة أخطر فترة في تاريخه فقد سقط أغلبه – الهلال الخصيب – للاستعمار دفعة واحدة، وذلك كجزء من مساومات لا صلح فاستولت فرنسا على سوريا ولبنان، وبريطانيا على فلسطين والأردن والعراق. وفي هذه الفترة برز استخدام مصطلح الشرق الأوسط لدى الحركة الصهيونية تمهيداً لبدء استعمار آخر جديد.
الاستعمار الصهيوني وبروز مصطلح الشرق الأوسط
تعاصرت بدايات الحركة الصهيونية مع آخر موجة كبرى من موجات الاستعمار الأوروبي الحديث وخاصة التكالب على افريقيا، فلقد تعلّقت الصهيونية بأذيال الموجة المدارية لتركبها ولتستثمر المناخ السياسي الاستعماري العام وصولاً إلى تحقيق أهدافها الخاصة في إنشاء الدولة اليهودية. والصهيونية من بدايتها حركة سياسية، ولكنها تقنعت منذ اللحظة الاولى بالدين لتخلق من "رؤيا العودة إلى أرض الميعاد" ايديولوجية تاريخية ودينية تجمع يهود الشتات حولها. وكذلك قناعاً وشعاراً تخفي به حقيقة أهدافها عن العالم الخارجي. ولهذا رفضت اقتراحات عدة لوطن قومي في غير فلسطين.
ولقد كان من المستحيل منذ البداية أن يتحقق الحلم إلا بالمساعدة الكاملة من قوى السيادة العالمية. ومن هنا التقت الإمبريالية العالمية مع الصهيونية لقاء تاريخياً على طريق المصلحة الاستعمارية المتبادلة: فيكون الوطن اليهودي قاعده تابعة وحليفاً مضموناً أبداً يخدم مصالح الاستعمار، وذلك ثمناً لخلقه إياه وضمانه لبقائه، وعلى طريق هذه المصلحة الاستعمارية المشتركة تحرك ارتباط الصهيونية بالإمبريالية، بحيث تحرك مركز الثقل في زعامة الإمبريالية، فكانت بريطانيا هي التي خلقت الوطن القومي لليهود منذ الحرب العالمية الأولى، بينما خلقت الولايات المتحدة الأميركية الدولة اليهودية منذ الحرب العالمية الثانية. وقد مرّ تكوين إسرائيل في الشرق الأوسط بعده بمراحل أهمها:
دعوات الاستيطان الأولى لفلسطين
كانت فلسطين تُعرف قديماً بأرض "كنعان"، نسبة إلى العرب الكنعانيين الذين عاشوا بها مع بعض القبائل الأخرى منذ سنة 2500 قبل الميلاد، استطاعت فلسطين أن تحافظ على عروبتها رغم الغزوات العدوانية التي جاءت عبر التاريخ، وعندما جاء العرب المسلمون حرّروها من الرومان، وازدهرت في فلسطين الحضارة العربية الإسلامية الخالدة.
ظلت فلسطين جزءاً عزيزاً من الوطن العربي الكبير، إلى أن اتفق الاستعمار مع الصهيونية العالمية على اختيار أرض فلسطين دون غيرها لتكون الوطن القومي لليهود، والسبب في ذلك يرجع إلى موقع فلسطين الاستراتيجي فهي تقع بين صحراء سيناء ومشارق الشام، وتعتبر قلب الأمة العربية بحكم موقعها المتوسط بين دول المنطقة. كما أنها تقع عند ملتقى القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأوروبا) هذا بالإضافة إلى إشرافها على البحرين المتوسط والأحمر.
بدأت فكرة الاستيطان في فلسطين، تلوح في الأفق، بعد ظهور حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر في أوروبا، حيث بدأ أصحاب المذهب البروتستانتي الجديد ترويج فكرة تقضي بأن اليهود ليسوا جزءاً من النسيج الحضاري الغربي، لهم ما لهم من الحقوق وعليهم ما عليـهم من الواجـبات، وإنما هم شعب الله المختار، وطنهم المقدس فلسطين، يجب أن يعودوا إليه( )، وكانت أولى الدعوات لتحقيق هذه الفكرة ما قام به التاجر الدنماركي "أوليغـر بـولي" Oliger poulli عام 1695، الذي أعدّ خطة لتوطين اليهود في فلسطين، وقام بتسليمها إلى ملوك أوروبا في ذلك الوقت( ).
وتُعدّ حملة "نابليون بونابرت" (1769م – 1821م) على مصر وبلاد الشام بداية الصراع الاستعماري الأوروبي لاحتلال أقطار الوطن العربي في أعقاب الثورة الصناعية في أوروبا. فقد توجّه "نابليون بونابرت" بحملته إلى بلاد الشام بعد انتصاره على المماليك ودخوله القاهرة في 21 تموز/ يوليو 1798، واقتصرت حملة "نابليون بونابرت" على فلسطين، ولم تتجاوز الشريط الساحلي منها سوى منطقة الناصرة – طبرية، حيث هزمت الجيش العثماني، وبدأت الحملة باحتلال منطقة قطية على الحدود مع الشام في 23/12/1798 في سيناء ثم قلعة العريش، وبعد ثلاثة شهور أخذت الحملة بالتراجع إلى مصر بعد فشلها في احتلال عكا في 20 مايو 1799م.
وأثناء غزو "نابليون بونابرت" لمصر عام 1798م، دعا نابليون اليهود لتوطينهم في فلسطين، حيث أصدر هناك بياناً يحث فيه اليهود في آسيا وأفريقيا على مساعدته في إعادة بناء دولتهم القديمة واستعادة مجدهم التاريخي في فلسطين قائلاً:
"يا ورثة فلسطين الشرعيين، ندعوكم للمساهمة في السيطرة على بلادكم من أجل أبناء أمتكم، ولكي تصبحوا أسياد فلسطين الحقيقيين" ( )
وتعتبر دعوة "نابليون بونابرت" هي الدعوة الأولى لتوطين اليهود في أرض فلسطين، حيث إن الدعوات التي ظهرت قبل ذلك كانت بتوطين اليهود ليس في فلسطين بل في "مصر"، وأولى هذه الدعوات كانت نداء لـ"شبتاي زيفي"( ) (1626م- 1676م) دعا فيه اليهود في عام 1666م عندما ذهب إلى القسطنطينية للهجرة ليس إلى فلسطين بل إلى إقليم الوجه البحري من مصر لإقامة وطن قومي لهم.
وقد تجدّدت دعوة اليهود للهجرة إلى مصر لإقامة وطن قومي لليهود مرة أخرى، في عام 1798م. في صورة رسالة أخرى من يهودي ايطالي إلى إخوانه اليهود يدعوهم فيها للهجرة لإقامة وطن لليهود في مصر السفلى وذلك بناء على ترتيبات فرنسا.
وهناك أيضا دعوى الإنجليزي "جيمس بيشينو"( ) والتي وردت في كتابه "إرجاع اليهود" الذي نشره عام 1800م وكانت بمثابة دعوى لحكام البلاد – بريطانية – لاستغلال نفوذهم لدى الباب العالي.
بدايات التسلل إلى فلسطين
بدأت هذه المرحلة عندما استخدمت عائلة "روتشيلد" نفوذها القوي وثرواتها الطائلة في الضغط على الحكومة الإنجليزية باستغلال احتياج بريطانيا للأموال، بعد أن أوشكت على إعلان هزيمتها في الحرب العالمية أمام جيش ألمانيا وقتها، فقدّم "آل روتشيلد" القروض للمملكة المتحدة بسخاء، وكان المقابل تفعيل وعد بلفور الذي صدر عن وزير الخارجية البريطاني سنة 1917.
ومن خطابات "روتشيلد" التي تفضح هذه المؤامرة نذكر منها الخطاب الذي وجّهه البارون روتشيلد في مارس عام 1840م إلى وزير خارجية بريطانيا آنذاك اللورد "بالمرستون"( ) قال فيه:
"إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه في مصر ليسا كافيين، لأن هناك قوة جذب بين العرب، وهم يدركون أن عودة مجدهم القديم مرهون بإمكانات اتصالهم واتحادهم، إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض، فسوف نجد أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبين العرب في آسيا. وكانت فلسطين دائماً بوابة على الشرق، والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر في هذه البوابة، لتكون هذه القوة بمثابة حاجز يمنع الخطر العربي ويحول دونه، وإن الهجرة اليهودية إلى فلسطين تستطيع أن تقوم بهذا الدور، وليست تلك خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد مصداقاً للعهد القديم، ولكنها أيضاً خدمة للإمبراطورية البريطانية ومخططاتها، فليس مما يخدم الإمبراطورية أن تتكرّر تجربة محمد علي سواء بقيام دولة قوية في مصر أو بقيام الاتصال بين مصر والعرب الآخرين".
وفي 11 أغسطس 1840م. حاولت بريطانيا أن تردّ على محاولة محمد علي توحيد مصر وسوريا فكتب وزير الخارجية البريطاني آنذاك "بالمرستون" إلى سفيره في اسطنبول بخصوص توطين اليهود في فلسطين يطلب منه أن يقنع السلطان وحاشيته بأن الحكومة الانجليزية ترى أن الوقت أصبح مناسباً، لأن تفتح ابواب فلسطين أمام اليهود، وهذا هو نص الرسالة:
"يقوم بين اليهود الآن المبعثرين في كل أوروبا شعور قوي بأن الوقت الذي ستعود فيه أمتهم إلى فلسطين آخذ في الاقتراب. ومن المعروف جيداً أن يهود أوروبا يمتلكون ثروات كبيرة، ومن الواضح أن أي قطر يختار أعداداً كبيرة من اليهود أن يستوطنوه سيحصل على فوائد كبيرة من الثروات التي سيجلبها معهم هؤلاء اليهود. فإذا عاد الشعب اليهودي تحت حماية ومباركة السلطان فسيكون في هذا حائلاً بين محمد علي ومن يخلفه وبين تحقيق خطته الشريرة في المستقبل. وحتى إذا لم يؤدِ هذا التشجيع الذي سيقدمه السلطان لليهود بالفعل إلى استيطان عدد كبير منهم في حدود الإمبراطورية العثمانية إلا أن إصدار قانون من هذا النوع سيعمل على انتشار روح الصداقة تجاه السلطان بين جميع يهود أوروبا، وسترى الحكومة التركية في الحال كم سيكون مفيداً لقضية فلسطين أن يكسب أصدقاء مفيدين في كثير من الأقطار بقانون واحد بسيط كهذا."( )
الهجرة الأولى إلى فلسطين
ارتبط أبناء فريق يهودي من الجيل الناشئ في الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر بالحركة الثورية الروسية. وتأثروا إلى مدى عميق بالتفكير "الراديكالي"( ) للعصر. فشكل هذا الفريق حركة "الهاسكالا"( )، واتجه فريق آخر نحو إنشاء حركة يهودية قومية، وإلى استعمار فلسطين، وسرعان ما قامت جمعيات مختلفة في أنحاء متفرقة من أوروبا وخاصة في روسيا تدعو إلى حب صهيون، وكان الهدف المشترك لهذه الجمعيات، دعم حركة الاستيطان اليهودي في فلسطين عبر تشجيع الهجرة وإقامة المستعمرات. وكان لنشاط اليهود الروس من طلبة الجامعات، أثره في ظهور جماعة رواد "أحباء صهيون" – "بيلو"( ) التي عملت على تنظيم وتنشيط الهجرة إلى فلسطين على أساس قومي مستندة إلى تعاليم التوراة، وقد ارتكز برنامجها الأساسي على ثلاث نقاط: محاربة الاندماج، الشعور القومي.. استيطان فلسطين ويمكن اعتبار حركة "أحباء صهيون" أول حركة صهيونية منظمة، ذات طابع سياسي، وقد وصل عدد المستوطنات التي أسستها طلائع الهجرة الأولى إلى فلسطين، خلال السنوات 1882 – 1884 إلى ثمانية".( ) وهكذا بدأ التسلل الاستيطاني الصهيوني إلى فلسطين.
وفي عام 1885: ظهر لأول مرة مصطلح الحركة الصهيونية على يد "ناثان برنباوم" الفيلسوف اليهودي النمساوي وكان هدف الحركة هو الاستيطان في فلسطين.
عام 1896: نشر الصحافي الصهيوني "ثيودور هيرتسل" كتاب "الدولة اليهودية" باللغة الألمانية، لكن يهود اوروبا كانوا يجدون حلمهم في الهجرة إلى أميركا هذا ما جعل الطبيب "ماكس نوردو" الساعد الأيمن لهيرتسل يرسل اثنين من اكبر رجال الدين اليهود إلى فلسطين، لكنهم بعد زيارة فلسطين ارسلوا جواباً من سطر واحد جاء فيه:
"العروس جميلة جداً ومستوفيه لجميع الشروط ولكنها متزوّجة فعلاً".
وفهم نوردو ان المقصود أن فلسطين ليست كما ذكر هيرتسل أرض بلا شعب وأن فيها شعباً يسكنها منذ آلاف السنين.
ومن أجل دعم جميع هذه المشاريع والمؤسسات السابقة، قام البارون روتشيلد عام 1883 بإنشاء الجمعية اليهودية للاستعمار في فلسطين المعروفة باسم بيكا (Bica) ( )، لتتولى عملية تمويل شراء الأراضي في فلسطين، وتنظيم الهجرة اليهودية إليها.
وقد أمدّ أغنياء اليهود في العالم هذه الجمعيات الصهيونية بالمال وشجعوا على زيادة الهجرة حتى بلغ عدد المستعمرات اليهودية في فلسطين حتى عام 1900 حوالي 17 مستعمرة.
بقيت الحركة الصهيونية مفتقرة إلى التنظيم والتخطيط، إلى أن تمكن "ثيودور هرتزل"( ) من عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية في 28 أغسطس 1897.
تبنى المؤتمر برنامج تأسيس وطن معترف به للشعب اليهودي في فلسطين وذلك بمشاركة ممثلي الجاليات اليهودية في العالم، وتم اتخاذ القرارات التالية:
النسخةالعبرية للمؤتمر الصهيوني الأول
1. إن هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين بالوسائل التالية. تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين. تنظيم اليهود وربطهم بالحركة الصهيونية. واتخاذ السبل والتدابير للحصول على تأييد دول العالم للهدف الصهيوني (الحصول على شرعية دولية).
2. تشكيل المنظمة الصهيونية العالمية بقيادة ثيودور هرتزل.
3. تشكيل الجهاز التنفيذي "الوكالة اليهودية" لتنفيذ قرارات المؤتمر ومهمتها جمع الأموال في صندوق قومي لشراء الأراضي وإرسال المهاجرين لإقامة المستعمرات لليهود في فلسطين. بعد انتهاء أعمال المؤتمر الصهيوني الأول خرج ثيودور هرتزل على الصحافيين والابتسامة العريضة تعلو شفتيه، وقال لهم لقد قررنا إنشاء الوطن القومي لليهود وقد تضحكون إذا أخبرتكم أن هذا الوطن سيتحقق خلال خمسة أعوام وعلى الأغلب خلال خمسين عاماً على الأكثر.
بداية المؤامرة البريطانية الصهيونية
ثم بدأت خيوط المؤامرة البريطانية الصهيونية السرية، وذلك عندما أكدت بريطانيا بأن مصلحتها على إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين بالذات. وقد ارتكزت المؤامرة البريطانية الصهيونية لاحتلال فلسطين وتفتيت الشرق الأوسط على محطات متتالية عدة. وهي كالتالي:
أولاً: وثيقة كمبل السرية (1907).
ثانياً: توماس إدوارد لورنس ودوره الخطير في خداع العرب (1913-1916)
ثالثاً: 1915 مذكرة سرية بعنوان مستقبل فلسطين
وسوف يتضح لما بعد استعراض هذه المحطات الثلاث مدى أهميتها وخطورتها وكيف أنها مهدت الطريق لاتفاقية سايكس بيكو التي ساهمت في تقسيم الشرق الأوسط وإعادة رسم الخرائط الجغرافية الخاصة به.
أولاً: وثيقة كمبل السرية
تعتبر وثيقة "هنري كامبل بنرمان" رئيس وزراء بريطانيا (1905-1908) من اولى الوثائق التي تحمل استراتيجية تفكيك للشرق الأوسط، مثلما ورد في وثيقة السير والمعروفة بوثيقة "كامبل السرية" والتي انبثقت عن مؤتمر عام 1907 وجاء فيها:
"بأنه من المهم إقامة حاجز قوي وغريب على الجسر الذي يربط البحر الأبيض بالبحر الأحمر".