لن أكرّر ما قلته في كتابي الجديد عن أمين الريحاني وكشكول خواطره الذي أبدعه ونشره في جريدة صهره اللدود نعوم مكرزل، بين 1901 و1904.
لذلك، أستأذنكم في قول كلمتين عن ساخر الفريكة، في أغنى مرحلة من حياته الأدبية والسياسية، التي بدأت في زيارة العاصمة البريطانية عام 1910 برفقة جبران، وانتهت اثر مغادرته نيويورك في العام 1920، بعد أن نشر في صحافتها العربية، ومنها "مرآة الغرب" و"السائح" و"الفنون" عشرات المقالات، واشترك مع أبرز أدبائها ومنهم جبران ووليم كانسفليس الطرابلسي اليوناني الأصل ونسيب عريضة الحمصي، ثلاث جمعيات، واحدة أدبية، والثانية إغاثية، والثالثة سياسية.
إذا عاد القارئ إلى مقال "الرابطة القلمية" لميخائيل نعيمه المنشور في كتابه "سبعون" يقرأ ما حرفيته: "ولدت الرابطة القلمية في العشرين من نيسان 1920. أما أمين الريحاني فلم نضمّه إلى الرابطة لسببين: أولهما أنه كان متغيباً عن نيويورك عند تأسيسها، وثانيهماـ وهو الأهمـ أنه كان على خلاف بلغ حد الجفاء مع جبران".
لو شمل كتابي الرابطة القلمية، لضمنت مقدمته معلومة ثانية تفيد أني عثرت بالصدفة في مكتبة الكونغرس على وثائق عدة تعيد النظر بما أرّخه نعيمة عن الرابطة، أسوة بالمعلومة الأولى التي أكدت فيها أن عثوري على مقالات "كشكول الخواطر" في تلك المكتبة الغنية الفتية نسبياً، كان أيضاً بالصدفة. وسر الصدفة المزدوجة أني طرت من لندن إلى واشنطن دي سي لنبش مقالات جبران غير المنشورة في مجموعته الناقصة من أجل نشرها في كتابي "عقيدة جبران". فعثرت إلى جانب المقالات الجبرانية، على عشرات المقالات الممهورة بتوقيع جبران والحدادين ندره وعبد المسيح ونسيب عريضة ووديع باحوط والياس عطالله ورشيد أيوب والأمينين الريحاني ومشرق، وقد ظهرت إلى جانب كل اسم عبارة "عضو في الرابطة القلمية".
أما تاريخ نشر المقالات، ومنها مقالات الريحاني الثلاث، فتراوح بين أيار وتموز 1916.
وعلى ذكر أمين مشرق، فقد نشر في "السائح" العدد الصادر في 29 حزيران 1916 مقالاً بعنوان "الرابطة القلمية" ضمّنه جواباً شبه رسمي على تساؤلات القراء عن أصل الرابطة وفصلها بعد أن قرأوا اسمها إلى جانب أسماء فرسانها.
وإذا أجرينا مقارنة بين الرابطتين نستنتج أنهما رابطة واحدة انطلاقاً من المعطيات الآتية:
1 ـ الجمعيتان تحملان اسماً واحداً وهو "الرابطة القلمية".
2 ـ كل أعضاء رابطة 1916 بدءاً بجبران، هم أعضاء رابطة 1920، باستثناء الريحاني، وكل أعضاء رابطة 1920 هم أعضاء رابطة 1916، باستثناء نعيمة.
3 ـ من حيث المضمون، يتشابه بيان أمين مشرق مع بيان ميخائيل نعيمه.
4 ـ كان مولد الرابطتين في شهر نيسان.
وهكذا يمكن القول إن الريحاني وجبران والآخرين أسسوا الرابطة القلمية في العام 1916، ولم يكن نعيمه من المؤسسين، أو حتى من المنتسبين بُعيد التأسيس. ولكن عاملين حالا دون استمرار الجمعية الأدبية: ضراوة الحرب العالمية الأولى، وتأسيس الأعضاء في العام نفسه لجمعية سياسية باسم "لجنة تحرير سورية وجبل لبنان". وعندما انتهت الحرب وحُلّت الجمعية السياسية نفض جبران ورفاقه الغبار عن رابطتهم، فانضم إليها نعيمه، وغاب عنها الريحاني بسبب تغيبه في نيويورك على حد تعبير نعيمه نفسه.
أما السبب الثاني وهو الخلاف المزعوم بين الريحاني وجبران، فيندرج في منهج يُشاع ويُذاع، بدليل تعاون الرجلين في تأسيس الرابطة العام 1916، إضافة إلى تعاونهما في مشاريع نهضوية أخرى كما سيجيء.
الأوبرا السورية
في العام 1910، انتقل جبران والريحاني من باريس إلى لندن، فزارا دار الأوبرا، وبقدر ما أعجبا بهندسة وعراقة المركز الفني البريطاني الذي يتصدّر عاصمة الإنكليز، تعجّبا من احتكار مقهى القزاز لمدينة بيروت الممتازة التي احتضنت أول مدرسة للحقوق في الكرة الأرضية. وسرعان ما رسما تصميماً للأوبرا البيروتية وذيّلاه بتوقيعهما وأطلقا عليها اسم "الأوبرا السورية" وتوّجاها بهذه العبارة الأدبية: أول كلمة من قصيدة لم تنظم لفظت في لندن في غرّة تموز 1910.
لجنة الإعانة
إثر المجاعة التي نجمت عن الحصار الذي أحكمه التركي على طاميش والفريكة وديك المحدي وعموم جبال لبنان، والشبيه بوحشيته وضحاياه بالحصار المضروب على غزة في هذه الأيام، اجتمع بعض أدباء الجالية وصحافييها وتجارها في نيويورك وألّفوا جمعية باسم "لجنة إعانة منكوبي سوريا وجبل لبنان" (The Syrian-Mount Lebanon Relief committee) وانتخبوا الهيئة المسؤولة على النحو التالي: نجيب شاهين معلوف رئيساً، أمين الريحاني نائباً للرئيس، جبران خليل جبران كاتم أسرار، نعمه تادرس وأنطون سمعان وخليل التين أمناء صندوق.
وقبل أن تتوفر المساعدات لإرسالها من العالم الجديد إلى الشرق القديم، توفّر الخلاف الأيديولوجي والشخصي، ولكن ليس بين جبران والريحاني، بل بين نعوم مكرزل من جهة وسائر فرسان اللجنة وفي طليعتهم جبران والريحاني. فقد أصرّ صاحب "الهدى" على حصر المساعدات في نطاق جبل لبنان، وردّ عليه الريحاني بمقال "التعميم والتخصيص" نشر في جريدة "مرآة الغرب" بتاريخ 15 تموز 1916.
قال الكاتب رداً على ابن ضيعته وليس على زميله في قيادة اللجنة: "أنا من قرية صغيرة في لبنان تُدعى الفريكة، سكانها لا يتجاوزون المئة عداً كلهم من المزارعين. ولا ريب في أنهم كلهم اليوم في حاجة إلى الإسعاف فلو قلت بالتخصيص، لوجب علي وحدي في هذه البلاد إغاثة أبناء قريتي". أضاف: "التخصيص من هذه الوجهة مبدأ فاسد. على أننا إذا قلنا بالتعميم في إحساننا، إذا قلنا بإغاثة المنكوبين في وطننا الأشدّ حاجة منهم فالشديد.. فهذا التخصيص في التعميم إنما هو المبدأ الوطني الصحيح. إن ضعفنا كأمة صغيرة لمن داعي الشدة التي نحن فيها. فكيف إذا جزأنا أنفسنا مئة جزء". وختم "قد جمعتنا النكبة أيها الإخوان فقمنا نسعى للمنكوبين في الوطن حيث كانوا في بيروت أو في لبنان، في الشام أو في طرابلس، في حمص أو في حلب، وللمنكوبين من كانوا ـــ مسيحيين أو مسلمين. قد جمع الجوع بين أبناء الوطن فليجتمع أبناء الوطن على الجوع".
لجنة التحرير
ولم يتوقف مسلسل حراك الريحاني المؤسسي خلال سنوات الحرب التي تشل عادة الحراك.
ففي 19 نيسان 1917 بعث الريحاني من اشبيلية برسالة إلى صاحب جريدة "السائح" عبد المسيح حداد قال فيها: "في السنة الماضية أسسنا لجنة إعانة المنكوبين، وفي هذه السنة يجب أن نؤسس لجنة تحرير سوريا. وهذه أهمّ من تلك. إن فيها الإعانة الحقيقية لسوريا المنكوبة". واستدرك "لا يفوتنكم أن خلاص سوريا عن يدنا، عن يد أبنائنا، إنما هو خلاصها الحقيقي الدائم. أما خلاصها عن يد أمة أخرى، فخلاص تتبعه سيادة أجنبية والسيادة الأجنبية، مهما كانت عادلة صالحة مفيدة، لا نرضاها إلى الأبد". وبُعيد عودة الأمين إلى نيويورك تأسست الجمعية السياسية تحت اسم: "لجنة تحرير سوريا وجبل لبنان" (Syria Mount Lebanon League of Liberation).
وتألفت هيئتها الإدارية على النحو التالي: الدكتور أيوب تابت رئيساً، أمين الريحاني نائباً للرئيس. نعمة تادرس أمين صندوق. جبران خليل جبران أمين سر المراسلات الأجنبية. ميخائيل نعيمه أمين سرّ المراسلات العربية.
طبعاً، ارتفع ضغط نعوم مكرزل صاحب "الهدى" لأسباب منها ولادة جمعية سياسية تناقش "جمعية النهضة اللبنانية" التي يترأسها. وزاد في طين الضغط بلة، حين تلقى رسالة من سكرتير اللجنة للمراسلات العربية نعيمه يقول له فيها: "نحييكم باسم الوطن ونأمل أن تحضروا الحفلة العمومية التي ستقيمها لجنة تحرير سوريا ولبنان في ماسونك تمبل في بروكلين مساء الثلاثاء الواقع في 7 الجاري، وأن تشيروا إليها في جريدتكم الغراء ليحيط العموم بها علماً حفظكم الله". نشر مكرزل نص الدعوة، ولكنه ذيلها بالتعليق المكرزلي التالي: "وافاني كتابكم ونشرته ليحيط العموم به علماً. إلا أنني لا أدعو أحداً من أحرار اللبنانيين إلى تلبية دعوتكم لأنها دعوة تبديد لا توحيد".