ما الأدب المقارن؟
الأدب المقارن شكل من أشكال المعرفة، يتناول المقارنة بين أديبين أو أكثر، ليظهر علامات التشابه وعلامات الاختلاف بين الآداب، ومعرفة العوامل.
الأدب المقارن هو دراسة الأدب خارج حدود بلد معين، ودراسة العلاقات بين الآداب من جهة، ومجالات المعرفة من جهة أخرى
كما يدرس الأدب المقارن مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة، وصلاتها المعقدة في حاضرها وماضيها، وما لهذه الصّلات التاريخية من تأثير وتأثّر
ويوضح "بول فان تييغم" أن الأدب المقارن يركز على الصّلات بين الآداب، وعملية التأثّر والتأثير اللذين تتبادلهما( ). وهذا ما تقول به المدرسة الفرنسية.
وإذا كانت المدرسة الفرنسيّة تركز على عملية التأثّر والتأثير، فإنّ المدرسة الأميركيّة تهدف إلى دراسة الظاهرة الأدبية في شموليتها من دون مراعاة الحواجز السياسيّة واللسانيّة.
ويقول: "هنري ريماك" المؤسس الاول لهذه المدرسة، إنّه لا ينبغي النظر إلى الأدب المقارن على أنّه نظام مستقل بذاته، بل يجب النظر إليه على أنّه حلقة وصل بين الموضوعات أو المجالات الخاصة بموضوع واحد، لذا فإنّه من الممكن إجراء مقارنة بين اثنين او أكثر من الآداب المختلفة، وكذلك مقارنة الآداب بالمجالات الأخرى المعرفية.
يدفعنا الحديث عن الأدب المقارن إلى أن نعرّج سريعاً لنتحدث عن مسألة التداخل الثّقافيّ العربيّ الإيرانيّ، إذ تجلت معالم التأثّر والتأثير بين الثّقافتيّن في مجال الأدب في أكثر من محطة، عقد خيوطها أكثر من مفكر وباحث في العالم العربيّ والإسلاميّ، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، حسين نجيب المصريّ في كتابه "الأسطورة بين العربيّ والفارسيّ والتركيّ"، وإبراهيم أمين الشّواربيّ في كتابه "حافظ الشّيرازيّ، شاعر الغناء والغزل في إيران"، وعبد النعيم محمد حسنين في كتابه "كليلة ودمنة بين العربيّة والفارسيّة"، وعبد الوهاب عزام في كتابه "الأدب الفارسيّ والأدب العربيّ"، وعمر شبلي في ترجمته لديوان "حافظ الشّرازيّ الشعريّ" وغيرهم.
حين ظهر الأدب الإيرانيّ الحديث، ظهر أدباً إسلاميّاً يحتذي الأدب العربيّ في كثير من موضوعاته وأساليبه، فكتب بالحروف العربيّة، لا الحروف الفهلويّة، واستعار من العربيّة ألفاظاً كثيرة.
كما تتشابه موضوعات الشّعر الإيرانيّ مع موضوعات الشّعر العربيّ، من مدح وهجاء وغزل ووصف. وقد تميّز الأدب الإيرانيّ بموضوعي القصص والتصوف، فقد أغرم الشّعراء الإيرانيّون بالقصة فنظموا قصصاً دينيّة مثل، قصّة النبي يوسف وزليخا، وقصصاً تاريخيّة مثل، ليلى والمجنون. وبلغوا الغاية في الشّعر الصّوفيّ، اذ نظموا فيه منظومات قصيرة ومنظومات طّويلة، حتى نظم فريد الدين العطار زهاء أربعين منظومة فيها عشرات الآلاف من الأبيات الشّعريّة.
وتشتمل "الشاهنامة" على ألفاظ عربيّة كثيرة، وقد حاكوا في شعرهم الأوزان العربيّة، واستخدموا مصطلحات العروض التي كان العرب يستخدمونها.
لم يكن هذا التداخل الثقافيّ العربيّ الإيرانيّ في إطار الأدب المقارن، بقدر ما كان محاولة إنتاج لواقع أدبيّ وفكريّ جديد، يعبّر عن العلائق والوشائج القويّة بين الحضارتين، العربيّة والإيرانيّة التي تجمعهما روح الإسلام وتعاليمه الإنسانيّة التي تتجاوز القطريّة والقوميّة إلى فضاءات أوسع وأرحب.
يطالب الإنسان بالإبداع والبحث والانفتاح والجهد المعرفيّ وطرح الأسئلة، والإجابة عنها، وإيجاد الحلول لها.
هذا كله أنتج فهماً جديداً للثقافة الإنسانيّة التي تربط الإنسان، والكون بالخالق من جهة، وضرورة تعارف الشعوب فيما بينها، وتقبل عناصر ثقافاتها من جهة أخرى.
هذا التداخل الثقافيّ إلى جانب عوامل أخرى عديدة، جغرافيّة وسياسيّة ودينيّة تحتّم على الشّاعر العربيّ والشاعر الإيرانيّ أن تكون همومهما مشتركة، والقضايا التي تستحوذ على اهتماماتهما واحدة، خصوصاً، الهمّ المتمثل بالقضية الفلسطينيّة التي تبقى مركز الصّراع الحقيقي بين العرب والمسلمين من جهة، والكيان الصهيونيّ المغتصب للأرض من جهة أخرى.
لذلك نجد على امتداد العالم العربيّ والإسلاميّ أصواتا شعريّة تنشد للقدس، وتصرخ مع فلسطين، وتؤرخ لصمود الشّعب الفلسطينيّ، ومن هذه الأصوات الشّاعرة الإيرانيّة طاهرة صفّار زاده"1"، والشّاعر السّوريّ نزار قبانيّ"2"، والشّاعر الفلسطينيّ محمود درويش"3"، عبّر هؤلاء الشّعراء وفق رؤيتهم عن المأزق العربيّ والإسلاميّ، جراء ما تتعرض له القدس من عدوان همجيّ على أيدي الصهاينة، متجاوزين بشعريّتهم لحظات الانكسار والهزيمة التي تُمسك بالأمّة العربيّة والإسلاميّة، راسمين بشعريّتهم طريق القيامة الذي يجب على الأمّة أن تسلكه للوصول إلى خلاصها.
2_ طاهرة صفّار زاده، شاعرة، وباحثة، وكاتبة، ومترجمة إيرانيّة، ولدت في مدينة سيرجان الإيرانيّة، العام 1936. من نتاجها الشّعريّ، "السفر الخامس"، و"رحلة عاشقة" ترجمة، موسى بيداج.
3_ نزار قبانيّ شاعر سوريّ، ولد في دمشق العام1923. من نتاجه الشعريّ، "قصائد متوحشة"، "أشعار خارجة على القانون"، "أطفال الحجارة" وغيرها.
4_ محمود دويش، شاعر فلسطينيّ، ولد العام 1941. من نتاجه الشعريّ، "عاشق من فلسطين"، "لا تعتذر عمّا فعلت" وغيرها.
في تقنية المقارنة:
النصّ الشعريّ طاقة منفتحة وفاعلة، تنشأ في لحظة عصف تجتاح الشاعر ليعبّر من خلالها عن انفعالاته وقناعاته واهتماماته، ويكشف عن المستور من القضايا التي تشكل أسئلة حرجة تفرض علينا أجوبة وحلولاً، ولا يمكن للأديب أن يصل إلى أجوبة، إلا بوساطة الأساليب الفنيّة، الموصولة بثقافته.
ولا تبلغ العملية الشعريّة غايتها عند الشاعر إلاّ إذا أسعفته في ذلك ثقافة واسعة، يعرف كيف يوظفها في نصّه الشعريّ، وكيف يستعين بمكوناتها في إنتاج واقع جديد يقوم على أنقاض واقع عاجز في النهوض بالمسؤوليّات، ومواجهة المشاكل التي تعترضه، وهذا ما يمكنه من تحديد رؤيته الكشفيّة في المستقبل.
حين تقرأ النصوص الشّعريّة عند الشاعرة طاهرة زاده، ونزار قباني، ومحمود درويش، تجد نفسك أمام قامات أدبيّة وثقافيّة عالية، قد تسرّبت ثقافتهم في تفاصيل نصوصهم الشعريّة، وقدموا بوساطتها رؤيتهم إلى الوجود من حولهم، هذه الرؤية المستندة إلى نظام علاميّ رمزيّ، يحدّد هويّة هذه الثّقافة، ويقدّمها بوصفها عين الشّعراء في تتبع أحداث التاريخ على السّاحة العربيّة والإسلاميّة في مسار ضعفها وقوتها، والخروج بها إلى منافذ الضّوء وتحقيق الهويّة والذات.
ليس صدفة أن تجتمع رؤية الشّاعرة الإيرانيّة طاهرة زاده برؤيّة الشّاعرين العربييّن، نزار قبانيّ، ومحمود درويش، حول قضية واحدة، هي القضية الفلسطينيّة، التي تستحوذ على اهتمامات الشّعراء الثلاثة، بوصفها قضية الصّراع المحوريّ والوجوديّ التي تجمع العالم العربيّ والإسلاميّ، إذ تمثل بعداً تاريخيّاً وحضاريّاً ودينيّاً وثقافيّاً. وحماية هذا الموروث والدفاع عنه، هو دفاع عن الهويّة العربيّة والإسلاميّة بألوانها المتنوعة، وتخليص المقدسات من براثن الاحتلال.
إنّ النصوص الثلاثة التي ذكرناها، هي تعبير عن صوت واحد، يخترق الجغرافيا ويتجاوز اللّغة، ليعبّر عن الفعل المقاوم القادر على اجتراح النّصر وتحرير الأرض والإنسان.
1- في اختيار العناوين:
نقرأ ثلاثة عناوين لثلاثة نصوص عند هؤلاء الشّعراء، النصّ الأول للشّاعرة الإيرانيّة طاهرة زاده، الموسوم بعنوان (القبلة الأولى)، والنصّ الثاني للشّاعر السّوريّ نزار قبانيّ، الموسوم بعنوان (دكتوراه شرف في كيمياء الحجر)، والنصّ الثالث للشاعر الفلسطينيّ محمود درويش الموسوم بعنوان (في القدس).
لا تشدّك العناوين الثلاثة إلا باتجاه واحد، هو فلسطين، نقطة الارتكاز الأولى عند العرب والمسلمين، إذ ترصد عين الشّعراء الثلاثة الأقصى والقدس بوصفهما هويّة الأمّة ورمز كرامتها وعزّتها.
تقدم الشّاعرة طاهرة زاده المسجد الأقصى (القبلة الأولى)، لكونه الهمّ الأول الذي يتقدّم على غيره من الهموم والقضايا التي تواجه الامّة الإسلاميّة، وهذا التركيب الوصفيّ (القبلة الأولى) يستعيد إلى الذاكرة الصلاة الأولى التي أقامها الرسول الكريم (ص) متوجهاً نحو المسجد الأقصى من جهة، ويشير إلى إصرار الشّاعرة على أنّ الوجهة الحقيقية هي في توجيه البوصلة باتجاه القدس والمسجد الأقصى، لنعيد ما خسرناه في لحظة غياب عن المشهد/الحدث.
وإذا كانت الشّاعرة طاهرة قد حدّدت الوجهة والمكان (القدس/الأقصى)، فإنّ نزار قبانيّ يرى بوساطة عنوانه (دكتوراه شرف في كيمياء الحجر)، أنّ أطفال الحجارة وحدهم من يقدرون إحالة غيبوبة الأمّة وغيابها عن (القدس/ الأقصى) إلى حال رشد ووعي تستطيع معهما الأمّة أن تعيد حرمة مقدساتنا، وتسترجع هويّة الأرض المغتَصبة والأسماء المسلوبة بإرادة القوة التي تصنعها الأجيال الطالعة.
إنّ إيقاع العنوان المتشكل من تركيبي إضافة (دكتوراه شرف/كيمياء الحجر)، لا يحيلك إلى إيقاع الحياة، بقدر ما يضعك أمام تلاحم تركيبين يشكلان علامة سيميائيّة تدل على عجز ثقافتنا في إضافة شيء جديد للواقع المأزوم الذي تعيشه أمتنا، ونهوض جيل جديد بيده نهضة الأمّة وانبعاثها من جديد.
تجاوز العنوان مرحلة الخطابيّة العربيّة التي قدمت إخفاقاتها وهزائمها على سنوات عديدة، إلى مرحلة الفعل التي تنطلق بقبضة حجر، يشق طريقه نحو مشهد مقاوم، سيترك بصمته في صراعه مع العدوّ الإسرائيليّ.
يعيش الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش في قلب القدس حين يختار عنوان نصّه (في القدس)، فإذا كان حرف الجرّ (في)، قد حدّد المكان بقوة، فإنّه أعطى القدس بعداً حميميّاً ووجدانيّاً، يشيران إلى علاقة غير عادية يقيمها الشاعر مع القدس، لا لأنه فلسطينيّ، إنّما لأنّ القدس تمثل الإقامة فيها تحديّاً للعدو الصهيونيّ من جهة، وإصراراً على هويتها العربيّة وما تمثله من قيم دينيّة جامعة. يحيلك الفعل "أعني" في قوله: "في القدس، أعني داخل السّور القديم"( ) الى علامة شديدة الدلالة تعبّر عن عمق التاريخ الذي يقدّمه محمود درويش لمدينة القدس من جهة، والذاكرة العربية المتمسكة بالمكان (القدس)، بوصفه هوية، يعمل العدوّ الإسرائيليّ على محوها.
إنّ العناوين الثلاثة مجتمعة تعبّر عن رؤية واحدة عند الشاعرة الإيرانيّة والشّاعرين العربيّين، تحكم تفكيرهم قضية واحدة، وتقلق نصّهم هواجس مشتركة، لا يرون فيها إلا تمزق الأمّة العربيّة والإسلاميّة، وتفكّكها جراء ما تتعرّض له من عدوان مستمر من العدو الصهيونيّ.
إنّ الجغرافيا واللغة لم تمنعا الشّعراء من مقاربة القضية المشتركة (القدس/الأقصى)، مقاربة تتلمّس جراحنا، وتدعو إلى ضرورة تخلص الامّة من محنها.
2- حركة تشكل النّصوص والأفكار السّائدة:
يتشكل نصّ طاهرة زاده من ست حركات، تتخذ الحركة الأولى عنواناً يعبّر عن حضور الأقصى في زمن كتابة القصيدة (هذا الزمن زمن الأقصى)، ثمّ يأتي العنوان الثاني ليرصد عدوانية المحتل (همجية العدو المحتل مع المصلين).
تتصل الحركة الثالثة بمقاومة المحتل على أيدي أطفال الحجارة (أطفال الحجارة)، وتكشف الحركة الرابعة مشهد القتل والإجرام الذي تقوم به الآلة الصهيونيّة ومجرمو الحروب (تجار الدماء يوغلون بالقتل)، وتتصل الحركة الخامسة بقدرة الانتفاضة على رسم صورة الوطن (من الحجارة يولد وطنٌ)، وفي الحركة السادسة تصل الشّاعرة إلى حقيقة مؤكّدة، وهي أنّ الطغاة إلى زوال (الطغيان والطغاة إلى زوال).
إنّ لحظة تشكل النصّ الشعريّ، هي لحظة العَصفِ الذهنيّ والعاطفيّ، اللذين يواكبان الرؤية التي يرغب الشاعر في الكشف عنها بوساطة أساليب بلاغيّة متنوعة لتتبدّى أفكاراً تلامس الهموم والقضايا التي يعيشها الشاعر، هذه الهموم والقضايا شكّلت هماً واحداً عند الشاعرة طاهرة ونزار ومحمود، إذ التقت أفكارهم حول قضية واحدة، وتوحّدت رؤيتهم في الكشف عن مواطن ضعف الأمّة وقوتها.
لا يمكن أن نقول: إنّ الصدفة قد جمعت في نصي طاهرة زاده ونزار قبانيّ، أطفال الحجارة، تقول الشاعرة الإيرانيّة: "طيور الحق/ من قلب المسجد هذا/ تحارب (الأبرهات)/ بالحجارة".
ويقول الشّاعر السّوريّ نزار قبانيّ:
"يرمي حجراً… أو حجرينْ…
يقطع أفعى إسرائيل إلى نصفين
يمضغ لحم الدبابات،
ويأتينا من غير يدينْ.
إنّ طفل الحجارة في نصّ طاهرة زاده الذي يتصدّى لرمز من رموز القتل والإجرام، (أبرهة)، هو ذاته الطفل الذي يواجه الأفعى الإسرائيليّة في نصّ نزار قبانيّ.
تستحضر الشاعرة رمز "أبرهة" لتقدم الإرهاب في الماضي، شكلاً متصلاً بالحاضر، يتمثّل بالإرهاب الإسرائيليّ ضدّ أطفال الحجارة.
لم يقعِ الشاعران في قبضة الاستسلام الذي يمسك بالساحة العربيّة والإسلاميّة في لحظة كتابة القصيدة, لأنّهما يعولان على ثقافة المقاومة التي ترسم ملامحها أنامل أطفال ناعمة، في سبيل إنتاج واقع جديد قادر على مواجهة التحديّات، والنهوض بالمسؤوليّات تجاه قضايانا، لذلك يمّم الشاعران وجهيهما إلى انتفاضة الأقصى الأولى العام 1978 التي تشكل إضاءة في نفق عربيّ مظلم، وتتفق الشّاعرة طاهرة مع الشاعر نزار على أنّ الوطن لا يولد إلا من بين أيدي أطفال الحجارة، هذا الجيل الطالع نحو الشمس والحريّة، تقول الشّاعرة الإيرانيّة:
"والحجارة في طهر يديك
سهام الغيب/ سهام البدر/ سهام مما لا يحسَبون".
ويقول نزار قبانيّ:
تسأل صحف العالم، كيف صبيّ مثل الورد.. يمحو العالم بالممحاة؟؟
يقلب شاحنة التاريخ، ويكسر بلور التوراةْ؟؟..".
لعلّ أهمّ علامة من علامات الزمن الفلسطينيّ عند طاهرة ونزار، هو إفساد الزمن الإسرائيليّ، على أيدي أطفال الحجارة" سهام الغيب، سهام البدر، سهام… يمحو، يقلب، يكسر"، تلتقي سهام أطفال الحجارة عند طاهرة، بأفعال التحول والإرادة التي يرسمها أطفال الحجارة عند نزار، فلم يعد الزمن الفلسطينيّ مرهوناً بما يُخطّط له العدوّ، بل أصبح زمناً معداً للمواجهة ومستعداً إلى الخروج من دائرة الهزيمة إلى دائرة الانتصار.
تؤمن الشاعرة طاهرة أنّ هؤلاء الأطفال يؤسّسون لعالم إنسانيّ تسوده قيم الحق والخير والسّلام، ويؤمن نزار قبانيّ أنّ هؤلاء الأطفال سيسقطون الخطاب السياسيّ المترهل في ساحتنا العربيّة والإسلاميّة، ويفتحون أبواب النّصر والحريّة.
إنّ الالتفات إلى أطفال الحجارة في لحظة انفجار القصيدة، عند طاهرة ونزار، هو التفات إلى حدث تاريخيّ اجتاح ساحتنا العربيّة والإسلاميّة، إنّها انتفاضة الأقصى التي اندلعت العام 1987.
حين يولي نزار قباني وطاهرة زاده الاهتمام بهذا الحدث، فهذا يعني أنّهما يعبّران عن تأسيس مشروع مقاوم يتجاوز الأطر التقليديّة في مواجهة المشروع الصهيونيّ المبني على التوسع والتدمير، إلى مشروع مقاوم يولد من رحم العذابات والصّبر ويؤسس لمقاومة تعرف كيف تدير المواجهة مع العدوّ الصهيوني.
إنّ إيمان الشاعرة الإيرانيّة بحق الشعب الفلسطينيّ في استرداد أرضه المغتصبة، هو ما جعلها تضع في أولوياتها (القبلة الأولى) المسجد الأقصى، الذي ستفك أسره الدماء الطاهرة، "والدماء النقية/ ستدك عالم الظلام/ فلينتظر الطغاة".
ويجزم نزار قبانيّ أنّ عدونا وهم صائر إلى زوال "إنّ هذا العصر اليهودي، وهمٌ.. سوف ينهار.. .
يشارك الشاعر الفلسطينيّ، محمود درويش طاهرة زاده حقيقة الهزيمة المؤكّدة التي ستلحق بالطغاة والظالمين في قصيدة (الأرض) إذ يقول: "سنطردهم من حجارة هذا الطريق الطويل.. سنطردهم من هواء الجليل".
يؤكد الفعل "سنطردهم" حقيقة واحدة هي أن الغزاة الصهاينة مصيرهم الرحيل عن الأرض التي احتلّوها، وطرد الغزاة لا يتمّ إلا بسهام مسمومة، تقلب وجه التاريخ، وتكسر بلّور التوراة.
قدمت النّصوص الثلاثة شعريّة الانتصار والمقاومة، وتوحدّت حول هدف واحد وقضيّة أساسيّة تشكل نواة الصّراع بيننا وبين العدو الصهيونيّ.
3- الرموز والشّيفرات الثّقافيّة:
تجتمع في النّصوص الثلاثة رموز دينيّة شديدة الاتصال بالقدس، كونها تشكل نقطة إجماع عند كلّ الأديان السّماويّة، وتتوزع هذه الرموز في نصّ طاهرة زاده على (الإسراء والمعراج)، الذي تبدّلت صورته في ظل الاحتلال، الذي يحمل كلّ بذور الشّر والإجرام، يصبح الإسراء والمعراج في نصّ الشاعرة موضعاً لأهل الباطل "الهبوط عن الحقّ / والفتوة والمروءات".
ولا يغيب هذا المشهد الدينيّ عن ذاكرة محمود درويش في قصيدته (القدس)، إذ يحضر بقوة معبّراً بوساطته عن ألم الرحلة التي يقوم بها الشّاعر في ظلّ ظروف قاسية يتعرض لها الشعب الفلسطينيّ، يقول الشّاعر في رحلته:
"أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى تصوّبني،
لا أرى أحداً ورائي. لا أرى أحدا أمامي".
إنّ استحضار هذا الرمز في النّصيّن الشّعريّين، لا يعبّر عن ثقافة طاهرة ومحمود المتمسكة بالمكان/الرمز، وتوظيف التراث الإسلاميّ بوصفه أداة لغويّة قادرة على الإمساك بهمومنا وقضايانا الراهنة، بقدر ما يكشف عن ثقافة واحدة وهمّ مشترك واحد ورؤية واضحة.
إذا كانت الشّاعرة طاهرة قد استحضرت صورة الطّيور الأبابيل في رمي جيش أبرهة في أثناء غزوه مكّة المكرّمة، لتعبّر عن حجارة "طيور الحقّ" الّتي "تحارب الأبرهات" في هذا العصر، فإنّ نزار قبّاني قد لجأ إلى غير رمزٍ دينيٍّ ليعبّر عن صورة أطفال الحجارة التي ترسم بأناملها إشراقة أمل الأمّة والنّصر القادم. فهذه الأنامل الطريّة والأيدي القابضة على الحجر هي التي ستقلع نجمة دواودٍ من أرضنا المغتصبة:
"يرمي.. يرمي.. يرمي.. حتّى يقلع نجمة داوودٍ بيديْه، ويرميها في البحرْ…".
يعدّ الرمز العمود الفقري في النّصوص الثلاثة، إذ يعبّر عن اجتراح ثقافة المقاومة، ثقافة تقلق العدوّ الصّهيونيّ، وتربكه في سبيل الوصول إلى الهدف الأساسيّ، وهو تحرير الأرض والمقدّسات والإنسان.
إنّنا أمام رموز تنبض بالحياة والقوّة، لا تعرف الانكسار في زمن الهزيمة، إذ تخرج بنا من ذاكرة الهزيمة إلى ذاكرة معافاة، رموزها واثقة مفتوحة، في النّصوص الثلاثة، على بعضها، تعبّر بوضوح عن مناخٍ ثقافيّ جديد بدت ملامحه تظهر في القدس العام 1987 حين انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى من مخيّم جباليا، ثمّ امتدّت إلى قرى ومدن فلسطينيّة أخرى.
كان لكلّ نصٍّ من النّصوص الثّلاثة نظامه العلاميّ الرمزيّ في تحريكه الرؤيّة التي يرغب الشّاعر في الكشف عنها، فشعريّة الانتفاضة والمقاومة في مواجهة الترمّد والخضوع، تحضر بقوّة في قصيدة الشّاعرة طاهرة زاده "القبلة الأولى"، إذا عدنا إلى النّص، نرى علامات مثل، (طيور الحقّ، الحجارة، حجارة أبابيل، سهام البدر) وغيرها قد خلعت عنها انتماءها اللّغويّ المستقرّ، إلى انتماءٍ علاميّ رمزيّ يخطّ طريق الانتفاضة والمقاومة نحو ذهنيّة ثقافيّة جديدة ذات بعد تغييري مقاوم.
يلتقي نزار قبّاني في نصّه "دكتوراه شرف في كيمياء الحجر" مع الشّاعرة الإيرانيّة، إذ تجتمع في نصّه علامات رمزيّة تشكّل بوساطتها شعريّة العبور إلى الحرّيّة عن طريق أطفال الحجارة الذين يعبرون بالأمّة إلى تاريخٍ جديد "يخلع أبواب التاريخ/ يلقي تركة أهل الكهف/ يكسر ذاكرة الصحراء/ يقلع نجمة داوود".
إنّ إرهاب الأيديولوجيا المعادية (الكيان الصهيوني)، لا يستطيع أن يقف حاجزاً في وجه النّظام العلاميّ المقاوم عند الشّاعرة طاهرة والشّاعر نزار، لأنّ النّصّين عندهما حافلان بالقوّة القادرة على مواجهة علاميّة الظلم والظّالمين.
ينتمي النّصّان (القبلة الأولى/ دكتوراه شرف في كيمياء الحجر) إلى همٍّ واحدٍ، وعقيدة دينيّة راسخة، هي أنّ القدس قبلة الجميع، وهي موروث ثقافيّ وحضاريّ ساهمت في إنتاجه شعوب عديدة.
4- النّصّ والعالم والأيديولوجيا والشّاعر:
تشكّل القدس والأقصى في فلسطين، اللّذان شهدا صراعاً مريراً مع العدوّ الصهيونيّ مرجع هذه النصّوص الثلاثة.
والقدس التي نقرأها في النّصّ، لم تكن القدس الفلسطينيّة بجغرافيّتها البشريّة المقاومة والمنتصرة للحقّ والرافضة للاغتصاب، ولكنّها القدس التي أعيد إنتاجها في ضوء رؤية الشّاعرة طاهرة زاده، والشّاعرين: نزار قبّاني ومحمود درويش. فأرض فلسطين، بقدسها وأقصاها وأسوارها ومسراها، وأطفالها وحجارتها وشجرها وبحرها، كلّها أسماء خرجت في النّصوص الشعريّة عن حقائقها الموضوعيّة لتكتسب نظاماً علاميّاً جديداً يكشف الأيديولوجيا التي ينظر من خلالها الشّاعر إلى العالم والوجود، تلك الأيديولوجيا التي تتحوّل من عمق إيمانٍ إلى طاقة تعمل على تبدّل ألوان الأشياء في فلسطين، وتسعى إلى تحوّل مُناخها من مناخ اليأس إلى مُناخ التّفاؤل، من ثقافة الضعف إلى ثقافة القوّة.
إنّ أيديولوجيا القوّة والمقاومة تحكم النّصوص الثّلاثة، ولا تنطلق هذه الأيديولوجيا من الإيمان العميق بانتصار المظلوم، واندحار الظالم، بل تنطلق من حكمٍ إلهي لا مردّ له:
"ما بين هذا البيت والطريق/ فحافظُ الكلام( )/ والمدافع عن المؤمن( )/ لا يخلف الميعاد/ ووعدُ الحقِّ/ حقٌّ( )".
لم نلحظ في نصّي الشاعرة طاهرة زاده، ونزار قبّاني، أيّ ضميرٍ يعود إليهما، ولكنّنا نشير إلى أنّ حضورهما كان قويّاً، ثقافةً وطاقةً فنّيّةً متخفّيةً وراء الأقصى عند طاهرة زاده، ووراء أطفال الحجارة عند نزار قبّاني. اختفى حضورهما وراء لوحاتٍ فنّيّة أدخلتنا إلى المأساة التي يتعرّض لها الشّعب الفلسطينيّ على أيدي الصهاينة مرّةً، وإلى الإصرار على الانتصار والمقاومة مرّة أخرى.
وإذا كانت رحلة التجلّي في قصيدة "في القدس" عند محمود درويش تستوجب حضوراً لضمائر المتكلّم، إلاّ أنّها ضمائر تذوب في قضيّة الجماعة التي ترسم مشهديّتها رحلة الشّاعر من الأرض إلى السّماء.
يبقى أن نقول، إنّ الشّاعرة الإيرانيّة طاهرة زاده، والشّاعر السّوري نزار قبّانيّ والشّاعر الفلسطينيّ محمود درويش، قد عبّرت نصوصّهم الشعريّة عن مرحلة ثقافيّة اتّخذ فيها الصّراع مع العدوّ الصّهيونيّ أولويّة تتقدّم على كلّ المشاكل، والتحدّيات التي تشهدها السّاحة العربيّة والإسلاميّة.
ويوصلنا هذا الكلام إلى أنّ النّصوص الشّعريّة الثلاثة تستفزّها الأيديولوجيا المعادية للكيان الصّهيوني، وتعمل على مقاومتها بنظام لغويّ علاميّ مشفوع برؤية ثقافيّة قادرة على الإمساك بحركة التاريخ الماضية والحاضرة والمستقبليّة وتحديد مسارات تحوّلاتها السياسيّة والثقافيّة والفكريّة.
شكلت هذه النّصوص مدخلاً لقراءة دلالة المقاربة فيها، في همومها الفنيّة التعبيريّة وفي همومها الفكريّة والمضمونيّة، وبيّنت أنّ الهمّ العربيّ هو ذاته الذي تحمله الشاعرة الإيرانيّة في نصّها الشّعريّ، وأنّ الضائقة القاسية التي تمرّ فيها المنطقة متصلة، تجمع بلدان المشرق، وتؤكّد وشائج العلاقات التي تربطها قديماً وحديّثاً.
المصادر:
1. القرآن الكريم.
2. درويش، محمود: مجموعة "لا تعتذر عمّا فعلت"، بيروت، دار رياض الريّس للكتب والنشر، ط1، يناير 2004.
3. زاده، طاهرة صفّار: مجموعة "رحلة عاشقة"، تر. موسى بيداج، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، ط1، بيروت، 2008.
4. قبّاني، نزار: مجموعة "ثلاثيّة أطفال الحجارة"، بيروت، منشورات نزار قبّاني، ط1، آذار 1988.
المراجع:
1. الجربي، محمد رمضان: الأدب المقارن، القاهرة، مكتبة الآداب، 2009.
2. جمال الدين، محمد سعيد: الأدب المقارن، دراسة تطبيقيّة في الأدبين العربيّ والفارسيّ، القاهرة، دار الاتحاد للطّباعة والنشر، ط2، 1996.
3. زلط، أحمد: الأدب المقارن، نشأته وقضاياه واتجاهاته، مصر، هبة النيل العربيّة للنشر والتوزيع، 2008.
4. عوض، إبراهيم: في الأدب المقارن، تعريفه وميادينه، بحث نُشر على موقعه الإلكتروني: WWW.IBRAWA-COCONIA.NET
5. غنيمي هلال، محمد: الأدب المقارن، مصر، مكتبة الأنجلو المصريّة، ط2، 1962.