لم تحقق النهضة العربية الاولى نموذجها. لم تتجسد في بيئتها، وما نسب اليها كان مشوّهاً…. استدرجت النهضة الى اختيارات انتقائية، مزقت نسيجها الفكري الذي التأم في سياق نظري واحد، كان يفترض ان يبقى موحداً، من دون ان يتعرض لتجزئة واستلاب. نسيجها المتماسك، حرية وديمقراطية وعلمانية وقومية ووحدة . نهضة، حولتها التجربة السياسية الى سلعة مرفوضة، فالمؤمنون بالوحدة اطاحوا بالحرية والديموقراطية، ولم ينجزوا غير تكريس التجزئة وتثبيتها وتأبيدها، والداعون لتجسيد الحرية والديموقراطية، لم يلتفتوا الى مبدأ السيادة ومواجهة الاحتلال والهيمنة والنفوذ الخارجي، فأطاحوا بالمقاومة من جهة وبالمواطنة المجسدة لمبدأ العلمنة… انه مسار مضاد للنهضة، ما شهدته الامة ولا تزال ، فانتصرت الموروثات الدينية والمذهبية والاثنية على اولوية العقل في اعتباره الشرع والمرجع، كضامن لحرية التفكير وابداع الحلول وتجسيد الرغبات وصيانة الحقوق وتأمين الانخراط في عملية التفاعل المجتمعي، لتأسيس مجتمع تتنافس فيه قواه ولا تتصارع، تخضع لسيادة القانون ولا تتجاوزه، معلية شأن القيم والانسان في المجتمع والافراد.
مسار قاد الامة من مرتبة نظرية راقية ومحببة، الى مرتبة التخلف ومهاوي التجزئة ومنصات الديكتاتوريات ومجاهل التعدد والتوحش، اثنياً وطائفياً ومذهبياً وجهوياً.
ليس في رصيد المؤسسات والحركات القومية ما يفيد انها كسبت جولة واحدة في هذه المعركة، وليس في ما وصلت اليه وما بلغته من ضعف وضياع وهزال ما يشي بأنها قادرة على اطلاق مبادرة إعادة تأسيس أو تأهيل جدية وطموحة. فلا هي جمعت مسارها. ولا تجرأت على نقد لسياساتها وافكارها وبناها وخططها وعلاقتها بالناس وبالجماهير التي استقلت عنها واستقالت في مهماتها بعد معاناة واحباط. جل ما قامت به هذه المؤسسات، انشاء حقل واسع من التبريرات التي شكّلت العقيدة المبرمة للانظمة والمؤسسات.
فشلت النهضة الاولى في تحقيق نموذجها : دولة الدستور والقوانين والمؤسسات، دولة الوطن والمواطن، دولة النظام الديموقراطي المؤسس على مبدأ المواطنة المرتكزة على الالتزام التام بالمساواة والعدالة وحرية الاختيار، دولة القوة القادرة على صيانة حقوقها ومواجهة التحديات الكبرى الخارجية… فشل النهضة هذا أفسح الطريق أمام بدائل كارثية : أنظمة استبدادية قمعية، كيانات قطرية انعزالية، تنمية اقتصادية فاشلة، تنمية بشرية هجينية، ما أدى الى حشر المجتمع في مسار التفكك الطائفي والامني ، الذي يرشح المجتمع لمزيد من الحروب العدوانية من الخارج، والحروب المأساوية المؤسسة على عنف الجماعات الاهلية ، القبلية ، الدينية ، المذهبية، الطائفية، والاقليمية والاقوامية.
لم تنج الحركات السياسية من عواقب فشلها، فهي التي رفعت في بداياتها قيم النهضة واحتضانها والعمل لتجسيد مبادئها، وانتهت الى احزاب منكوبة من داخلها، لسوء فهمها وخطل ادائها وانعدام اخلاصها.
زمن السقوط بلغ امتلاءه، بلغ مداه، زمن النهضة يعاصر القرون الوسطى، ولقد أزفت ساعة اسدال الستارة على ما تبقى من أوهام وآمال خائبة. ان الهاوية تحيق بالمستقبل العربي، فما العمل ؟
اولاً : اعادة قراءة منطلقات ومبادىء وافكار النهضة على قاعدة الانتماء الواعي لقضيتها والالتزام باولوياتها، والعمل نضاليا لتحقيقها. اولوية النهضة تفترض مواءمتها مع ادوات الواقع التي نضجت من خلال برامج موضوعية تحسب فيها القدرات والامكانات والظروف في حقل قوى منافسة تقاتل بالموروث والتخلف لتحقيق مصالح فئوية متزمتة.
ثانياً: ان الوعي بقضية النهضة يفترض عدم التضحية باي مبدأ من مبادئها، لصالح اولويات مؤقتة. ولا يجوز ان تحذف اولوية مفترضة، اولويات العمل المتوازن والمتضامن لصالح اقرار وتحقيق اولويات تفرضها المؤسسات؟ طبيعة القضية ومرحلتها. فالوحدة، ان اعتبرت اولوية، لا تلغي الديموقراطية والحرية، وهاتان لا تلغيان القومية ومستلزماتها. فالديموقراطية بلا مواطنة وبلا هوية ، هروب بها الى الجماعات القبلية التجزيئية. والوحدة بلا حرية ومواطنة وتنمية وعدالة ومساواة، تتحول بسرعة الى سلطة اعتباطية استئثارية تطيح بناء المواطن بالوحدة والديموقراطية وتهدد وحدة المجتمع في نسيجه الاصلي وفروعه الغنية.
ثالثاً: اعتبار العمل الثقافي ركن من اركان العقل النهضوي، لانه يفترض ان يعيد الى العقل مكانته وشرعيته، كونه المرجع في بلورة فكر ديموقراطي وحدوي مواجه ومقاوم.
رابعاً: لا نهضة من دون قطع مع التخلف ومظاهره المتشعبة، ومن دون قطع مواز مع النفوذ والتسلط الخارجي، ولا استغلال ولا سيادة، من دون القطع مع نظام العولمة النيوليبرالي، الذي يحيل اقتصاد المجتمع الى اقتصاد تبعي استهلاكي، ويجعل من ثقافة الامة ، ثقافة التقليد والاقتباس بلا أي ابداع واصالة وأفق.ان الحلول السياسية المتاحة على مستوى الامة معدومة. الابواب السياسية مقفلة امام الانظمة القائمة والاحزاب والهيئات السياسية . لذلك فان مجتمعاً توصد في وجه مؤسساته المخارج السياسية، ملزم بان يعيد قراءة واقعة وحساب قواه، لصياغة ردوده الاستراتيجية، مستعيناً بالثقافة والفكر، لوضع ما يصل اليه، في برنامج مقاوم لأخطار الخارج وكوارث الداخل.
صيغة هذه المقدمة، ليست بياناً لحركة، بل هي إطار لعمل يضع حجر الزاوية لنهضة قومية جديدة، عبر ابتداع وسائل تخدم أغراض الامة مستفيداً من الخبرات السابقة، وما أنجزته مكتسبات التقنيات الحديثة.
"تحولات مشرقية" مجلة دورية تصدر في لبنان وفلسطين، ملتزمة بالنهضة والمقاومة والعروبة العلمانية، ترفض التطبيع مع الكيان الصهيوني باشكاله كافة، وضد كل تبعية للخارج وضد كل تبرير للتخلف وضد كل تهاون مع الاستبداد.
و"تحولات مشرقية" هذه، منفتحة على الفكر والثقافة والنقد والآخر. لا تؤمن بوحدانية المناهج والحقائق والافكار. تدرك ان ديكتاتورية الفكر والايديولوجيا، تقود الى تشريع الاستبداد والقمع. لذلك، هي تعّول على المساهمات الثقافية والفكرية والسياسية النقدية والاستراتيجية ، وتنأى عن التضييق على الحرية، وتحديداً الحرية الفكرية.
وعليه، فهي ملتقى تيارات مختلفة ، ومختبرا لصراع الافكار الحرة الملتزمة اساساً بعملية النهوض والتغيير والتعبير الحر.
"تحولات مشرقية" تؤمن ان الصراع الفكري من أجل فهم أعمق للواقع، ومن أجل العمل المشترك نحو الغايات الفضلى، هو من مهماتها ومسؤولياتها. التزامها بالديموقراطية والحرية والابداع والوحدة ، لا يلغي ابداً حق الاختلاف وحق الدفاع عن هذا الاختلاف.
انها مجلة المواطن في وطن. مجلة الانسان في بيئته المجتمعية، مجلة المؤمن بالحقوق الانسانية وملتزمة بالدفاع عنها وبالحقوق الوطنية والعمل لنصرتها، وبالحقوق القومية والنضال من أجل تحقيقها . فهي مجلة الحرية، ولهذا فهي حرة ولا ترتبط بأي نظام او تنظيم سياسي أينما كان.
لا زال في هذا الزمن المأساوي مكان لفسحة أمل وفسحة قول وفسحة فكر، و"تحولات" تحاول ان تكون هذا الامل.
التحرير
النهضة اولاً
126
المقالة السابقة