أشكر نادي شبيبة مزيارة الذي تلطَّف ودعاني إلى المشاركة في هذه الندوة الثقافية الحضارية حول كتاب الأستاذ فهد الباشا "مواد للبناء"، الصادر عن "دار أبعاد"، وهو مجموعة مقالات صحفية، نُشر أغلبها في جريدة البناء، وهي تتناول مواضيع عدة.
استوحيتُ من هذا الكتاب ثلاثة أفكار لتكون موضوع حديثي، وهي اللغة العربية، والحضارة السورية، والمزيارية، موادّ أساسيةٌ للبناء والنهوض الحضاري الجديد، والذي لن يتحقق إلا بثقافة التغيير، والتغيير بالثقافة.
أدخلُ إلى كتابك من باب اللغة العربية الملوكي، وأنت سيّدها وفقيهها والداعية إلى تجديدها كدعوة الكثيرين من النهضويين، وعلى رأسهم المطران جرمانوس فرحات، صاحب كتاب "بحث المطالب" في مساعدة الطالب على تعلم اللغة العربية. والذي كان قد ألفه في دير مار اليشاع، في وادي قنوبين، سنة 1708. فانتشر استعماله، حتى إن المجمع اللبناني الذي عقد سنة 1736 لإصلاح مؤسسات الكنيسة المارونية وتجديدها، أمر باستعماله. جاء عنه، في هذا المجمع، وفي باب المدارس والدروس: "نأمر رؤساء ومعلمي مدارسنا، في المدن والقرى والأديار الكبيرة أن يُعنوا بتدريس أصول اللغة العربية التي أحكم وضعها الطيب الذكر جبرائيل فرحات رئيس أساقفة حلب، أيام كان راهباً في رهبانية القديس أنطونيوس اللبنانية، وأن يطالع الطلبة ديوان أشعاره وغيره من مصنفاته نثراً ونظماً، ذلك ليشربوا في قلوبهم حبَّ التقى مع العلم وصفوة اللغة العربية".
لغتُك هي "صفوة اللغة العربية"، وقد عطرتها ببخور وادي قنوبين، وأنت من أبنائه، وأحد أعلام ضِفتيه، التي بين أمجاده مطبعة دير مار أنطونيوس قزحيا، التي دخلت الشرق سنة 1610".
بعد أن أدخلنا فهد الباشا من الباب الملوكي إلى عالم اللغة العربية، قرر متابعة المسيرة ليُدخلنا بواسطة الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى عالم الحضارة السورية الغني، مُرحباً بأبناء الأمة على تنوع معتقداتهم وأفكارهم واتجاهاتهم، واقفاً وقفة عزّ محيياً قائلاً: "تحيَى سورية" فلم يرد على تحيته الحارة من بين الجمهور سوى بعض القوميين الذين أجابوا، بحماس "تحيَى تحيَى".
لم يكن يعرف ابن مزيارة أن التحية عند الروم تبدأ بالكيرياليسون اليونانية، وهي تعني "يا رب ارحم". وعند المسلمين يقولون: "الله أكبر".
وكان يظنُّ ابن مزيارة أن جميع الناس هم تلامذة سعاده الذي ترك أمور الله للدين والأديان، وأمور الإنسان والمجتمع والأمة للدولة القومية التي لم تتحقق حتى اليوم، غير مدرك أن الأمة هي أمة الله، والدول في هذا الشرق هي دول دينية وطائفية ومذهبية واتنية. وأن فصل الدين عن الدولة التي نادى بها سعاده غير ممكن، ولا العلمانية موجودة، حتى ولا الدولة المدنية مقبولة. والتقيّة وشعاراتها ومطالبتها بضرورة إلغاء الطائفية، وراءها مشاريع دويلات دينية ومذهبية واتنية. دول لا تحقق حلم سعاده، ولا تشبه الفكر القومي، إنما دويلات ومقاطعات ومزارع تشبه الكيان الصهيوني العنصري الغاصب، الذي زوّر التاريخ، وأعلن أورشليم القدس عاصمة أبدية لـ"إسرائيل". مشروع قد لن يعارضه أحد كمثل ما عارضه أنطون سعاده في حياته وفي قبره. وكما علينا مقاومته إلى الأبد.
المؤمن الثابت في إيمانه بالقضية لا ييأس أبداً. والرسول الحقيقي لا يتعب من جهاده، بل عليه التبليغ الدائم وبطرق جديدة وخطاب جديد. والفهد المزياري قرر الدعوة إلى لقاء جديد، لا عند الروم، ولا عند المسلمين بل عند الموارنة.
افتتح اللقاء بتلاوة نشيد مار مارون، الذي كان قد اكتشفه في كتاب قديم مطبوع في قزحيا سنة 1896، وفيه:
لك اسم في الشرق مسمياً مار مارون يا فخر سوريا
حلّت بركة مار مارون على الناس فاطمأنوا. ثم حياهم بتحية الأمة قائلاً: "تحيَى سورية" فردوا كلهم: تحيَى السريانية وسورية وسوريانا وأنطاكية وسائر المشرق، ومطرانيات الشام وحلب واللاذقية، وأيضاً مطرانية قبرص المارونية، والقدس وكل فلسطين وعمان وبغداد، معتقدين أن أنطون سعاده هو أحد تلامذة مار مارون فخر سورية. وفهد ظاناً أن الزعيم أصله من مزيارة، أو من زغرتا، سافر باتجاه سورية ليحيي الأمة مع مارون.
المارونية وهي انتماء إلى أنطاكية وسائر المشرق، ورسالة انفتاح وحوار وتفاهم ووحدة في التنوع وعيشٍ مشتركٍ مسيحي إسلامي. والموارنة هم رسل العروبة الحضارية ورواد نهضتها وتقدمها والدفاع عنها، في الوقت ذاته، يعتقد الموارنة أن سورية ليست جغرافيا وديمغرافيا وسياسات ضيقة وفاشلة، إنما سورية هي أولاً إنسان وحضارة، لا بل تراكم حضارات وتواصلٌ وفعلٌ وتفاعلٌ وإبداعٌ في عصر العولمة. ولكن أين نحن من الأبحاث والدراسات العلمية حول سورية الحضارة العظيمة؟ الجواب: الحصاد كثيرٌ والفعَلةُ قليلون.
المارونية، في جوهرها، هي ضد الدولة المارونية. أدعو الجميع إلى الاقتداء بالموارنة لا بغيرهم، ممن يفتشون عن دويلات لا علاقة لها بالدولة الديمقراطية.
أما المزيارية فهي حركة انفتاح اللبنانيين على القارة الإفريقية، بخاصة، وعلى العالم والعوالم والآفاق والرؤى، بعامة. ولأن أهل مزيارة قد تميزوا بهجرتهم القوية إلى إفريقيا، سميت هجرة اللبنانيين إلى إفريقيا بالمزيارية.
المزيارية هي التواصل والفعل والتفاعل والعمل والبناء والتطوير والتقدم والتنمية الإنسانية الشاملة، والحياة الجديدة، وبناء إفريقيا من جديد. وأيضاً مساعدة اللبنانيين لأهلهم في لبنان.
المزيارية هي ظاهرةٌ ديمغرافيةٌ حديثة تثبت أن الأمة لم تعد أسيرة حدودها الجغرافية، إنما هي الهجرة أيضاً في سبيل حياة كريمة أفضل، والتفاعل الحضاري بين الشعوب والحضارات والثقافات والأديان، مما يُحتم علينا تعزيز ثقافة الحوار التي تُخرجنا من الأطر الدينية والثقافية المغلقة والمتطرفة إلى أفق الانفتاح، لتدفع بعملية السلام إلى مزيد من الرجاء والفعل.
إن سورية الكبرى تعاني أزمة أكبر من سورية الحالية، وذلك نتيجة ضعف الداخل وقوة التدخل الخارجي، بهدف تدميرها وتفكيكها، كمقدمة لتدمير المنطقة وتقسيمها
فالدفاع عن سورية الكبرى وإصلاح أمورها وصون وحدتها، أرضاً وشعباً وحضارةً هو أولوية بالنسبة إلى العرب جميعاً، لا بل إلى العالم كله. وإلا فإن الإرهاب سيطول العالم كله، ويشتعل صراع الحضارات والأديان والثقافات، وتفجر الإسلاموفوبيا الشرق والغرب معاً، بطرق إجرامية كارثية.
نحن أمام تبعات جديدة، وشعارات خادعة، طامحة إلى إقامة دويلات، على صورة "إسرائيل" ومثالها، لتستبدل سورية الكبرى الحضارية بـ"إسرائيل" الكبرى العنصرية.
إن ثقافة الحوار هي الطريق الوحيد لحل النزاعات وإيقاف الحروب والدمار. فالإرهاب هو نتيجة الظلم والقهر والاستبداد والهيمنة. أيها العالم، ويا أيها الناس مشكلة الإرهاب لا تحل بالقوة بل بالحوار والحق.
وختاماً، إذ أهنّئ نادي شبيبة مزيارة، على هذه الحلقة الثقافية الحضارية التي أقيمت تكريماً لابنها البار الأستاذ فهد الباشا صاحب هذا الكتاب الذي يُوحي بأفكار حضارية جديدة، استوحيت بعضها، أهنئه وأشكره وأدعوه إلى التبشير بالمزيارية الحضارية الجميلة كجمال مزيارة، لأنه خيرُ رسولٍ لها.