حفل الشعر الأندلسي بذكر المكان, وامتازت قصائد الشعراء بكثافة مكانية لافتة ومميزة. وتعددت مظاهره داخل بنائية القصيدة الأندلسية. ولم يأت ذكره عارضاً, لكونه يمثل الوجود الإنساني, ويعكس المعاناة النفسية؛ وقد تتجاوز صيرورته داخل النص الشعري ملامح المكان الفعلية حين تنبثق في حالة وجود جديدة تبدو وخاصة بالقصيدة العربية.()
نعالج في هذه الدراسة مفهوم المكان الشعري في قصيدة ابن هانئ الأندلسي لما يمثل من شاعر ذي شأن رفيع في عالم الشعر, فضلاً عن أنه لم يتصدّ أحد لدراسة المكان الشعري دراسة علمية دقيقة مفصلة, لمعرفة ما وصل إليه هذا المفهوم أو ما لم يصل إليه.
من هنا تبرز إشكالية الدراسة أو أشغولتها المتمثلة بالأسئلة التالية:
1- ما المقصود بمصطلح "المكان الشعري"؟
2- ما هي التصنيفات والدلالات المكانية التي تناولتها قصيدة ابن هانئ الأندلسي؟
هذه موضوعات هذه الدراسة التي نحن في صدد معالجتها وإثباتها.
أولاً: تحديد المكان الشعري:
عندما يضع الباحث مجمل الكتب والدراسات التي تناولت مفهوم المكان أمامه, يلمس بوضوح سعة المكان وأهميته, وربما كان المكان أقدر ما يعطي الكينونة تجسدها وانقطاعها عن الذهنية البحتة ومطلقية التجريد, فهو المتلازم الأهم مع فكرة الوجود؛ فلا وجود خارج المكان, والكون مكان مطلق, تعجز عن حدوده المقاييس والأزمنة, وفي تعهد الاقتراب من مدركاتنا الأرضية أي المتوائمة مع مقاييس الكرة الأرضية وأبعادها في الزمان والمسافة والحضارة().
ويتخذ المكان في النص القرآني مفهوماً آخر في قوله تعالى: "ورفعناهُ مكاناً علياً"(), فالمكان نعتٌ إلهيٌّ مقدّس, علماً أن لفظة المكان وردت في القرآن الكريم سبعاً وعشرين مرة, ومنها قوله: "فَحَمَلَتْهُ فانتبذت به مكاناً قصيًّا"(). لذا, أوضح النص القرآني مفهوم المكان من خلال الأرض التي خلقها الله لتكون مستقراً للإنسان ومتاعاً له. فضلاً عن ترابط المكان بثنائية الجنة والنار أي السماء والأرض.
وإذا كان الشعر القوة السامية والمكانة الجليلة الشأن, فإن عرش هذه القوة لا يستوي إلا بدعم القوة الناقدة, لأن الشاعر لا يكون لسان زمنه حتى يوجد معه الناقد الذي هو عقل زمنه؛ إذ إنّ الخلق الفني يساعد على إيجاد روائع الشعر ويسهم إسهاماً فعّالاً في تكوين آيات الفن الخالدة.
يبدو أن الكتابات العربية النقدية المتعلقة بالمكان قليلة ونادرة, فضلاً عن عدم اكتمالها عند الغربيين أساساً, وعند العرب ارتكازاً على ذلك الأساس. وقد ارتفعت الأصوات العربية المطالبة بتعزيز مفهوم المكان وجمالياته في القصيدة العربية ومنها على سبيل المثال لا الحصر: حسن بحراوي في كتابه "بنية الشكل الروائي" وشاكر النابلسي في كتابه "جماليات المكان في الرواية العربية"؛ وقد أكّد صلاح صالح قلّة الدراسات النظرية العربية المشتغلة على المكان.
أمام هذا الواقع, ما نريده لشعرنا العربي هو أن تظهر فيه مقوّمات عروبتنا في الفكر والإبداع والحضارة, فيشعر قارئ هذا الشعر أو سامعه أنه فعلاً شعر عربي وليس شعراً أجنبياً بحروف عربية. فالمطلوب كان ولم يزل لأي تجديد في النقد العربي هو الحوار الأصيل والمعاصر مع أدبنا العربي من جهة ومع رؤى العالم خارجنا من جهة ثانية.
لقد قسمت فتحية كحلوش المكان إلى ثلاثة أنواع:()
1- المكان الجغرافي: وهو المكان الذي تدور فيه الأحداث, أو المكان الذي يُغري الشاعر, فيتحول إلى موضوع تخيّل, وهو غالباً ما يحدده الكاتب جغرافياً؛ فإذا ذكر اسم المدينة مثلاً أو المنطقة أو الركز فنحن ندرك تلقائياً الحدود الجغرافية لهذه الأماكن.
2- المكان الدلالي أو الفضاء الدلالي: إن استخدام مصطلح "فضاء" بدلاً من "مكان" يكسبه نوعاً من الاتساع, ولا يرتبط فقط بالحيّز الهندسي المحدود الأبعاد فقط, ذلك أن الأمكنة الموظفة في نص من النصوص الشعرية تتجاوز دائماً واقعيتها بمجرّد تحولها إلى جسد لغوي. ولأن المخيّلة تحذف أحياناً وتضيف أحياناً أخرى, فهي تضعنا أمام تعدد التوقعات؛ وهكذا يتجاوز التعبير الشعري المعنى الواحد, ويمنح القارئ على الدوام فرصة تعدد قراءة النص.
3- المكان الطباعي: يُقصَد به المكان الذي يَشْغَلُهُ النص على الصفحة, ذلك أن الكتابة ليست تنظيماً للأدلة على أسطر أفقية ومتوازية فقط, "إنها قبل كل شيء توزيع لبياض وسواء على مسند, وهو في عموم الحالات الورقة البيضاء"(). ويدخل ضمن المكان الطباعي كل ما له علاقة بالنص الشعري وطريقة عرضه على الصفحة البيضاء, بدءاً بحجم الكتاب, ومروراً بالورق ومختلف التقنيات الطباعية التي يوظفها الشاعر في تنظيم صفحته, من فراغات وحواش وألوان, وانتهاءً بالغلاف.
ومن جهة أخرى, لم يوجد في الواقع تنظير للمكان في الأدب إلا في النقد الغربي, فقد درس غاستون باشلارد(Gaston Bashlard) المكان الأدبي في كتابه(la poetique de l’espace) الصادر عام 1957, وقد ترجمه غالب هلسا إلى العربية بعنوان (جماليات المكان). ورأى باشلارد أن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال (المكان الأدبي التخيّلي) لا يمكن أن يكون مكاناً لا مبالياً ذا أبعاد هندسية فحسب, "يعتمد قياس المهندس وتفكيره, فهو مكان نفسي, بل هو مكان تكثيف الوجود, لأن الحيز المسكون يتجاوز الحيز الهندسي")(.
وتناول جيرار جنيت (Gerard Genette) في كتابه, (Figures) المكان, وتكلم على مستويين يتعلقان بجمالية المكان الأدبي: تعلق المستوى الأول بقدرة المكان الأدبي على نقلنا إليه حتى لنتوهّم للحظة أننا نجتاز ذلك المكان, أو نسكن فيه, أما المستوى الثاني فهو اعتباره الفن المكاني كالرسم مثلاً "لا يتكلم على المكان ولكنه يجعل المكان يتكلم"() أي ينطق.
بناءً على ما تقدم, تبيّن أن للمكان دلالات متنوعة, فهو تلك الجغرافيا الممتدة حيناً والضيقة أحياناً أخرى. فمثلما يمتلك دلالته على الصعيد النفسي للشخصية التي تمتلكه, يدل أيضاً إيديولوجياً واخلاقياً واجتماعياً.
ثانياً: المكان الشعري في قصيدة ابن هانئ الأندلسي, التصنيفات والدلالات:
نعالج في هذا المبحث مفهوم المكان في قصيدة ابن هانئ الذي يبرز في مجموعة متنوعة من التصنيفات والدلالات, لنصل إلى الحضور المكاني ونوعيته في شعره, فنحلل هذا الحضور ودلالاته, وتأثيره في انتاجه الشعري.
يدرك المتتبع لقصيدة ابن هانئ حضور المكان فيها عبر أشكال وأنواع متعددة, ولعل أبرزها:
أ- الطبيعة: ما زالت الطبيعة منذ الأزل بسكونها وجنونها مأوى لبني البشر, تقدم لهم قوتهم من ذاتها, وتعطيهم من قلبها ما لذّ وطاب. لذا, فقد عدّوها أمّاً رؤوفاً, وقدّسوا الكثير من مظاهرها وظواهرها. وجاء إجلالهم لها وتعظيمهم لموجوداتها إجلالاً وتعظيماً لله؛ إذ إنها "هيكل الروح وحلّه زهور الربيع, وبحر سنابل الصيف وتلال عنب الخريف وروابي فضّة الشتاء, إنها مرايا قدرة الله الكامنة"().
الطبيعة مرآة تعكس قدرة الخالق, فلا تجذب الأنظار إليها لمجرّد التحديق بجمالية عناصرها, بل تدعونا إلى التأمل فيها لتوصلنا إلى الإيمان الحقيقي بصانع كائناتها, ومبدع موجوداتها. وهي على روعة ما فيها, تستهوي القلوب, وتفتن الأنظار حتى تغدو قبلة الأنام, ولا سيما أبناء الفن الذين يقطعون من جنى جمالها. وليس ببعيد على الطبيعة أن تكون منبع الفن ورمز السحر والبهاء, "لأن كل من تفشي له الطبيعة بأسرارها يتولّد فيه حب الفنون, ومنظر الطبيعة جميل دائماً"().
بعد أن سيطر العرب على الأندلس, هامت أخيلة الشعراء بها مثلما هامت بطبيعة العصور الأدبية السالفة, فسحرتهم طبيعتها الساحرة, وتفتقت قرائحهم حتى غدت "منبعاً من أهم المنابع العربية لشعر الطبيعة, ولم تلبث أن خرّجت شعراء يمثلون بيئتها, وينبذون الأفكار الشعرية القيمة القائمة على شكوى الزمن وبكاء الغربة والحنين إلى المشرق"(). واشتهر من هؤلاء ابن هانئ الأندلسي الذي هام في أفنائها, وعبّر عما يعتريه في شعره, ولعل الجبال من أبرز هذه العناصر اللافتة والمميزة التي أوحت مشاعر العزة والكرامة والأنفة والمجد في الربوع الأندلسية, وذكرها ابن هانئ في معرض مدحه لإبراهيم بن جعفر, قال:)(
جُرثومةٌ منها الجبالُ الشمُّ لمْ يُغْضَضْمَتَالِعُها ولا تَهلانُها
رُدَّتْ إليكَ فأنتَ يَعرُبُها الذي تُعزى إليه وجعفرٌقحطانُها
فافخرْ بتيجانِ الملوكِ ومُلكِها فلأنتَ غيرُ مُدافعٍ خُلصانُها
لقد وصف الشاعر الجبال وصفاً خارجياً مادياً, ليوائم بينه وبين الصفات المعنوية للممدوح إبراهيم بن جعفر, فالمكان هو الجبل المنيع الحصين الصاعق القوي, وعزّم إبراهيم يقف في مواجهته ويتغلّب عليه. هكذا, استغل الشاعر الجبال لأهداف مدحية تبرز عظمة الممدوح من خلال قوة الجبال ومناعتها. من جهة ثانية, تناول ابن هانئ ما كان يلفت انتباهه, ويستحثّ شاعريته من صنوف الطبيعة الجميلة كالأزهار والورود التي ملأت طبيعة الأندلس وسحرت بجمالها وألوانها الزاهية عقل الشاعر ومشاعره, قال:()
الوردُ في رامِشنَة من نَرجِسٍ والياسمينُ وكُلُّهُنَّ غريبُ
فاحمرَّ ذا واصفرَّ ذا وابيضَّ ذا فبدَتْ دلائلُ أمرهِنَّ عجيبُ
فكأن هذا عاشقٌ وكأنَّ ذا ك مقشّقٌ وكأنَّ ذاك رقيبُ
تمكن الشاعر من المزج بين صور الطبيعة ومدح ممدوحة, واستطاع أن يعكس المكان الواقع النفسي الذي عاشه الشاعر, نتيجة وصفه للأزهار.
ب- القصور: يعد بناء القصور في الأندلس لوناً من ألوان الترف والفن والتطور العمراني؛ هذا, وإن كان مقصوراً على طبقةٍ بعينها. واتسعت هذه الطبقة وتعززت, فشملت قطاعاً واسعاً من الناس, قوامه التجار والكتّاب والوزراء والأمراء, وقد تأنق هؤلاء في اقتناء دورهم وزخرفتها, كلّ بحسب استطاعته, "فعقدوا لها القناطر, وتعددت حجراتها لمختلف الأغراض, وأقيمت حولها الحدائق والبساتين الوارفة, والبرك والنوافير, كما غرست الورود والأزاهير على اختلاف ألوانها وروائحها, فضلاً عن الأشجار المثمرة كالتفاح والسفرجل واللوز والرمان وغيرها. فكان لهذه الأشجار مكانتها الخاصة في نفوس الشعراء"().
لنقف مع ابن هانئ في أروقتها وفسحاتها, متأملين شموخها, مستمتعين بجمالها الساحر, مدركين مدى ما وصل إليه مهندسو البناء في تلك الآونة من ذوق رفيع, وما وصل إليه الناس من حضارة وترف. وهي وقفة موجزة أمام قصر بناه إبراهيم جعفر():
الشمسُ عنهُ كليلةٌ أجفانُها عَبْرى يضيقُ بِسِرِّها كِتْمانُها
لو تستطيعُ ضياءَهُ لَدَنَتْ لهُ يَعْشُو إلى لَمَعانِهِ لَمَعانُها
إيوانُ مَلَكٍ لو رأَتْهُ فارسٌ ذُعِرتْ وخَرَّ لِسَمْكِهِ إيوانُها
تغدو القصورُ البيضُ في جنباتِهِ صورا إليهِ يكِلُّ عنهُ عَيانُها
والقُبَّةُ البيضاءُ طائرةٌ بهِ تهوى بِمُنْخَرِفِ الصِّبا أعْنانُها
هكذا, يُلقي الفرحُ الداخلي بظله على المكان, فيغدو هذا المكان أجمل مما هو عليه, فالقصر الذي بناه جعفر ابن إبراهيم ليس قصراً عادياً, إنه تجسيدٌ حقيقيٌ لصاحبه, إذ يتّحد الباني والمبني, وينصهران في بوتقة وجدانية تجعلها واحداً, فتنتقي خصوصية كلّ من القصر وجعفر بن إبراهيم, وتختفي الحدود بينهما. بل يغدو القصر مكان بديلاً من الخليفة, ويصبح المكان هو الممدوح بالنسبة إلى الشاعر. لذا, فإن تغلُّب الانسان من مكان إلى مكان من الرقم إلى الكهف ثم إلى المنازل والقصور في صيفها المتنوعة يوضح أن الحاجة إلى البيت نابعة من مصادر أصلية في الذهن البشري, دائمة التوسع والاستمرار, وتعتريها تحوّلات مختلفة, فبيوتنا مواطن أقدامنا على هذه الأرض, وهي الحاضنةُ وجودنا وموقعنا في الحياة.
ج- مجالس الشّراب: امتلأت مجالس الشراب في الأندلس بالحركة والحيوية والنشاط, لكونها عامرة وحركتها دائبة, وضجيجها يملأ الأرجاء غناء وعزفاً وشدواً وشرباً, والغواني والقيان يختلن بين الكأس والوتر, ويترامين في الأحضان, ويرشفن من كؤوس الروح. أما الشعراء فهم بين هذا وذاك في حيرة من أمرهم, تتحرك أفلامهم, وتتفتح قرائحهم شوقاً إلى المال أو شوقاً إلى الروح, ولا سيما أنهم كانوا يتهافتون على الحركة فيها, "إذا لم يكن الحكام مهما بلغت بهم القسوة والعنف, ومهما بلغت هذه الأجواء؛ فالمجالس أمكنة لمعاقرة الخمرة, فيها يحوم الحائمون حول نزواتهم, ويطيرون في أجواء الشهوة, ويحلّقون في سماوات من الغبطة والبهجة والفرح"().
هذا مجلسٌ من مجالس الملوك اجتمع فيه السكارى وأنهكهم الشراب, فاستغلّ ابن هانئ هذه المجالس ليمدح جعفر بن علي, منزهاً إياه عن ارتيادها, وما يدور فيها, فكأن الممدوح أعلى شأناً لما يملك من قيم أخلاقية واجتماعية. قال():
أهدِ السلامَ إلى الكؤوسِ فطالما حثَّثْتَها صِرفاً إلى النّدماءِ
فشرِبْتُها ممزوجةً بضائعٍ وشرِبتُها ممزوجةٌ بِدِعاءِ
حاشيتُ قدْرَكَ من زيارةِ مجلسٍ ولوَ انَّ فيه كواكِبَ الجوزاءِ
إناّ اجتمعنا في الندّي عصابةً تُثْني عليكَ بألسن النُّعماءِ
أرواحُها لكَ والجُسومُ, وإنّما أنْفاسُها من فِطْنةٍ وذكاءِ
إنّ الذي جَمَعَ العُلى لكَ كُلُّها ألقى إليكَ مقالِدَ الشّعراءِ
وإذا كان ابن هانئ قد وصف مجالس الشراب، فإذا قال في الخمرة نفسها وكيف صور جليستها ومجلسها، "إنها تلهب الأنفاس، وتؤجّج المشاعر والأحاسيس، وتمسخ العقل، وتجعل القزم مارداً، والحكيم عيياً، والعييّ بليغاً وتصيب الشارب بهذيان الحُمّى"()ففي زيارة لإبن هانئ دكان الخمار، وصف معاقرته الخمرة، وتحدّث عن جليسها ومجلسها قائلاً():
إلى دنانِ صافناتِ السُّوقِ فاستلَّها بِمَبْزَلٍ رقيقِ
مثلِ لسانِ الحيةِ الدقيقِ كأنَّهُ من صِبغَةِ العقيقِ
لم يُبقِ منها الدّنُّ للرّاووقِ إلا كِياناً ليس بالحقِيقِ
قد رِيْعَ بعدَ الهجرِ بالتفريقِ وقامَ مِثلَ الغُصنِ الممشوقِ
هكذا، شكّلت مجالس الشراب في العصر الأندلسي مكاناً فسيحاً, جال فيه الشعراء وصالوا, معبرين عن أحاسيسهم تجاه ما كان يجري في تلك المجالس بصور جميلة أخّاذة.
د- المدن والأطلال: الأطلال هي الآثار الدّوارس في كل عصر, وكل قطر, ومنذ أن بدأ العمران في هذا الكون, وبدأت معه الحروب والهجرات المتضادة. كان الإنسان يترك خلفه الآثار التي تستحق عادةً وقفة تأمل عاطفية, تختلف باختلاف ذلك الأثر, واختلاف تاركه.
لقد وقف العرب فيها على الأطلال, واستوقفوا الركب, وخاطبوا الراحلين مستعبرين وباكين. ولما شعروا في حضارتهم بكثرة هذه الوقفات أعلنوا الثورة عليها بلسان شاعرهم أبي نوّاس, وخففوا عنها. والحقيقة أن الأندلسيين لم يقفوا كإخوانهم المشارقة وأجدادهم على الآثار, لأن الطبيعة الأندلسية الساحرة شغلتهم عن ذلك, وملأت حياتهم بهجة ومرحاً وحبوراً, فكانوا متفائلين متفاعلين معها, وكانت قصائدهم تشق عن روح وأفكار منطلقة, وأنفاس عابقة بأريج الزهور, ولكن توالي الأحداث على الأندلس, وهبوب العواصف والأعاصير لم يترك الأندلسيين يعزفون على نسق واحد, فتركهم يتخبّطون, وكان في توالي الدول المتعاقبة عبرة لمن اعتبر. فها هم الأمويون وقد بنوا في الأندلس ما بنوه من الأمجاد, تتهاوى عروشهم وتتساقط دولهم في أعقاب أعظم رجالهم, وينفرط عقد مملكتهم, فيتحسّر الشعراء على أيام مضت, خصوصاً, وأنهم شهدوا بأم العين الفتن تعصف بالأندلس ابتداءً من نهاية القرن الرابع. ولم يلتئم الجرح التئاماً حقيقياً, فالدولة أصبحت دولاً, والحاكم أصبح حكاماً, والمظاهر الخارجية لم تعد لتقنع العقلاء أو تخدع أحداً, وكان القائمون بالأمر أنفسهم يشعرون بذلك.
إن افتقاد الوطن على الصعيد الواقعي يعيش داخل الشاعر, وحين يصبح وجود الوطن داخلياً تنشط حركة الخيال وتظهر مستويات متعددة للحلم والذاكرة, فيفترق المكان الواحد في عدة أمكنة, ويتحول زمن الحياة تحت سمائه إلى أزمنة تاريخية أو شخصية أو أسطورية.
يرثي ابن هانئ واقع الأندلس, ويعرج على مدح الخليفة المعز لدين الله, فالمدن تُسْبى, والدين قل نصيره, والناس صاروا عبيداً, والأحرار تحوّلوا أذلاّء, أمام هذا المشهد يستصرخ الشاعر الناس, داعياً إياهم إلى الثورة. فلا يجد ملبياً وقائداً سوى المعز لدين الله الذي ينحدر من سلالة النبي المصطفى. قال():
أسفي على الأحرار قلّ حِفاظُهُم إن كان يُغني الحرُّ أن يتأسَّفا
لا يُبعِدَنَّ اللهُ إلا معشراً أضحوا على الأصنام منكم عُكّفا
يا ويلَكم! أفما لكُم من صارخٍ إلا بثغرٍ ضاع أو دينٍ عفا
فمدينةٌ من بعد أخرى تُستبى وطريقةٌ من بعد أخرى تُقتفى
فعجِبتُ من أن لا تميدَ الأرضُ بين أقطارها وعجِبتُ أن لا تُخسفا
هذا المعزُّ ابنُ النبيِّ المُصطفى سيَذُّبُّ عن حَرَمِ النبيِّ المصطفى
هكذا, انقلبت محنة الناس في الحرب محنة مكانية, فانعكس عدم الاستقرار النفسي عدم استقرارٍ في المكان, فمن غادر الوطن يشعر بأنه غير موجود في البلاد التي سافر إليها, لجهة تضعضع قيم الثبات والطمأنينة والأمان والاستقرار التي يشي بها الجوهر الأساس للوطن, ودليل أكيد في الوقت نفسه على تشتت نفسية الأنسان الذي بات لا يعرف الاستقرار في مكان بعينه, إذ لا مكان يشعره بالاكتفاء, لا بيت يحميه, ولا بيت آخر في بلده يحل أزمته, ولا أي بيت في مغترباته.
ختاماً, لقد كان المكان الشعري في قصيدة ابن هانئ دالاً أكثر منه مدلولاً, متحدثاً أكثر منه متحدثاً عنه, وغالباً ما تشيع الصور المستمدة من عناصر الطبيعة, وكثيراً ما يمتزج المكان والإعجاب والمدح في شعره, وأسهمت هذه الدراسة في تأكيد عقل المكان في القصيدة الشعرية لابن هانئ الأندلسي عبر الصّور المكانية المتنوعة(الطبيعة, القصور, مجالس الشراب, الأطلال والمدن).
قائمة المصادر والمراجع:
أولاً-الكتب الدينية
1- القرآن الكريم
ثانياً-الدواوين الشعرية
1- ابن هانئ الأندلسي, تحت عمر فاروق الطباع, بيروت, دار الأرقم, ط1, 1998
ثالثاً-المصادر والمراجع العربية
1- أدونيس, الشعرية العربية, بيروت, دار الآداب,ط2, 1989
2- بنيس, محمد, الشعر العربي الحديث, بنياته وإبدالاتها, المغرب, دار توبقال للنشر, ط1, 1990
3- صالح, صلاح, قضايا المكان الروائي, القاهرة, دار شروقيات, ط1, 1997
4- كحلوش, فتحية, بلاغة المكان, قراءة في مكانية النص الشعري, بيروت, دار الانتشار العربي,ط1, 2008
5- لبس, جوزيف طانيوس, تفاح من ذهب في سلال من فضة, بيروت, مؤسسة نوفل, ط1, 1966
6- مصطفى, قيصر, حول الأدب الأندلسي, بيروت, دار الأشرف, لا ط, لا ت
7- نوفل, سيد, شعر الطبيعة في الأدب العربي, القاهرة, مط. مصر لا ط, 1945
8- نويهض, ناديا, كلمات من ذهب, بيروت, دار الحداثة, ط1, 1992
رابعاً-المصادر الأجنبية
1. Bashlard, Gaston: La Poetique de L’espace, presses uninversitaires de France, Paris-France, 1973
2. Genette, Gerard: Figures 1, Essais, Edition du seuil, Paris-France, 1966
– أدونيس: الشعرية العربية, بيروت, دار الآداب, ط2, 1989, ص 16-17
– صلاح صالح: قضايا المكان الروائي, القاهرة, دار شرقيات, ط1, 1997, ص 11
– القرآن الكريم, سورة القصص, الآية 12
– القرآن الكريم، سورة مريم، الآية 22
– فتحية حكلوش: بلاغة المكان, قراءة في مكانية النص الشعري, بيروت, دار الأنتشار العربي, ط1, 2008, ص 22-23-24-25
– محمد بنيس: الشعر العربي الحديث, بيناته وإبدالاتها, المغرب, دار توبقال للنشر, ط1, 1990, ص111
– Gaston Bashlard: La Poetique de L’espace, presses uninversitaires de France, Paris-France, 1973, p17
– Gerard Genette: Figures 1, Essais, Edition du seuil, Paris-France, 1966, p 43-44
– جوزيف طانيوس لبّس: تفاح من ذهب في سلاسل من فضة, بيروت, مؤسسة نوفل, ط1, 1996, ص222.
– ناديا نويهض: كلمات من ذهب, بيروت, دار الحداثة, ط1, 1992, ص516.
– سيد نوفل: شعر الطبيعة في الأدب العربي, القاهرة, مصر, لا ط, 1945, ص262.
– ابن هانئ الأندلسي: الديوان, بيروت, دار الأرقم, ط1, 1998, ص 310.
– ابن هانئ الأندلسي, م.ن., ص64
– قيصر مصطفى: حول الأدب الأندلسي, بيروت, دار الأشرف, لا ط ولا ت ص 98.
– ابن هانئ الأندلسي: الديوان, ص 306-307.
– قيصر مصطفى: حول الأدب الأندلسي, ص 96
– ابن هانئ الأندلسي, الديوان, ص27
– قيصر مصطفى، حول الأدب الأندلسي، ص 97.
– ابن هانئ الأندلسي، الديوان، ص 215.
– ابن هانئ الأندلسي, الديوان, ص 189