لا بد من مقاربة جدية لمسائل الصراع والمقاومة من زاوية مختلفة لما هو شائع، من خلال الأخذ بعين الاعتبار مسألة الربط بين المقاومة ومفهوم حرب التحرير الشعبية (القومية)، وهنا – كبداية – لا بد من طرح جملة من الأسئلة تنطلق من حقائق الصراع التاريخي في بلادنا بالنظر لخصوصيته وتميزه عن تجارب الصراع في مناطق مختلفة حول العالم.
ما هو المشروع الذي نحن بصدد مقاومته؟ ما هي خصوصية هذا الصراع؟ ما هي مقومات المشروع المعادي؟ ما هي طبيعته؟ ما هي الأدوات والوسائل التي يعتمدها المشروع المعادي؟ ما هي استراتيجية التصدي له؟ ما هو دور المقاومة؟ ما هو اطارها؟ كيف نحول هذه المقاومة الى حرب تحرير قومية (شعبية)؟
أسئلة مهمة لا بد من طرحها، تلمساً للاجابة على متطلباتها في السياسة والأمن والاقتصاد والثقافة والاجتماع؟ ذلك ان ما نرمو اليه لم يعد ينحصر في اطار واحد؟ المسألة غدت معقدة ومتشابكة ومتقاطعة وشاملة، وهذا بالفعل ما يتطلب استراتيجية شاملة للمواجهة تشمل كل الأبعاد.
هناك تجارب مختلفة ومتعددة حول العالم في التاريخ الحديث تحاكي مفهوم حرب التحرير الشعبية في مواجهة الاحتلال والعدوان، من الاتحاد السوفياتي (روسيا) أبان الحرب العالمية الثانية (ظاهرة الأنصار)، وصولاً الى فيتنام وقتال الشعب الفيتنامي الطويل ضد الغزوة العسكرية الأميركية وصولاً الى الجزائر (ثورة المليون شهيد)، الى أنغولا في صراعها ضد الاستعمار البرتغالي، الى التجربة الكوبية التي مثلت نضال الشعب الكوبي ضد نزعة الهيمنة الأميركية على المنطقة (غزو خليج الخنازير وتصدي الجيش الشعبي الكوبي للهجوم والتداعيات اللاحقة)، الى مناطق أخرى حول العالم.
ما هو المشترك في هذه التجارب؟
احتلال عسكري يكرس هيمنة سياسية واقتصادية تتم مواجهته من قبل فئات من الشعب تتسلح وتخوض حرباً شعبية طويلة الأمد في سياق مواجهة تشترك فيها قطاعات المجتمع وتأخذ أبعاداً عسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية الى ما هنالك.
تتضافر في هذا النوع من الصراعات فئات واسعة من الشعب تلتف حول مطلب التحرير الوطني والقومي وتخوض نضالا مستديماً، حقق في معظم هذه التجارب أهدافه في التحرير، لينتقل في ما بعد الى مرحلة بناء الدولة أي التغيير السياسي-الاجتماعي – الاقتصادي وملاحقه الثقافية والتربوية…
ما هي خصوصية الصراع في بلادنا؟
شكلت مسألة الهوية والكينونة والاطار الوطني على الدوام منذ عقود اشكالية معقدة في بلادنا بالنظر الى البعد الجغرافي- المكاني، والبعد التاريخي، والموقع الجيو –سياسي الاقتصادي العسكري لبلادنا، كل هذه العوامل جعلت من أرضنا هدفاً مستمراً لغزوات استعمارية منذ القدم بهدف السيطرة ونهب الثروات والهيمنة الاقتصادية، ولكن بالرغم من اشكالية الموقع والبعد والاطار والجغرافيا، الا انها شكلت قاعدة مشتركة –الى حد ما- لم تميزها عن غيرها من المقاومات وظاهرات حرب التحرير حول العالم.
ما هو المستجد الذي أعطى الصراع القومي والوطني في بلادنا خاصية تميزها عن غيرها من الظاهرات العالمية؟
في التاريخ الحديث ظاهرتان في العالم جذبت الانتباه بالنظر الى مشتركاتها وطبيعتها الخاصة:
الأولى: جنوب أفريقيا حيث نشأ صراع بين جماعات استيطانية هدفت الى احتلال الأرض وطرد الانسان (بين البيض والسود)، هذا الصراع الذي استمر لسنوات طويلة أدت في النهاية الى دك مفهوم "الاستيطان" لصالح مفهوم (امكانية التفاعل بين المهاجرين البيض والسكان السود الأصليين)، هي تجربة لم تنته فصولاً بعد، بالرغم من أن مسارها التفاعلي قد شق طريقه الطبيعي السلمي في نهاية المطاف…
الثانية: فلسطين ومحيط فلسطين (الهلال السوري الخصيب، سوريا الطبيعية، بلاد الشام والعراق): تبدو المسألة هنا اشد تعقيداً، اذ أن بلادنا واجهت منذ بدايات القرن العششرين اضافة الى الخطر الاستعماري الذي أخذ شكل الاحتلال والسيطرة الاقتصادية والهيمنة السياسية – الثقافية بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الامبراطورية التركية –العثمانية، واجهت خطراً من نوع جديد أشد دهاءً وأكثر فتكاً وتهديدا للبنية الشعبية – الاجتماعية ذات الهوية الوطنية التي كانت تتبلور آنذاك في الصراع ضد المستعمر التركي أولاً، ثم الغربي (الانكليزي – الفرنسي …) ثانياً، قصدت الخطر الصهيوني الذي مثل حرب وجود شنها الصهاينة على فلسطين ومحيطها الطبيعي، حرب ذات طابع استئصالي وجودي احلالي استيطاني الغائي بكل ما لهذه الكلمة من معنى…
وما زلنا الى اليوم نحيا فصولهاوان تبدلت أشكالها وأساليبها وأدواتها وخططها الأصلية والبديلة عشرات المرات في أقسى وأعتى هجمة تعرض لها شعب عبر التاريخ…
بيد أن الخصوصية الذاتية لبنية مجتمعنا المستمرة منذ ذلك الوقت، هي الخصوصية المتمثلة في غياب الهوية القومية والوطنية على مستوى المجتمع ككل، بالنظر الى التشويش والتعمية على الهوية الوطنية والانتماء القومي التي ساهمت ظروف السيطرة الأجنبية (العثمانية، الغربية الأوروبية) في تغييبها وطمس ملامح الصورة فيها مما أدى الى تراجع مستوى المناعة في مواجهة هذه التحديات، نتيجة التجزئة السياسية (سايكس بيكو، سان –ريمون)، والتجزئة الاجتماعية (استشراء الظاهرات الطائفية والمذهبية والعشائرية الدون – قومية)، واقامة أنظمة سياسية قهرية –قمعية تابعة لسلطات الاحتلال، وان تمكنت القوى الحية في مجتمعنا بعد ذلك من فرض استقلالات ذاتية (وان تكن شكلية) الى أنها كانت خطوة الى الأمام…
بيد أن بروز الخطر الصهيوني شكل التحدي رقم واحد على مستوى المجتمع ككل، بعد نكبة فلسطين، وسقوطها في أيدي العصابات الصهيونية والمستوطنين اليهود القادمين من أصقاع الأرض…
بالطبع، ردات الفعل على هذا الخطر لم تكن على مستوى التحدي نفسه، لأنها لم ترق الى مستوى المقاومة ذات البعد الوطني والقومي الأصلي بالرغم من الشعور الوطني المتقد آنذاك في صفوف فئات واسعة من الشعب، الا أن البنية الضعيفة للمجتمع والغياب النسبي للهوية بأبعادها الثقافية – التاريخية الاجتماعية الحضارية شكلا نقطة ضعف في عملية المواجهة …
كيف لا والمقاومة بحد ذاتها هي حاصل اقتران الوعي بالارادة والفعل لجبه التحديات، ومقاومة الاحتلال بأشكاله المختلفة، والتصدي لمشاريع السيطرة الاستعمارية على أمتنا، خاصةً أن المقاومة مفهوم واسع يتجاوز البندقية والكفاح المسلح على أهمية الموقع الذي يحتله الكفاح المسلح في قلب حركة الصراع.
هذا المفهوم الواسع للمقاومة يتناول المسألة من زاوية البنية الاجتماعية والشعبية التي تحتضن المقاومة وتقدّم لها عناصر البقاء والاستمرار، فالمقاومة ليست – ولا يمكن – أن تكون فصيلاً معزولاً عن شعبها، بل جزء لا يتجزأ من الحاضنة الشعبية التي تؤمن لها سقف حمايتها الاستراتيجي.
لقد حققت المقاومة العسكرية والمسلحة انجازات هائلة منذ السبعينيات في جنوب لبنان وفي فلسطين، وحققت المقاومة العراقية منذ احتلال العراق الى اليوم انتصارات كبيرة جديرة بالاحترام لأنها تعبر عن مخزون حضاري وإنساني يحمل مضامين رفض الظلم والعدوان، والتعلق بقيم العدل والمساواة والحرية، وعبّرت تعبيراً صادقاً عن خط استقلالي يرفض كل أشكال الإلحاق وإلغاء الخصوصية والذاتية القومية والانسانية.
بهذا المعنى، لقد أنارت المقاومة الشعبية طريق التحرير المعبّدة بدماء الشهداء والأحرار من آخر قرية في العراق الى آخر دسكرة في لبنان وفلسطين.
سؤالان لا بد من طرحهما في هذا الصدد: "كيف نطوّر هذه المقاومات المسلحة التي انطلقت شراراتها في أماكن مختلفة من بلادنا (فلسطين، لبنان، العراق) وفي أوقات متعددة، وانطلاقاً من أطر متنوعة (قومي – وطني – اسلامي)، لكي ترسو على مقاومة قومية شاملة كل الأبعاد، وتضم في ثناياها كل أطياف شعبنا؟ والسؤال الثاني: "كيف نربط المقاومة بمفهوم حرب التحرير الشعبية (القومية بين هلالين)؟".
الجواب يكون في الاضاءة على القواسم المشتركة لكل هذه المقاومات، وفي كيفية تصليبها على قاعدة وحدة المصير القومي المرتكز على وحدة الحياة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟ وبالتالي توحيد المقاومات في إطار جامع يشكل الحصانة والضمانة لنربح الرهان الأخير على "المقاومة" بمفهومها الشامل؟
ولعل الربط بين المقاومة وحرب التحرير الشعبية هو ربط في اتجاه حمايتها ونصرتها وتزخيمها واعطائها بعداً شعبياً وطنياً يشكل سقف حمايتها المنشودة.
المقاومة هي حركة ثورة شعبية شهدنا أروع تجلياتها في الجنوب اللبناني بعد اجتياح العام 1982، وفي فلسطين من خلال الانتفاضات المتتالية الأولى والثانيةفي الثمانينات والتسعينات، وفي حرب غزوة العام 2008، وفي العراق بعد الاحتلال الأميركي له عام 2003، وها نحن اليوم نشهد في سوريا (الشام) منذ العام 2011 تطبيقاً حياً لمفهوم الردع الشعبي من خلال اشتراك فئات من الشعب جنباً الى جنب مع الجيش السوري والمقاومة في المعارك ضد القوى التكفيرية- الارهابية، وهذا ما أدى الى تنامي تيار من الوعي لمسائل توكيد الوحدة الشعبية والاجتماعية عن طريق إزالة الفوارق والعوائق بين أبناء الشعب الواحد، وعن طريق العمل النهضوي الهادف الى احداث التغيير في الوعي أولاً لمعنى المواطنة، ومعنى الانتماء الى الأمة باعتبارها الحاضنة الأساسية لكل أطياف المجتمع الواحد، ومفهوم الانتماء الى الوطن باعتباره البيئة الجغرافية التي تحتضن كل هذا المد الانساني والتاريخي والحضاري.
ولعل كل الانجازات والانتصارات التي تحققت على مدى الصراع التاريخحي منذ نشأة الكيان الصهيوني في العام 1948 الى يومنا هذا، هي انجازات تتصل بمفهوم حرب التحرير ولو في نسخته غير المنجزة، فلولا انتفاضات الشعب الفلسطيني لما قيض حتى لدعاة التطبيع والسلم أن يجلسوا حتى على طاولات التفاوض مع هذا العدو ( هذا طبعاً بالرغم من موقفنا المبدئي الجذري الرافض لأي شكل من أشكال من التفاوض معه، ورفض أي تسوية مجتزأة لا تسلم بحقنا القومي في كل أرضنا في فلسطين والجولان والجنوب اللبناني)، ولولا مقاومة الشعب اللبناني منذ العام 1982 لما تحررت أرض جنوب لبنان في العام 2000، ولما تمكنت المقاومة من الصمود في حرب 2006.
ولولا ارتباط الحرب ضد الارهاب اليوم في لبنان والشام والعراق برؤية (ولو بدائية أكرر) بمفهوم حرب التحرير لما تحقق انجاز واحد في الميدان من القصير الى القلمون الى الزبداني الآن الى حمص الى السويداء، والمستقبل هو لهذا المفهوم النضالي المأمول أن يكون في صورة أكثر تعبيراً عن شمولية المعركة لكل أبناء شعبنا…
ان مقاومة حزب الله، ومقاومة الفصائل الفلسطينية المختلفة في الداخل ، ومقاومة القوى القومية والوطنية، في أي بقعة من أرضنا المحتلة والمغتصبة مهما كانت دوافعها (اسلامية أو غير اسلامية) هي مقاومة ذات طابع قومي انساني وذات بعد عالمي في التناغم مع كل قوى التحرر والرفض للاحتلال والعدوان على مدى الكوكب بأسره، ولكن، يبقى عنوان الصراع عنواناً قومياً بامتياز (والقومي هنا هو بالمفهوم الواسع والمنفتح لكلمة "قومية"، فالصراع من أجل التحرير ليس صراعاً دينياً ولا طائفياً ولا طبقياً بل هو صراع يخص كل الناس التي تتحرك في الاطار الجغرافي الذي نسميه "الوطن"، ان الدوافع والحوافز على أهميتها لا يمكن لها أن تطمس حقيقة الصراع الجوهرية والأساسية أي "الصراع على الوجود" القومي والحضاري والانساني الذي يشمل كل الروافد الدينية وغير الدينية.
مؤدى هذا الكلام، أن حفظ المقاومة في كل مكان من بلادنا يكون عبر ربط مشروعها بمشروع حرب التحرير القومية وبمفهوم التغيير والعصرنة والتحديث لكل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأمة بأسرها.
باختصار، اذا كان المشروع الصهيوني يهدف الى اقامة نموذج عنصري – ديني (بالمعنى المنغلق)، وثيوقراطي على أرضنا القومية، فالمنطق يقود الى أن المشروع المقاوم والبديل يفترض السعي الى اقامة النموذج النقيض والبديل أي "النموذج القومي والانساني والحضاري" الذي من أبسط شروطه تعميق مفهوم "المواطنة" كبديل عن الانتماءات الجزئية على أشكالها، وحرب التحرير القومية هي المختبر لتبلور هذا المشروع المقاوم وارتكازه على البنية القومية الحاضنة لكل أبناء الشعب!
هذا الكلام ليس تنظيراً بسيطاً، بل رؤية وايمان وقناعة وارادة باتجاه التغيير الحقيقي لنحمي "المقاومة"، ولكي نصلبها أكثر، ولنرسي قواعدها على بنية شعبية متماسكة تشمل كل الأمة.