127
I ـ في تعريف الإرهاب
مشقة الكتابة عن الإرهاب مشوبة بعدم الوضوح. إنه يعصى على التعريف. العالم مختلف في تحديد مضمونه. القول في حدوده وفهمه متناقض. محاولات التعرف عليه ناقصة وغير نزيهة أو منحازة، علماً، أن المعاناة التي يتسبب بها الإرهاب مشتركة بين شعوب الأرض ودولها، بنسب متفاوتة.
تداخل السياسي في محاولات تعريف الإرهاب، يفضي إلى بقائه في مرتبة وجهة نظر. كأن هناك تصنيفات للإرهاب، فبعضه مضر وبعضه مفيد. لكل طرف إرهاب يناسبه. هذا الانحياز المسبق منع بلوغ تعريف موحد للإرهاب أو تصنيف، جامع مانع، له.
المحاولة الأولى، بدأت في مدينة جنيف في العام 1937، وقد تأخرت المنظومة الدولية عن بذل الجهد الموحد إلى العام 1972.
القواسم المشتركة بين محاولات التعريف، اقتصرت مذاك، على وصف الأعمال الموصومة بالإرهاب، ولم تبلغ مرتبة وضع مفهوم موحد له. من الأدلة على القصور، مواقع البحاثة المستقلون وخلفياتهم. الغرب، في الحقبة الكولونيالية، وفي مناخ الهيمنة والاستئثار، كان يرفض الإقرار بحق تقرير مصير الشعوب المحتلة أو المستعمرة، فألصقت تهمة الإرهاب بكل حركة نضالية وطنية، تستعمل العنف المتاح لمواجهة عنف واستبداد الدول المحتلّة.
جرت محاولات فردية وأكاديمية غير ملزمة، لتعريف آفة القرن العشرين التي عبرت عن تنامي وتوحش وتعميم آلة الإرهاب. البعض رأى إلى الإرهاب، على أنه كل جناية أو جنحة سياسية أو اجتماعية ينتج عنها، أو عن تنفيذها، أو التعبير عنها، ما يثير الفزع والهلع العام. أي أن الإرهاب يهدف في الأساس إلى زرع الرعب، مكوّناً خطراً عاماً، علماً، أن عموم الناس المدنيين ليسوا مذنبين ولا أصحاب ارتكاب. الإرهاب عنف يصيب الأبرياء، للعبور خلالهم، إلى تحقيق مطالب سياسية أو اقتصادية أو طبقية أو قومية، قرارها بيد سلطات مدججة بالقوة والعنف الرسمي، الذي تشرعنه الدولة.
البعض رأى إلى الإرهاب صفة الشمول، فوضعه في خانة «الدولي». اعتبر هذا العنف إرهاباً لأنه يعتدي على الأرواح والأموال والممتلكات العامة أو الخاصة، وإن كل عنف منظم والتهديد به، والذي يقوم به أفراد أو جماعات أو حكومات أو دول، لخلق حالة من الخوف والذعر، بقصد تحقيق أغراض سياسية أو اقتصادية، يقع في باب الإرهاب الدولي. البحاثة المنتمون إلى منظومة دول العالم الثالث، اعتبروا أعمال قوى الاحتلال والتوسع والهيمنة الاستعمارية وأنظمة التمييز العنصري، من صنف الإرهاب. وأمثال هؤلاء تعسفوا أحياناً، عندما أعفوا حركات التحرر الوطني لأجل تقرير المصير والحصول على الاستقلال من العنف المتهم بالإرهاب. هذا العفو قد يكون مبرراً سياسياً، علماً، أن حركات التحرر الوطني قد تلجأ إلى أعمال مرعبة وتطال أبرياء وتقع في خانة الإرهاب.
أضاف بعض البحاثة إلى عائلة الإرهاب، العنف الذي ينتج عن بواعث عقائدية أو أيديولوجية أو عنصرية أو عرقية أو دينية أو سياسية. وغالباً ما كان العنف الأقصى والأعمى، رفيق نضال في مسيرة الحركات ذات الأبعاد الوطنية الصافية.
في العام 1937، جرت محاولة لتعريف الإرهاب في مدينة جنيف السويسرية، وهي من أولى المحاولات الرسمية والدولية، فوقعت على التعريف التالي: «الإرهاب هو أفعال جرمية موجهة ضد دولة من الدول، يراد منها، خلق حالة من الرهبة في أذهان أشخاص معينين، أو مجموعة أشخاص أو الجمهور العام… وإن كل فعل عمدي يتمثل بالتخريب أو الإضرار بالأموال العامة التي تخص الدولة أو دولة أخرى، وتعريض الحياة الإنسانية للخطر، عبر إنشاء وضع يتسم بالخطورة، وعبر حيازة الأسلحة لتنفيذ الجرائم»، كل هذه الأعمال تنتمي إلى عائلة الإرهاب.
في مثل هذا التعريف، غياب تام لإرهاب الدولة. وليس صدفة أن يكون منطق الدولة هو الأقوى، فهي التي تحتكر العنف وتقوم باستخدامه عند الحاجة، باسم المواطنين كافة. ولكن مثل هذا التعفف سقط مع اندلاع أبشع أنواع العنف داخل المعسكر السوفياتي عبر عمليات التطهير الستالينية، وأبشع أنواع التصفية والإبادة مع جرائم النازية في ألمانيا وبولونيا وسواها من دول أوروبا الوسطى.
في ما بين الأعوام 1980 و 1984، توصلت لجنة الإرهاب الدولي الثانية للأمم المتحدة إلى تعريف أكثر وضوحاً، علماً أن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد تطرقت إلى هذه المأساة في العام 1972، فانقسمت آراء الدول في كل ما له علاقة بالنضال الوطني للحركات المسلحة، فاعتبرها المعسكر الغربي، منظمات إرهابية، فيما دافعت عنها دول المعسكر السوفياتي وبعض دول العالم الثالث، التي رأت في الكفاح الوطني، مهمة وطنية وسياسية عادلة، لأنها تهدف إلى التحرر والاستقلال والانعتاق من نير العبودية.
أسفرت جلسات الجمعية العامة إلى تبني إنشاء لجنة لبحث هذه المعضلة، فاقترحت التعريف التالي: «يعد إرهاباً دولياً كل عمل من أعمال العنف الخطيرة أو التهديد به، ويصدر عن أفراد أو عن جماعة، ويوجه ضد أشخاص أو منظمات أو مواقع سكنية أو حكومية أو ديبلوماسية أو إلى وسائل النقل العام، دون تمييز للون أو جنس أو جنسية، بقصد تهديد هؤلاء أو التسبب في إصابتهم أو موتهم أو إلحاق الضرر أو الأذى بهذه الأمكنة أو الممتلكات أو تدمير وسائل النقل والمواصلات بهدف إفساد علاقات الصداقة بين الدول أو بين مواطني الدول المختلفة».
من الملاحظ، لدى قياس هذا التعميم بالارتكابات التي اندلعت في ما بعد، قصوره على حيز ضيق جداً، خاصة وأن ظاهرة العنف الإرهابي قد باتت اجتياحية وشبه يومية، وتحديداً، في مرحلة ما بعد زوال الاستعمار، وفي حقبة الحروب التي كانت محسوبة على الثنائي الأميركي- الروسي.
محاولة دولية أخرى، أضافت إلى ما نصت عليه المواثيق الأولى، اعتبرت أن كل عمل موجه ضد مدنيين أبرياء، أو ممن يتمتعون بحماية دولة، بغرض إثارة الفوضى والاضطراب في بنية المجتمع، سواء ارتكب هذه الأفعال في زمن السلم أو في زمن الحرب، وعليه فإن قمع هذا الإرهاب يكون دولياً.
القانون الدولي فضّل تجزئة مفهوم الإرهاب، عبر حكمه على الأفعال المدانة، فكل عمل مرتكب ضد سلامة الطيران، أكان من على متنها أم من خارجها، هو إرهاب. كل عمل يستهدف موظفين ديبلوماسيين هو عمل إرهابي. كل محاولة أو أخذ رهائن بالفعل، هو إرهاب، ولا بد من حماية وسلامة النقل الجوي والبحري.
النظام الأميركي عرف الإرهاب الدولي بالأعمال التي تحرض على استخدام العنف أو القيام بأعمال خطيرة على حياة الإنسان يكون القصد منها إخافة مجموعة من المدنيين أو إجبارها على القيام بأمرٍ ما، رغم إرادتها.
واضح أن جرائم الإرهاب تثير الالتباس والغموض، ولكن أميركا تستفيد من هذا الغموض، لأن عدم الوضوح يسمح لها، بشن حروب تحت شعار محاربة أو مكافحة الإرهاب. ندر أن قامت أميركا بحرب لم تدرج في أسبابها مسألة مكافحة الإرهاب، علماً أن معظم حروبها، وأفدحها الحرب على العراق، تنتهك القوانين الدولية والقرارات الأممية، وترتكب المجازر، تدميراً وسحقاً وتهجيراً وقتلاً، من دون أن تخضع لمساءلة أو محاكمة، تكون مندرجاتها من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. أميركا تحمي نفسها بعقد اتفاقات مع دول معينة لحماية جنودها من الملاحقات، والتملص من المحكمة الجنائية الدولية ومن مسؤوليتها أمام المجتمع الدولي.
باختصار، لا تعريف محدداً للإرهاب، ولكن هناك مجموعة من الأعمال والارتكابات التي نص عليها القانون الدولي ونسبها إلى الإرهاب. ويمكن إيجاز التعريف السائد بما يلي. عنف مبرر ومنظم يهدف إلى إرعاب وإخافة المدنيين بغرض تحقيق أغراض سياسية. أما أنواع الإرهاب، فلا تحصى، من قتل الأبرياء إلى خطف الطائرات إلى جرائم الإبادة والتطهير العرقي، وجرائم تلف المحاصيل الزراعية وتدمير المؤسسات، ومخالفة القوانين والأعراف الدولية المعتمدة رسمياً من المحكمة الجنائية الدولية وقرارات الأمم المتحدة.
II ـ في الإرهاب والإسلام
النشاط العنفي الذي اجتاح البلاد العربية بعد «ربيع تونس»، عرف فائضاً في فنون القتل، قصفاً وتدميراً وتهجيراً وذبحاً وتشنيعاً وترويعاً، بحيث بات السؤال الأول المبرر، هو، هل من علاقة بين الإرهاب والإسلام، نصاً وحديثاً وسيرة وتراثاً وتاريخاً؟
بعد تونس، انقلبت مصر مرتين، مرة إسلامياً ومرة عسكرياً، مع عنف مصاحب لعملية الانتقال من الحالة الإسلامية الخاطفة، إلى الحالة العسكرية الأمنية الخانقة… بعد تونس، دخلت ليبيا دوامة عنف بأشكال مرعبة. أطيح بالجيش فصار فتاتاً، تدخلت قوات «الناتو» فألغت مقومات الدولة على علاتها، وتدخل المال والتسليح الإسلامي، فلم تعد ليبيا إلا «جماهيرية إرهابية». ولكل جمهور مرجعية تمده بالعقيدة والمال والسلاح. ليبيا، بؤرة عنف إرهابي، فيها يستوطن عنف يتجدد، وحركات إسلامية أصولية، بعضها على يمين «داعش» وبعضها «داعشي» أصيل. وبين الواقع والمرتجى، معارك من أجل الحسم. ولكن المسافة بين الواقع والخلاص، يقتضي القضاء على الحركات الإسلامية المتطرفة، بهدف إقامة حكم قوي برعاية العسكر، بعد إعادة ترميم وتنظيم الجيش. لماذا كل هذا؟ ومن أين كل هذا العنف؟
وبعد تونس ومصر وليبيا، تحركت المعارضة في سوريا، فشهدت أشنع المواجهات وأكثر الخسارات. لم يكن أحد قادراً على الحسم. نظام يتشبث بالسلطة، مؤيد دولياً وإقليمياً، وبين قوى معارضة في معظمها إسلامي أصولي، مدعّم من دول إسلامية عربية وإقليمية ودولية. وقد شهدت سوريا فصولاً من العنف غير المسبوق، بلغ حد إقامة دولة إسلامية بخلافة مستعادة، على رأسها «داعش»، التي امتدت بسرعة مذهلة، على مساحة شاسعة من الأراضي السورية ومدنها ومواقع نفطها ومائها، وفي الأراضي العراقية التي سقطت فيها مدينة الموصل، بلا معارك تقريباً.
الصدمة الإنسانية التي نتجت عن الحروب في سوريا، ومن ثم في العراق وفي اليمن، وضعت الإسلام في قفص الاتهام، حيث أن ما بعد وإبان المعارك المخزية إنسانياً، أظهرت عودة إلى الإسلام من خلال انتفاء واصطفاء لكل ما هو عنفي وبدائي وبربري في التراث الإسلامي على مر عصوره، من البدء إلى أبي بكر البغدادي. كانت محاولة لقلب الدولة بهدف إقامة مجتمع الخلافة. لم تكن دولة «داعش» هدفاً، كان الهدف إقامة «المجتمع الداعشي» وفق تصور انتقائي لإسلام عنفي مسبوق في التراث العربي الإسلامي. أعيد إحياء الخلافة والإمامة والشريعة والجهاد والفتوى والحجاب والبرقع وجهاد النكاح وإلزام الناس بلباس موحد، وعادات وتقاليد موحدة، خاضعة لمحاكم سريعة الأحكام بالإعدام الميداني، كوسيلة من وسائل التقرب من الله، تنفيذاً لأوامره التي سلكها السلف الصالح.
طبعاً، لا يقبل معظم المسلمين إسلام «داعش»، و«النصرة». فالإسلام عندهم يتصف بالتسامح والاعتدال وخير الأمور الوسط. ولا يقوم على تكفير من ليس من رأي السلطة، ومن ليس على دين الإسلام، كالنصارى واليهود. المسلم العادي كان الضحية الأولى. إذ، ليس في الإسلام الأصولي، إلا نسخة واحدة يتماهى معها المسلم وإلا عُدّ من الخوارج والكفار، الذين يجوز فيهم حكم السيف، لا حكم القول.
فمن أين جاء هذا الإسلام العنفي، الذي أصاب المسلمين أولاً، وفتك بسواهم ثانياً، بحيث بات الظن أن الدين الحقيقي هو الإسلام الصارم، وليس الإسلام الحيوي، الذي ابتعد عن النص والحديث والتراث الإسلامي في عصوره الحديدية؟
ومع ذلك، لا يمكن تبرئة هذا الإرهاب، من نمط معين من الإسلام الذي عرفته بعض الحقب التاريخية.
وُلد هذا الإسلام، من فراغ عقائدي وسطوة سلطات بلا قضايا. إن الإسلام السياسي هو الأصل الذي أنبت من أحشائه «إسلامات» مختلفة في السياسة، التقت على ضرورة استبدال «المجتمع الجاهلي» بمجتمع المسلمين. والإرهاب هو الثمرة الناضجة لصعود الإسلام السياسي، بعد خفوت الفكر القومي والعقائدي واستسلام المجتمعات العربية أو خضوعها، لأنظمة استبدادية احتكرت السلطة وأقامت فيها عقوداً، فيما الأمة تتراجع في مواجهة الهيمنة الاستعمارية، وتتخلى عن موجبات التصدي لمهمات تحرير فلسطين، وتعوض عن مساعيها الوحدوية السالفة، لحفلات عدائية بين أبناء العقيدة الواحدة، والأهداف الواحدة. إضافة إلى ذلك، إقدام هذه الأنظمة على كم الأفواه، وإطلاق عجلة المحسوبية والزبائنية الممسوكة أمنياً، وعلى نفي واعتقال وترويع المثقفين والمعارضين وأصحاب الرأي المخالف.
فرغت الساحة في المجتمع من أي نبضٍ قومي وأي إصلاحٍ اجتماعي وأي ممانعةٍ للغرب، وتلاقت على مداواة العجز العربي، بعجز عن إيجاد بديل، يطلق حركة المجتمع لبلوغ مرحلة التغيير الديمقراطي.
لقد بدا المدى العربي خالياً. هو الربع الخالي من السياسة، والمكتظ بالأمن، كحارس للسلطة، في مشروعها "التنموي" الإقصائي، والعدواني. فمن يملأ هذا الخلاء؟ أي عقيدة جاهزة لتكون البديل؟ لم يكن غير الإسلام مجهزاً بهذه الطاقة، بعدما أنجزت السلطات المستحكمة، إبعاد اليساري والقومي والليبرالي عن أي نشاط. ولأن السياسة تكره الفراغ، حاول هذا الإسلام ملء الفراغ. ولكنه للأسف، لم يكن إسلام التقدم إلى الأمام، في طروحاته وفكره ومشروعه. كان إسلام استرجاع السلطة لقيادة الأمة إلى الوراء، حيث التاريخ قد بات في معظمه مستنفذاً في زمنه. الديناصورات تقيم أيضاً في التاريخ.
فمن أين كانت البداية؟
III ـ الانفجار الإسلامي وتبعاته
كان المسلمون يعيشون، قبل تغلغل النفوذ الغربي واستفحال شهوة الاستعمار، في ظل الخلافة الإسلامية، داخل أرض الإسلام، وفق تقاليدهم وأعرافهم الإسلامية. أسقط الاستعمار الغربي هذا الواقع. دار الإسلام صارت مشتركة ويتدخل في إدارتها ومصيرها نفوذ بريطاني تغلغل في جسد الخلافة العثمانية. صارت أرض الإسلام رخوة، وطبيعة الخلافة شكلية، ما جعل الحاكم المسلم تحت وطأة القوة الأجنبية، حتى باتت السيطرة الفعلية على الأرض للنفوذ الأجنبي، مع بقاء الأرض اسمياً فقط، دار الإسلام.
ظلت الجماعة الإسلامية قادرة على تأدية عباداتها بحرية وأمان، واستمرت السيادة الإسمية عامة وإن كانت السيادة الفعلية قد خلخلت منطق السيادة المطلقة، فجعلتها سيادة نسبية.
في القرن التاسع عشر، كان النفوذ البريطاني في السلطنة كبيراً جداً، وفي مصر كان طاغياً، لذلك تمكنت بريطانيا من السيطرة على العقود والمعاملات والاتفاقيات مع السلطان، ثم عبر التدخل العسكري. جرت محاولات داخلية لمقاومة النفوذ البريطاني، لكنها فشلت، خاصة وأن المسلمين في مصر، كانوا يواجهون جيشاً بريطانياً من أصول إسلامية وهندية.
نتيجة لهذا المستجد على صعيد العلاقة غير المتكافئة بين الإسلام والغرب، نشأ فقه انسحب من المعركة، فتقوقع داخل شرنقة التقليد، حفاظاً على نقاوة أسلافه. وكان منطقه بسيطاً جداً: إننا لا نواجه الأجنبي، طالما لا يتعرض إلى المساجد والمدارس. حدث ذلك في الهند أولاً ثم في باقي المناطق الإسلامية. ونشأ في هذه الحقبة فقه فضل التلاؤم مع الوضع الجديد، حيث تم تحريم الجهاد «لأنه يؤدي إلى الإبادة وزوال الإسلام» حسب ما جاء في دراسة لرضوان السيد بعنوان «الإسلام في زمن الانشقاقات: جذور العنف الديني».
بدأت المنافسة بين التيار الديني والتيار الوطني في أواخر القرن التاسع عشر في مصر. كان العرب آنذاك قد تماشوا مع روح العصر. تجاوزوا التقليد الديني والسياسي. فحتى دولة الخلافة العثمانية عندما سقطت في الحرب الكونية، تحوّلت إلى ملكية دستورية، من دون أن تتنكر للتقاليد الدينية، كما حصل في ما بعد مع تركيا الكمالية. ولعب الأزهر دوراً ريادياً آنذاك، بتأثير من محمد عبده وكتاباته الإصلاحية المنفتحة التي تركت أثراً كبيراً على شيوخ الأزهر مثل مصطفى المراغي وعلي عبد الرازق.
في المقابل، نشأت حركات دينية أصولية من بينها «جماعة الإخوان المسلمين» التي تحوّلت إلى أكبر حركة إسلامية، ومنها ولدت وتربت جمعيات بلغت حد رفع مستوى العنف إلى مرتبة الإرهاب. وطبيعي أن تصطدم هذه الحركات الإسلامية، بالحركات الوطنية آنذاك، وبالسلطة السياسية القائمة على نقصان السيادة وزيادة في التبعية. فالاستعمار حضر، ليس ليكون محايداً أو مراقباً، بل ليكون مشاركاً في القرارات المصيرية والتفصيلية كذلك.
الوهابية الصاعدة في شبه الجزيرة العربية، أرخت بثقلها على الحركات الإسلامية في مصر، وقويت في العشرينات بعد ازدياد الصلات بالملك عبد العزيز بن سعود وبالسلفية الوهابية الصاعدة. وانقسم المجتمع المصري بين إصلاحيين وسلفيين. بريطانيا، مرجعية الإصلاحيين، والسلف الصالح لدى السلفيين. وكان الإصلاحيون يقتبسون ويقبلون من مرجعية الغرب ما يناسب الحداثة، فيما ظل السلفيون أوفياء للأصول وللمؤسس الأول، فعادوا إلى الأصل أي إلى الرسول والحقبة الراشدية.
لم تتطابق السلفية في مصر مع الأصولية الوهابية، التي كانت قد فازت بإقامة دولة الإسلام في أواسط العشرينات، والتي منعت إقامة فرع للإخوان المسلمين فيها. (رضوان السيد، مجلة الدراسات الفلسطينية، ص 38).
من المهم التعرف على برنامج "الإخوان" في البدايات وتحديداً بعد الأربعينات، الذي أكد على التقليد الديني وأخلاقياته الصارمة، وعلى العمل، وعلى بناء الكوادر من تلامذة وأتباع وحلفاء، «فشددوا على العبادات واللباس واللحية وملابس النساء والحجاب المختلف عن الحجاب التقليدي وتحولات عادات الزواج والمناسبات الاجتماعية». حدث ذلك في وقت كانت «قد نجحت فيه الدولة الدستورية في مصر في تقليد النموذج السياسي والثقافي الغربي واتساع الطبقة الوسطى المتأوربة، والاندفاع الوطني المتشدد بين المصريين مسلمين وأقباط، بل ويهوداً أيضاً. (مرجع سابق، ص 39). وقد ازدادت السلفية عتواً بتأثير من المملكة العربية السعودية، بهدف محاربة التغريب.
وفيما كانت مصر، وغيرها من الأقطار العربية، تشتد التصاقاً بالغرب عبر تقليده وتقليد مؤسساته الدستورية والدولية والثقافية والأدبية، صعدت في الأربعينات لهجة أولوية الشريعة الإسلامية مع التشديد على أن الشريعة ليست نظاماً قانونياً فقط، بل هي أيضاً نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي. واختلفوا في المسألة الاقتصادية، هل الاقتصاد الإسلامي اشتراكي أم رأسمالي أم أن هناك طريقاً آخر للنظام الإسلامي في الاقتصاد. وكان الهدف من ذلك إبراز دور الشريعة، كونه الأصلح للمجتمعات الإسلامية، خاصة وأن الشريعة ليست مختصة بالمسلمين فقط، فهي ملائمة لأحوال المجتمعات، كل المجتمعات في زمان ومكان.
إن أبرز التحولات على مفهوم الشريعة تمثل في اعتبار النظام السياسي جزءاً منها. من هنا يبرز النواح على ما أقدم عليه أتاتورك في إلغاء الخلافة الإسلامية. يومذاك، شعر المسلمون السلفيون بأنهم باتوا كالأيتام. فلا بد من استعادة الخلافة الإسلامية وإقامة الحكم الإسلامي. مع سيد قطب، بات ذلك مطلباً أساسياً، مدعوماً بقوة التنظيم المسلحة. فالنظام السياسي الإسلامي هو الأداة المثلى لتطبيق الشريعة الإسلامية.
اصطدم التنظيم بالسلطة في مصر وبرهن، بعد إعدام قائده سيد قطب، إنه صلب جداً ومتجذر كثيراً، ووقوفه في وجه القوة التي تمتلكها الدولة، لم يكن بسبب البناء المرصوص والحكم للتنظيم فقط، بل يكمن في قوة الفكرة. والدليل، أن هناك أحزاباً راديكالية تقدمية اشتراكية يسارية، تمكن النظام زمن عبد الناصر، أن يخترقها ويفككها باستثناء تنظيم جماعة "الإخوان المسلمين". كانت لديهم الحجة الإسلامية المقنعة، لذلك انتقلت الدعوة من التبشير إلى شرعنة العنف الديني «باعتباره صراعاً بين الله والفرعون، بين الحاكمية والجاهلية».
الفراغ السياسي في مرحلة تسلط السلطة، قضى على الأحزاب العقدية في كل من مصر وليبيا والجزائر وسوريا والعراق والسودان إضافة إلى كثير من دول الخليج. لكن السلطة، التي قمعت جماعات «الإخوان» في كل من مصر وليبيا وسوريا والعراق والجزائر والسودان، لم تقوَ على إلغاء ومحو «الإخوان» ومن أنجبتهم من بعد.
أظهرت الأحداث السياسية في مصر، أن القوى السياسية والعقائدية والحداثية لم يعد لها وجود. حتى الناصرية انتهت بموت عبد الناصر. أنور السادات أفسح لهم المجال، ففاز «الإخوان» بنسبة مفاجئة وعادوا إلى الواجهة. ومع ذلك فلم يتورعوا عن اغتيال أنور السادات الذي كان قد فتح لهم حظ الحضور بهدف مواجهة خصومه. وعندما فتح حسني مبارك الباب أمام تمثيل ديمقراطي بناء على أوامر أو رغبات أميركية وغربية عموماً، تمثل «الإخوان» بأكثر من تسعين نائباً. وبعد «ربيع مصر»، خرج «الإخوان» من القمقم، وفازوا بأكثرية أعضاء مجلس الشعب وبانتخاب رئيس للجمهورية منهم، أسقطه انقلاب عسكري. انتهت الانتفاضة في مصر التي تمثلت في تظاهرات مليونية، ولم يبقَ غير «الإخوان»، ومن تفرع عنهم ومنهم، ووقعت مصر في قبضة الأمن العسكري من جهة، وفي قبضة العنف الإسلامي الإرهابي من جهة ثانية.
السيناريو نفسه تقريباً تمثل في ليبيا. زال النظام، وخرج «الإخوان» من السجون، وقد رفدتهم القوى السلفية الجديدة بعنف أصيل وأصولي. الصراع في ليبيا، يقود الكثير من أطرافه، إسلاميون. من ليسوا إسلاميين، يقفون في صف الدول الغربية، "التي يعوّل عليها الآن وفي المستقبل"… في سوريا، اصطدم النظام بـ«الإخوان». حاولوا اغتيال حافظ الأسد. نشبت معارك عسكرية. حسم العسكر بالقوة المعركة، وأخمد تحرك «الإخوان». لكنهم، وبعد اندلاع «الربيع العربي»، برز "الإخوان" كفصيل أول، تشعبت منه وضده حركات أصولية بربرية وهمجية، كثيرة الأعداد، وشديدة الجاذبية. ولا يمكن حصر المنظمات الإرهابية والتكفيرية التي جعلت من سوريا، ضحية مثالية غير مسبوقة. وواضح، أن القوى العلمانية والاشتراكية واليسارية، كانت قد أجهضت من قبل، ولم تستطع أن تثبت وجودها، لا داخل النظام ولا خارجه: «الإخوان، في كل مكان»، هم ومن كان من نسلهم.
كذلك حصل في العراق، هكذا حدث في اليمن، فشل الدولة الوطنية والأحزاب القومية في بناء مجتمع متماسك متضامن متعاون متفاعل، في تحصين مجتمع يمارس الحرية ويفكر بصوت مرتفع، ويتحرك ضمن أطر القانون، وليس وفق شروط وأوامر وقمع السلطة… كل ذلك كان خلف تعاظم حركات «الإخوان»، إضافة إلى وقوف الغرب باستمرار إلى جانب هذه الأنظمة، بدرجات متفاوتة.
ابن لادن ـ هو من سلالة الوهابية، الظواهري من أصول إخوانية، الزرقاوي من أصل بن لادني، البغدادي من أصل إخواني، لأنه كان على اتفاق مع الظواهري في مرحلة، ثم أقام نفسه مرجعية بعد فوزه في إقامة دولة الخلافة إلى سنوات.
IV ـ قرن من الفشل
قرن كامل من الفشل، سقطت الأمبراطورية العثمانية، ولم تتحرر البلاد العربية من الاستعمار. كانت البلاد العربية في كنف دولة إسلامية. يشعر المسلم فيها أنه في أرضه ووطنه، والحكم، وإن كان عثمانياً، فإنه إسلامي. ويشهد التاريخ أن الخلافة لم تغب إلا نادراً، كرمز للسلطة الإسلامية، كائناً من كان الحاكم، أموياً أم عباسياً أم فاطمياً أم مغولياً. خيمة الخلافة كانت تؤمن الحد الأدنى من الرضى الديني… بعد سقوطها، بدا المسلمون، عرباً وغير عرب، في العراء.
لم يكتف الغرب باحتلال التركة العثمانية، بل عمل على هندسة المنطقة بما يتوافق مع مصالحه ومصالح القوى الرأسمالية والكولونيالية الحاكمة والمتحكمة في الأنظمة الغربية. نشر خريطة للمناطق ورسم فوقها أماكن هيمنته ومصالحه وسياسته. اقتسم الغرب الغنيمة. أمعن في تشتيت الشعوب وتوزيعها جوائز. الخريطة وقعت تحت قلمه. رسم فوقها كيانات وحدوداً، وفق ما تبشر له من قوى مطواعة لسياساته. قسم سوريا إلى كيانات، ووزعها إلى دويلات موالية. ومن عصى، ألزمته القوة العسكرية بالخضوع أو إخلاء الساحة. في ذلك الوقت كانت النخب الحديثة قريبة من فلسفة أوروبا وبعيدة عن سياستها في المنطقة. لم تكن النخب قوى اجتماعية، بل كانت منارات مضيئة في عتمة الاحتلال والاستعمار.
وقف الإسلام صداً للغرب، بقوى مهزومة ميدانياً، وبقوة مخزونة في غاية الأهمية. شكل الإسلام السياسي الرد الرفضي للاستعمار، فيما حاولت الدولة الوطنية، أن تنمو في ظل الهيمنة الغربية. ولم يكن مستغرباً ومذاك أن تعطى الكيانات السياسية المستحدثة، لعائلات أو طوائف.. الأردن للهاشميين، الحجاز ونجد لآل سعود، لبنان للموارنة (مع ملحقات سنية وشيعية) سوريا، للدروز والعلويين والسنة. (وقد أسقط الشعب السوري هذه التركة بالقوة والصمود) وأعطيت دولة العراق جائزة ترضية لفيصل الهاشمي، ثم كرت السبحة: الكويت لآل الصباح الإمارات لآل نهيان، ليبيا للسنوسية إلخ.
وتولى إدارة هذه الكيانات البائسة طبقة متغربة وفاشلة وانتهازية. استثناء مصر من التجزئة لم يوفر لها استقلالاً سياسياً. ظل مستشار الملك الأجنبي أقوى من الملك ورئيس الحكومة ومن معه.
مع صعود التيار القومي، وتحديداً بعد احتلال جزء من فلسطين، ووقوع الفصل الأول من النكبة، تأهلت الأحزاب القومية أن تكون البديل المضاد لمسيرة الاستعمار ونفوذه في المنطقة، وخط الهجوم الأول لاستعادة ما سُلب من فلسطين إضافة إلى اصطدامه بالحركات الإسلامية الخارجة من رحم "الإخوان". جمال عبد الناصر في مصر، الأحزاب القومية في سوريا، القوى اليسارية والقومية في العراق، الثورة الجزائرية، سقوط السنوسية في ليبيا، صعود اليسار القومي في السودان، الانتصار المؤقت في اليمن للناصرية ثم للماركسية في عدن.
كل هذا، شكل مشهداً يدعو إلى التفاؤل، خاصة وأن هذا المنعطف كان قد جارى تطلعات الشعوب في الوحدة والحرية والاستقلال واستعادة فلسطين.
سرعان ما تبين أن القطرية انتصرت على الوحدوية، وأن السلطة انتصرت على العقيدة، فاختلف وتقاتل أهل العقيدة الواحدة، وأقيمت الحواجز الصارمة بين الكيانات، وصارت الأفعال خافتة فيما الأصوات السياسية صارخة. ظل الخلاف مستحكماً بين أبناء العقيدة الوحدوية حتى نكسة حزيران، التي كانت محصلاً طبيعياً، لحال «الفتنة السياسية» المستحكمة بين الأنظمة القومية. في ذلك المنعطف الخطير، استعادت الرجعية العربية حضورها المتقدم في الساحة العربية، وباتت الأنظمة التقدمية، مضطرة أن تسير خلف الأنظمة الرجعية التي وظفت الإسلام واستولت عليه وطوعته ليكون سياجها الحامي لها من أي فكر أو حداثة أو واجب.
كان الغرب مسؤولاً عما آلت إليه أوضاع العالم العربي. لقد زرع كيانات انشقاقية واستتبعها. وكانت الأحزاب النهضوية أشد سوءاً، لأنها غرقت في كيانيتها وقطريتها، ثم تراجعت لتصبح حزبية ضيقة، ثم إلى وراثة عائلية، وعندها تم إفراغ المجتمع من قضاياه، وصار يشبه في كثير من سلوكاته القرود الثلاثة.
انتفت الشرعية، لم تعد الأنظمة الحاكمة تحظى بتأييد شعبي. لا ديموقراطية ولا حريات ولا حياة. شرعية ومشروع الدولة الإسلامية كان جاهزاً ليكون البديل عن أنظمة وكيانات حدثت ولم يعد عندها أي لغة قابلة لبلوغ الإقناع. ولكن الإسلام السياسي، لم يعد كما كان في الأصل، بات المطلوب الحسم داخل الجسم الإسلامي. الاختلاف كان حول الوسيلة، مع بقاء الهدف ذاته: إقامة الدولة الإسلامية، بشرعيتها المعروفة والمبرمة. تم الزواج بين العقيدة السياسية والجهاد. يحفل القرآن، في مرحلته المدينية، بالآيات التي تحث على الجهاد والقتال. كان سهلاً أن ينشق فريق عن «الإخوان» ويقيم تنظيمه عبر عودة انتقائية إلى السلف العنفي. وهذا ما يفسر العنف بين الفرق الإسلامية ذات المنبع الإخواني الواحد، وشقيقه الوهابي المتأصل آنذاك في السعودية.
كان السؤال المطروح على الإسلام العنفي، من أين نبدأ؟ «هل ندشن كفاحنا بمهاجمة فسطاط الكفر، أم نبدأ بمهاجمة فسطاط الطغيان والشرك والجاهلية، أي حكومات البلاد الإسلامية؟
قبل هذا المنعطف الداخلي في جسم الحركة الإسلامية الإخوانية والوهابية حصل أن احتل الاتحاد السوفياتي أفغانستان، وأقام حكماً صورياً، بلا قواعد شعبية، موالياً لموسكو. وفرت هذه الغزوة السوفياتية الذريعة للولايات المتحدة الأميركية لاستنزاف موسكو في حروب ومقاومات شعبية أنهكت الجيش السوفياتي، فانسحب خائباً إلى داخل حدود امبراطوريته التي انهارت بعد أعوام وساهم في تسريع الانهيار، الحرب في أفغانستان.
من كان هؤلاء الذين أنهكوا السوفيات؟ لقد طرحت واشنطن الصوت على المسلمين، للدفاع عن دولة إسلامية. هبت السعودية أولاً، تطوعت باكستان ثانياً، وتدافعت قوى إسلامية، من صلب «الإخوان» عن معظم البلاد الإسلامية، أممية إسلامية في مواجهة السوفيات من معظم البلدان العربية، ذات الأغلبية الإسلامية.
أممية إسلامية في مواجهة السوفيات، بدعم دول إسلامية ووفق تسليح من الولايات المتحدة الأميركية. أميركا هذه، هي أول من دشن حروب الإسلاميين، ثم تخلت عنهم. وكان أن هزم السوفيات، وتشتت «الإسلاميون الجهاديون» كالأيتام في بلادهم. تشبعوا من الروح القتالية والعقيدة السلفية ـ الوهابية، وانتشروا يبحثون عن قتال جديد.
في ذلك الزمن، عرف هؤلاء «بالأفغان العرب». ظلوا على اتصال بزعيمهم بن لادن، الذي صدمه التخلي عنه بعد الانتهاء من الحرب الأفغانية، كما صدمه احتلال العراق وعسكرة الجيوش الأميركية في أراضي المملكة السعودية.
كان لا بد من تجميع القوى مرة أخرى وتقوية التنظيم ورسم الخطط له لمباشرة جهاده. ويومها، وقع خلاف في «القاعدة» بين أنصار أسامة بن لادن وأنصار أيمن الظواهري، ذي الأصول الإخوانية. اختلفا حول برنامج العمل العسكري: «هل يكون الهدف، فسطاط الكفر، أينما كان، أم فسطاط الطغيان والشرك والجاهلية، أي الحكومات الإسلامية». كان الظواهري من أنصار الجهاد في الداخل غير أن بن لادن كان مصراً على فسطاط الكفر، فكانت «غزوة نيويورك» المريعة.
يستنتج الدكتور رضوان السيد ما يلي: «…إن مشروع الدولة (الإخواني في الأصل) لم يفجر المجتمعات والدول فقط، بل الدين أيضاً، لأن آلاف الشباب العرب وغير العرب، سارعوا إلى الانضمام إلى داعش وصاروا يملكون هدفاً محدداً هو الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة، التي صارت في الإسلام السني الجديد، ركناً من أركان الدين، ولا يعتبر المرء مسلماً إلا بالقول به أو النضال من أجله. إنه تغيير في أصول الدين، وهو أكبر من الانشقاق».
ينقل السيد حواراً جرى بينه وبين الأمير سعود الفيصل. يقول: «قرأت له تصريحاً بأن القاعدة ليست تنظيماً أصولياً متطرفاً فقط، بل هي تملك مشروعاً للخلافة العالمية أيضاً… وسلفيو الملك عبد العزيز ما كانوا مع الخلافة، وإنما مع دولة الكتاب والسنة… قال فيصل: أنا أعجب من رؤيتك النمطية هذه، سلفيو الملك عبد العزيز انتهوا من زمان، وهذه سلفيات جديدة، ملقحة بالأفكار الإخوانية والجهاديات. وقد تحققت لهم أوامر بدت مستحيلة، أهمها مهاجمة الولايات المتحدة الأميركية، فلماذا لا يستقيم لهم أمر إقامة الدولة، مثلما تحقق لأبي بكر الصديق؟ وهذه رؤيتهم اليوم! لقد نجحوا في تغيير ثوابت الدين، وصار لهم جمهور من المؤمنين ومن الشامتين بالأنظمة وبالأميركان.
وفي حديث جرى في مرة لاحقة، وتحديداً بعد تبوء «الإخوان» السلطة في مصر، يقول الفيصل: «إن استتب الأمر للإخوان في مصر، فإن مشروعات الخلافة والدولة الإسلامية ستتسارع إلى الظهور في كل مكان".
واجه «الإسلاميون الجهاديون» منظومة الدول، ذات الأغلبية الإسلامية. لا يعيرون اهتماماً، لإسلام السلطة في البلاد العربية، إسلام السلطة غلالة لا مضمون. إنها أنظمة فاشلة. مثلها مثل الدولة الوطنية، فاشلة بسبب طغيانها.
ليس غربياً، بعد هذا السياق، أن يصبح العنف جزءاً من الدين الإسلامي ذاته. ليس بسبب نصوصه، بل من خلال قراءة الحاضر والمستقبل. من زاوية أول الدين، أي من زاوية بداياته في عهد الرسول وفي ظل الخلافة الراشدة. ويومها، كان العنف مصاحباً للدعوة ولتثبيت الخلافة، والخلاف عليها.
الإسلام راهناً، ينحو باتجاه المزيد من التقيد بالشعائر والإضافة إليها. لم يعد كافياً أن تصوم وتصلي و… المطلوب أن تمتشق السلاح وتقيم الدين بالقوة. هذا هو منطق «داعش» ومن يشبهها.
إن ما حدث حتى الآن هائل ومريع ولا عودة عنه. لم يتبقَ من العالم العربي، سوى هياكل فارغة من المضمون. عوّض هذا الفراغ القاتل، ابتداع صراع جديد غير مقنع. بات العداء الشيعي ـ السني هو البديل. لم يعد للدول العربية أي معنى أو حيثية خارج هذين الفسطاطين: الفسطاط السني من المحيط إلى الخليج، والفسطاط الشيعي من إيران إلى العراق فسوريا ولبنان وغزة. كل السياسات راهناً تدور حول هذا الجديد المدمر.
لقد وئد الربيع العربي. لقد انتحرت الأحزاب العقائدية ولكنها لم تزل ميتة ترزق. الأفكار النهضوية لغة خشبية. فمن يملأ هذا الفراغ؟
الغرب قاصر. أميركا غير راغبة إلا بصناديق المال. هيمنتها العالمية كافية لفرض ظلها على دول وأنظمة خائرة القوى وضحلة التفكير وبلا مناعة أمنية وسياسية.
من يملأ الفراغ؟
ما تبقى هو دول مخلعة، الصراع السني – الشيعي، العنف الإسلامي، الهيمنة الإسرائيلية، الحاجة الدائمة إلى أميركا للاستقواء بها على الخصوم، لا على العدو الإسرائيلي.
لم يبقَ غير الفتات لقوى التغيير.
أي دور للمثقف؟
دوره أن يكون أي شيء، وأن لا يكون خادماً للطغيان الإسلامي والطغيان السياسي.
هل تنقرض الثقافة بعدما داستها السلطة بنعالها ونبالها، وبعدما أطلقت القوى الإسلامية، المعتدلة والمتطرفة، رصاصة الانتقام عليها؟
ليس في الأفق أي عنوان آخر للمستقبل العربي. ما تبقى من العقائد والأفكار والقضايا صار شظايا. ليس للفكر مكانة ومكان. التعويل الدائم هو على الصدفة. أفرغت العروبة من معانيها وأمكنتها. تاهت الأنظمة عن القومية. العدو الأكيد لهذه البلاد المنتشرة، هو المواطن. ممنوع أن ينوجد. البديل المذهبي فعّال وفتاك ومولِّد عنف غير مسبوق. فإلى متى هذه التصفية لقضايا الوحدة والدولة الديمقراطية والعدالة والتنمية واحترام حقوق الإنسان؟
إنها لحقيقة مؤلمة، أن يكون الانتماء حصراً، للديناصورات المذهبية التي كانت المولود الطبيعي لفشل الأنظمة ومؤسساتها، وفشل الأحزاب ومصائرها، وفشل التجديد الديني وتراجعه، وفشل الحداثة فشلاً مشهوداً.
قبل بلوغ بقعة الضوء في آخر النفق، علينا أن نمتلك جرآة نقد أنفسنا ومراجعة مسرتنا، كوطنيين وقوميين ويساريين وعلمانيين وحداثيين. يجب أن نعترف بالصوت الملآن:"إننا فاشلون". فلتتقدم المسيرة نخب أخرى أكثر التصاقاً بهموم الناس وقضاياهم.
لا موعد مضروباً لقوى التقدم. كل المواعيد راهناً، مخضبة بالدم والعداء والمذاهب.