106
بناء القصيدة في تجربة أدونيس، متغيّر باستمرار، وفي مجموعته الشعرية «أبجدية ثانية» بالذات يعسر ردّ الكتابة إلى نموذج بعينه أو نموذج مفرد. فقد شهدت القصيدة إبدالات لم تعرفها من قبل حتى من الناحية الشكلية المحض. وهذه الإبدالات تطرح أسئلة كثيرة منها: كيف ننظر في هذه النصوص؟ أننظر فيها مفردة أم جمعاً؟ وما الطرائق والكيفيات؟ أولا يمكن أن نعثر على خيط ناظم لها أو لبعضها على الأقل؟
إن أدونيس قد أسس لنفسه منزلة رمزية ووضعاً اعتبارياً داخل الثقافة العربية، وهذا ما جعل كتاباته، في كثير من الأحيان، موضوع سجالات لم تعمّق معرفتنا بنصّه بقدر ما قسّمت الناس في شأنه إلى معارضين يتّهمونه بالتخريب والتدمير ومؤيدين يرونه علامة مضيئة في الثقافة العربية.
كتابة أدونيس لا تعرّض نظام القيم إلى السؤال فحسب، وإنما هي توسِّع مفهوم الإبداع والأنواع وترسم للقراءة والنقد آفاقاً جديدة كذلك، فهي تحاول الخروج عن السابق بمعانيه المختلفة، فيما هي تعيد كتابة الوجود برؤيا تتخطّى المألوف والمتوقّع.
إذا كانت القصيدة الحديثة، تكتب بالأسطورة والخيال والاستعارة والحلم والتداخل النصي والتكرار والصورة والسرد والأيديولوجيا والاسم العلم… فإن أدونيس، شأنه في ذلك شأن شعراء الحداثة خاصّة، يكتب قصيدته بهذه الآليات.
إن القصيدة في تجربة أدونيس بحثٌ معرفيّ لأنها إعادة بناء للغة بما تقتضيه تلك الإعادة من غوص على الراسب في ذاكرة الكلمات أو بعث الحياة في المنسيّ منها.
والبحث في شعرية الكتابة، بحث مفتوح على المفاجئ باستمرار، لأن الكتابة في نهاية التحصيل، هي الذات، وهي تؤسّس خطابها وتمايزها وفرادتها، ولا تأسيس إلا بتحويل الكتابة إلى تجربة، بما يقتضي مفهوم التجربة من تجاوز مستمر للمُنجز الجماعي والفردي.
أيقونة أم دالٌّ للتأويل؟ ـ المفرد والمتعدّد
لماذا الأيقونة؟ لأنّها علامة تجمع بين المقدس الديني الذي تدلّ فيه على صورة مقدسة، والفني الذي تكون فيه صورة أو تمثالاً، ولأنها
تنفتح على ثلاث دلالات هي تحويل المجرّد إلى محسوس، والتمثيل أو التشبيه والإشارة إلى المقدس. وفي إطار هذه الدلالات يقول المؤلف الدكتور عمر حفيّظ: «يتشكل تقاطع واضح بينها وبين الكتابة، في حدّها الأدنى الذي لا يتعدّى معنى التصوير أو الرسم والتقييد، وحدّها الأعلى الذي تقترن فيه بالتاريخ وتصبح شكلاً من أشكال الحضور في العالم وممارسة للتأويل أو تجليّاً للمقدس، إذ الكتابة طبيعية وإنسانية وإلهية في كل الثقافات».
تنفتح على ثلاث دلالات هي تحويل المجرّد إلى محسوس، والتمثيل أو التشبيه والإشارة إلى المقدس. وفي إطار هذه الدلالات يقول المؤلف الدكتور عمر حفيّظ: «يتشكل تقاطع واضح بينها وبين الكتابة، في حدّها الأدنى الذي لا يتعدّى معنى التصوير أو الرسم والتقييد، وحدّها الأعلى الذي تقترن فيه بالتاريخ وتصبح شكلاً من أشكال الحضور في العالم وممارسة للتأويل أو تجليّاً للمقدس، إذ الكتابة طبيعية وإنسانية وإلهية في كل الثقافات».
إن تواتر دالّ الكتابة في حقول الأدب والفن والفلسفة، يؤكد مرونة هذا المفهوم. فهو لا يدلّ حسب رأي المؤلف على شكل بعينه سواء في الثقافة العربية أو الغربية كما أنه لا يقبل التحديد النهائي. وهذا ما يجعله منفتحاً على التأويل، وكان الفيلسوف الفرنسي ديريدا قد أشار إلى أن مفهوم الكتابة شهد من التوسع والتضخم ما جعله شبيهاً بذل اللغة الذي أصبح يُستعمل، أحياناً كثيرة، من دون مراقبة وهذا التضخم في المفهومين يستوجب تأمل العلاقة بينهما وإعادة ترتيبها باستمرار، لأن ما كان يصنّف ضمن اللغة كالفعل والحركة والوعي واللاوعي والتجربة، صار مندرجاً تحت دال الكتابة، حتى أنه أصبح من الممكن أن نتحدث عن كتابات متعددة منها السينمائية والموسيقية والتصويرية.
الكتابة وتعدّد الرهانات
للكتابة رهانات، ولها كذلك ما يعطّل توسيع ممكنها وفعل الحياة فيها. وهو ما يحرص أدونيس على التنبيه إليه، مشيراً إلى أن شعرية الكتابة قد حجبتها الرؤية التقليدية التي تعتبر أن الشعر موضوع إنشاد وسماع: فالخطاب النقديّ لا يزال ينظر إلى النص الشعري المكتوب كما لو أنه نص شفوي، بحيث استبعد من مجال الشعرية كل ما تفترضه الكتابة: التأمل، الفكرة الاستقصاء، والغموض.
وإذ كانت الشعرية الشفوية القائمة على مركزية الصوت والقصد، يقول المؤلف: «قد فرضت شروطاً في البناء منها التوازي، والوزن الواحد، والقافية الموحّدة، والرويّ الذي لا يتغيّر، وبراعة الاستهلال، وحسن الانتهاء، والوضوح، فالمفارقة هي أن ما أملته سياقات تاريخية معينة اقتضتها الحاجة إلى تحقيق التواصل بين الشاعر المنشد والجماعة من جهة، وحرص المجتمع على حفظ ذاكرته وثقافته من جهة أخرى، قد تحول إلى قوانين حجبت بعضاً من شعرية القصيدة القديمة ذاتها».
لقد انتهى أدونيس من خلال تأمل القرآن والخطاب الصوفي إلى تأكيد فرضية أساسية وهي أن الكتابة سلسلة من التساؤلات التي لا تنتهي. وهذا يعني أن لا وجود لشكل ثابت أو نمط كتابي خارج فعل الذات والتاريخ، فأي كتابة إنما هي حدث تاريخي تطرأ عليه أحوال وتكتنفه سياقات وتحكمه شروط متحوّلة.
وكان أدونيس قد طرح سؤالاً مهمّاً في سياق حديثه عن القرآن وتصوره لمفهوم الكتابة من خلاله. ذاك السؤال هو: هل الكتابة المُثلى هي التي تتم من دون كاتب؟
ويؤكد المؤلف، أن لا إمكان للحديث عن كتابة من دون كاتب، ولا خلاف في أن الكاتب كائن اجتماعي تاريخي. وإنما الخلاف في مفهوم الكاتب وما يشوبه من أوهام، كأن نتصوّر أن الكاتب ذاتٌ مكتفية بنفسها، وأن نتوهّم أنه يخلق خطابه خلقاً لا أثر فيه للآخرين، وأنه يمتلك أسراره ويقدر على فهمه الفهم الأمثل لأنه هو أصله ومصدر معانيه.
إن هذا الكاتب لا وجود له، والموجود هو الذات، التحوّل والتبدّل والتغاير والتداخل والإبدال والتفاعل. وهذه هي قوانين الكتابة المُثلى. والكتابة المُثلى، بعيداً من الميتافيزيقا، يقول المؤلف: «هي الكتابة التي تتجلّى فيها الذات الكاتبة بحريّة تتيح لها الخروج عن المتعاليات والأبجديات السابقة. والكتابة لا تكون مثلى إلا إذا كانت محواً بارعاً وتركيباً خلّاقاً لنصوص آتية من أماكن لا يُعرف لها نسب، بل إن البحث عن مراجعها وأنسابها لن يكون إلا ضرباً من التيه».
وهكذا، فإن فعل الكتابة سيصبح مشدوداً إلى أفقين: أفق المطلق الإلهي أو الكتابة المطلقة، لكتابة المطلق بجسده الكتاب ـ القرآن، ثم أفق التجربة الإنسانية الذي تحرّكه رغبة في هدم الحدود وإلغاء الدلالة الثابتة والشكل الذي لا يتغيّر. وليس الأفق الإنساني، إلا اشتقاقات من المطلق الإلهي وتمثلاً له. يقول أدونيس: «هل نقول إن الكاتب هو ذلك الكائن المتخيّل، في ذلك الاتحاد الإلهي ـ الإنساني باللغة وفيها؟».
إن اللغة، وقد حوّلتها ذاتٌ لها أحلامها وإيقاعها إلى خطاب، هي الأرض المشتركة التي يتجلى بها وفيها الإلهي والإنساني في آن معاً. وقد تم التجلّي أو هو يتم كتابة، حسب رأي المؤلف، كتابة إلهية، تأمّلها المتصوفة، وخاصة ابن عربي الذي يرى أن الوجود مصحف كبير خُطّ بالصور، وكتابة إنسانية، وهي التي لا تتحقق إلا بلغة لا يلبسها الشاعر وإنما يتجلى فيها، وهذا هو المدخل إلى أن تكون إرادة كتابة جديدة أو أبجدية ثانية.
ينتهي أدونيس «في تأمله للكتاب ـ القرآن إلى خلاصات كثيرة، أهمها أن هذا النص لا يطرح مسألة ما الشعر، أو ما النثر، وإنما يطرح السؤال: ما الكتابة وما الكتاب؟ وفي هذا الأفق الذي فتحه القرآن للعرب كتابة وقراءة وتصوراً للذات والآخر والوجود، تنخرط كتابات أدونيس». وليست محاولته تلك إلا حصيلة وعي بأن الإنسان الذي يستعصي على كل تصنيف، لا يكون كاتباً إلا بقدر ما يمارس من حرية في الهرم والبناء والتركيب، ولا يكون قارئاً إلا بما يمارس من خرق للمقاربات التقليدية التي فقدت قدرتها على المفاجأة والإدهاش.
إن أدونيس حسب قول المؤلف: يجعل كل الإبدالات ممكنة لإعادة بناء نظرية الشعر، بل لعله يذهب إلى أن الشعر يتجه نحو مطلقه: فالحدود التي تميّزه من الخطابات الأخرى قد اضمحلّت، وذاك يعني انتهاء ما يسمى النظرية. فلا الأنواع تتباين ولا مسافة تفصل، بعدئذ، بين النص ونظريته». وإنما هي الكتابة، ربما سيعمل الشاعر على أن يدخل في كتابته الشعرية، عناصر كثيرة تنتمي إلى المسرح والرؤية والفلسفة والعلم والتاريخ وغيرها، وعناصر كثيرة أخرى يأخذها من خارج الكلام، من الفنون الأخرى، ومن الواقع وأشيائه، والأرجح أن تتضافر أشكال الفن في شكل الشعر يؤالف بين مختلف الأنواع والأشكال الكتابية.
ونحسب أن خطاب أدونيس الشعري في ديوانه «أبجدية ثانية» يقع ضمن هذا الأفق. وهو أفق سيتسع أكثر في مشروع «الكتاب» الذي يُعدّ مغامرة لأنه يطرح قضايا تمسّ مفهوم الكتابة، كما أنه يخرق الخطابات الساذجة حول الشعري واللاشعري، حول القصيدة وقصيدة النثر، حول الرؤية والشهادة حول الحداثة ما بعد الحداثة.
ومن الثابت أن قتل الأشكال لا يعني الانطلاق من أصل ميتافيزيقي، وإنما يعني «أن الشكل سيكون فضاء يتيح للشاعر أن يحوّل خطابه إلى حيّز للبحث والتفكير والتأمل والنظر إلى ما وراء الواقع والأشياء». ويقول أدونيس: «إن كتابة النقّري تعلّم التيه في الغيب، لا التيه في الظاهر وأشيائه» تذكّر المقابلة بين الظاهر والغيب، بأخرى كان أدونيس قد أشار إليها، في سياق حديثه عن الكتابة الجديدة، وهي مقابلة المجهول بالمعلوم.
الكتابة والأسئلة المفتوحة
إن تفكير أدونيس في الكتابة شعرياً يؤكد وجودها من تمايزه عن غيره من شعراء الحداثة، منها أنه لا يفصل بين الشعر والنظرية وما يصلهما من فكر وخيال وحدس، ومنها أنه لا يرى لقصيدته أفقاً غير أفق التفكير في الذات واللغة والآخر والوجود وما يمكن أن يحكم هذه الأطراف من علاقات. وقد ترتبت، يقول المؤلف: «عما تمّت الإشارة إليه، نتائج كثيرة، أهمها أن القصيدة لم تعد كتابة للمتوقع أو المشترك الذي توثّق به الذات انتماءها إلى الجماعة أو إذعانها لسلطة السابق، بقدر ما أصبحت مغامرة جمالية لذات قوامها التعود لها الوحدة وغايتها السؤال لا الجواب».
إن أدونيس يتمايز بانتسابه إلى الإشكالي لأنه يؤمن بأن الطرق السالكة لا يمكنها أن تُفضي إلى كتابة إبداعية أو أن ترتاد آفاقاً جديدة أو أن تكتشف عوالم قصيّة في الفكر والحياة، لأنها مليئة بأشباح الآخرين وأصواتهم وآثارهم، ولأنها استنفدت مجهولها وصمتها. لذلك «فإن أقصى ما يمكن أن تنتهي إليه تلك الطرق هو ما يسميه أدونيس الكتابة الوظيفية التي تخضع لسلطتين: إما سلطة الواقع، فتظل رهينة الأحداث والوقائع، وإما لسلطة المثال فتنشأ مكبوتة بقوة النموذج وقهره». وفي الحالتين هي كتابة نسخ وإلغاء للحرية وقتل رمزي للإنسان.
وهيدغر له تصوّر يقوم فيه الشاعر بدور الوسيط بين المقدس والفانين البشر: فالشاعر يتلقّى الهبات السماوية أو إشارات المقدس ليجعل منها، بعد ذلك، خطاباً للناس وتأسيساً للكينونة باللغة التي هي سكن هذا الوجود بأسره. ولما كان الشاعر يستمدّ سلطته من المقدس، فإن خطابه الشعري يتحول إلى تأسيس مستمر للأشياء في غير صورها المألوفة.
ويشير المؤلف إلى أن للشعر حدوداً ضبطها العرب انطلاقاً من قراءتهم لمنجزهم آنذاك فخرجت خطابات كثيرة من دائرة الشعر لأنها لا تستجيب لتلك الحدود. وأهم تلك الخطابات هو الخطاب الصوفي الذي فتح لأدونيس أفق تفكير واسعاً في الشعر والشعرية وما يتصل بهما من أسئلة تحرّض على إعادة النظر في خانات التصنيف وأسماء الأنواع. هذا هو المسار «الذي انخرط فيه أدونيس بوعي يهدف إلى المساهمة في بناء شعرية فرفض أن تكون أشكال الكتابة فيها ثابتة ودلالاتها جاهزة قبل تجربة البناء ذاتها، لأن القبول بالجاهز المسبق يعني إقصاء الذات الكاتبة وإيقاعها وتاريخها تكريساً للنموذج».
وهذا يعني أن شعرية الكتابة يجب أن تبدع لنفسها ما به تحدّد خصائصها لتتمايز عن غيرها، وأهم تلك الخصائص هي كيفيات حضور الذات في خطابها وقدرتها على التغاير والاختلاف. فعلى الشاعر أن ينشئ أشكاله بنفسه، لا أن يرث أشكال غيره، وأن يحول لغته إلى فضاء للخلق، لا أن يختزلها في مفهوم الأداة أو الوسيلة، وأن يجعل قصيدته حيّزاً للمتعدد المتنوع ويترك فيها من الفراغات ما يحرّرها من الاستسهال ويحميها لمن يستعجلون قراءة الشعر أو يكتفون بالقراءة الأفقية.
الكتابة وبناء العناوين
تُعدّ العناوين والبيانات والإهداءات والمقدمات والتنصيص على تأريخ الكتابة أو أمكنتها.. خطابات موازية وثيقة الصلة، في النقد الحديث، بالنص وسيرورة وجوده ومنزلته الرمزية. فهي كما يقول المؤلف: «التي يكون بها نصٌّ ما كتاباً قابلاً للتداول، بل إنها جزء من أدبيته وسمة من سمات اختلافه أو تمايزه عن غيره من الآثار بحسب تقاليد الكتابة والقراءة». وقد كانت الثقافة العربية القديمة تقبل وجود القصيدة من دون عنوان، ولكنها تعمد في المقابل إلى تسميتها برويها أو بعرضها أو بصفتها. وفي هذا ما يؤكد أهمية العنوان ليس لأنه يمكن أن يُعد بذرة للنص أو تكثيفاً له فحسب، وإنما باعتباره ضرورة يقتضيها وجود الخطاب ذاته. «فالعنوان، ولأنه غالباً ما يبنى على الاختزال والتكثيف، يمكن أن يكون مدخلاً إلى التأويل أو جسراً للعبور من قراءة إلى أخرى بحسب الأنساق والثقافات وخلفيات القراء».
في ديوان أدونيس «أبجدية ثانية» ظهر، في الصفحة الأولى من الغلاف، تحديد إجناسي واضح «شعر». تحديد له سلطته في توجيه مسارات القراءة، وربما في الإغراء باستكشاف الممكن من الصلات بين السابق واللاحق في شعر أدونيس. وهذا العنوان «أبجدية ثانية» الذي سمّاه المؤلف عنواناً جامعاً، هو في الأصل عنوان القصيدة الأخيرة في الديوان، وقد أُجري عليه حذف يتعلّق بمركب الجر «في حضن أبجدية ثانية».
ثمة صراع دائم بين الشاعر الذي «تغيرت صوره، والأبجدية التي لا يمكن أن يتم بناء ولا هدم إلا بها وفيها. وطبيعة هذا الصراع هي التي تلوّن فعل الكتابة وتؤكد صلته بالجد في حالتي الخصوبة والعقم. «الخصوبة: قلت للأبجدية: تشهّيت ووحْمتك».
ليس يخفى أن الخلفية التي بُني بها هذا الحوار هي التأنيث، وأن الضمني أو الحاضر ـ الغائب، هو جسد الأنثى، وهي في حالة وحام. ولا وحام إلا بعد الإخصاب. والوحمي يقول المؤلف: تتشهّى أثناء وحامها. والحاصل هو أننا إزاء استعارة جنسية، طرفاها: الشاعر المخصِّب، أو الذكر، الحارث ـ الكاتب من جهة، والأبجدية الأنثى التي تحققت شهوتها وبدا وحْمُها، من جهة ثانية. وهذا يعني أن فعل الكتابة جنسيّ في صورة من صوره. فالعلاقة بين الشاعر واللغة قائمة على الشهوة واللذة».
أما حالة العقم فيظهر فيها عجز اللغة الأبجدية عن احتواء الشاعر جسداً ومتخيلاً، ويشير المؤلف إلى أن الأبجدية تعجز عن الإحاطة بالذات في تنوّعها واختلافها. وتتشكل مقابلة واضحة وصريحة بين الأبجدية البائسة أو العقيمة من جهة، والشاعر الذي بنى لنفسه صورة فريدة من جهة أخرى.
ويعتبر المؤلف أن الكتابة في «أبجدية ثانية» هي إعادة كتابة لمتعدّد يعسر ضبطه أو تحديد مصادره. ففي هذه القصائد من الأسطوري والتاريخي والقرآني والصوفي والشعبي، يقدر ما فيها من تضمينات واقتباسات مختلفة لشعراء من الشرق والغرب ومن مصادر ورؤى وتيارات متقاربة ومتباعدة في آن معاً.. «يُعاد تركيبها على نحو تتحول فيه الكتابة إلى حدث، بدءاً من صفحة الغلاف الأولى وصولاً إلى صفحته الأخيرة التي حملت صورة أدونيس».
من العناوين إلى المتون
تُعدّ العناوين تلك الثريا التي تلقي بضوئها على ما تحتها، وإنما غدت بذرة تنبت منها القصيدة. ومن الثريا إلى البذرة يتحول العنوان بين أنماط من البناء: من اللفظة المفردة مروراً بالجملة، وصولاً إلى الخطاب، تبين العنوان والثاني والثالث مثلاً، من الفروق في البناء ما يحتاج إلى تأمل.
ويرى المؤلف، أن العلاقة بين العناوين والنصوص على قدر من الثراء الذي لا يقبل التلخيص. فالشعر لا يلخّص، بل إن تلك العلاقة على درجة من التعقيد الذي يرفض الاختزال، لأن أيّ اختزال كبتٌ للنص وإلغاء لما يمكن أن يكون من إمارات الذات. رغم وعينا بما تمّت الإشارة إليه.
إن الكتابة في مجموعة «أبجدية ثانية» توجهها خلفية المحو، محو كتابات أخرى كثيرة وهدم الحدود بين الخانات والمعاجم والتصوّرات، يقول المؤلف: «فأدونيس يكتب، فيما هو يمحو نصوصاً أخرى كثيرة ويلغي الحدود بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية واللغة الفصحى واللهجة الدارجة والقصيدة والأسطورة ليجعل الخطاب الشعري مخترقاً بأصوات متعددة».
الكتابة في تصوّر أدونيس، خروج مقصود وواعٍ عن أعراف الكتابة إلى مطلق أدبي. وما من كتابة للمطلق إلا بالحلم، وليس المقصود أحلام الليل فتلك أحلام بدون ذوات، أما الأحلام التي تتم بها الكتابة، فإن ذواتها حاضرة فيها لأنها أحلام يقظة، وحالم اليقظة حاضر في تأملاته وحتى عندما تترك لدينا، تلك الأحلام، انطباعاً بالهروب خارج الواقع، خارج الزمان والمكان، فإن الحالم يعرف أنه هو الذي يتغيّب، هو بلحمه ودمه الذي يصير فكراً.
إن النظر في العناوين يقول المؤلف: «يقودنا إلى تأمل قضايا كثيرة، منها قضية التداخل النصيّ التي بدا لنا فيها رأي وهو أن التداخل قابل للتحقق من خلال دال مفرد على نحو ما بيننا وإذا استقام لنا ذلك، فمن المهم أن نبحث في ما يمكن أن يتحوّل إلى دال إيقاعي يصل النصوص ببعضها ويشرّع لانتساب الذات الكاتبة إلى شجرة شعرية ما». وقد حدّد بعض النقاد كثيراً من صوت النسب بين قصائد أدونيس وغيرها من النصوص، والمتأتي في قراءة ما أشار إليه هذا البعض يقف على اختلاف في الموجّهات التي حكمت عمله والنتائج التي انتهى إليها.
كتابة الإيقاع ـ الصفحة الشعرية
طرح ميشونيك «فرضية لم تكن متداولة، من قبل، في الدراسات الشعرية القديمة والتقليدية، وهي أن شكل الصفحة الشعرية ضرب من ضروب الإيقاع فالبياض أو الفراغات وعلامات الترقيم وغيرها من الأشكال كالرسوم والأيقونات… دوال إيقاعية تسهم في بناء النص وإنتاج الدلالة، كتابة وقراءة.
ولما كانت اللغة يقول المؤلف: «في المعجم أو علامات الترقيم والأشكال والرسوم أو غيرها من العلامات محايدة قبل اندراجها في سياق الخطاب، فإنها تكف عن أن تكون كذلك، بعد أن تصبح جزءاً من خطاب أنجزته ذات ما. وبهذا المعنى، فإن كثيراً مما تقع عليه العين، في الصفحة الشعرية، يصبح منتجاً للدلالة قابلاً للتأويل. فتشكيل الفياض مما يتكفّل بالتعبير عن ذاتية التلفظ ويظهر طبيعتها الإيقاعية، إذ من المستحيل أن ترسم صورة دقيقة لمسارات الفكر، ما لم تأخذ بعين الاعتبار البياض والانقطاعات بين التراكيب».
إن تنظيم الصفحة الشعرية لا يحكمه نظام مفرد أو متكرّر إلى حدّ أنه يخيّب أي توقع حتى في القصائد العروضية في ظلّ الوزن فيها الذي يقيّد حركة الكتابة. فالشكل مشتقٌّ من تفاعل البياض والسواد على نحو يؤكد الإيقاع البصري، يتموّج ويختلف من قصيدة إلى أخرى، وإن الفراغات وعلامات الترقيم فارقت حيادها وأصبحت، في أغلب الأحيان، من العناصر البانية للخطاب. ويرى المؤلف أننا إزاء ضربين من الكتابة ـ الخط في «أبجدية ثانية»:
«كتابة تُقرأ وتُنشد، بصوت منفرد، وكتابة تُقرأ، ولكنها لا تُنشد ولا تحيط بها إلا العين».
الذات بين اللغة والوزن والإيقاع
إن رهان أدونيس في تنظيره للكتابة وممارستها نصيّاً، هو تغيير نظام اللغة لأنه معقّد ما يكون من تمايز بين الخطابات. فإما أن يُبقي الشاعر على نظام اللغة القديم فتكون الخطابات مألوفة، ولما تعودت عليه الذاكرة، ويكون المعنى سابقاً، وينتفي مفهوم الكتابة، وإما أن يبحث عن إيقاع جديد بتغيير النظام وبناء علاقات بين الكلمات تتجاوز المألوف والمعتاد لتدخل فضاء المفاجئ والاحتمالي وما تُعقد فيه الدلالة على الإمكان ولذة التأويل، بل إن للشاعر الحديث إمكاناً آخر وهو البناء بالعلامات اللغوية وغير اللغوية. وفي هذا توسيع لمعنى الكتابة ووعي يجعل الدلالة منفتحة على المتعدّد.
ولما كان الشعر حسب النظرية اللسانية نمطاً كتابياً وضرباً من ضروب البناء، فإن سؤال الشعرية وقوانينها وإبدالاتها يظلّ مطروحاً باستمرار. وعلى الشاعر الذي يطمح إلى أن يكتب، بالمعنى الذي يقصده أدونيس، أن يعيد بناء اللغة، على نحو يتيح له إحداث فعل الشعر. «وفعل الشعر، لا يكون إلا بالتحويل والتغيير، بما يحقق إخراج القول غير مخرج العادة لأحداث الشعر وتحريك النفس». وهو ما لا يأتي إلا بسعي الشاعر إلى الخروج من حيّز الذاكرة والفضاء والقديم، إلى مقام الرؤيا والحلم والنفاذ إلى ما وراء الظاهر لأن، اللغة ليست ملك الشاعر، إلا بقدر ما يغسلها من آثار غيره، وبقدر ما يفرغها من ماضيها ويشحنها بالمستقبل، اللغة دائماً حسب قول أدونيس: «تخصّ زماناً ما، بنية اجتماعية ما، إنها تجيء دائماً من الماضي. حين يأخذها الشاعر كما هي، كما تجيئه، لا يكتسب بل ينسخ».
إن اللغة لا تصف واقعاً أو تعبّر عنه أو تعكسه. فهذا من قبيل الوهم لأن الواقع لا يثبت في صورة واحدة، واللغة تحتفظ بأسرارها وتمارس تمنّعها. ولعل الوعي بهذا التناسب الشقيق بين الواقع واللغة هو الذي جعل أدونيس يدافع عن لغة لا هي لغة الوضوح العقيم، ولا هي لغة الغموض الذي يتحوّل إلى أحاج وتعميات وإنما هي لغة التساؤل والتغيير. «فلا تغيير ولا كشف ولا خلق دون تساؤل، بل لا معنى دون مغامرة تقوّض بداهة الأشياء. وبلغة التساؤل وتقويض البداهات يمكن التأسيس لعلاقات جديدة بين الإنسان والأشياء والأشياء والأشياء والكلمة والكلمة»، ويمكن للقصيدة أن تقدم صورة جديدة للحياة والإنسان وللشعر أن يكون كتابة لا نسخاً، لأن العلاقة بين العناصر التي تمت الإشارة إليها لا تستقر. وهو ما يجعل حسب قول المؤلف: «الكتابة تجريباً دائماً وتأملاً مستمراً، للذات والوجود. والشاعر الذي يكتب بهذه الخلفية سيمارس حريته في إعادة ترتيب العناصر من جديد، وبناء الكون بأسماء جديدة لتقويض الأولى وهدم النمطية في صورها المتعدّدة».
إن مبدأ التحوّل الذي ينتظم الوجود بكامله، قانون من قوانين الكتابة كذلك، فالكون بأسره يتبدل بين طرفة عين وأخرى. والكتابة تبديل وتحويل وتكرار وتغاير، ويمتد الحديث عن مبدأ التحوّل في الوجود من هيراقليطس، وهو من مراجع أدونيس، المعرّج بها، إلى المتصوفة كذلك، وخاصة ابن عربي الذي يرى أن العالم بمنطق التجلي هو ظهور الواحد في صور متعددة، مما يجعل الصورة منطوية على المماثلة والأخلاف في آن معاً. وهذا يعني حسب اعتقاد المؤلف، أن رهان الشاعر الذي يصدر عن تلك الخلفية، إنما هو كتابة المتعدد المتحوّل وابتداع لغة تقبل هي أيضاً أن تتعدّد وتتحوّل واللغة لا تكون كذلك إلا إذا أنشأتها ذات قوامها التغاير والاختلاف. ذاك ما يجعل دلالة الخطاب لانهائية، والعناصر المتباعدة في مراجعها وأزمنتها ومتخيلها تتضافر وتتآلف لتبني ما يستعصي على الاختزال ويرفض الاكتمال.
يكرر أدونيس دائماً، أن الشعرية ليست خصيصة للشعر دون النثر. وأنها ليست مرتهنة في حضورها أو غيابها، بوجود الوزن أو عدمه. فالوزن، وإن عُدّ من حدود الشعر، يظل عنصراً خارجياً لا يهمه في الشعرية إلا بقدر ما يتآلف مع عناصر أخرى. ويقول أدونيس: «إن المسألة شعرياً، وهذا ما ينبغي تكراره، ليست مجرد الوزن أو النثر، وإنما هي في الشعر والرؤية الشعرية والعالم الشعري، في ما وراء أشكاله الوزنية أو النثرية». تتخطى الشعرية، إذن، أيّ تحديد أو تضيف لتقع في أفق أرحب، هو أفق الرؤيا. وليست هذه الرؤيا حسب قول المؤلف: «إلا ضرباً من الكشف الذي يتيح لنا أن نرى العالم في غير صورته التي ألفناه عليها، كشف ينفض عن عينيّ المتلقي غبار الألفة والعادة، ويفتحهما على مساءلة البداهة، وتجاوز الظاهر إلى ما وراءه، لتأسيس علاقات جديدة بين الإنسان والكون تبنيها لغة الدهشة والرغبة، لا لغة المحاكاة والتصوير والتمثيل والوصف».
والإيقاع أوسع من العروض ومشتمل عليه، والانطلاق من العروض للوصول إلى الإيقاع هو عبور من المشترك إلى الذاتي أو من المقيس والمعدود إلى ما لا يقبل القياس والعد، فالوزن يقبل الضبط الكمي والتحديد الزمني أما الإيقاع فإنه فعل الذات في اللغة والوزن معاً.
ومن منظور المؤلف، «نستعمل الإيقاع، بالمعنى الذي تمت الإشارة إليه، لذلك ستكون في حيّز الاحتمالات دائماً. فحتى القصيدة الموزونة ـ الخاضعة لسلطة العروض ستبنى بطرائق متعددة، فأدونيس يتصرف في توزيعها بكيفيات مختلفة، ويحوّل صفحتها إلى حيّز متحرك باستمرار».
وخلاصة القول، إن بناء الخطاب، في ديوان أبجدية ثانية، يطرح إشكال الكتابة بأصوات متعددة، على أنحاء مختلفة، منها التداخل النصي، وهذا قانون من قوانين الكتابة. ومنها كما يقول المؤلف: «تعالق الأصوات متمايزة متماثلة في بيت أو مقطع، ففي قصيدة «أحلم وأطيع آية الشمس». تعدّدت الأصوات وتعالقت، فانفتح الخطاب على التاريخي والأسطوري والفلسفي والصوفي والتشكيلي والشعبي والمقدّس والجسد».
*الكتابة وبناء الشعر عند أدونيس
ـ عمر حفيّظ
ـ دار الساقي ـ بيروت 2016.