في سياق الحديث عن وعد بلفور 1917، علينا سوق بضع ملاحظات استفهامية/ تأسيسية لا بد منها حتى نتفهم أبعاد الحاصل وتداعياته، إذ لا بد أن نسأل أولاً ما المقصود بفلسطين آنئذ من وجهة نظرنا كسكان لهذه البلاد أولاً، هل هي أراضي الفتح العربي؟ أم الأراضي التي تحررت من الفرنجة (الصليبيين) وآلت إلى المماليك فيما بعد، أم هي أراضي أيالة عثمانية فتحها سليم الأول وتنازع عليها لاحقاً العثمانيون وإبراهيم باشا وبونابارت إلخ؟ أم هي كنعانية فينيقية يونانية رومانية بيزنطية؟، فما دمنا عدنا إلى الماضي فعلينا معرفة ما هي فلسطين أصلاً وفرعاً، وما هي الهيئة الخصوصية المحددة لها في التنافس الدولي بعيد الحرب العالمية الأولى ونتائجها بمعنى البحث والتأكد من عائديتها الدولية، ما هي فلسطين وقتذاك؟ أو من هي؟ خصوصاً أننا نتكلم عن قيام كيان غاصب "الناتج " عن الوعد (ندعي أنه سبب مباشر أو أساسي) بعد الحرب العالمية الثانية ونتائجها المختلفة تماماً عن الحرب العالمية الأولى أي زمن الوعد المشؤوم؟. ثانياً من أين جاءت الأهمية الحقوقية لهذا الوعد، وما هي محددات فعاليته ونتائجها؟ إذ لا نرى ذكراً لبلفور في كل الإجراءات العملانية التي أدت إلى قيام الكيان الغاصب، إذاً لابد من أهمية ما له، على الأقل في أذهاننا نحن؟، ثالثاً أن المنطقة وفلسطين منها هي ومنذ الفتح العربي لها هي نهب للاحتلالات مهما كانت صفتها السياسية القبلية الدينية الأثنية، وعلى رأسها المغول والتتار (المغيبون ثقافياً) والفرنجة (الصليبيون) الذين يحتلون أولوية ثقافية في المواجهة، ناهيك عن العثمانيين، والمصريين ومن ثم العرب مرة أخرى (الثورة العربية الكبرى) وأخيراً الأوربيون ومن بعدهم الصهاينة، فأية ميزة يمكن أن يحملها بلفور كي تكون لوعده هذه المكانة المؤثرة هذه؟، فهو وعد لا يلزم الدولة البريطانية العظمى بشيء عملي؟ ربما مع إجابة القارئ على هذه الأسئلة، يمكنه تقدير الوجهة الاحتفالية بوعد بلفور التي تبدو كهمروجة ذرائعية لتحميل الذنب للآخرين على طريقة المؤامرة، على ما يحتمل أن يكون هذا الوعد الفارغ إنذاراً مسبقاً أو جرس تحذير من خطر الصهيونية الداهم، وتحضير ما يلزم لتلافيه، ولكن الذي حصل أن هذا الوعد أخذ أهميته عندنا بعد النكبة لا قبلها كما جرت العادة!، مؤسساً لما يمكن تسميته الأداء البولفوري في شتى أمور المنطقة ومصائرها.
ليس مرجحاً أن يكون للتذكير بوعد بلفور تلك الأهمية النضالية أو التوعوية، بغض النظر إذا كان بلفور أفندي قد بر بوعده أم نكث، وبغض النظر إذا كانت إنكلترة الدولة التزمت بهذا الوعد أم أنها تعاطفت أو ساعدت بأكثر منه، لا ندري.. ولكن للتاريخ المكتوب والموثق مفاجآت قد تحبط هذا المسعى الاحتفالي الذي يحاول تسويق عقدة اضطهاد إلى من يفترض أنهم تسببوا بها، وربما حملت تلك الوثائق ما هو أخطر وأبشع بكثير من وعد بلفور نفسه، تجدر الإضاءة عليها هي أيضاً من أجل الثقة العلمية على الأقل، فالوعد نفسه أصبح في مركز كرة الثلج التي تضخمت وباتت قادرة على هرسنا جميعاً، ويجب إيقاف تدحرجها بواسطة مواجهة الحقائق جميعها، وأولها هو فشلنا المدوي في تحرير فلسطين، المتسبب في جميع الكوارث التي نعيشها، فتحريرها هو البوصلة الحقيقية لوجهتنا، وهذا لا يعني بالمطلق أن بقاء المناطق السليبة الأخرى (كيليكيا والإسكندرون والأحواز) محتلة هو أقل كارثية من فلسطين، إذ يستبطن هذا التفريق بين احتلال واحتلال نزعة طائفية عنصرية أشد فتكاً من الاحتلالات، ومن هنا يبدو تأثير وعد بلفور ثقافياً عديم القيمة، إلا من حيث مقدرته على تذكيرنا بأننا لسنا مجتمعاً بالمعنى الحديث المعترف به عالمياً، ولسنا أصحاب شخصية قومية (هوية) ناجزة ومعلنة يمكن فهمها أو التفاهم معها، فبلفور وحسب تفكيره هو وعد أن يساعد "شعباً" بلا أرض بأن يقيم دولة على أرض بلا "شعب"، وسكان المنطقة لا يعتبرون شعباً على ما قيس في هنود أميركا الحمر، ما لم يكونوا مجتمعاً حداثياً ناجزاً، هذه هي المعضلة الكبرى في مواجهة بلفور ووعده إذا كان هذا الوعد مهماً في تأسيس الكيان الغاصب أم أنه جرس إنذار لينتبه سكان المنطقة ونخبهم لهذه الحقيقة وكان أمامهم ثلاثون عاماً كي يتداركوه، وفشلوا في ذلك على الرغم من الثورات والتضحيات التي توجتها "الجيوش" العربية بهزائم وانسحابات منكرة أمام عصابات سخيفة بالمعنى العسكري، حيث تجدر مقارنة ما فعله بلفور وما فعلته "العرب"، قبل ومع وبعد ثلاثين عاماً من الوعد "المشؤوم" وملاحظة أيهما أخطر. وفي كل الأحوال لم تعد الكتابة التاريخية والتفنيد لهذا الوعد بذات طائل، وخصوصاً أنه يتم تناوله بمعزل عن أحوال العالم وقتذاك، وكذلك بمعزل عن المكانة المعرفية لسكان المنطقة، بالإضافة إلى ما كان عليه الواقع السياسي لها، حيث كانت بصدد إطلاق الثورة العربية الكبرى برعاية إنكليزية صرفة وواعية معرفياً لمصالحها، وهي تمتلك الدالة على هؤلاء العرب كي تتبرع (بشقفة أرض) من الأراضي المزمع غزوها ثورياً لأي كان، وهنا لا بد من التذكير بمراسلات الشريف حسين حاكم مكة المكرمة، والسير هنري مكماهون نائب الملك الإنكليزي في مصر وغيرها (مثل وثيقة فيصل وايزمن، مراسلات الخليفة العثماني عبد الحميد وثيودور هرتزل الخ) كموضوعات قابلة للدرس والتمحيص ليس لأهميتها التاريخية ولكن للإضاءة على واقع الحال الاجتماعي والمعرفي الذي كان سائداً وتفحص إذا كان لما يزل مستمراً حتى يومنا هذا.
ربما تجدر الإطلالة على المنتوج الثقافي "العربي" الذي شكل الثقافة المتداولة، التي سعت إلى الانتصار على الفكر التنويري الأنواري العربي وتثريب منتجاته، حيث شكلت هذه الثقافة معاييرَ متخلفة لمفهوم المحتل، انطلاقاً من تجاهل الغزو المغولي والتتري ومن ثم العثماني والتركيز على سقوط الأندلس والغزو الفرنجي (الصليبي)، وانتهاءً بتجاهل الاغتصابات الأخرى (كيليكيا واسكندرون والأحواز الخ) والتركيز على الانتدابات/ الاحتلالات الغربية، وتقبع خطورة تلك المقايسات (مع التأكيد على تساوي جميع أنواع الاحتلال والاغتصاب مهما كان مصدرها) في الابتعاد عن مفهوم المجتمع/ الأمة التي تمثل أراضيها مصلحة عليا لسكانها، والركون إلى مفهوم الأمة بالمعنى الديني الطائفي (المذهبي في أيامنا هذه، وهذا ما حفر تالياً أخاديد ثقافية عميقة في بنية التجمعات البشرية الناطقة بالعربية)، هذا الابتعاد جعل الصراع على فلسطين (وقبلها الانتدابات والاحتلالات) صراعاً تبشيرياً، وليس صراعاً قومياً تفهمه وتتعاطف معه الأمم مصلحياً، ومن هنا تبدو خطورة تلبيس بلفور وحده هذه الخطيئة في حقنا لانزياحها عن الحقيقة، وهو ما يجعله بمقام الغازي الفرنجي (الصليبي)، مدخلين من حيث ندري أو لا ندري قوم صاحب الوعد في فسطاط الكفار المحتلين لفلسطين، وبالتغاضي عن العوامل والشخصيات والوعود الأخرى ذات الخطايا الأفدح، نكون قد حشرنا ثقافياً بلفور وكل أقوامه في دوامة الإرهاب الديني المعاصر المعادل الانتقامي للشعور بالصغار المجتمعي /القومي في هذا العالم، وهذا في حد ذاته تلخيص وتكثيف لمظاهر ضياع البوصلة، واتباع الطريق الخطأ إلى فلسطين وغيرها من أراضي الأمة المنهوبة.
عملياً تبدو إعادة قراءة الوعد وحده منفرداً وبعد مئة عام من الزمن "الحديث"، لا تقود إلا إلى دلالات ظنية، لا تنفع في شيء إلا "التذكير" بما هو جاثم أمام عيوننا ليل نهار وهو كارثة فلسطين المستمرة، ولكنها ومن جهة أخرى تفتح الباب لمقاربة العملية التاريخية التي نسكن لجة دوامتها ولما تزل تفتعل فينا إن شاءت، (وهي وبالتكثيف)، محاولات الخصم منع خصمه من امتلاك أسباب القوة، والقوة في الزمن الحديث هي المعرفة، وسبب فعلها هو الالتزام بها، وهو ما فشل سكان هذه المنطقة في امتلاك ناصيته وبالتالي عليهم دفع الثمن، لتبدو مفاعيل هذا الوعد السخيف عبارة عن إضاءة قوية مسلطة على كل أنواع التخلف والجهالة التي نتمتع بها، ونلمس آثارها ومنتجاتها ومفاعيلها بكل زهو وانتصار، ليبدو الوعد المشؤوم أنه كان على صواب سياسي تكتيكي واستراتيجي مصلحي، وإن لم يكن على حق، إذ ليس مطلوباً في معمعة التنافس الأممي على المصالح أن تكون على حق بل على معرفة، فالدهاء السياسي (أو الذكاء) غادر منذ مدة طويلة جداً ذهنية حادثة الأشعري وابن العاص كتكتيك سياسي مأثور، التي كسب فيها من كسب، ولما تزل الناس تدفع ثمناً باهظاً لذهنية هذا الأداء السياسي غير المجتمعي، هذه المغادرة تعني حضور ذهنية جديدة لمعنى السياسة، ألا وهي خدمة المصالح القومية التي لم توضع ولا مرة في تاريخنا "الحديث" في موضع معرفي مناسب لما آلت إليه المعرفة في هذا العصر، ليبدو وعد بلفور وحاضنته السياسية في تلك المرحلة عبارة عن حادثة غش عابرة ومجزية بالنسبة للمستعمر وكارثة تستدعي النواح والنقيق بالنسبة لنا.
تبدو كل مجريات المرحلة التاريخية لتحضير سقوط وسقوط وما بعد سقوط الرجل المريض، متضافرة ومجدولة بحكم انتمائها إلى منظومة معرفية معلنة وممارسة على أرض الواقع، حيث من غير المفيد ولا ينفع في شيء، رفض هذه المنظومة وإلحاقها بفسطاط الكفر أو حتى الإيمان، فالمعرفة محايدة معلوماتياً ولكنها بالقطع منحازة إلى أخلاقيات تحقيق المصالح المجتمعية، إن كان بالتسالم الداخلي بواسطة المساواة والعدالة، أو بالإنتاج، وكذلك بتحقيق المنعة تجاه الخارج، وتحقيق المنعة هذا، قاد إلى حربين عالميتين مشهودتين وحرب باردة أشد شراسة خيضت بذكاء ودهاء على حساب دماء الذين هم أقل معرفة بمعناها العالمي المتداول، وعليه ابتنى بلفور جرأته بوعد هو يعرف تماماً أن لا حق له بقطعه، ولكن أية حال معرفية يمكنها منعه؟ فسكان المنطقة لم يتمايزوا بمجتمع أو حتى مجتمعات قائمة على المفاهيم المحدثة لعصر الأنوار، ولا هم بصدد تطوير أي منها للحاق بعصر المجتمعات/ الأمم، ومعلومات المستشرقين جميعها بالإضافة إلى الواقع المعرفي المزري، تفيد بأن هناك رفضاً عضوياً أكثرياً لاستحقاقات المعرفة الحداثية المختلفة جوهرياً عن ثقافة الجهالة المعترف بها بين ظهرانينا، والدليل هو اضطهاد الكلاسيكيين لهؤلاء التنويريين الذين نادوا بالحداثة وإخمادهم، حيث يتضاعف الفارق المعرفي كمتوالية حسابية لا تعرف للحضيض قعراً، فثقافة الجهل المعرفية تقود حتماً إلى ثقافة الانهزام الحتمي، وثقافة التشكي والثأر والتي يمكن إدارة فعاليتها على حساب أصحابها أنفسهم، لدرجة يمكن معها التسلي بإلقاء القنابل عليهم على حسابهم، وهذا ما حصل بالفعل ويحصل الآن، بفعل فائض قوة ثقافة الجهل المعرفية، وهذا ما اعتمده بلفور كأنموذج من نماذج التصرف الاستعماري الذي يحتاج في رفضه ومقاومته إلى تلك القوة المعرفية الموازية في النوع والشدة، وهي قوة يمكن بناؤها وليست مستحيلة إلا مع استحالة الاستغناء عن ثقافة الجهل المعرفية وفوائض قوتها البلهاء.
من يستطيع أن يكذب أو يتصدى لبلفور (الأنموذج) معرفياً؟ فالنصف الأول من زمن القرن العشرين الحاضن لوعوده (كأنموذج) كانت مليئة بدعوات الخروج عن المعرفة الحداثية والتنوير، حيث بدت هذه الدعوات كإزاحة عن درب التطور المعرفي الأنواري (تغير شكل هذه الإزاحات بعد يالطا)، وكل مجريات ذاك الزمان كانت تصب في هذه الغاية إن كان من ناحية اغتيال تحركات الأنواريين وإعلان أفكارهم، أو من ناحية التأسيس لمنظومات ومنظمات ثقافة الجهالة المعرفية، لا بل سورع لإطلاق صفات النهضويين على مؤسسي تلك المنظومات ولما يزالوا إلى يومنا هذا يحملون هذا اللقب على الرغم من كل الكوارث التي تسببوا بها بما يتجاوز (أنموذج) وعد بلفور بكثير، في المقابل تم إحباط وإخماد لا بل واغتيال كل داعية أنواري يسعى إلى نهضة مجتمعية بواسطة المعرفة الحداثية، فنحن حتى يومنا هذا لا نتمايز بصفات مجتمعية قابلة للقياس حاضراً، أو قابلة لإطلاق تسمية على شخصية المجتمع (الهوية) المتمايز الذي هي عليه، فالواقع يخبرنا ومن دون أدنى شك أننا طوائف متناحرة، واتنيات ذات مصالح بالفلكلور أو كيان بدهي كبير يطلق عليه بالمجاز اللغوي لقب أمة، هذه الأشكال الواقعية لا تلحمها مصلحة مجتمعية واضحة معرفياً أو محققة إرادياً، بل تقودها شعارات فوضوية عمياء عن النقطة التأسيسية المناقضة لوعد بلفور ومعناه السياسي والاستعماري، ألا وهو المجتمع /الأمة الذي يجعل للوطن تعريفاً وللشعب شخصية وهوية، وهو الأمر الحقوقي الذي يمكن من خلاله فقط معاكسة الأنموذج البولفوري وليس وعد بلفور وحده، وهنا (حطنا الجمّال) كما يقال، فالأنموذج البولفوري هو أنموذج مجتمعي يعبر عن فائض حيوية "استعمارية"، يحتاج إلى مناهضته إلى أنموذج معرفي مقابل له في الشكل والجوهر، يمتلك المواصفات المعرفية لرده على أعقابه، وكذلك هزيمة مفاعيله ربطاً بالمجتمع ومصالحه الدنيوية المفهومة والمتفاهم عليها في كل أصقاع الأرض. وهنا يتجاوز معنى التحرير (تحرير الأراضي) فكرة العودة إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال، وهذا ما يختص بفلسطين موضوع الوعد وكذلك الأراضي السليبة الأخرى، فالعودة إلى ما قبل الاغتصاب تعني تماماً العودة إلى أنها أيالة عثمانية أو أيالة عربية فيما استجد بعد الثورة العربية الكبرى حيث أفرزت شعار (فلسطين عربية وستبقى عربية) على الرغم من وثيقة "فيصل وايزمن" التي لا تبدو مهتمة بالعروبة إلا كشعار سياسي تكتيكي يفضي إلى زيادة عدد الأيالات، والتصرف بإحداها كهدية لا يعني إلا تصرف المالك في ملكه، حيث يتجاوز الكرم العربي الصلف الاستعماري، كما تتجاوز ثقافة الجهالة المعرفية بأدائها، كل التصرفات الاستعمارية ليتم التصديق على الشعار عبر تجاوز سؤال من نحن بخفة لا تطاق، لتتحول فلسطين في هذا الشعار الهوامي إلى أمكنة دينية فقط، (ربما كان هذا هو السبب في أفضليتها عن بقية الأراضي المسلوبة) يناضل المؤمن في سبيل استعادة حقوقه في العبادة، وليس في سبيل اكتمال مجتمعه الذي يبدو له كتحصيل حاصل استعادة حقوق العبادة، ولكنه شتان بين الأمرين في العملية التي تسمى تحريراً، فالأرض التي اغتصبت بسبب واقع التخلف المعرفي المستمر، لن يحررها واقع معرفي مشغول عليه ليصبح أكثر تخلفاً، وبلفور (الأنموذج) استشرف هذا الواقع تماماً واعتمد عليه. وعليه أيضاً لم يعط بلفور الصهاينة أكثر مما أعطاهم "العرب" العائدون إلى فتوح الشام.
في كل الأزمات "العربية" يتم التلاعب بالألفاظ، ثم تلحق بها مجموعة تفسيرات وتأويلات تسمى تفكيراً أو تحليلاً، ولكن الأكثر خطورة من هذه الألفاظ تلك التي تضفي على المسائل ما ليس فيها، ولا يحتمل أن يكون فيها مما يقصد من هذه الألفاظ، ولعل توصيف نجوم النهضة التفكيرية العربية، كواضعين لـ"ديناميات" الحداثة التي لما تزل ترجمنا بانتصاراتها الفخمة منذ عبد الناصر على الأقل… حتى اليوم، هو من أخطر التوصيفات الدلالية والدالة على عمق التشويه والتشوه الذي أصاب هذه الثقافة وأصحابها، ليقدم هذا التلاعب بالألفاظ، طعام الثقافة المسمومة على طبق من ذهب إلى الناس المشدودين بالعاطفة إلى وجود موضوعي يؤمّه مفكروها "الموازون" لمفكري الغرب الاستعماري افتراضياً، وهكذا تم ترفيع ثلل من مشاهير المنابر الشفاهيين إلى مراتب التحديثيين والحداثويين في صفقة لغوية مريبة عملت على تزيين ثقافة الجهل وتقديمها بوصف منتجيها بحاملي ديناميات الحداثة، ولكن الواقع العملي والتفكيري كشفا أنه ليس هناك إلا محاولات لتغيير تكنولوجيات ثقافة الجهل (المسماة اختصاراً تخلف)، ولعل قارئ مراسلات الشريف حسين ومكماهون يكتشف من تقنيات الكتابة والبروتوكول المعمول به في الرسائل فقط، الفارق الحاسم على تطبيق بسيط من تطبيقات المعرفة الحداثية، وهذا ما ينطبق على "وعد" بلفور الذي هو مجرد رسالة، وليس وعد الحر دين كما فهمنا ونفهم الوعد في أدبياتنا، رسالة متملصة من كل واجباتها الحقوقية التي يمكن أن تحاسب عليها دولياً أو محلياً، وهذا بحد ذاته شأن مغفل في أدبياتنا السياسية، إن كان على صعيد التعاطي الحداثي مع مستجدات المهارة السياسية، أو على صعيد النسيج الحقوقي للتفكير السياسي، حيث وقف الذكاء السياسي المحلي عاجزاً عن الرد عليه عملياً، أو حتى استيعابه في فعاليات قومية رادعة، لنكتشف حالياً أنه لا دور حقيقي لهذا الوعد في إقامة الكيان الغاصب، فهذا الوعد لم يدخل حيز التمثيل السياسي والحقوقي خصوصاً مع قيام هيئة الأمم المتحدة الحالية التي تختلف بنوعية تقاسم المصالح عن سلفها عصبة الأمم، فالعملية الموازية والمكملة لخروجنا من قبضة الرجل المريض، قضت على سؤال من نحن وجوابه، فالجواب المنطقي هو إعلان شخصية أمة (هوية)، لها مرتسماتها الثقافية من حقوقية وسياسية، حيث يتضح تماماً ما يصادر حقها وأراضيها، ولعل رواج هذه الرسالة (الوعد) قد شجع آخرين على قضم أراض أخرى من أمة غير موجودة بالمعاني المعاصرة وقتذاك (وحالياً أيضاً)، وهنا تبدو رسالة بلفور هذه كجرس إنذار أكثر منها لتحقيق رغبة على حساب الغير، ولم يحاسب بلفور ولا حكومة صاحبة الجلالة على هذا (التخبيص على الأقل) لأنه وببساطة لم تكن هناك هيئة دولية قومية بالمعنى المعاصر، وحقيقية يمكنها تمثيل أصحاب الحق تمثيلاً قومياً حقوقياً معترفاً به، والذي ظهر فيما بعد أنهم متعددون ومتناقضون نتيجة تضخم وهوامية تفسيرات الحداثة عمّا يمكن أن يكون عليه هؤلاء، فهل هم المسلمون يخوضون حرباً ضد "صليبية جديدة "؟، هل هم العرب الذين مثلوا المنطقة وأصحابها في مؤتمر باريس 1918 الذي تبعته مفاعيل معاهدة (سيفر)؟، أم هم السوريون (الشوام) على اعتبار أن فلسطين أيالة شامية على مر العصور؟ أم هم العثمانيون أصحاب السيادة الآفلة؟ ومع هذا فإن كل هؤلاء لا يستطيعون أن يكونوا الممثلين لهذا الحق لأنهم ليسوا حداثيين على الأقل، أو ليسوا حداثييين كفاية، حيث على الفلسطينيين أن يكونوا مجتمعاً وأمة بالمعنى التقني المعاصر للكلمة أولاً، أو جزء من مجتمع أمة واضحة جلية ذات شخصية (هوية) معلنة، لها من الحقوق والواجبات الأممية ما لا يختلف عليه أحد. هنا تقع الطامة الكبرى في التعامل مع هذا الوعد الأخرق الذي شكل عقدة كبرى مع أنه لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب به لو كانت الأمور القومية سليمة.
واليوم لو أردنا البحث في مفاعيل وعد بلفور، فإنه علينا الدخول في عملية نقدية تاريخية لما صدر ضده من أفعال "مقاومة"، بمعنى إعادة قراءة التاريخ قراءة نقدية معرفية مجتمعية غير مؤدلجة، فالتاريخ ليس مقدساً، ولا الأفعال التي تمت خلاله جميعها صائبة، ولا النوايا التي كان يفترض أن تكون الدافع لهذه الأفعال تشفع عند ظهور نتائجها، فالسردية التاريخية مهما تعددت من حيث الروي أو التفسير لا تعبر تماماً عما وقع، خصوصاً إذا كانت هناك ثقافة شفاهية تقدم مسرودات من خارج المعايير التأريخية، وكذلك من خارج المعايير المقررة لحياة الأمم والمجتمعات، وفي كلتا الحالتين نصبح أمام تاريخ وتأريخ موهوم لا يقدم إلا دعاوى تحميسية للثأر والانتقام، ولا يدعو إلى معايرة الوجود الجمعي من خلال المنظومة الحقوقية المعمول بها في ذلك العصر، وعليه فإن الحقيقة مهما كان ميلها ليس لها من دور أو فعل، طالما هناك انعدام وجود المعايير لقياسها، فبلفور استباح حقوق ومصالح قومية لا يمكن معايرتها آنذاك ولا لاحقاً، وليس من هيئة مجتمعية مهيكلة قابلة للقياس بمقاييس العصر يمكن لها تمثيل الحق القومي بما هو معمول به بين الأمم الناهضة ذات الشخصية المتمايزة بهيكليات حقوقية مفهومة، ومنها وعلى سبيل المثال "السيادة" التي لم تكن متوفرة في يوم من الأيام، نظراً لفقدان ثقافة المجتمع /الأمة الأنواري والذي على أساس فقدانه تم إطلاق "الوعد البولفوري" وغيره من الوعود والمعاهدات ما يصنع واقعياً ما يمكن تسميته "الظرف البولفوري"، والمشكلة المستعصية حتى يومنا هذا، هي عدم وجود ذاك الكيان المعاير معرفياً للتعبير ولتمثيل الكتلة البشرية لسكان هذه البلاد وتغيير الظرف البولفوري المستمر، وعلى هذا لا يمكننا تجاوز سؤال إلى أين أو إلى متى يمكننا استعادة فلسطين؟.
يشكل وعد بلفور دلالة تاريخية على وجود فلسطين ما، هذه الدلالة التي لم يستطع أحد ترجمتها وجوداً حقوقياً معايراً، حتى في "دولة فلسطين" ذات الكيانين (رام الله وغزة) لا يعرفان ماذا يفعلان بأراضي هذين الكيانين ولا إلى أية أمة ينسبانها، إذ ليس هناك من معيار واضح ومفهوم يمكن مقايسة وجودهما عليه، بالتالي وضوح المجال الحيوي الذي يشكل حدود المجتمع/ الأمة، حيث تتضح مشكلة بنيوية لدى سكانيات المنطقة في علاقتها مع المعرفة، ما يعيد إنتاج الظرف البولفوري مرات كثيرة أخرى، فتأسيس السيادات على التقسيمات السايكسبيكوية هو ظرف بلفوري بامتياز وكذلك التأسيس للممارسات السياسية والثقافية الانتدابية اللاحقة، وغيرها من الممارسات الحقوقية الاجتماعية، تجعل من فقدان الإرادة المجتمعية صفة دائمة الحضور في ثنايا السكانيات الناطقة بالعربية وخصوصاً البلاد المسماة بلاد آشور، وفقدان الإرادة هذا هو ممارسة ثقافة عدم الالتزام بالمعرفة، لأسباب شتى أهمها القناعة التامة بالاكتمال المعرفي، وبذلك تتحول البولفورية وظرفها إلى مرجعية واهية تثبت الحق المغتصب ولكنها لا تستطيع فعل أي شيء حياله، لإنه الأصل في وجود المسألة برمتها.
الأرض والشعب مسألتان مرتبطتان بوجود المجتمع/ الأمة، وهي قضية ثقافية لم تجد لها حلاً على الرغم من كل هذا الكم من التراكم المعرفي المتجدد للبشرية، وعليه سوف يبقى الظرف البولفوري سارياً، ليس في المسائل المعلنة كمسألة فلسطين أو غيرها، بل في قضية الوجود برمتها، وطرح مسائل الهوية والهويات كبديل إلهائي عن مسألة شخصية المجتمع/ الأمة هي ممارسة بلفورية قادرة على اللعب بمصير المنطقة بأيدي أبنائها وعلى مسؤوليتهم وحسابهم، فهم من يرفض المعرفة الحداثية القادرة على تسيير أمورهم الحياتية بما هو مفهوم وواضح ومتفق عليه.