136
لا شك في أنّ الّلغة العربية والسريانية شقيقتان من أرومة واحدة تتحدان معنى ونحواً وإن اختلفتا لفظاً في بعض الأحيان.
من هذا المنطلق نستطيع أن ننطلق ونقول إنّ الفكر العربي والفكر السرياني اتّحدا وتفاعلا سويّة وقدّما للإنسانية تراثاً موحّداً حملت رايته الدولة العباسيّة وقدّمته للعالم أجمع على أنّه حصيلة انصهار التراثين في بوتقة الفكر.
أخذت حضارتنا العربية في تاريخها المديد وجوهاً عدّة برزت من خلالها على العالم. وقد رمقها كل ناظر من وجهة خاصّة، وشفّ بمظهر واحد، وتخيّلها كما بانت لعينيه، وغاب عن باله أنّ هذا الوجه لا يقدّم إلا عنصراً فرداً من عناصر الحضارة العربية المختلفة، وإنّ الإلمام بالعناصر الأخرى يقتضي أن يزيح ولو برهة عن وجهة نظره هذه، كرائد المتحف يتطلّع إلى جوهرة كريمة داخل خزانة زجاجية يدور حولها ليكمل عينيه بكل قسماتها، فلا تفوته منها نظرة. أمّا إذا بقي مكانه فلن يرى الا جزءاً منها يسيراً، رغم كونه وجهاً صحيحاً لها. فهلمّ بنا ننتقل من الأمكنة التي اعتدنا الوقوف فيها إلى أمكنة أخرى، فعسى أنّ الدوران حول جوهرة حضارتنا العربية يسمح لنا بالتطلع إليها من كل جهاتها لندرك مدى أبعادها ونعي سعة غناها.
الحضارة مواد بناء. هي أوّلاً معطيات حضارية ترثها الشعوب عمّا سلفها فتبني بها صرحها الحضاري، فتاريخ كل حضارة يشمل إجمالاً نشأة الحضارة ثمّ اكتمالها فانحطاطها. هذا الشعب الناهض يأخذ، في المرحلة الأولى التركة الحضارية لشعب تقدّمه ثمّ يطبعها بطابعه الخاص وينمّيها بما يبتكر وفقاً لنفسيّته الخاصة. وبعد أن يكمّلها يعيش فيها ويحييها، وكما الناس هكذا الحضارات: تدخل طور الشيخوخة، فالانحلال، حتّى يتاح لها من ينفخ فيها روحاً جديدة فيها من الجديد ما ينسجم مع تجدّدات الإنسان الحي المتطور، وفيها من القديم ما يحسم روح تلك الحضارة التي أبدعتها نفسية الشعب الأصيلة.
هذه هي المراحل الأساسية التي تمر بها الحضارة. ففي نشأتها تأخذ عمّا سبقها وترتبط به. ولا ضير على حضارة إذا ارتبطت بالتراث العام، فالإنسان يستفيد مما أنتجته العصور الغابرة.
تعالوا نستقصي ما أخذ العرب من السريان، ونرى كيف تمّت عمليّة الصهر والابتكار، ولكي تبقى هذه الصورة قريبة من الواقع نتطلع إلى الثقافة العربية السريانية كما تبدو لأعيننا في القرن الرابع الهجري أي العاشر الميلادي أوج ما بلغته الحضارة العربية في الأفق العالمي.
للشعب العربي ميزة استيعاب نادرة ومحبة استطلاع فريدة. فهو لم يترك فنّاً إلا زاوله ولم يلتقِ بأدب إلا وتطرّق إليه. فقد أخذ عن الشعوب السالفة أرفع ما أبدعت وما كان يتلاءم وروحه العربية وحاجاته الاجتماعية، وبعد أن صهرها في بوتقة نفسه العربية أخرجها إلى العالم حضارة أصيلة تعبّر أجلى تعبير عمّا يخالج روحه من النزعات الشرقية.
حكى لنا المؤلفون العرب كابن أبي أصيبعة، والقفطي، وابن النديم، والبيهقي، وابن جلجل، وغيرهم قصة غزو العرب للأدب السرياني والمؤلفات التي ترجمت عن السريانية إلى العربية في أرجاء الدولة العباسية والأندلس.
إننا لن نتوقف عند ما حمله إلينا هؤلاء المؤلفون العرب اذ لا يجهله أحد، بل نريد، في هذه العجالة أن ننوّه ببعض الكتب السريانية المعرّبة التي عثرنا عليها في أبحاثنا، مما لم يذكره من تقدّمنا أو لم يعبأ به لخروجه عن نطاق أشغاله. ثمّ نورد أسماء كتّاب السريان الذين ساهموا بأقلامهم في إقامة الصرح الحضاري العربي، وهو وليد الجامع والكنيسة معاً. كما نتطرّق على النواحي الحضارية الأخرى التي اشترك بها السريان والعرب وإبرازها.
أقبل السريان بعد الفتح الإسلامي على تعلّم اللغة العربية ودراسة آدابها، وأخذوا يصوغون أفكارهم وعلومهم وآدابهم بما ينسجم وتقاليد الدولة العربية، فأصبحت اللغة الحضارية السائدة في العراق هي العربية ولذلك فإنّ الشعوب غير العربية فقدت ذاتيّتها اللغوية.
وبعد أن قطع السريان مرحلة كبيرة في تعليم العربية، فاستطاعوا بذلك إضافة علومهم وأفكارهم إلى ما عند العرب، فتكوّن من ذلك مزيج من الحضارة أصبح في ذاته يختلف عن غيره من الحضارات السابقة مصوغاً بالطابع العربي والأسلوب السرياني، الذي أخذ ينمو ويزدهر منذ العصور الاسلامية الأولى، وأتت ثماره في العصر العباسي الأول حيث أصبحت بغداد حاضرة الدولة العباسية فتهافت عليها رجال العلم والثقافة والأدب والاقتصاد والمال، ولمّا كانت تتمتّع به من المركز الثقافي والعلمي والسياسي والاقتصادي، فنبغت أعداد كبيرة من الشعراء والأدباء والعلماء والفلاسفة وكان أبرزهم في هذه الميادين النصارى العرب والسريان، وأهم ما برزوا فيه الترجمة من السريانية واليونانية والفارسية والهندية والعبرية إلى اللغة العربية. وبذلك عملوا على بعث التراث العربي والسرياني وذلك بالعناية والترجمة والتصنيف والتأليف.
في التراث السرياني انصبّ اهتمام السريان على تعريب الفكر اللاهوتي لآباء الكنيسة ما عدا انشغالهم بترجمة الكتب الفلسفية والطبيّة والفلكية والأدبية للنساطرة واليعاقبة الذين لهم الفضل الأكبر بخلق هذا التيار.
أوّل الكتبة السريان الذين عربت مؤلّفاتهم هو مار أفرام السرياني (373+) فلنا منه في مخطوطات القرن التاسع الميلادي عدّة كتب. وما إن انقضى القرن العاشر حتى كان القسم الأكبر من إنتاجه الأدبي بين أيدي النصارى العرب يحتل المقام الأول في الصوامع والأديار، إلى جانب مؤلفات يوحنا سابا المعروف عند العرب بالشيخ الروحاني وقد نسك في بيت دلياطا، ومؤلّفات مار اسحق السرياني، وكتب يعقوب السروجي، هؤلاء الأربعة هم الكتبة السريان الكبار الذين انتشرت كتبهم أوسع انتشار بين أيدي النصارى العرب والسريان عموماً والرهبان خصوصاً.
وتجدر الإشارة إلى كتّاب آخرين نقلت مؤلّفاتهم السريانية إلى العربية نظير يوحنّا الرهاوي وابراهيم النفتري وقرياقوس النصيبيني وسهدون الأسقف وزيد ابن شمعون طيبوته، وفيلوكسينوس المنبجي (523+) وبولس متروبوليت نصيبين (571+) طبيب الساسانيين ويعرف أيضاً ببولس البصري مطران نصيبين، ويعقوب البرادعي (578+) وماروثا التكريتي (649+) ويعقوب الرهاوي (708+) وداود ابن فولس وهو من القرن الثامن الميلادي.
إننا نضرب صفحاً عن مؤلّفات سير الأولياء والنساك التي ظهرت في السريانية ومنها انتقلت إلى العربية فإنّها أكثر من أن تحصى. كما أنّنا نمر مرور الكرام على تلك الرتب الطقسية المختلفة التي يتقرب بها المصلّون النصارى من الله وقد عرّبت كلها من السريانية التي كتبت بها، وعلم القوانين الذي نشأ عند النصارى السريان والعرب مما سنّه الأقدمون في مجامعهم المسكونية أو المحليّة وقرّره القديسون والحكّام قبل الفتح الإسلامي ومما زاد عليه بعد الفتح حسبما اقتضت الحاجة إلى إقراره ونشره بين المؤلفين.
كل هذا التراث القديم انتقل إلى أيدي العرب فأعملوا فيه الفكر واستلهموه وراحوا يكتبون بهديه صفحات رائعة خلّدت ذكره. وهكذا نشأت إلى جانب المكتبة المعرّبة، مكتبة ثانية خلقها الكتبة السريان وهي تمثّل أبهى تمثيل الأدب السرياني العربي الأصيل.
أمّا المؤلفون النساطرة فعددهم وفير ومقامهم رفيع. أوّلهم تلك الأسرة الراسخة في علم الطب والفلسفة آل بختيشوع من جنديسابور، وقد تناقلت العلم من جيل إلى جيل على مدى ثلاثة قرون تقريباً في عهد العباسيّين مؤسّسها جواجيوس ابن جبرائيل وابنه بختيشوع وحفيده جبرائيل وابن حفيده بختيشوع وحفيد حفيده يوحنا.. ومن أنسباء هذه الأسرة جبرائيل بن عبيد الله وابنه أبو سعيد عبيدالله. هؤلاء كلّهم خدموا الطب والفلسفة والمنطق والديانة المسيحية بما عرّبوا وألّفوا. نقل إلينا أخبارهم ابن أبي أصيبعة، وأبو الفرج ابن العبري، والقفطي من القدماء، وشيخو وسليمان صائغ ويوسف غنيمة من المتأخرين، وماكس مايرهوف، وبرغشتراسر، وبروكلمان ودائرة المعارف الإسلامية عند المستشرقين.
فإن كان ولا بد من وقفة فإنّها تصح الكلام عن دور هؤلاء النساطرة في نشر الثقافة إلى الفرس قبل الفتح العربي، وإلى العرب بعده، فقد أنشأوا مدرسة طبية في الرها، وبعد خرابها انتشر النساطرة في بلاد فارس ونالوا نفوذاً سياسيّاً فيها، وأسّسوا في جنديسابور من أعمال خوزستان كلية طبية جديدة. وقد رُويَ أنّ الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب تعلّم قبيل الإسلام في مدرسة جنديسابور.
يقول المستشرق ديورانت، كان بنو أميّة حكماء اذ تركوا المدارس الكبرى المسيحية والصابئة او الفارسية قائمة خاصّة في حرّان ونصيبين وجنديسابور وغيرها ولم يمسّوها بأذى، وقد احتفظت هذه المدارس بأمّهات الكتب الفلسفية والعلمية ومعظمها في ترجمته السريانية، وما لبث أن ظهرت ترجماتها إلى العربية على أيدي النساطرة.
بقيت هذه المدارس تؤدّي عملها في العصور الإسلامية وزاد اتّصالها بالمسلمين في العصر العباسي، وذلك منذ عهد المنصور حيث تعذّر على أطبائه علاج معدته، فدلّوه على جوارجيوس بن بختيشوع رئيس أطباء مدرسة جنديسابور، وتعاقب غيره من خيرة أطباء مدرسة جنديسابور على الانصراف لعلاج خلفاء بني العباس، وكانوا جميعاً نصارى.
أمّا في العراق فقد أنشأ السريان فيه خمسين مدرسة وكانت تدرّس فيها العربية وآدابها إلى جانب السريانية واليونانية والفارسية وكانت تقام في الكنائس والبيع والأديار. وقد درّس فيها أيضاً العلوم العقلية واللغوية والطب والمنطق والفلسفة واللاهوت. وقد ألحق بها خزائن الكتب والمكتبات وكتب الأقدمين وتحدّثنا عنها بإسهاب طويل.
قلنا، إنّ الرهبان أقاموا المدارس في الأديرة، فكانت في دير مار فثيون مدرسة كبيرة، وقال المؤرّخ ماري بن سليمان: لمّا بنى المنصور مدينته ونزلها الناس، هدم سبريشوع الجاثليق وجدد بناء بيت الأشهاد ونصب اسكولاً (مدرسة) وجمع المتعلمين بها. وكان في الكرخ مدرسة أخرى فذكر ابن القفطي (1248/ 646هـ): أنّ ابن بطلان الطبيب البغدادي قرأ الطب على علماء زمانه من نصارى الكرخ.
وذكر ابن العبري (1286/685هـ): أنّ الطبيب البغدادي يحيى بن عيسى بن جزلة درس الطب لدى نصارى الكرخ الذين كانوا في أيّامه.
وكانت في محلة دار الروم، ودرب القراطيس وبيعة الكرخ، ودرب دينار، وسوق الثلاثاء، مدارس واسعة تضم بين جدرانها مئات من الطلاب. وأكبر هذه المدارس مدرسة مار ماري التي كانت تقع بعيداً عن بغداد في دير قني وقد نبغ فيها أعظم مشاهير علماء السريان والنصارى العرب، اذ يبدو أنّ هذه المدارس كانت دينية خاصة بالنصارى وتدرّس فيها بالإضافة إلى العلوم الدينية اللغة السريانية وآدابها واليونانية، لذا أصبحت من مراكز بعث التراث السرياني والعربي والحفاظ عليه والعمل على نشره في أرجاء العالم.
لا شك في أنّ الّلغة العربية والسريانية شقيقتان من أرومة واحدة تتحدان معنى ونحواً وإن اختلفتا لفظاً في بعض الأحيان.
من هذا المنطلق نستطيع أن ننطلق ونقول إنّ الفكر العربي والفكر السرياني اتّحدا وتفاعلا سويّة وقدّما للإنسانية تراثاً موحّداً حملت رايته الدولة العباسيّة وقدّمته للعالم أجمع على أنّه حصيلة انصهار التراثين في بوتقة الفكر.
أخذت حضارتنا العربية في تاريخها المديد وجوهاً عدّة برزت من خلالها على العالم. وقد رمقها كل ناظر من وجهة خاصّة، وشفّ بمظهر واحد، وتخيّلها كما بانت لعينيه، وغاب عن باله أنّ هذا الوجه لا يقدّم إلا عنصراً فرداً من عناصر الحضارة العربية المختلفة، وإنّ الإلمام بالعناصر الأخرى يقتضي أن يزيح ولو برهة عن وجهة نظره هذه، كرائد المتحف يتطلّع إلى جوهرة كريمة داخل خزانة زجاجية يدور حولها ليكمل عينيه بكل قسماتها، فلا تفوته منها نظرة. أمّا إذا بقي مكانه فلن يرى الا جزءاً منها يسيراً، رغم كونه وجهاً صحيحاً لها. فهلمّ بنا ننتقل من الأمكنة التي اعتدنا الوقوف فيها إلى أمكنة أخرى، فعسى أنّ الدوران حول جوهرة حضارتنا العربية يسمح لنا بالتطلع إليها من كل جهاتها لندرك مدى أبعادها ونعي سعة غناها.
الحضارة مواد بناء. هي أوّلاً معطيات حضارية ترثها الشعوب عمّا سلفها فتبني بها صرحها الحضاري، فتاريخ كل حضارة يشمل إجمالاً نشأة الحضارة ثمّ اكتمالها فانحطاطها. هذا الشعب الناهض يأخذ، في المرحلة الأولى التركة الحضارية لشعب تقدّمه ثمّ يطبعها بطابعه الخاص وينمّيها بما يبتكر وفقاً لنفسيّته الخاصة. وبعد أن يكمّلها يعيش فيها ويحييها، وكما الناس هكذا الحضارات: تدخل طور الشيخوخة، فالانحلال، حتّى يتاح لها من ينفخ فيها روحاً جديدة فيها من الجديد ما ينسجم مع تجدّدات الإنسان الحي المتطور، وفيها من القديم ما يحسم روح تلك الحضارة التي أبدعتها نفسية الشعب الأصيلة.
هذه هي المراحل الأساسية التي تمر بها الحضارة. ففي نشأتها تأخذ عمّا سبقها وترتبط به. ولا ضير على حضارة إذا ارتبطت بالتراث العام، فالإنسان يستفيد مما أنتجته العصور الغابرة.
تعالوا نستقصي ما أخذ العرب من السريان، ونرى كيف تمّت عمليّة الصهر والابتكار، ولكي تبقى هذه الصورة قريبة من الواقع نتطلع إلى الثقافة العربية السريانية كما تبدو لأعيننا في القرن الرابع الهجري أي العاشر الميلادي أوج ما بلغته الحضارة العربية في الأفق العالمي.
للشعب العربي ميزة استيعاب نادرة ومحبة استطلاع فريدة. فهو لم يترك فنّاً إلا زاوله ولم يلتقِ بأدب إلا وتطرّق إليه. فقد أخذ عن الشعوب السالفة أرفع ما أبدعت وما كان يتلاءم وروحه العربية وحاجاته الاجتماعية، وبعد أن صهرها في بوتقة نفسه العربية أخرجها إلى العالم حضارة أصيلة تعبّر أجلى تعبير عمّا يخالج روحه من النزعات الشرقية.
حكى لنا المؤلفون العرب كابن أبي أصيبعة، والقفطي، وابن النديم، والبيهقي، وابن جلجل، وغيرهم قصة غزو العرب للأدب السرياني والمؤلفات التي ترجمت عن السريانية إلى العربية في أرجاء الدولة العباسية والأندلس.
إننا لن نتوقف عند ما حمله إلينا هؤلاء المؤلفون العرب اذ لا يجهله أحد، بل نريد، في هذه العجالة أن ننوّه ببعض الكتب السريانية المعرّبة التي عثرنا عليها في أبحاثنا، مما لم يذكره من تقدّمنا أو لم يعبأ به لخروجه عن نطاق أشغاله. ثمّ نورد أسماء كتّاب السريان الذين ساهموا بأقلامهم في إقامة الصرح الحضاري العربي، وهو وليد الجامع والكنيسة معاً. كما نتطرّق على النواحي الحضارية الأخرى التي اشترك بها السريان والعرب وإبرازها.
أقبل السريان بعد الفتح الإسلامي على تعلّم اللغة العربية ودراسة آدابها، وأخذوا يصوغون أفكارهم وعلومهم وآدابهم بما ينسجم وتقاليد الدولة العربية، فأصبحت اللغة الحضارية السائدة في العراق هي العربية ولذلك فإنّ الشعوب غير العربية فقدت ذاتيّتها اللغوية.
وبعد أن قطع السريان مرحلة كبيرة في تعليم العربية، فاستطاعوا بذلك إضافة علومهم وأفكارهم إلى ما عند العرب، فتكوّن من ذلك مزيج من الحضارة أصبح في ذاته يختلف عن غيره من الحضارات السابقة مصوغاً بالطابع العربي والأسلوب السرياني، الذي أخذ ينمو ويزدهر منذ العصور الاسلامية الأولى، وأتت ثماره في العصر العباسي الأول حيث أصبحت بغداد حاضرة الدولة العباسية فتهافت عليها رجال العلم والثقافة والأدب والاقتصاد والمال، ولمّا كانت تتمتّع به من المركز الثقافي والعلمي والسياسي والاقتصادي، فنبغت أعداد كبيرة من الشعراء والأدباء والعلماء والفلاسفة وكان أبرزهم في هذه الميادين النصارى العرب والسريان، وأهم ما برزوا فيه الترجمة من السريانية واليونانية والفارسية والهندية والعبرية إلى اللغة العربية. وبذلك عملوا على بعث التراث العربي والسرياني وذلك بالعناية والترجمة والتصنيف والتأليف.
في التراث السرياني انصبّ اهتمام السريان على تعريب الفكر اللاهوتي لآباء الكنيسة ما عدا انشغالهم بترجمة الكتب الفلسفية والطبيّة والفلكية والأدبية للنساطرة واليعاقبة الذين لهم الفضل الأكبر بخلق هذا التيار.
أوّل الكتبة السريان الذين عربت مؤلّفاتهم هو مار أفرام السرياني (373+) فلنا منه في مخطوطات القرن التاسع الميلادي عدّة كتب. وما إن انقضى القرن العاشر حتى كان القسم الأكبر من إنتاجه الأدبي بين أيدي النصارى العرب يحتل المقام الأول في الصوامع والأديار، إلى جانب مؤلفات يوحنا سابا المعروف عند العرب بالشيخ الروحاني وقد نسك في بيت دلياطا، ومؤلّفات مار اسحق السرياني، وكتب يعقوب السروجي، هؤلاء الأربعة هم الكتبة السريان الكبار الذين انتشرت كتبهم أوسع انتشار بين أيدي النصارى العرب والسريان عموماً والرهبان خصوصاً.
وتجدر الإشارة إلى كتّاب آخرين نقلت مؤلّفاتهم السريانية إلى العربية نظير يوحنّا الرهاوي وابراهيم النفتري وقرياقوس النصيبيني وسهدون الأسقف وزيد ابن شمعون طيبوته، وفيلوكسينوس المنبجي (523+) وبولس متروبوليت نصيبين (571+) طبيب الساسانيين ويعرف أيضاً ببولس البصري مطران نصيبين، ويعقوب البرادعي (578+) وماروثا التكريتي (649+) ويعقوب الرهاوي (708+) وداود ابن فولس وهو من القرن الثامن الميلادي.
إننا نضرب صفحاً عن مؤلّفات سير الأولياء والنساك التي ظهرت في السريانية ومنها انتقلت إلى العربية فإنّها أكثر من أن تحصى. كما أنّنا نمر مرور الكرام على تلك الرتب الطقسية المختلفة التي يتقرب بها المصلّون النصارى من الله وقد عرّبت كلها من السريانية التي كتبت بها، وعلم القوانين الذي نشأ عند النصارى السريان والعرب مما سنّه الأقدمون في مجامعهم المسكونية أو المحليّة وقرّره القديسون والحكّام قبل الفتح الإسلامي ومما زاد عليه بعد الفتح حسبما اقتضت الحاجة إلى إقراره ونشره بين المؤلفين.
كل هذا التراث القديم انتقل إلى أيدي العرب فأعملوا فيه الفكر واستلهموه وراحوا يكتبون بهديه صفحات رائعة خلّدت ذكره. وهكذا نشأت إلى جانب المكتبة المعرّبة، مكتبة ثانية خلقها الكتبة السريان وهي تمثّل أبهى تمثيل الأدب السرياني العربي الأصيل.
أمّا المؤلفون النساطرة فعددهم وفير ومقامهم رفيع. أوّلهم تلك الأسرة الراسخة في علم الطب والفلسفة آل بختيشوع من جنديسابور، وقد تناقلت العلم من جيل إلى جيل على مدى ثلاثة قرون تقريباً في عهد العباسيّين مؤسّسها جواجيوس ابن جبرائيل وابنه بختيشوع وحفيده جبرائيل وابن حفيده بختيشوع وحفيد حفيده يوحنا.. ومن أنسباء هذه الأسرة جبرائيل بن عبيد الله وابنه أبو سعيد عبيدالله. هؤلاء كلّهم خدموا الطب والفلسفة والمنطق والديانة المسيحية بما عرّبوا وألّفوا. نقل إلينا أخبارهم ابن أبي أصيبعة، وأبو الفرج ابن العبري، والقفطي من القدماء، وشيخو وسليمان صائغ ويوسف غنيمة من المتأخرين، وماكس مايرهوف، وبرغشتراسر، وبروكلمان ودائرة المعارف الإسلامية عند المستشرقين.
فإن كان ولا بد من وقفة فإنّها تصح الكلام عن دور هؤلاء النساطرة في نشر الثقافة إلى الفرس قبل الفتح العربي، وإلى العرب بعده، فقد أنشأوا مدرسة طبية في الرها، وبعد خرابها انتشر النساطرة في بلاد فارس ونالوا نفوذاً سياسيّاً فيها، وأسّسوا في جنديسابور من أعمال خوزستان كلية طبية جديدة. وقد رُويَ أنّ الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب تعلّم قبيل الإسلام في مدرسة جنديسابور.
يقول المستشرق ديورانت، كان بنو أميّة حكماء اذ تركوا المدارس الكبرى المسيحية والصابئة او الفارسية قائمة خاصّة في حرّان ونصيبين وجنديسابور وغيرها ولم يمسّوها بأذى، وقد احتفظت هذه المدارس بأمّهات الكتب الفلسفية والعلمية ومعظمها في ترجمته السريانية، وما لبث أن ظهرت ترجماتها إلى العربية على أيدي النساطرة.
بقيت هذه المدارس تؤدّي عملها في العصور الإسلامية وزاد اتّصالها بالمسلمين في العصر العباسي، وذلك منذ عهد المنصور حيث تعذّر على أطبائه علاج معدته، فدلّوه على جوارجيوس بن بختيشوع رئيس أطباء مدرسة جنديسابور، وتعاقب غيره من خيرة أطباء مدرسة جنديسابور على الانصراف لعلاج خلفاء بني العباس، وكانوا جميعاً نصارى.
أمّا في العراق فقد أنشأ السريان فيه خمسين مدرسة وكانت تدرّس فيها العربية وآدابها إلى جانب السريانية واليونانية والفارسية وكانت تقام في الكنائس والبيع والأديار. وقد درّس فيها أيضاً العلوم العقلية واللغوية والطب والمنطق والفلسفة واللاهوت. وقد ألحق بها خزائن الكتب والمكتبات وكتب الأقدمين وتحدّثنا عنها بإسهاب طويل.
قلنا، إنّ الرهبان أقاموا المدارس في الأديرة، فكانت في دير مار فثيون مدرسة كبيرة، وقال المؤرّخ ماري بن سليمان: لمّا بنى المنصور مدينته ونزلها الناس، هدم سبريشوع الجاثليق وجدد بناء بيت الأشهاد ونصب اسكولاً (مدرسة) وجمع المتعلمين بها. وكان في الكرخ مدرسة أخرى فذكر ابن القفطي (1248/ 646هـ): أنّ ابن بطلان الطبيب البغدادي قرأ الطب على علماء زمانه من نصارى الكرخ.
وذكر ابن العبري (1286/685هـ): أنّ الطبيب البغدادي يحيى بن عيسى بن جزلة درس الطب لدى نصارى الكرخ الذين كانوا في أيّامه.
وكانت في محلة دار الروم، ودرب القراطيس وبيعة الكرخ، ودرب دينار، وسوق الثلاثاء، مدارس واسعة تضم بين جدرانها مئات من الطلاب. وأكبر هذه المدارس مدرسة مار ماري التي كانت تقع بعيداً عن بغداد في دير قني وقد نبغ فيها أعظم مشاهير علماء السريان والنصارى العرب، اذ يبدو أنّ هذه المدارس كانت دينية خاصة بالنصارى وتدرّس فيها بالإضافة إلى العلوم الدينية اللغة السريانية وآدابها واليونانية، لذا أصبحت من مراكز بعث التراث السرياني والعربي والحفاظ عليه والعمل على نشره في أرجاء العالم.