الصورة الكاملة التي يمكن أن تصبح تاريخاً لمنطقة أو شعب، تتكون من تكامل منسق لمئات الجزيئات من الأحداث التي تتأطر في حلقات متداخلة، يتم رسمها في مشروع استراتيجي وتتبلور خلال عقود من الزمن. الحلقة قد تتكوّن من عدد قليل أو كثير من الأحداث المترابطة. كل حدث يُكَوِّن جزيئة صغيرة من التاريخ لها جغرافيتها، مجرياتها، معطياتها، أهدافها ونتائجها. المسار التنفيذي الذي تتبعه الأحداث الجزئية في إطار كل حلقة يتقدم باطِّراد في حال النجاح، ويتطلب تعديلا في المسار في حال الفشل.
هذه الأحداث الهامة عادة ما يتم التحضير لها خلال فترات من الهدوء النسبي الخادع. الفريق الذي يعمل بجد أكبر ووعي استراتيجي أعمق في زمن الهدوء، يتمكن من تحقيق هدفه أو إفشال أهداف الخصم ومخططاته في أوقات الحدث الهام. الإيهام والخداع وامتلاك عنصر المفاجأة، عناصر هامة تتم ممارستها بحنكة في زمن الهدوء، كي تزيد من احتمالات الغلبة لفريق على آخر في مراحل الأحداث الهامة. يجدر التمييز هنا بشدّة بين هذه الممارسات لمن ينفذ خطة استراتيجية، والكذب والنفاق اليومي الذي يمارسه من لا قرار لهم ولا خطة
القوى الفاعلة تستخدم الإعلام لتسويق توجهاتها الآنية أو المرحلية أو الإستراتيجية. الإعلام الآني أو المرحلي يحاول توجيه الرأي العام للتعاطف مع توجه معين، أو نشر إشاعات لتشويه تحركات القوى المضادة، أو تبني مواقف قد تبدو معاكسة للتوجه الإستراتيجي للمشروع، لضرورات آنية تكتيكية تستوجب تمويه النيات الحقيقية. كي تُفهم المداخلات الإعلامية على حقيقتها وعدم الوقوع في خداع معظمها يُسْتَسْقى الموقف الحقيقي فقط من الممارسات التنفيذية المُثْبتة تاريخياً على أرض الواقع ومن خلال فهم الأحداث الآنية والمرحلية في الإطار الإستراتيجي العام.
مثال صارخ من أحداث الأشهر الماضية:
أسابيع بعد غزوة الموصل، قام تنظيم داعش في أوائل آب 2014 باحتلال سد الموصل والاقتراب 50 كلم من أربيل. تم هذا الأمر بشكل مريب بعد انسحاب البشمركة من دون مقاومة (وهم الذين سارعوا إلى دخول كركوك إثر اجتياح الموصل لتأمين "حمايتها" من داعش)، وترافق ذلك بالهجوم على سنجار وقيام داعش بمجازر مروِّعة وسبي بحق الآيزيديين.
ماذا يحصل بالفعل؟ هل يسعى داعش لاحتلال أربيل في هذه المرحلة؟ لماذا لم يفجر داعش سد الموصل رغم تواجدهم فيه حوالي 6 أسابيع؟ لماذا انسحب داعش بسرعة أمام البشمركة نحو الموصل عدا معارك محدودة، بعد تشكل حلف أمريكا – الأطلسي – دول الخليج؟ داعش احتل ناحية سنجار ومحيطها في يومين … هل كان (وما زال حتى اليوم) عاجزاً عن احتلال الجبل الذي يبعد بضعة كيلومترات وسبي من تبقى من المدنيين العزَّل تماماً (بالطبع ليست صحوة ضمير)؟
الإعلام المُركَّز أبرز بشكل مكثف مروحة متكاملة من الأجواء خلال أيام قليلة:
– تهديد أربيل عاصمة إقليم كردستان استنفر جميع القوى الإقليمية والدولية. أسقط بيد الحكومة العراقية فتناست سيطرة البيشمركة على كركوك، وأصبحت بغداد الهدف المفترض التالي فهرعت لطلب النجدة. ارتفع الصوت حول تهديد المصالح الأمريكية والروسية والإيرانية والتركية في إقليم كردستان. حلفاء أمريكا نادوا فوراً بالتدخل السريع … أمريكا لم تتردد في التحرك، ومقاومو سياساتها لم يستطيعوا أن يعارضوا.
– أُبرِزت مخاطر احتلال داعش لآبار النفط في كركوك وتدمير سد الموصل وغُمِز من زاوية اقتراب داعش من الحدود الإيرانية.
– الحالات الإنسانية من ذبح، تهجير، سبي، ومجاعة (ولا ننسى احتجاز الدبلوماسيين الأتراك في الموصل) ملأت الشاشات، المقالات والإنترنت. كانت صور الآيزيديين المحاصرين على جبل سنجار أكثرها تأثيرا وتأجيجا للمشاعر.
– داعش أعدم صحافيا أمريكيا ذبحا ما لم يترك للولايات المتحدة من خيار سوى "قيادة" جهود "تحجيم" داعش.
– صدرت عن داعش تهديدات ضد حكام السعودية والبحرين والكويت "المرتدين" وكل من يضع يده بيد أمريكا، فأصبح الذين أكدت دوائر كثيرة أنهم رعوا ومولوا داعش: ضحايا مهددين بالخطر الداهم من … داعش.
– تباكت تركيا تكراراً على دبلوماسييها الذين "تحتجزهم" داعش في الموصل. ثم حصل تزامن ملحوظ في أواسط أيلول بين إطلاق الديبلوماسيين الأتراك، اكتمال مشاركة دول الحلف الأطلسي "إفراديا" في الحلف الدولي لـ"تحجيم" داعش، وبدء الغزوة الداعشية على عين العرب (كوباني) وريفها.
بنتيجة هذه "العاصفة الكاملة" (شكراً داعش): أحداث متناسقة، تهويل بالأسوأ، حالات إنسانية تدمي القلوب وتهجير مئات الآلاف… كل ذلك في تظهير إعلامي مبدع … أنجزت الولايات المتحدة الكثير:
1. إستصدار سريع لقرار بالإجماع من مجلس الأمن تحت الفصل السابع لمحاربة داعش. تلته الدعوة لتشكيل حلف دولي لمحاربة الإرهاب، وإعادة تجميع من كانوا في السابق "مجموعة أصدقاء سوريا" ضمن هذا الحلف الجديد.
2. الدول الخليجية التي وَصَّفت داعش في بداية هجمتها بـ"الثوار السنة" ضد "الإضطهاد الشيعي"، أعطيت صك براءة … إذ أن المرحلة القادمة تستوجب توصيف داعش بـ"الإرهاب" والانغماس في "تحجيمها".
3. ابتكار ضحايا جدد لداعش، ليسوا سوى أعضاء الحلف الدولي المستحدث لـ"مجموعة أصدقاء سوريا" من خلال حالات "ذبح" فردية وتهديدات يطلقها التنظيم ضدهم كأنظمة أو مجتمعاتهم "المرتدة" أو "الكافرة". هذا التظهير يحاول تمويه الأهداف الفعلية لداعش وأخواتها (جبهة النصرة والتنظيمات المتعددة من مشتقات الإخوان المسلمين): مشاغلة ومحاربة القوى المواجهة للولايات المتحدة وإسرائيل وتدمير ما أمكن من قدراتها العسكرية، اقتلاع الأقليات، التهجير الجماعي للسكان على أساس الاستقطاب الطائفي السني – الشيعي، وتدمير البنى التحتية والفوقية والحضارية لتلك الدول كي يسهل تشكيل وتثبيت البدائل.
4. عودة مظفرة للولايات المتحدة بصورة المخلص الوحيد القادر على إحتواء "الوحش" وعرابةً لـ"مكافحة الإرهاب" في المنطقة. هذا أعطاها القدرة على استخدام قواعدها المنتشرة في السعودية، قطر، البحرين، الكويت وتركيا، إضافة إلى الأسطول البحري في المتوسط والخليج بشكل حربي متكامل بوصفها الوصي القادر والعطوف، من دون اعتراض مؤثر من أحد. كانت أيضاً فرصة سانحة لإشراك الحلفاء الخليجيين في مناورات جوية حية. أما هوية الطيارين؟ عدا عن استعراض رائدة إماراتية وأمير سعودي، هل بينهم إسرائيليون ممن تتكامل مهماتهم مع القوات الأميركية؟ من يدري… ومن يسأل؟
القدرة على تبديل المسارات المرحلية التكتيكية في حال تعثرت، وتحضير الموارد الممكن استخدامها في المسارات البديلة، مسألة حيوية لاستمرارية المسار العام للمشروع الإستراتيجي. هذه العثرات قد ينتج عنها خسائر وانتكاسات كبيرة أو تأخير في التوقع الزمني للمشروع الإستراتيجي. المشروع هنا هو "الشرق الأوسط الجديد" الذي "بشرت" به كونداليزا رايس في بداية "غزوة" إسرائيل ضد لبنان العام 2006. المسار الأساس اعتمد القوة المباشرة للجيش الإسرائيلي. فَشَل هذا المسار استدعى تفعيل المسار البديل: الربيع العربي الذي أوصل الإخوان المسلمين إلى السلطة في تونس، ليبيا، مصر واليمن (دول خارج منطقة الهدف المباشر للمشروع لكن أحداثها تعطيه زخماً كبيراً)، والفتنة السنية – الشيعية في سوريا، لبنان والعراق تحت شعار الانتفاضة "السنية" ضد اضطهاد الأقلية "الشيعية" لهم، وصد الهجمة "الفارسية" برعاية وتوزيع أدوار بين الدول "السنية" القلقة: تركيا، قطر والسعودية. جزيئات متعددة من الأحداث المتناسقة من 2006 حتى اليوم، أشرّت إلى المسار الجديد.
الغزوة الداعشية في الموصل وباقي العراق وإعلان دولة الخلافة الإسلامية ليسا إلا جزيئة من الأحداث في هذا السياق، وتلتها غزوة عين العرب (كوباني) لتكون الجزيئة التالية من الأحداث ضمن المسار البديل.
الصورة التي تسعى أمريكا لتركيبها في المنطقة خلال العقود القادمة لمصلحة إسرائيل تتكون من مئات الجزيئات الصغيرة، ولكل جزيئة أحداثها ومعطياتها وأهدافها. الإعلام المخادع يحاول أن يغرقنا في متاهات تفاصيل القطع الصغيرة: واحدة واحدة، لتغشى أعيننا عن الصورة الكاملة. تحت الإشراف الأمريكي – الأطلسي، الدوران الإسرائيلي والتركي متكاملان إستراتيجياً في تكوين الشرق الأوسط الجديد: فكا كماشة من الجنوب والشمال، لتثبيت الحضارة والاقتصاد الغربيين في دولتي التطرف الطاتفي: يهودية توراتية وخلافة إسلامية سلفية.