-1-
تحاول هذه الورقة أن تبين العلاقة بين السياسة والمصلحة من حيث هي علاقة مفصلية لا يمكن من خلال البحث فيها الفصل بين السياسة من حيث هي اتقان فن الممكن في سوس مصالح الناس، منفردين ومجتمعين، من ناحية؛ واحتراف العمل مع كل ما يرافق ذلك من المزايا الخلقية العامة ورسوخ القيم الانسانية النبيلة، على تأمين المصالح الوطنية العليا. والمصلحة هنا، تظهر على أنها نوع من المواءمة والملاءمة بين تأمين مصالح الناس والمصلحة الوطنية العامة. ومن نافل القول، التأكيد أن تأمين المصلحة الوطنية العليا بمعزل عن تأمين مصالح الناس ضرب من الهرطقة السياسية توصل إلى الاستبداد والطغيان باسم المحافظة على المصلحة العامة. كما أن تأمين مصالح الناس، منفردين ومجتمعين، دون الاهتمام بتأمين المصلحة الوطنية العليا ضرب من استغلال الناس للدولة والمجتمع توصل الدولة والمجتمع إلى الفوضى والاستغلال، وتزايد حدة التفاوت الاجتماعي، وفتح الأبواب على النزاعات والفوضى فيالأوجه كافة.
بهذا المعنى، تلتقي مصلحة السياسة من حيث هي التعبير عن المصالح العليا للمجتمع مع سياسة المصلحة من حيث هي تأمين المصلحة العامة، مصلحة المجتمع ومصلحة الدولة. وبهذا المعنى، أيضاً، تتناقض مصلحة السياسة بمفهومها وتجلياتها المبينة أعلاه مع سياسة المصلحة في حال تعبيرها عن مصلحة الحاكم باعتباره يمثل مصلحة المجتمع والدولة معاً. فتكون السياسة هنا على الضد مما يفعله الحاكم بمحاولته اختصار المجتمع والدولة في شخصه، وبالعمل على إدغام مصلحة السياسة بسياسة المصلحة الشخصية والمنفعة الفردية.
-2-
في هذا الكلام العام، تظهر العلاقة بين السياسة والمصلحة في أوجه مختلفة. ومن محاذير اختلال هذه العلاقة،ما يمكن أن يوصل، إما إلى الاستبداد والطغيان، باسم الحفاظ على المصلحة الوطنية العليا المندغمة هنا في مصلحة الحاكم، أو إلى الفوضى باسم الحرية المتفلتة من قيود السياسة ومصلحتها، باعتبارها فن الممكن وفن تأمين المصالح الوطنية.
إذا تأملنا في أوضاعنا الحاضرة على صعيد العالم العربي، وعلى صعيد كل دولة عربية على حدة، نتساءل، كيف يمكن رؤية العلاقة بين السياسة والمصلحة؟ وكيف يمكن أن تكون هذه العلاقة في حال تمت الملاءمة والمواءمة بين مصلحة كل دولة عربية على حدة من الوجهة المعيارية، أي في ما يمكن أن تكون عليه هذه العلاقة، وبين المصلحة العربية العليا معيارياً، أي في ما يمكن أن تكون؟
قبل البحث معيارياً في ما يمكن أن تكون عليه هذه العلاقة محلياً وعربياً، لا بد من النظر إلى الوضع السياسي العربي الحالي، محلياً، وعلى المستوى العام.
لا يمكن، في أي حال من الأحوال، إخفاء التردي السياسي العربي عن أي كان. ولا يقتصر هذا التردي على العلاقات السياسية بين الدول العربية، إن كان في ثنائياتها، أو في الأكثر. والعلاقات الايجابية، إن وجدت، فهي ظرفية وآنية وشخصانية أكثر مما هي مبنية على أسس متينة وسليمة. ويمكن لهذه العلاقات أن تتقوى أو تنهار، حسب العلاقة التي تربط بين رأسي الدولتين، أو لظرف طارئ عكّر العلاقات، أو متـّنها مع طرف ثالث، دون تناسب بين الطرفين، أو عمل على موجة لا ترضي أحدهما بالدرجة نفسها لرضى الآخر، أو غير ذلك. هذا على المستوى العام. أما على المستوى الخاص، فإن العلاقة الشخصية التي تربط الحاكم بالمحكوم، تعمل على تأبيد حكم الحاكم وعلى تأبيد خضوع المحكوم، وعلى دمج مجتمع المحكومين برأس الدولة.
هنا تظهر سياسة المصلحة بأوضح صورة. صورة الحاكم الذي لا يحده أفق في النظر الى الحكم وإلى مدة الحكم. ولا يرى إلا الزمن الذي يقيس مدة أبوّته لمجتمع المحكومين. والأبوة لا تخضع للزمن بل الزمن يخضع لها. ولا يظهر الزمن سطوته إلا بالموت، أو بتمرد "الرعية". وتعود الأبوة لتطلّ برأسها باستمرار الأب بالابن أو الشقيق. ويعود الزمن إلى الخضوع لسطوة الحاكم.
أقسى ما يقضّ مضجع الحاكم صاحب سياسة المصلحة ومنتهجها، المعارضة وفكرة تداول السلطة. ولا يقوى على لفظ كلمة ديمقراطية أو حرية، وإن كان يقبل بكلمة المساواة والمسؤولية، ولكن بالشكل والمضمون اللذين يجعلان منه الأب الراعي للأبناء على أن يكونوا سواسية كأسنان المشط في النظر إليهم، وفي التعاطي معهم، بالمسؤولية اللازمة التي تعطي الحق للراعي في صون الرعية. وهو بهذا،الأكثر دراية ووعياً بمصالحهم، وبتفاصيل قضاياهم. هم عليهم الطاعة والامتثال وتأمين العمل والاستقرار، وهو عليه صون الرعية وتأمين المصالح العليا للدولة والوطن. هنا تظهر بأنقى صورة المصلحة العليا للحاكم باعتبارها المصلحة العليا للدولة والمجتمع، وأي تحرك أو احتجاج أو مطالبة: فتنة، وقبل نشوب فتنة الفتن، "الثورة"، بوقت طويل.
على مستوى الداخل، يتعامل الحاكم مع المعارضين أو المطالبين والمحتجّين باعتبارهم عاقين. والعقوق مصدر الأذى ومنبع الاضطراب ومولد الفوضى. إذن على الحَجْر أن يحمي المجتمع من العاقين، ويطهّر الفضاء المنقّى من جراثيم العقوق، وإن امتلأت زنازين السجون، أو فُتحت أبواب الهجرة على مصاريعها.
الفضاء المنقـّى هاجس الحاكم المؤبد، ومدار اهتمامه ليبقى منقّى. وكل الأجهزة تعمل لتبقي على هذا النقاء. يتمظهر ذلك في الاستفتاءات والنسب المئوية. ويظهر على فم الحاكم والمساعدين أيَّ تعارضٍ لتوجه الحاكم على أنه خارجي الهوى والأغراض، لأن الداخل بيت العائلة الكبير. والخارج يبغي تدمير الداخل، لتحويل هذا الداخل إلى بوق الخارج، أو مرتع نفوذه وهواه. ولا حلّ في تجنب أذاه إلا بجزّ المعارضين، وإن كانوا من أقرباء الدم والنسب. ومصلحة البلاد هنا المختصرة بمصلحة الحاكم، تضحي بالمارقين، ولو كانوا من أقرب الناس.
-3-
هذا التوجه العام للحاكم والمتبوع، باستسلام المحكومين، يسهم في إيجاد منافذ التدخل من الخارج تجاه الداخل. كما يمكن للخارج أن يأخذ من استكانة الداخل وخضوعه ذريعة لتدخله. وغالباً ما يبدأ هذا التدخل بتوجه إعلامي مبرمج،أو بالعمل على توجيه الناس إلى التعرف على حقوقهم وواجباتهم من خلال التعاطي مع الشأن العام، إن كان بتوسل الأحزاب أو النقابات أو حقوق الجماعات، إتنية كانت أو دينية أو مذهبية أو جندرية. فيتوجه النشاط العملي اليومي إلى المطالبة بالحقوق المهضومة، وحق التمتع بالحرية في شتى مناحيها، أفراداً وجماعات. فيصير من المحتّم، تلاقي مطالب الداخل مع توجهات الخارج، تحت عناوين كبرى تتعلق بحقوق الانسان، وممارسة الديمقراطية والحرية، والتعاطي في شتى أمور الناس بما يتناسب مع توجهاهم، ومع توجهات المجتمع المدني الذي يعمل على فصل المجتمع عن الدولة، ويطالب الدولة، ويضغط عليها، ويتعاون معها أيضاً، لتأمين حقوق المجتمع بكل أطيافه ومؤسساته وعناصره.
في هذا كله، تتأمن مصلحة السياسة في كونها فن تعاطي الممكن، وفن خدمة القضايا الوطنية. مصلحة السياسة، باعتبارها العاملة على توسيع المساحة المشتركة التي تجمع فئات المجتمع، وعلى بناء ما يجمعهم، ويؤلف فيما بينهم في القضايا التي تدل على وحدة الارادة، ووحدة المصير، وأهمية العيش المشترك،وتنمية روح المواطنية، وزرع عناصر الحس المدني بالقول والممارسة.
هذه المواصفات جميعها، تشكل العناصر الأساسية المميزة للمجتمع المدني الذي يعمل، ليس فقط على بلورة حقوق الناس وتأسيس الوعي بها، بل أيضاً، على معرفة الواجبات، وكيفية ممارستها على المستويات كافة؛ منها حرية التعبير، وممارسة النشاط السياسي والاجتماعي، والمطالبة بحقوق الناس، والدفع باتجاه العمل على تعميم مفاهيم الديمقراطية والحرية، والعمل بما تتطلبه في الممارسة، إن كان في عملية تداول السلطة،أوشرعية المعارضة. والغاية النهائية من ذلك كله،تأمين المصالح العليا للمجتمع، وذلك من خلال التعامل مع الدولة، وبكل أصناف التعامل، سلباً كان هذا التعامل أو إيجاباً. ذلك أن الدولة، باعتبارها دولة، هي المسؤولة عن تأمين هذه المصالح، بما يتناسب مع المجتمع، قبل تناسبه مع مصلحة الحاكم.
هذا التوجه يؤلف بين الدولة والمجتمع. كما يساهم في تأمين مصلحة السياسة.وباعتباره هذا، يُبعد سياسة المصلحة المرتبطة بأهواء الحاكم ومريديه والضاربين بسيفه. ويسد، بالتالي، منافذ رياح التغيير التي يمكن أن تأتي من الخارج، على غير ما يسير فيه أصحاب إرادات التغيير من الداخل.
في هذا المجال، يمكن لأصحاب إرادات التغيير من الداخل أن يستفيدوا مما يقدمه الخارج، وخصوصاً في وجهه الاعلامي، من خلال حمل الناس على الوعي بحقوقهم وواجباتهم، وموقعهم في عمليات التغيير.فيبقى الداخل، لذلك، المستفيد الأول من عمليات التغيير، وإن كان بمساعدة معلومة من الخارج، وبوجهها الاعلامي على الخصوص. فتتأمن بذلك، مصلحة السياسة في الداخل. وتكون السياسة بذلك قد صفّحت نفسها،وعملت، في الوقت ذاته، على عدم الانجرار وراء أهواء الخارج ونوازعه. وهي المطامع التي تدخل جميعها من باب تأمين سياسة المصلحة في تعاطيها مع الداخل العامل على التغيير، ومن باب تأمين مصلحة السياسة في علاقتها مع قضاياها. المصالح نفسها كانت وما زالت توجه سياسات الدول وتعمل على تأمين بحبوحة شعوبها واستقرارهم، وإن كان على حساب مصالح الآخرين؛ إذ على هؤلاء أن يفتشوا عن مصالحهم أيضاً.
-4-
في زمن القهر، تتلاقى مصلحة السياسة على مستوى الداخل، مع سياسة المصلحة خارجياً وتستتبع هذه تلك، وتتبادل المصالح "مصالحها" بما يرجح كفة الخارج في تعاطيه مع الداخل. وهو الخارج الأقوى والأكثر قدرة على تحديد آفاق تحركه ونشاطاته ومبررات تدخله.ولا يهم إذا كانت هذه المبررات ذاتية أو موضوعية، طالما تصب جميعها في خدمة هذا التوجه. فهي بذلك تستفيد من زمن القهر والتسلط والاستبداد، لتنفيذ ما يخدم مصلحتها في السياسة متوسلة نتائج سياسة المصلحة في تعاطيها مع المقهور والمهمّش والمقموع.
في هذا الاطار، يتساوى اتهام العراق بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، مع المعرفة الأكيدة لتوجهات الشعب العراقي الذي أنهكه زمن الحصار والقهر والتسلط. وهو الحصار المتزامن مع إظهار وقوف كل الشعب مع الحاكم المحاصر،والناشئ عن سياسة المصلحة. فكان أن احتل الأميركيون العراق بإشراف مباشر، ودون حول أو قوة، من الأمم المتحدة خاصة، وتحت أنظار البلدان العربية مجتمعة. وما كان للجامعة العربية أي دور، لا في السلب ولا في الإيجاب. بل كانت أقرب ما تكون من حالة العجز الكامل والشلل التام، ولاعتبارات متعددة، لا مجال هنا للبحث فيها، وتستدعي، بالتالي، قولاً آخر.
يتساوى الحدث العراقي في كل تداعياته، مع الرؤية الواضحة للقهر والتسلط في أكثر من بلد عربي، ما أتاح التدخل السافر تحت عناوين متعددة، منها: الدفاع عن حقوق الانسان، أفراداً وجماعات، والمطالبة بنشر الديموقراطية، وتداول السلطة،وفي أمكنة وجغرافيّات محددة دون غيرها؛ والعمل على تنفيذها بتوسل كل ما يمكن من أساليب، مثل: حق التظاهر والاعتصام، والتمرد وتحدي النظام العام، في مجتمعات لا تزال غير قادرة على التغيير بما يتناسب مع تطلعاتها، وبما تمتلكه من أدوات التغيير، ومن مشاريع رؤى تغييرية، أو مشاريع يمكن أن تحل محل ما هو قائم.
-5-
تظهر، من خلال المواجهة بين المجتمع والدولة في العالم العربي، هشاشة الدولة والمجتمع معاً. هشاشة الدولة من خلال سرعة انفراطها في حالات التجييش العملي والعاطفي لجماهير الناس، شباباً ومثقفين ومظلومين؛ الناس الذين قلبوا حكاماً، وأجبروا، ويجبرون آخرين، على التنحي. وأجبروا، ويجبرون آخرين، على الوعد بالاصلاحاتن وإقامة التغييرات بما يتناسب مع تطلعات الناس. ولكنهم تورطوا، وما زالوا يتورطون، عن وعي منهم ولا وعي، وبأكثريتهم الساحقة، ولاعتبارات متعددة، في الانقسامات الإتنية والقبلية والدينية والمذهبية. وردّوامجتمعاتهم،بتوجههم هذا، إلى الانتماءات الأهلية السابقة لوجود الدولة الحديثة، أو مظاهرها على الأقل؛ وكأن كل أدوات التحديث ورموزها، كانت تنتظر استفاقة الحس الأهلي القبلي والديني والطائفي والإتني والمناطقي لتتنحى، مخلية المكان للقبيلة والطائفة والمذهب والعنصر والمنطقة. ولنا في اليمن والسودان وليبيا ولبنان والصومال والعراق والبحرين وسورية الأمثلة الساطعة على ذلك. ولم تقع الجزائر والمغرب والأردن والسعودية وبلدان الخليج في المحظور،إما بسبب قوة التماسك الداخلي،أوعجز أدوات التغيير على فعل ما فعلت في أصقاع أخرى، على الأقل حتى الآن.
-6-
الوضع العربي المتردي الظاهر للعيان، يقتضي البحث في السبل التي يمكن أن تساهم في عملية التغيير، وتزيد، في الوقت نفسه، من تماسك المجتمعات داخل البلدان العربية. وتعمل كذلك، على بناء العلاقات السليمة فيما بينها،وعلى أساس وعي مصلحة السياسة في بناء هذه العلاقات، تنسيقاً و تكاملاً، أو اتحاداً أو وحدة.
من نافل القول التأكيد على فائدة هذا التوجه، لما له من أهمية في إظهار القوة المتأتية من هذه العلاقات بين البلدان العربية، وزيادة مساحة الموقع في العلاقات الدولية. هذا الموقع هو الذي يعطي الامكانيةإلى الخارج لينظر بعين مغايرة إلى الداخل المتكامل، أو الاتحادي، بما يتناسب مع تأمين مصلحة السياسة للداخل، إن كان على مستواه الجامع الوحدوي أو الاتحادي أو التكاملي، أو على مستواه الاقليمي والفردي، وبما يتناسب مع الخارج أيضاً.
وإنطلاقاً من مقولة "النظر على قدر الحجم"، بمعنى أن لا ينظر أحد إلى أحد، أو لا يتعامل أحد مع أحد، إلا بما يتناسب مع الحجم والقوة، فإن من مصلحة السياسة في الدول العربية، التوجه نحو العمل على ردم الهوة بينها وبين مجتمعاتها، عبر تأمين المزيد من الديموقراطية، والحرية، وفتح الآفاق الرحبة أمام تطلعات شعوبها. وفي هذا الاطار، من الأفضل، بل من الضروري، أن يأتي هذا التوجه من الحكام أنفسهم، لا من الخارج، وإن كان بمساعدة منه أو بموجب نصيحة، أو نصائح. وإلا جاء هذا التوجه من الخارج نفسه، إن كان بالمرونة اللازمة، أو بالقوة القاهرة، كما حصل، أو يمكن أن يحصل.
هذا الكلام يستدعي العمل على موجة الداخل لبناء الانسان المواطن، والعمل على بناء المؤسسات، على أي مستوى كانت؛ وهي المؤسسات التي تسهم في بناء المجتمع المدني من خلال آلية عملها، وكيفية تعاطيها مع الانسان الفرد والجماعة، ومع الدولة أيضاً. ومن نافل القول التأكيد على أهمية ممارسة الديموقراطية، وخصوصاً على المستوى السياسي، وتداول السلطة، والمساواة أمام القانون، وإزالة كل العوائق التي تمنع المواطنين من التفاعل،ومن التربية على المواطنية والشعور بها وممارستها، إن كان على المستوى الديني في حال تعدد الأديان، أو على المستوى الطائفي أو المذهبي في حال تعدد المذاهب والطوئف ضمن الدين الواحد، أو كان على المستوى الإتني أو القبلي في حال تعدد الإتنيات والعناصر، ورسوخ العصبية القبلية ضمن الدين الواحد أو حتى الطائفة، أو على مستوى الاختلاف والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين المناطق، أو ضمن المنطقة الواحدة، إلى أي دين أو طائفة أو إتنية انتموا.
لا إمكانية لتنفيذ هذه التوجهات، أو العمل عليها، إلا عند حصول القناعة التامة بأهميتها على المستوى الفردي، أو الجماعي، مهما كانت هوية الفرد أو الجماعة، باعتبار أن هذه التوجهات تمثل مصلحته، فرداً أو جماعة، وتتحقق، من تأمين سياسة المصلحة هذه،مصلحة السياسة، وعلى حساب سياسة المصلحة.
-7-
ما سبق، يبين كيفية تأمين مصلحة السياسة على صعيد الداخل، داخل كل بلد عربي. ماذا، إذن، على صعيد العلاقات العربية – العربية ؟ وكيف يمكن أن تكون هذه العلاقات؟
من زمان، نسمع بالسوق العربية المشتركة، وقبل تحقيق الاتحاد الأوروبي بكل مقدماته وتفصيلاته؛ هذا التحقيق الذي لم يحصل قبل العمل على التنسيق بين القطاعات الاقتصادية الأولية والانتاجية. ما يعني أن مفتاح أي وحدة أو اتحاد، على المستوى السياسي، لا بد أن يسبقه تكامل وتنسيق، على المستوى الاقتصادي، مهما كانت، في البداية، درجة تكامل أو تنسيق هذا المستوى.
الشأن الاقتصادي هو الذي يُشعر الانسان، فرداً كان أو جماعة، بالفائدة. ويساعد على التحفيز والطموح لبناء الحياة المرفّهة والرغيدة. بهذه الفائدة والتحفيز والطموح تتحقق المصلحة، ذاتية كانت أو جماعية أو مجتمعية. وبتحقيق المصلحة الاقتصادية تظهر فائدة وضرورة تأمين مصلحة السياسة؛ هذه المصلحة التي عليها أن تعمل على رسم السياسات المنسقة والمتكاملة في العلاقات بين البلدان العربية، بما يحفظ استقلال كل منها، وبما يبني العلاقات السياسية الإيجابية بين منازل البيت العربي الواحد، وفي علاقة البلدان العربية مع الخارج. هذا ما يسهّل بناء العلاقات الإيجابية مع هذا الخارج،وانطلاقاً من موقع عربي موحد أو مؤتلف ومتكامل. وهذا أيضاً، ما يحفظ كرامة العرب ويحدد موقعهم في قلب العالم، لا على هامشه. ومن هذا الموقع، تتحدد علاقة كل بلد عربي مع هذا الخارج، ليس باعتباره بلداً مستفرداً، بل محمّي ومحصن من توجّه عربي موحّد، أو مؤتلف ومتكامل. وهذا يعني، مما يعنيه، أن حصول الضرر الصغير هو بعينه الضرر الكبير، مهما كان نوع هذه العلاقة، ومهما كانت تأثيراتها.
تحقيق التكامل الاقتصادي العربي عن طريق توزيع قطاعات الانتاج على البلدان العربية، حسب ما تقتضيه الجغرافية السياسية والاقتصادية والاقليمية أولاً بأول، وتبادل المنتوجات بحيث تتيح إعادة توزيع الثروة العربية؛ والتخلي عن سياسة التفرد الاقليمي اقتصادياً وسياسياً،هو أفضل ما يمكن العمل عليه لبناء العلاقات العربية العربية، ولا فرق، بعد ذلك، إذا أوصلت إلى الاتحاد أو الوحدة.
المفارقة الكبرى، أن العمل بحسب هذا التوجه، بالإمكان توفره عن طريق نشاطات الجامعة العربية التي أنشئت على هذا الأساس، وللقيام بهذه المهام. والمفارقة الأكبر أن عمل الجامعة ينشلّ في حال وجود خلاف، أو أزمة، بين أي بلد عربي، أو أكثر، بدل أن يكون الخلاف محفزاً للجمع لإزالة الفرقة. وفي حال الاستقرار تتحول أعمال الجامعة إلى سوق للمدائح والأدعية بإطالة الأعمار، وتوزيع بعض "المغارم" على الأشقاء الملحوقين اقتصادياً، والملاحقين سياسياً، لمغالاتهم في ارتكاب سياسات المصلحة،وبعدهم عن مصلحة السياسة.
التكامل الاقتصادي على هذا الصعيد، المفترض فيه أن يكون بقيادة الجامعة العربية، لا بد أن يُستتبع بتكامل مبني على العمل لتحقيق التنمية البشرية على الصعد كافة، وخصوصاً على صعيد البحث العلمي، والعلاقة مع المرأة باعتبارها نصف المجتمع، لأن في تنميتها وتمكينها تنمية وتمكين المجتمع.
-8-
الشعور والوعي بالمصلحة، حتى ولو كانا على مستوى الفرد في موقعه في المجتمع، أو في طريقة التعبيرعن وجوده وممارسته لحق المواطنة على اختلاف أوجهها، بالاضافة إلى موجباتها أيضاً، منضافاً إليهما انخراطه في العمل، أو لمسه، وبالمحسوس، لفائدة العلاقات الاقتصادية العربية المتبادلة، أو إحساسه بقوة موقعه كعربي في العالم؛ كلها تسهم في إظهار وحدة التوجه العربي وتعمل على تحقيق طموحات العرب في التكامل أو الاتحاد أو الوحدة، لا فرق.
هل تلتقي هنا طموحات الفرد العربي مع طموحات بلدانه؟ هذا هو السؤال. والاجابة عنه منوط بالبلدان العربية، دولاً ومجتمعات.