شاع في الرويات المتداولة عن البدايات الأولى للفكرة القومية العربية أن نجيب عازوري هو أحد رواد الفكر القومي العربي، وهو يُعد واحداً من الذين أسهموا في صوغ جانب من المفاهيم القومية في كتابه الذي أصدره في سنة 1905، بعنوان:"يقظة الأمة العربية".
ولعل في ذلك الكثير من الصدقية من الناحية الزمنية، مع أن التنقيب في ملفات التاريخ يشير إلى أن بدايات الوعي القومي العربي شرعت بالتبرعم التدريجي مع بطرس البستاني وناصيف اليازجي عندما أسسا معاً "جمعية الآداب والعلوم" في بيروت سنة 1842.. ثم تبلورت أكثر مع ظهور "الجمعية العلمية السورية" في سنة 1857 في بيروت أيضاً، بجهد لافت من سليم ابن بطرس البستاني وابراهيم ابن ناصيف اليازجي. واشتهرت في تلك الفترة كما هو معروف قصيدة ابراهيم اليازجي:
تنبهوا واستفيقوا أيها العربُ
فقد طمى الخطبُ حتى غاصت الركبُ
من هو؟
ولد نجيب عازوري في بلدة عازور القريبة من جزين في تاريخ غير معروف على وجه الدقة. أما ما هو معروف عنه فهو أنه عمل مساعداً لحاكم القدس بين سنتي 1898 و1904. وفي سنة 1904، أي في العام نفسه الذي ولد فيه انطون سعاده، اعتزل منصبه وغادر فلسطين إلى فرنسا ليؤسس هناك "جامعة الوطن العربي" ويصدر بالفرنسية كتابه "يقظة الأمة العربية". ثم في 24/4/1907 أصدر بالفرنسية أيضاً مجلة "الاستقلال العربي" الشهرية. وقد توقفت هذه المجلة عن الصدور مع سقوط السلطان عبدالحميد الثاني وإعلان الدستور العثماني في تموز 1908.
بعد سقوط السلطان عبدالحميد قرر نجيب عازوري العودة إلى فلسطين وخوض الانتخابات النيابية. غير أن السلطة العثمانية الجديدة حكمت عليه بالإعدام بتهمة القيام بنشاط يمس أمن الدولة (أي التجسس)، فهرب إلى القاهرة، وتولى تحرير جريدة "مصر" الناطقة باسم "حزب مصر الفتاة"، وأسس محفلاً ماسونياً على غرار محافل "الكاربوناري" ذات الأهداف التحررية القومية، وتوفي في سنة 1916.
تقول زاهية قدورة في تقديمها للطبعة العربية من كتاب "يقظة الأمة العربية" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، د.ت.) إن عازوري اشترك في تنظيم مؤتمرات عربية منها المؤتمر العربي الأول في باريس سنة 1905، والمؤتمر العربي السوري سنة 1913. والحقيقة أن وثائق المؤتمر العربي السوري لاتذكر البتة اسم نجيب عازوري بين الذين حضروا هذا المؤتمر أو الذين تخلفوا عن الحضور لأسباب قاهرة، أو حتى أرسلوا برقيات تأييد إلى المؤتمر.
وفوق ذلك فإن ألبرت حوراني في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة" (بيروت: دار النهار،1968) يشير إلى أن نجيب عازوري لم يكن متحمساً للمؤتمر العربي السوري في باريس سنة 1913. ولعلني لا أجازف بالاستنتاج أن عازوري، وهذا مدعاة للغرابة حقاً، لم يشارك قط في هذا المؤتمر، ولم يكن من أعضاء اللجنة التحضيرية للمؤتمر، مع أنه أحد أوفى الأوفياء لفرنسا التي رتبت عقد هذا المؤتمر، وتولى خلصاؤها توجيه أعماله وتحرير بياناته أمثال: عبدالحميد الزهراوي الذي انتخب نائباً للرئيس، فضلاً عن اسكندر عمون وندرة المطران ونعوم مكرزل وخيرالله خيرالله وآخرين.
الوعي المبكر
لا ريب في أن نجيب عازوري يعتبر واحداً من الذين اكتشفوا مبكراً خطر الصهيونية على فلسطين وعلى البلدان المحيطة بها. وهو، إلى جانب نجيب نصار (ثم خليل السكاكيني وروحي الخالدي في ما بعد) يُعد أحد أوائل الرواد الذين نبهوا، بقوة، إلى المخاطر المتوقعة من صعود الحركة الصهيونية. وللأسف الشديد فإن كتابه "الخطر اليهودي العالمي" لم يصلنا البتة، ولم يُعثر على أي نسخة منه أو حتى على نصوص متفرقة في بطون الكتب الأخرى، فقد ضاع واندثر تماماً على الأرجح. وفي أي حال، لم يصلنا من مواقفه في الصهيونية إلا بعض النصوص المتناثرة في كتابه "يقظة الأمة العربية" وها نحن نبني على الأمر مقتضاه.
يقول نجيب عازوري:"إن ظاهرتين هامتين متشابهتي الطبيعة، بيد أنهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن، تتضحان في هذه الآونة في تركيا الأسيوية أعني: يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة اسرائيل القديمة (…). إن مصير هاتين الحركتين هو ان تتصارعا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى" (ص41). ومع تحفظنا التام على عبارة "متشابهتي الطبيعة"، إلا أنني أرى أن عازوي لم يكن مجدداً أو نقدياً في فهم الظاهرة اليهودية أو الحركة الصهيونية، إنما كان مجرد شخص اكتشف خلال توليه منصب مساعد حاكم القدس حركة الاستيطان اليهودية في فلسطين، وتجلى له خطرها الداهم، فراح يحذر منها وينبه إليها. وله في هذا فضل كبير بلا شك. أما طريقة تفكيره في فهم اليهودية والصهيونية فكانت تقليدية على غرار ماهو سائد وموروث في ذلك الحين. وعلى الرغم من أن نقد الرواية التوراتية كان بدأ في أوروبا، ومع ان نجيب عازوري مثقف يتقن من اللغات الأوروبية الفرنسية على الأقل، فيبدو أنه لم يكن مطلعاً على الدراسات الحديثة في نقد التوراة وفي علم الآثار في فلسطين، بل كان يستخدم الرواية التوراتية بحذافيرها فيذكر، على سبيل المثال، "إن اليهود لم يمتلكوا من فلسطين سوى الضفة الغربية لنهر الأردن وسلسلة الجبال الممتدة غربي هذا النهرمن الخليل حتى بحيرة الحولة" (ص48).
وفي مكان آخر يقول:"كان في فلسطين تحت سيطرة داوود مليون وثلاثمئة ألف محارب استناداً إلى الكتاب المقدس" (ص60).
وفي سياق آخر يقول:"إن حركتنا (أي الحركة القومية العربية) تظهر في وقت توشك فيه اسرائيل (يقصد "المنظمة الصهيونية العالمية") على النجاح في خططها الهادفة إلى السيطرة على العالم" (ص39). وفي هذه العبارة يعيد استحلاب نظرية "العبقرية اليهودية والخطط الخفية لليهود للسيطرة على العالم" كما وردت في "بروتوكولات حكماء صهيون".
إن أهمية نجيب عازوي لا تكمن في طريقة التفكير التي انتهجها، أو في الأفكار التي انتهى إليها، بل في الوعي المبكر بخطر الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وفي فضح قعود الحكام الأتراك عن مواجهة هذا الخطر الداهم، ثم في كشفه عن المساندة التي طالما قدمها القناصل الأوروبيون لليهود القادمين إلى فلسطين. غير ان ألبرت حوراني في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة" أشار إلى أن نجيب عازوري رأى، في وقت لاحق، "أن إنشاء المستعمرات والمصارف اليهودية يؤدي إلى تقوية القومية العربية بفضل مصالح أقطاب المال في العالم". وهذا ما جعل حوراني يستنتج أن عازوري "لم يكن بذلك منسجماً مع نفسه" (ص333).
ربما نجد تفسير هذا الارتباك لدى عازوري في أنه كان يرى أن من أولويات مشروعه القومي هو الانفصال عن الدولة العثمانية، فهو يقول:"إن العرب والأكراد والأرمن يريدون الانفصال عن الشجرة النخرة ليشكلوا دولاً مستقلة حرة مشبعة بأفكار التقدم والحضارة الأوروبية" (ص134). وبهذا المعنى فإن أفكار نجيب عازوري كانت منسجمة تماماً مع مشروعات وراثة الرجل المريض ومع المصالح الفرنسية بالتحديد.
الصهيونية بين سعاده وعازوري
لا أغامر بالاستنتاج أبداً إذا قلت إن أنطون سعاده كان أعمق تفكيراً وأبعد رؤية مقارنة بنجيب عازوري. فهو امتلك وعياً نقدياً شاملاً حيال الحركة الصهيونية واليهودية معاً، ولم يلتفت إلى الخرافات الشائعة عن اليهود وعبقريتهم وقواهم الخفية للسيطرة على العالم، بل اتبع منهجاً علمياً مادياً تاريخياً، إلى حد كبير، في تفسير الظاهرة اليهودية والحركة الصهيونية. ولعل امتلاك سعاده هذه الرؤية العلمية، قياساً على قلة العلم لدى عازوري يعود إلى الفارق الزمني بين الإثنين. فسعاده ولد في السنة التي أسس فيها عازوري "جامعة الوطن العربي". والمقالات الأولى لسعاده عن الصهيونية تعود إلى سنة 1925. وبين وفاة عازوري في سنة 1916 وظهور كتابات سعاده عن المسألة الفلسطينية وقعت أحداث كبيرة أزاحت اللثام عن أمور شتى مثل اتفاقية سايكس-بيكو(1916) وإعلان بلفور (1917) وهزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى (1918) وعقد مؤتمر الصلح في باريس (1919) وصدور مقررات مؤتمر سان ريمو التي تفرض الانتداب على بلاد الشام والعراق (1920).
في أي حال، فإن المقارنة بين نصوص عازوري وسعاده تتيح لنا اكتشاف الفارق في الوعي النقدي، مع إغفال عامل الزمن على أهميته القصوى. وبينما نلاحظ أن عازوي يشدد على فكرة إعادة بناء اليهود "زطنهم القديم" في فلسطين (ص48)، نرى أن سعاده، وكان في الحادية والعشرين فقط، يؤكد أن "الباعث على الحركة الصهيونية في الدرجة الأولى أفكار جماعة تريد أن توجد من يهود العالم المختلفي النزعات والمشارب أمة اسرائيلية"(سعاده، مراحل المسألة الفلسطينية"، بيروت: عمدة الثقافة، 1977).
ويضيف:"إن الجولة اليهودية لم تنشأ بفعل المهارة اليهودية ولا بشيء من الخلق والعقل اليهوديين (….) بل بفضل التفسخ الروحي الذي اجتاح الأمة السورية ومزق قواها وبعثر حماسها وضربها بعضها ببعض وأوجدها في حالة عجز تجاه الأخطار والمطامع الأجنبية"(سعاده: خطاب في برج البراجنة، 1/6/1949).
إن فهم سعاده للحركة الصهيونية، كما يظهر في عشرات النصوص والمقالات والبيانات بين 1925 و1949، يصدر عن منهج علمي وتاريخي ونقدي في الأساس، فهو لا يحترم "نظرية المؤامرة" أو خرافة "عبقرية اليهود"، ولم يلتفت إلى حكايات "بروتوكولات حكماء صهيون"، وإلى "قوى اليهود الشريرة"، بل انصرف إلى تحليل الصهيونية استناداً إلى التاريخ والمصالح الاستعمارية والوقائع الجارية، لا إلى الدين، فلم يذكر التوراة والتلمود في مصادره إلا لماماً. وقاده هذا المنهج إلى كلام كلام قلما يتردد، هنا وهناك، في كتابات القوميين. لنلاحظ قوله التالي:"يوجد فريق من اليهود الراقين يفهم العلل وأسبابها ويفهم عقم دعوة الصهيونيين ويحاربها من أجل اليهود كما من أجل الانسانية جمعاء. وقد اشتهر من هذا الفريق مورغنثاو سفير الولايات المتحدة السابق في تركيا، وله في هذا المجال حملات صادقة أثبت فيها فساد الحركة الصهيونية" (سعاده، مجلة "المجلة"، شباط 1925).
كان سعاده ثاقباً، بالفعل، في استهزائه بفكرة "المهارة اليهودية" أو "العبقرية اليهودية" التي ما برحت تتردد هنا وهناك، في بعض الكتابات العربية الساذجة. والحقيقة أن "العبقرية اليهودية" مجرد خرافة شائعة، والدليل أنه لم يظهر أي عباقرة بين يهود فارس أو الهند أو إثيوبيا أو بين يهود الأرجنتين وجنوب افريقيا وتركيا. ولم يكن لليهود أي شأن في الحضارات الانسانية القديمة، فلا وجود لهم في الحضارة المصرية أو في الحضارتين الرومانية والاغريقية. كذلك لم يظهر أي مفكر يهودي مهم في العصور الوسطى الأوروبية، ولا حتى أي رسام أو أديب أو شاعر.
إن المهارة تظهر، على العموم، في نسق حضاري محدد ومعلوم. ولعل "مهارة اليهود" في العصر الحديث ظهرت مع صعود الرأسمالية وترقي أوضاع اليهود. وهذا ينطبق على العديد من الأقليات التي عاشت في مجتمعات متحركة مثل الأرمن والصينيين واليونانيين في الولايات المتحدة الأميركية. ومهما يكن الأمر فإن أعظم أربعة عقول بين اليهود في العصر الحديث اشتهرت لا بصفة كونها عقولاً يهودية بل لأنها حطمت اليهودية وهي: اسبينوزا وماركس وفرويد وآينشتاين.
قدم سعاده فهماً متطوراً وحديثاً لعلاقة الدولة الاسرائيلية بالاستعمار، وهو الفهم الذي سيصبح لاحقاً، من بديهيات المعرفة وإن بصياغات مختلفة. فإسرائيل هي في الواقع ثروة استراتيجية للاستعمار في بلادنا، وهي ارتبطت منذ قيامها برباط وثيق مع انكلترا وفرنسا ثم مع الولايات المتحدة الأميركية في ما بعد. وفي جميع الأحوال كانت، ولازالت، تمثل الحضور المباشر للمصالح الأميركية في هذه المنطقة من العالم.
لم يفهم سعاده قيام دولة اسرائيل في 14/5/1948، على أنه عقاب إلهي أنزله الرب بالمسلمين كما رّوج سعيد رمضان البوطي مثلاً، ولم ينظر إليه على أنه نتيجة قاسية لخيانة الجيوش العربية كما شاع في المخيال الفلسطيني بالدرجة الأولى، بل رأى في قيام هذه الدولة انتصاراً لمطامع الدول الأجنبية أولاً وأخيراً، وأن مواجهة هذا الحدث يكون بالرد الشامل على الاستعمار، فهو يؤكد:"إن محق الدولة الجديدة المصطنعة (اسرائيل) هو عملية تعرف جيداً مداها. إنها عملية صراع طويل وشاق وعنيف يتطلب كل ذرة من ذرات قوانا، لأن وراء الدولة اليهودية الجديدة مطامع أجنبية كبيرة تعمل وتساعد وتبذل المال وتمد الدولة الجديدة بالأساطيل والأسلحة لتُثبت وجودها. فالأمر ليس فقط مع تلك الدولة اليهودية الجديدة المصطنعة، إنه مع الدولة الجديدة ومع دول عظمى وراء الدولة الجديدة"سعاده، خطاب في برج البراجنة،1/6/1949).
الحماية الأجنبية
دعا نجيب عازوري إلى قيام أمة عربية في الجزء الآسيوي من بلاد العرب فقط. ودعا أنطون سعاده إلى قيام أمة سورية في بلاد الشام والعراق معاً. وعلى أهمية هذا الفارق بين الفكرتين، إلا أن ثمة نهجاً شديد الخطر لدى نجيب عازوري يتمثل في أن قيام كيان عربي مرهون، بحسب تصوره، بفكرة الحماية الأجنبية، وهي هنا تعني الحماية الفرنسية. فنجيب عازوري لم ينفك مؤيداً نظام الحماية الفرنسي في المشرق، ومدافعاً عنه بلا كلل. وطالما وصفه بأنه عمل خيري يقوم على ثلاث ركائز، فهو:
1- يحمي المرسلين الفرنسيين.
2- يحمي الكنائس الكاثوليكية الوطنية.
3- يحمي المرسلين الكاثوليك الآخرين كالألمان والايطاليين والانكليز.
كان عازوري يعتقد أن "فرنسا رسول نشط ومتحمس للفكر الحر، وهي مشعل الحضارة والحرية الأسطع إشعاعاً إلى جانب كونها حامية المقهور (…). أما انكلترا فهي المنافسة الشريفة لفرنسا المأوى السخي للفكر والقيم الانسانية"(ص116). ولو عاش عازوري سنة واحدة فقط، أي إلى سنة 1917، لظهرت له اتفاقية سايكس-بيكو، ولخاب أمله في سياسة هاتين الدولتين، ولاسيما فرنسا التي طالما وصفها بأنها "أمة الفروسية التي بادرت إلى الحملات الصليبية التي عادت نتائجها بفوائد على العالم بأسره، وغزت الجزائر لا من أجل إقامة مستعمرة إنتاجية لها فيها فحسب، بل وفوق ذلك من أجل تحرير المتوسط من القرصنة البربرية التي كانت تشله وتهدد التجارة الدولية (…)، وقامت بحملة إلى سورية وخلقت الحكم الذاتي في جبل لبنان دون أن تتمركز في البلاد كما كان يمكن لها أن تفعل"(ص115).
من الواضح أن أفكار نجيب عازوري كانت مشوبة بلوثة طائفية، فضلاً عن مقدار لا بأس به من الغفلة حيال المصالح الفرنسية والانكليزية في بلادنا. وهو عندما دعا العرب والأكراد والأرمن إلى طلب الدعم والحماية من الدول الأوروبية، وبالتحديد من فرنسا وانكلترا، من أجل الانفصال عن تركيا، إنما كان يعبر عن ضرب من التعصب للكاثوليكية والكره الهائل لروسيا التي ما برح متهماً إياها بالإمعان في نشر الأرثوذكسية في بقاع الأرض. والحقيقة أن دعوته "إلى إحلال مذهب كاثوليكي قومي عربي تتلى بموجبه الصلوات كلها بالعربية، وتأسيس بطريركية خاصة لهذه الكنيسة الجديدة تحتوي المذاهب الأخرى كلها خلال سنوات معدودة" نابعة من غيرة طائفية لا من موقف قومي علماني. فهو يعيب على فرنسا الكاثوليكية تخليها عن الموارنة، ويحذرها من أن هؤلاء ربما يطلبون الحماية من انكلترا. ولا يتورع عن معاتبة فرنسا لأنها رفضت في سنة 1903 إرسال الأسطول البحري إلى بيروت لاستعراض قوته بعد وقوع بعض الاضطرابات، ورفض الأسطول البحري الفرنسي في سنة 1904 أن يحيي مطرانين مارونيين جاءا لتهنئة الأميرال. ويقول إن الموارنة اعتقدوا ان هذين التصرفين يشيران إلى تخلي فرنسا عن حماية الكاثوليك. وهنا يرفع عازوري عقيدته بالتصريح التالي:"لا يستطيع المسيحيون العيش بأمان بعد هذا التخلي الرسمي عن حمايتهم، ووجب عليهم التفتيش عن مُدافع. ومن الطبيعي أن يرتموا في أحضان انكلترا". لكنه، مع ذلك، يؤكد أن لا أحد"يملك الحق في حكمنا غير فرنسا، ولن يهتف أحد بحرارة لأية دولة غيرها في الأقطار العربية يوم يتقرر تجزئة الأمبراطورية التركية".
أما سعاده فقد كان يرى، منذ سنة 1921 فصاعداً أن الاستعمار الفرنسي خطر يضاهي خطر الصهيونية إذا لم يكن يفوقه. وطالما أعاد سعاده تذكير السوريين بتصريح الجنرال غورو الذي أذاعه عقب إنزال العلم الفرنسي عن دار الحكومة في بيروت والذي يقول فيه:"إن فرنسا أتت إلى سوريا لا لترحل عنها بل لتبقى وستبقى فيها إلى الأبد".
لم يعتقد سعاده، في أي لحظة، أن حرية السوريين مرهونة بالحماية على غرار نجيب عازوري، بل ربط بين التجزئة التي أسهمت فيها فرنسا بالقسط الكبير، وإعلان بلفور الانكليزي الصنع، وامتلك قدرة على التحليل والتركيب أكسبته معرفة دقيقة بتفصيلات صراع الأمم على هذه المنطقة، وفهم مبكراً أن إعلان بلفور إنما هو المحصلة المنطقية لأتفاقية سايكس-بيكو، وأن قيام دولة يهودية في جنوب سوريا هو نتيجة موضوعية لاتفاق المصالح بين فرنسا وانكلترا والولايات المتحدة الامريكية. ولهذا رأى أن الرد على تهويد فلسطين لا يكون إلا سورياً شاملاً، لا فلسطينياً فحسب، لأن الخطر الصهيوني لا يطال فلسطين وحدها بل سوريا كلها. وشتان بين موقف سعاده وموقف عازوري في هذا الشأن الخطير.
في أي حال فإن نجيب عازوري، إذا تجاوزنا قصة علاقاته الخاصة والمريبة بوزراة الخارجية الفرنسية، لم يكن له، على الأرجح، أي حضور سياسي فاعل في تلك الفترة المطلوبة من تاريخ المنطقة العربية. ولعل أهميته تكمن في الجانب التاريخي فقط، تماماً كما نستعيده الآن كأحد رواد الفكر القومي العربي، وأحد الذين عرفوا مبكراً خطر الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين. أما جهده الفكري والسياسي الذي بذله طوال اثني عشرة عاماً (1904-1916) فقد ظل هامشياً وبلا تأثير أو فاعلية، فهو، كما يقول عنه ألبرت حوراني، وقف عند حد تعريف القرنسيين بقضية العرب القومية من دون أن يُحدث أثراً يُذكر في أرض الواقع في المشرق العربي (ألبرت حوراني، مصدر سبق ذكره). بينما ما صنعه سعاده قبل اغتياله وبعد استشهاده كان له تأثير ارتجاجي في المنطقة كلها.
الأمة بين مفهومين:
في تصوره للدولة العربية المقترحة استبعد نجيب عازوري مصر من إطار هذه الدولة.
لماذا؟
"لأن المصريين (في رأيه) لا ينتمون إلى العرق العربي، فهم من عائلة البرابرة الافريقيين، واللغة التي كانوا يتكلمونها قبل الاسلام لا تشبه العربية قط"(ص219).
إذن، يبني نجيب عازوري تصوره للأمة العربية على أساسين: العرق واللغة. وهو يُخرج المصريين من دائرة العروبة استناداً إلى أنهم من عرق غير عربي، أي بربري افريقي، ولأنهم كانوا يتكلمون قبل الاسلام لغة غير عربية.
ما باله ينسى أن السوريين أيضاً كانوا يتكلمون قبل الفتح العرب اللغة السريانية، وهي لغة تنتمي مع العربية إلى مجموعة لغوية واحدة! وفي أي حال فقد برهنت الدراسات الصوتية الحديثة أن اللغة المصرية القديمة تشترك مع اللغة العربية القديمة في أبنية وتراكيب واشتقاقات تجعلهما ينتميان إلى مجموعة لغوية واحدة تقريباً، أو متجاورة على الأقل.
لنلاحظ كيف أن مفهوم الأمة لدى عازوري متخلف وغير معاصر، ويقوم على عنصر العرق، بينما مفهوم الأمة لدى سعاده معاصر ويقوم على مفهوم "المزيج السلالي" أو "السلالة التاريخية". يقول سعاده: "إننا أمة ليس لأننا نتحدر من أصل واحد بل لأننا نشترك في حياة واحدة في وطن واحد" (انظر خطابه في حفل افتتاح النادي الفلسطيني في بيروت في سنة 1933). ويضيف:"أما إدعاء نقاوة السلالة الواحدة أو الدم فخرافة لا صحة لها في أي أمة من الأمم على الإطلاق، وهي نادرة في الجماعات المتوحشة ولا وجود لها إلا فيها" (شروح في العقيدة). وأبعد من ذلك، فإن تصور عازوري للدولة العربية الموعودة لا تختلف عما هو حال العرب اليوم إلا قليلاً. إن هذه الدولة ستنشطر إلى قسمين: قسم في الحجاز وهو دولة دينية تُمنح لشريف مكة، وقسم في الشام والعراق تنفصل فيه السلطة الدينية عن السلطة المدنية ويُمنح لأحد أبناء سلالة محمد علي. وفوق ذلك ستنشأ كيانات أخرى متمتعة بالاستقلال الذاتي وبالحماية الدولية معاً مثل إمارة نجد (تمنح لابن سعود)، وإمارة المحمرة (تمنح لشيخ الخزاعلة)، ولبنان والقدس واليمن، وكذلك إمارات "الخليج الفارسي" بحسب مصطلح عازوري نفسه.
إن هذه الدولة توليفة ملفقة تماماً. وهي مجرد خطة تراعي مصالح أطراف كثيرة في الوقت الذي لا تراعي فيه مصالح السكان أبداً. وهذه الفكرة إنما تستجيب، بحسب صاحبها بالذات للمصالح الفرنسية بالدرجة الأولى، وللمصالح الانكليزية بالدرجة الثانية. والهدف هو تفكيك الدولة العثمانية والوقوف أمام التمدد الروسي في ذلك الوقت.
إن فكرة قيام خلافة عربية يكون خديوي مصر رئيسها الزمني وشريف مكة رئيسها الروحي هي فكرة الخديوي عباس حلمي في الأصل، وهي استمرار لدعوة محمد علي وابنه ابراهيم باشا اللذين حاولا تأسيس امبراطورية عربية على هذا الطراز. ثم إن بعض أفكار نجيب عازوري تماماً من عبدالرحمن الكواكبي (1849-1903) الذي طالما دعا في كتابه "طبائع الاستبداد" وفي كتابه الآخر "أم القرى" إلى أن يتولى العرب بأنفسهم إدارة بلادهم، وإلى نزع الخلافة من الأتراك وإعادتها إلى العرب، مشترطاً أن يكون الخليفة قرشياً وأن تشمل سلطته الروحية كافة المسلمين، على أن يقتصر سلطانه الزمني على الحجاز. وكانت تلك أول مرة يتقدم فيها مفكر عربي مسلم بمشروع لأنشاء دولة وطنية تُفصل فيها السلطة التنفيذية عن الدين (انظر: سليمان موسى،:الحركة العربية 1908-1924"، بيروت:دار النهار، 1977).
إنها بالفعل فكرة ملفقة تماماً، وصاحبها نجيب عازوري لم يكن علمانياً حقاً، لأنه يدعو إلى كيان عربي مزدوج الهوية: دولة دينية في الحجاز، ودولة مدنية في الشام والعراق. إنها فكرة توفيقية صيغت بحسابات "الدكنجية"، فصاحب الفكرة أراد منها ان يُرضي معظم الأطراف الفاعلة في تلك الفترة، ولهذا جاءت لتوفق، في أحد جوانبها، بين مفهوم السلطة الدينية والسلطة المدنية، فتعطي أمير مكة سلطة زمنية وسلطة دينية على الحجاز، وسلطة دينية فقط على عموم المسلمين في العالم. ثم توفق بين الاستقلال التام عن الأتراك وبقاء النفوذ الغربي قائماً. وهي توفق أيضاً بين دور مصر المركزي في المنطقة وإخراج مصر من الجسم العربي في الوقت نفسه، كأنها تعانق أفكار علي يوسف في مصر الذي كان يدعو إلى قيام خلافة عربية تتخذ من مصر قاعدة لها، وهذه الفكرة نفسها تلامس طموحات الأميرين فيصل بن الحسين وشقيقه عبدالله اللذين طالما تطلعا، قبل أن يهزمهما عبدالعزيز بن سعود، إلى قيام خلافة عربية تكون الحجاز قاعدة لها. علاوة على ذلك، فإنها توفق بين فكرة اللامركزية عند رفيق العظم (أي استقلال إمارات نجد والحجاز والعراق واليمن والخليج ولبنان) وفكرة الكواكبي عن وجوب قيام خلافة عربية تقود العالم الاسلامي.