111
للعرب مع الشعر شأن خطير، حتى قيل لا تترك العرب الشعر حتى تترك الإبل الحنين وما أدراك ما حنين الإبل إذا تلظت أو تشظت.
أما حكاية الإنسان العربي مع الشعر لا تنقضي فصولاً إلا بانقضاء الأجل، لأن الشعر لا يعرف موسماً أو موعداً مضروباً، كأنه فوق المواسم والمواعيد… يصنع نفسه بنفسه، ينسج ثوبه بيديه وراء ستائر النفس حتى إذا تمت له أسباب الوجود واكتسى رداء النغم ارتجف أحرفاً على الورق، وليس أدل على الذات الشاعرة من وجدان خصيب يسبح بلألاء النور في حومة الكون فيحتضر الكون في ذاته، ويفكر في الكون من خلال ذاته، ليفهم ذاته من خلال الكون.
وليس مهماً أن يقول الشاعر، ولكن الأهم أن ندرك أبعاد ما يقوله ودلالاته العاطفية والإنسانية والاجتماعية.
لأن الشعر هو الأساس الذي تقوم عليه الحياة، ولا يعود زينة تصاحب الوجود الإنساني مصاحبة ظاهرية، كأنه لون من زخرف الحياة وبهرجها، إذ ليس الشعر من المشاغل البريئة للإنسان لأن الإنسان يركز على وجوده الإنساني في الشعر وحده، فيحقق بذلك تلك الطمأنينة التي يصاحبها نشاط في جميع القوى والعلاقات …..
قد يكون لكل زمان أحداثه، منها ما يخضع لقابلية الاستمرار أو الاسترداد. ومنها ما ينغلق عليها باب زمانها ومكانها، وفي هذه الحال تطغى الذاكرة على ما عداها من مكونات الشعر: لغة وعاطفة وخيالاً… إذا ابتعد الحدث عن زمان الشاعر خضع لمنطوق العقل الحامل للذاكرة يشهد الحدث وشؤونه وشجونه…..
إلا أن قضايا الشعر لا تتأتى من فراغ ولا تعيش في الفراغ، بل تسكن ذات الإنسان الشاعر الذي ينغمس كياناً ووجداناً بقضاياه الذاتية والإنسانية إذا تبدى له الإحساس بمبدأ الالتزام… والمتفق عليه بين الباحثين أن الكلام على أي شاعر يدخل في مجال التقليد…
أما الكلام على العلايلي شاعراً فيدخل في مجال التجديد… لأن مشاعر الأديب وأفكاره لا تنبت في السماء، وصور شعره ليست أحلام جنيات (دلفي) وشياطين عبقر، إن تجربة الأديب تنمو وتتراكم وتثمر في ظل شروط ليست كلها داخلية أو ذاتية… ولاسيما بعد اختفاء تيجان القديسين من فوق رأس الكاتب, وتحوله إلى كائن معجون بالواقع..
العلايلي الشاعر
قبل الكلام على شعر الشيخ العلايلي, نسأل: هل العلايلي شاعر؟ وما قيمة شعره في ميزان النقد الأدبي؟
إذا كان الشعر هو الكلام المنسوج واللفظ المنظوم… وأحسنه ما لاءم نسجه ولم يسخف، وحسن لفظه ولم يهجن، ولم يستعمل فيه الغليظ من الكلام. ولا السوقي من الألفاظ فإن العلايلي شاعر… إنما سُمّي شاعراً لأنه يشعر من معاني القول وإصابة الوصف بما لا يشعر به غيره.
يقول العلايلي… "على أني لست شاعراً وما ينبغي أن أكونه لولاها"
كثر الكلام على شاعرية الشيخ عبد الله العلايلي بين معترف بها أو رافض لها، مستعينين بما قاله: ما أنا بشاعر، إنما هي مشاعر سطرت حروفاً وكلاماً… واعتبر هذا الفريق أن من يقرأ شعر العلايلي لا يجد حيوية الشعر العربي غناء، وضوحاً ورواء ويحتاج هذا الشعر إلى ترجمان أو إلى معجم من معاجمه ليفهم اللفظ ويدرك الدلالة ويعي ما يقرأ…
قال الإمام الشافعي:
"رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
ربما كان في الأمر بعض الصحة، ولكن البعض الآخر لا ينبغي أن ينظر إليه نظرة عابرة، هذا اذا وضعوا شعر العلايلي في ميزان الشعر عموما, وقاسوه بمقاييس كبار شعراء العربية قديماً وحديثاً.. ولكن , إذا حصروا شعر العلايلي في إطار الذات الشاعرة لتبين الأمر أكثر وضوحاً، لأن الشاعر أساساً ينطلق من ذاته، ويقيس الأفكار والألفاظ التي شكلت النص الشعري لديه بقبوله لها وفحصها والتأمل في قدرتها على الأداء ثم يخرجها إلى العلن لتصبح ملكاً عاماً، يقرأها الناس ويرددونها، فإن قبلوها فاعتنوا بها، أو ردوها فيطفئوا جذوتها باللامبالاة…
وبالدخول إلى عالم العلايلي الشعري قد يثبت البرهان ويبرز الدليل..
.
.
فالشاعر العلايلي جعل اللغة مسراه وعرفه الناس ناسكاً، لغوياً، باحثاً متفرداً في محرابها، وهذا صحيح للغاية، ولعل في طغيان عطائه اللغوي وقلة عطائه الشعري وربما لم يصل إلى كثير من الناس، حصره في هذا العطاء ولم يتنبه إلا القلة لعطائه الشعري.
ولئن اعترف العلايلي في سياق كلامه بأنه ليس شاعراً وما ينبغي أن يكونه فإنه أضاف كلمة واحدة تشعرك بمدى شعوره والتزامه بالقضايا التي تهز وجدانه، فتحرك قلمه للتعبير عن هذا الوجدان الملتاع بأتون الحرب اللبنانية الدامية…
أما حبه للبنانه فقد آلمته الحرب الدامية فيه مثال….
مصرع لبنان في إنسانه راعه روعاً تخطاه العزاء
أخصام أم ركاس ما أرى يدفع الإنسان فيه للوراء
أم هي السادية العطشى إلى مشهد الأشلاء تنباع دماء
بعضها يأكل بعضاً فارياً لا يبالي منجل الحصد الفناء
جهالة عمت وصالت صولة ليس تبقى.. طيشها كان البلاء
أسعفوه جمعوا أوصاله قبل أن يضحي بقايا مومياء
فكلمة (لولاها) أي لولا ويلات الحرب اللبنانية، نقلت صورة هذا الحرف المستدرك إلى بيان معنى آخر ليس فيه أي غياب للشعر أو رفض أن يكونه، وباتت الحقيقة تقرر أنه شاعر نسج شعره على منوال الأحداث الألمية، واختار لها ما يناسب ذوقه الأدبي من الألفاظ والصور… وإن جاء بعضها في رداء بدوي "كما كان القديم يبادر بوصف راحلته، نسجت على نوله نيسجي".
وحسبنا أن نشير في هذه المداخلة العاجلة إلى بعض مميزات العلايلي في شعره وبالتالي إلى خصائص الشعر لديه:
أ- ومن مميزات شعر العلايلي الواقعية التي تنقل رؤاه وذاتيته في آن، وهذا لعمري دليل على توافقه مع الواقع والحقيقة وعدم التفاته إلى عامل الخيال الشعري الذي هو من ضرورات الشعر أحياناً، لأن الانغماس في الخيال يعني حاجة الشاعر إلى الإتيان أو إبداع صور غير مرتبطة بالواقع إلا بخيط رفيع، ما يضطره إلى تبرئة قلمه من نسج الخيال الذي يجعل "أعذب الشعر أكذبه" كما قالت العرب، ولاسيما أن الواقع مفعم بالقضايا الإنسانية والاجتماعية الواقعية ولاسيما في واقعنا العربي المأزوم، في شؤونه القديمة والحديثة، فرآها العلايلي ونظمها شعراً لإبراز اهتمامه بها والدلالة على أهميتها في واقعنا…
ب- وتبرز في وشائجه الشعرية معالم الصدق، لأنه إنسان لا يلتفت إلا لقناعاته ورؤياه… وتلك سمة ذاتية في الرجل المسكون بالبحث اليومي فاكتفى بما لديه وما لديه كثير وكبير.. ولم يكن الصدق فارغاً من اللبنات، فإذا حدث العلايلي صدق، وصدقه مبني على أسبابه… ففي ذكرى الإمام الحسين (ع) يبرز أسبابه في حب الإمام المظلوم, وفي الظلم معايير قاسية كقوله مصوراً الواقعة الحسينية في الطف بكربلاء.
أرادوا به ذلاً فكان جوابه زئيرا
أرادوا به ضيماً فاستعذب الظمأ
أرادوا به ذل ضراعه فرفض الخضوع
فتحولت كربلاء بصمود الإمام الحسين (ع) إلى كهف البطولة والعلا وصارت قبلة كل ذي نفس أبية وحازت مجداً موثلاً
إزاء هذا الواقع المأساوي، شهر العلايلي قلمه فأحيى الذكرى وحيَى الإمام:
نحيي الكرامة في شخصها
نحيي البطولة في ذا العلم
نحيي الحقيقة في منبعها
نحيي الفداء نحيي الحطم
فالملاحظ أن هذه التحيات لم توجه إلى الإمام مباشرة ولم يكن هو المخاطب, بل كانت المُثل التي يمثلها الإمام هي المخاطب الحقيقي على قلمه لأنه آمن بها في حياته وحياة الآخرين وكانت نبراساً في مسيرة الحياة الإنسانية، فانتصر العلايلي لإنسانيته حين أدرك أن هذه المثل تعرضت أو تتعرض للاستهلاك الظالم، فانتصر لها بشدة وبكى رموزها:
فطربت لما فهمت الرموز وأرسلت دمعي فوق الرمم
ويتجاوب هذا مع قول أعرابي في الإمام "بارك الله عليك، مثلك تجله الرجال"
أ- التاريخ-
واستمد الشيخ العلايلي موضوعاته الشعرية من قضايا التاريخ، سلباً أو إيجاباً، فرقّ واعترف بالجانب المضيء وبالجانب المعتم في تلك القضايا…
فالشيخ عبد الله العلايلي غمس قلمه في قضايا التاريخ, واستل منها بعض ما أثر فيه وأثرى مشاعره وإنسانيته، فألقى عليه من ذاته ما يكفي للدلالة على موقف من هذا الحدث أو القضية، دون محاباة أو مجاملة، لأن التاريخ لا يعود إلى الوراء إلا بالاسترداد الذهني.. حين تنشط الذاكرة ويعمل الفكر جاهداً لبعث إضاءات على الحدث لا لاستعادة هذا الحدث وحسب..
فاستشهاد الإمام الحسين (ع) قضية جدلية في أسبابها ونتائجها لكنها قضية واقعية وحقيقية،
فأرسل دمعة سنيّ على الحسين (ع): هذه الدمعة تمثل دفعاً لكل حقائق الحدث وواقعيته..
لأنها دمعة رجل ذاع صيته وعلمه صدقاً وموضوعية.
يقولون ثأر لنا نائم نريد انتقاماً يروي الضرم
فقلت إليكم وأين التراث قالوا جميعاً طواها الرمم
هناك الإله إليه القضا إليه العدالة في المحتكم
إن العلايلي الشاعر نقل الصورة التاريخية إلى صورتين:
صورة شعرية وصورة شعورية… فكان عفوياً في ألفاظه وعباراته ذات المنحى اللغوي البحث، فافتقرت إلى العاطفة وإن ازدانت بالعقل وحسب، وقد تجلى هذا البروز العقلي بحقيقة الواقعة الحسينية معتمداً أساساً عقلياً مقبولاً لكل ذي شأن. حيث قال الإمام الحسين (ع): "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا فسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت بطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.. فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق. ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين" .
ب- الديباجة أو كيان اللفظة:
إن قارئ شعر العلايلي يرى غلبة العقل في استخدام اللفظ ولا مجال كبير لألفاظ العاطفة وصور الخيال….
فاستخدام اللفظ في شعر العلايلي ليس بحثاً من غموض, أو رسماً من إيهام، فكل الألفاظ مفهومة الدلالة لكل ذي علم، لكن ابتعادها عن الغنائية جاء مقصوداً وجاداً… فالعلايلي سكب اهتمامه على تصوير واقع القضية الشعرية، ولم يدخل عالم الشعرية الفنية، بمعنى أوضح، إن ألفاظه جاءت جافة الرواء، لم تعرف سبيلاً إلا التعدين أو بالأحرى النظم.. ولكن لو قلبت في شعره مكونات الشعر المتعارف عليها أو بحثت عن الجذور الإنسانية في الأدب عامة المتمثلة في اللغة والخيال والعاطفة والعقل… فكل نوع من أنواع التعبير تبرز فيه غلبة بعض هذه المكونات على غيرها، ما جعل النقاد يحددون أنواع الشعر بين مطبوع ومنظوم، كما ميزوا بين أنواع الشعر العربي بين غنائي: غزلاً ورثاءً وهجاءً ومديحاً، تسيطر في مساره اللغة والعاطفة والخيال، وملحمي: تسيطر في مساره اللغة والعقل يسعفهما الخيال عند الضرورة…
فتنة العابد في محرابه ورؤى الشاعر في لوح السماء
نشوة القيثار في أوتاره وكلون الزهر في زهر الفضاء
وحنين الحب في تطريبه ورجيع الشوق من ألف النشاء
زرقة الأمواج في ازديادها وخرير الماء في أذن الضياء
فإن أردنا أن نؤدي صورة كمثل القول السابق، فإنما نؤديها من المقايسة المحضة بين ما هو حاصل في خيالنا وبين معاني الألفاظ المستقرة، فألفاظ "فتنة العابد" و"نشوة القيثار" تدل على معانيها المتجددة… فكأن ألفاظ اللغة، أية لغة، التي تستخدم للتعبير عن مختلف الصور زوائد أحياناً تفرغ على الصورة ما يزيد في معناها، بحيث لا يظن أنها كانت كذلك على كمالها في خيال الأديب أو العالم، وهذا طبعاً غير الجمال التعبيري الذي تتأثر به من جهة ذوق البيان. وللعلايلي لغته الخاصة وله دلالاته ومفاهيمه، وله نحو وقواعد بلاغة خاصة أيضاً.
وعبثاً نحاول الاهتداء إليه وسط الدجنة اللفظية المحيطة به، ونحن نعتمد على المعجمية اللغوية اعتماداً حرفياً ولكن يلزمنا لنقرأه أمور:
أ- توسع لغوي كبير يسمح لنا باستيعاب نواحيه الخفية في لباقة تصرفه التركيبي وروداً في الإنشائي.
ب- تدقيق عميق في خصائص المعاني أو ما نسميه بـ"جو الألفاظ" وهو شيء خلاف المعنى، فللفظ معنى وله خيال يضغى على المعنى كآلة .
ج- المعنى:
هو جوهر اللفظ، ودلالته، وموقعه في الجملة المفيدة.
والمعنى عند العلايلي مرتبط بموضوعية صارمة ألزم نفسه بها في سياق حديثه الشعري، فكانت ألفاظ موضوعه متعددة تبعاً لتعدد المعاني لديه، فلكل معنى لفظ ولكل لفظ معنى، فلا جدلية بين المعنى واللفظ، ولا سباق بين حضور المعنى على حساب اللفظ، ولا تجاوز للفظ على مقام المعنى، والمعاني في الشعر منها ما يتمكن الشاعر من نظمه في قافية ولا يتمكن منه في أخرى، فإذا عمل قصيدة فليهذبها وينقحها. بإلقاء ما غث من أبياتها ورث ورذل… والاقتصار على ما حسن وفهم، بإبدال حرف منها بآخر أجود حتى تستوي أجزاؤها وتتضارع هواديها وأعجازها، وكان هذا دأب جماعة من حذاق الشعراء من المحدثين والقدماء….
فتوازى عنده المعنى واللفظ، لابتعاد العلايلي عن الخيال والجموح العاطفي، وبقي أسلوبه تقريرياً يحاكي السرد عبر نقل الفكرة أو الصورة من الهيولى إلى التصوير، كي تدخل ميدان التعبير لتحيى لفظاً متمتعاً بكل ما للألفاظ من ميزات نحوية وبلاغية وإبلاغية.
ولمزيد من التبيين، نلاحظ في شعر العلايلي ألفاظاً غير متداولة في كتاباتنا المعاصرة فأيقظها وألبسها المعنى الذي تستحق، لأنها في الأساس لغة العرب، لكنها غابت في حومة المعاصرة واستكانت في بطون المعاجم والقواميس تنتظر إغاثة الكرام لإعادتها من سكنتها… وهذه بالتحديد هي الألفاظ التي تسبب جفافاً في النص الشعري لدى العلايلي، باعتبار أن الشعر هو انسياب عاطفي للأفكار والدلالات والصور، لا تستوقفه عثرة غموض أو عبثية إبهام…
الناس والشعر
الناس مع الشعر نوعان: أحدهما يكتب وينظم، يصور ويعبر، فهو شاعر وآخر يتذوق الشعر، يتحسسه، يقرأه بشغف، لكنه ليس شاعراً.
هذا يؤكد أن في داخل كل إنسان شاعر أو مكونات شاعر وكلاهما يتعاطف مع الآخر، إذ لا غنى للشاعر عن الفريق المتذوق، كما لا غنى للفريق المتذوق عن الشاعر وشعره في عملية تبادلية من الاعتراف بالآخر بغية استمرار المسيرة الشعرية بين الملقي والمتلقي وقد خص الله سبحانه كل إنسان بقدرات ومميزات تتقارب أو تتضارب أحياناً مع سواه من الناس، ما يشير بصورة أكثر وضوحاً إلى أهمية التكامل في المجتمع الإنساني، ولاسيما أن الشعر لدى العرب خزانة حكمتها ومستنبط آدابها, ومستودع علومها.
من هذا المنطلق، يرى الباحث في شعر العلايلي أنه يستمد موضوعاته من واقع صادق ملموس، قد توافقه عليها، أو تعارضه ولا تقبلها، فالأمر سيان بالنسبة إليه لأنه صاحب الرأي والقرار في اختيار موضوعاته، لأنها ليست نسج الخيال بل هي نقل حقيقي لواقع حقيقي، فأحداث لبنان الدامية التي هزت كيان المجتمع الإنساني ووجدانه، وسعى من سعى في الداخل والخارج إلى إطفاء نار الفتنة الدهياء لتبقى الحياة ويبقى الوطن، فكان السعاة إلى الخير فرسان السلام والأمان للبنان وأهله.. فكان أن أدمته الأحداث الأليمة وأصابته بشظايا نارها فأشعلت مكانه وعصارة زمانه وكادت تختفي بلهيبها المسعور… فكانت صرخة في وجه الموت استغاثة بالقادرين على التفاهم من ملوك ورؤساء عرب، لعلّ يوماً يطل على هذا الوطن، وتشرق فيه شمس الأمل من جديد، هذا ما كان يهدف إليه العلايلي الشاعر، وفي سبيل ذلك أطلق على ديوانه عنوان "من أجل لبنان" فأحداث لبنان كان رد فعلها عندي هذه القصائد… على أني لست شاعراً لولاها
الإغريقية السمراء
في شعره بعض عاطفة خجولة حيية، لأنه مازج بين العلايلي الشاعر والأزهري… فما انقبض شعوره بالشباب، ولا انزلقت أزهريته إلى ميول الشباب اللاهية…
إنها إنسانية الشاعر الإنسان "لا أبرئ نفسي فقد لفحني الحب يوماً وأنا بعد فتى" شاء أن يصور قلمه تلك الحكاية، كانت حلماً فاكتسى الحلم ثوب الحقيقة والوجود فتتجلى الصورة الأولى في حياته، إنها الأمل البكر… هكذا يحب الناس ويعشقون، فيعزف "الحبيب" على أوتار الحلم أجمل الألحان ويستنبط للحبيبة أجمل الصور…
بعينيك شدو غريب النداء أعن عبقر يخبر
أم الحسن فجّر إبداعه فطاف فيه السحر يستفسر
تقولين وجهي ابتسام الربيع وفي مقلتي جرى الكوثر
هي دنيا الأشواق باح به الروض هتافاً دارت به الأرجاء
تراءت في الومض نجم الرجاء لشارٍ يتيه به المضمر
وفي ظل أهدابك الحالمات طيوف تظل وتستغفر
قد تبالغ إنسانية الإنسان في رفد سكونه بالحركة الشجية فيقبلها السكون ويتفاعل معها، ويمضي على أمل الرجاء المقيم في لقاء الحبيبة على بساط الخفية بغية التأكد على التوحد روحياً بين الحبيبين وداً ووفاءٍ… فلا بأس أن يسيرا معاً في هدأة ليل لا صخب ولا نصب،
يحرسهما قمر منير كأنه عين الرقيب في عالم الحب والأحلام فيهربان ويهربان ليس من النور بل من الرقيب:
لذنا نفر فرار الغير منطلقاً نبغي اختفاء ولكن أين مخبأنا
هذه الخفية وليدة خفية وتلك طبيعة الإنسان العاشق خوفاً على حبيبته أو على فقدانها الموهوم، وهي كوكب ونجم وبلبل وقينة وأسطورة وشهرزاد، ثم هي لهفة ظامئة وثورة قصائد حب ليس فيها الأريج يصنع في حنايا درب الحب الطويل الذي تنفس عن كلمات الحب في بيتين:
مارج بالأريج ضمنه الحب وللحب لمسة علياء
أنا في الهيكل المقدس قربان وللحب سره والنداء
استعمل العلايلي ألفاظاً: الومد – الجلمد – أمرد- برد، في غزله وحبه، وهو سيد الألفاظ وشاغلها، إذ كان بوسعه أن يذكر ألفاظاً مرادفة للألفاظ المذكورة, ولكنه عمد عن قصد إلى ذكر هذه الألفاظ إحياء لها في النصوص وفي النفوس، لأن حرصه عليها جعلها جزءاً من حبه الحقيقي…
وحسبنا أن نشير في هذا السياق إلى أن العلايلي الشاعر قد اعتمد قاعدة في كتابته الشعرية استمدها من قول شاعر أندلسي:
إذا أنت لم تشعر بمعنى تثيره فقل: أنا نظّام وما أنا شاعر
ولست أخال العلايلي يبسط معنى من المعاني أو لفظاً من الألفاظ وهو لا يدرك معناه ولا مبتغاه، ولذا نرى أنه شاعر كتب بعاطفة الإنسان، ونظم بلغة المعجمي الحصيف….
لبنان -وهو المنى والود- لؤلؤة أحاله الحمق أتوناً لوقاد
كان الجنان وعدن الله تعرفه…. مرآتها انعكست فيه بأمداد
تقاذفته شياطين الهوى، كرة وملعب الجن "سجيل" بميقاد
واحلولك الجو فيه، ذوب داكنة… عصارة الليل ماجت موج أكواد
تلفه من تهاويل الدجى سحب ألفاف أدخنة من كور حداد
مالت مساجده تبكي كنائسه وما تبقى سوى أوتاد أعواد
ذلك هو لبنان في قصائد دامية للعلايلي، نثر فيها صور الموت والدمار وأنين البكاء فوق أرصفة القصيد ونسقها سطراً سطراً لئلا تتداخل الصور فيختلط دخان الموت بروائح الأهوال حيث تتلاشى الرؤية المضيئة للوطن المحترق، وتخفت الرؤى التي تستلهم مداها من آماد الخراب والحرائق والأنين… التي أطفأت القناديل التي تهتز عبر شوارع الموت، وفي الأزقة الضريرة المسكونة بالوحشة في زحمة الأنس والجن والضباب.