116
مرت الخلافة العثمانية منذ نشأتها سنة 699هـ /1299 م . على يد مؤسسها عثمان الأول بعدة أطوار متعاقبة بين قوة وضعف وتوسع وانحصار، الا أن الانحداروالضعف الذي عرفته تلك الدولة قد استمر لفترة طويلة ( قرابة الثلاثة قرون ) تعاقب على حكمها خلال هذه الحقبة ثمانية وعشرون خليفة، حاولوا أن يستعيدوا قوة الدولة وهيبتها السابقة، وكان السلطان عبد الحميد أقوى هؤلاء الخلفاء الذي حاول ان يعيد القوة الى الدولة في ظروف عرف فيها العالم الاسلامي منذ أواخر القرن الثامن عشر، العديد من الحركات الدينية التي استطاعت ان تؤثر في الحياة الدينية والفكرية في المشرق العربي، ومنها "الجامعة الاسلامية"، التي ظهرت عند جمال الدين الافغاني في البداية، وتبناها السلطان عبد الحميد الثاني . .( 1)
لقد عرف السلطان عبد الحميد الثاني، " بحنكته السياسية "، لقد كان : " رجلا ألمعيا أديبا حساسا ذا فكر ثاقب يدرك كل ما يدور من حوله بفطنة وسرعة بديهة . وكان مجدا ومجتهدا يتمتع بطاقة وحيوية عظيمتين ويهتم بكل شيئ ويتابع كل صغيرة وكبيرة في قضايا الامة ".(2)
لقد تميزت فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، في محاولة لإعادة بناء ما تهدم من ركائز السلطنة العثمانية، حيث ادرك السلطان العثماني ان استمرارية الدولة لاتكون الا في كسب ود المسلمين والعرب في مواجهة التدخلات الاوروبية في السلطنة ومحاولات تفتيتها، فعمد عندها عبد الحميد الثاني الى رفع شعار الجامعة الاسلامية، بهدف تحقيق مكاسب سياسية وتوحيد العالم الاسلامي من حوله، لقد كانت فكرة الجامعة الاسلامية احدى الادوات التي اعتمدها عبد الحميد في تقوية سلطته وهو بذلك استطاع من ان يحافظ على ولاء العناصر الاسلامية من حوله.(2)
وقد تمكن السلطان عبد الحميد الثاني من الاستفادة من شعار الجامعة الاسلامية في الميدان السياسي وفي نفس الوقت اندفع نحو الطرق الصوفية الاسلامية بهدف كسب تاييدها، كونها كانت تملك شعبية واسعة في العالم الاسلامي من تركستان حتى شمال افريقيا (3)
لقد كان اهتمام عبد الحميد بالعرب يعود الى الخوف من الدعوة العربية الى الانفصال، الذي ظهرت بوادره مع الجمعيات السرية ومنها " جمعية بيروت السرية "، وموقف اوروبا الساعي الى تفتيت السلطنة، ومحاولات خديوي مصر عباس حلمي الثاني الداعية الى خلافة مصرية، وظهور الوهابية وتوسعها في شبه الجزيرة العربية، وأفكار وكتابات عبد الرحمن الكواكبي الداعية الى تعريب الخلافة الاسلامية عبر كتابه "أم القرى "، ونجيب عازوري وافكاره التي ظهرت من خلال كتاب " يقظة الامة العربية " الداعي ايضا الى خلافة عربية في الحجاز ودولة غير دينية في الشام والعراق، وهو ما أثار خيفة السلطان، ويذكر المؤرخ عبد الرؤوف سنو ان السبب الثاني الذي دفع بالسلطان عبد الحميد الى التقرب من العرب، هو سبب اقتصادي، حيث اهتم السلطان برفع مستوى ازدهار الاقتصاد في ولايات سوريا وحلب واضنة، لتكون بديلا اقتصاديا من الولايات التي خسرتها السلطنة في اسيا وافريقيا والبلقان . لذلك عمد عبد الحميد الى تقريب بعض الشخصيات العربية واحتوائها ضمن الوظائف الكبرى في الدولة،.(4) كما لاحظ نمو الطرق الصوفية، فقرب اليه شيوخ من الصوفية العرب، لما لهؤلاء من التاثير على العامة فكان المطلوب من هؤلاء الترويج لفكرة "السلطان – الخليفة "،كما انتمى السلطان نفسه الى الطريقة الشاذلية اليشرطية، واصبح من مريدي الشيخ محمود ابو الشامات الموجود في دمشق (5).
وقد لاقت فكرة الجامعة الاسلامية ارضا خصبة في مصر بالتحديد، واستمرت الدعوة اليها، بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م، من قبل الاتحاديين .(6)
أ _ السلطان عبد الحميد الثاني:
حكم السلطان عبد الحميد الثاني الدولة العثمانية فترة تزيد على الثلث قرن(1876-1909م)
تميز عهده بأتخاذ السياسات التي هدفت الى :
1_ مواجهة أطماع العالم الأوروبي في السلطنة العثمانية .
2_ محاولات تمزيق السلطنة والتي ظهرت من خلال : ثورات البلقان، سقوط شمال أفريقيا في أيدي الاستعمار الفرنسي والبريطاني والايطالي ( مصر – ليبيا… )، نظام متصرفية جبل لبنان، المخططات الصهيونية في فلسطين …(7)
3_ تبنى سياسة الجامعة الإسلامية ، ودعا إلى احياء الخلافة والتمسك بها، وقرب إليه الكثير من العلماء ورجال الدين والوعاظ والمتصوفية، وفتح المدارس الدينية وزاد من مخصصاتها، وأدخل إلى مناهج التدريس دروساً عن الاسلام، وأنفق الكثير من الأموال على العلماء والدعاة، وأرسل البعثات إلى البلاد الإسلامية لشرح سياسته وكسب الأنصار لها.(8)
4_ أكثر من بناء وإصلاح المساجد لا سيما في مكة والمدينة والقدس،وإقامة الاحتفالات الدينية العلنية وأنشأ الزوايا والتكايا وشجع الناس على الحج وسهله لهم عن طريق بناء خط حديد الحجاز.(9)
5_ وترافقت سياسة عبد الحميد هذه بسلوك شخصي حيث مال إلى الاقتصاد وعدم التبذير، وعدم شرب الخمر، وأحاط حياته بالتقى والتقشف. وكان يقوم بواجباته الدينية كالصلاة والصيام في رمضان .وتوزيع الصدقات، في محاولة واضحة منه الى جمع المسلمين من حوله، ليعلن بعدها تبنيه لفكرة " الجامعة الاسلامية".(10)
إن تبني السلطان عبد الحميد فكرة الجامعة الاسلامية أتت نتيجة لعوامل مختلفة أبرزها :
– محاولة منه لمواجهة الغزو الثقافي الاوروبي للدولة العثمانية .
– محاولة النهوض بالدولة بعد فترة من الضعف الذي أصابها .
– محاولة توحيد العالم الاسلامي في إطار الدولة العثمانية من جديد .(11)
وكان من ابرز انجازاته تحت اطار الجامعة الاسلامية، بناء خط سكة حديد الحجاز 1901م،الذي ربط بين الآستانة والمدينة المنورة مرورا بسوريا، وكان هذا المشروع قد نفذ بأموال جمعت من تبرعات المسلمين من مختلف بلدانهم، ويذكر جورج انطونيوس " أن تنفيذ المشروع كان ضربة خبير في السياسة، فقد اثار الحماسة البالغة في جميع ديار الاسلام، وربما كان له من الاثار في تثبيت مكانة الخلافة اكثر من جميع خطط عبد الحميد الاخرى (12)
ب _السلطان عبد الحميد والجامعة الاسلامية ودور شيوخ الصوفية :
يعتقد أن السلطان عبد الحميد الثاني تبنى فكرة الجامعة الإسلامية ، بعد أن تبنى أفكار أبرز دعاة العالم الاسلامي حينها ممن حمل هذا المشروع وهم : نامق كمال في المجتمع التركي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في العالمين العربي والاسلامي (13).وأخذ السلطان عبد الحميد الثاني على عاتقه تنفيذ هذه الفكرة عملياً . بغض النظر عن أهدفه الاخرى التي تسعى الى تثبيت حكمه وحكم بني عثمان والتي تعتبر هدفه الاساس.(14)
بدأت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من خلال عدد من المفكرين المسلمين الذين دعوا إلى وحدة المسلمين في كفاحهم ضد الغزاة وقيام نهضة حقيقية في كل الميادين، تعتمد مبادئ الاسلام والعلم الحديث والتربية المعاصرة والتجديد في مختلف جوانب الحياة وكان أبرز هؤلاء : جمال الدين الافغاني،والشيخ محمد عبده،ومحمد رشيد رضا، وعبد الرحمن الكواكبي، والطهطاوي وغيرهم …(15)
في الوقت نفسه الذي دعت الطرق الصوفية الى إعطاء مسحة مقدسة للسلطان فهو في نظرهم شخصية دينية جليلة لا يجوز أن تطالها يد النقد والتجريح، وهو رمز لوحدة المسلمين، وعزتهم وفخرهم، وحامي الشريعة الإسلامية ، والقيم على تنفيذها.(16)
لقد حاول السلطان عبد الحميد من ان يستفيد من هذه الفئات من المتنورين من جهة والصوفية من جهة ثانية (مع عدم قبول المتنورين للصوفية ) لصالح تمتين حكمه، لقد كانت سياسة محنكة حاولت جمع المتناقضات داخل العالم الاسلامي ووضعها في خدمة السلطان.
وهنا سنحاول ان نطلع على الدور الذي قامت به الطرق الصوفية تجاه الجامعة الاسلامية في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها السلطنة .
من أبرز الاسباب التي دفعت بالسلطان عبد الحميد الثاني الى اعتماده على الطرق الصوفية :
1_ ان الدولة العثمانية كانت تعتمد على بعض الشيوخ الصوفية في تمتين علاقتها مع المسلمين وخصوصا في الاماكن التي كان يراد فتحها .حيث كانوا يؤدون دورا اعلاميا دعائيا للسلطنة.
2_ كانت السلطنة تتعرف على الراي العام الاسلامي من خلال شيوخ هذه الطرق في مختلف انحاء العالم الاسلامي من بلاد تركستان حتى شمال افريقيا .(17)
3_اتخذ السلطان عبد الحميد الثاني من هؤلاء المتصوفة متطوعين لخدمة سياسته وشكل رابطة بين مقر الخلافة. – استانبول- وبين تكايا وزوايا الطرق في كافة أنحاء العالم الاسلامي.
وكان السلطان عبد الحميد الثاني كما اوردنا قد تأثر شخصيا بالتصوف وبالتحديد بالطريقة الشاذلية، حيث كان لشيخها محمود ابو الشامات مكانة خاصة لديه استمرت حتى وفاته.(18)
ولا شك أن نزعته التصوفية وميله للمشايخ وفضوليته للتنبؤ بالمستقبل وتعلقه بالعرافين ساعده في استقطاب عدد منهم.
ج _ شيوخ الصوفية في بلاط عبد الحميد ورجال التنوير :
لقد قرب السلطان عبد الحميد إليه مجموعة من شيوخ الطرق الصوفية من أمثال:
الشيخ ابي الهدى الصيادي من حلب والشيخ محمد ظافر المدني من طرابلس الغرب . والشيخ سعيد من حمص، والشيخ أحمد القيصرلي من المدينة المنورة وفضل العلوي من حضرموت . (19)
وقد عملت هذه المجموعة من الشيوخ على تدعيم فكرة الخلافة الإسلامية ، وحق السلطان عبد الحميد في هذه الخلافة . ودعت كافة المسلمين إلى الالتفاف حول عرشه، إذ أكد أبو الهدى الصيادي :" أن الخلافة ضرورة شرعية، وإنها انتقلت من أبي بكر الصديق عبر العصور الإسلامية حتى ورثها العثمانيون وأدعى أن الخليفة هو ظل الله على الأرض، ومنفذ مشيئته وشريعته على المسلمين كافة إطاعته.(20)
وتوسع نفوذ أبو الهدى الصيادي إلى الشؤون السياسية والادارية والعسكرية،وكانت له أعين تأتيه بكل الأخبار، ومما زاد في نفوذه اعتقاد السلطان عبد الحميد الثاني أن أبا الهدى كان أحد الشيوخ الكبار للطريقة الرفاعية. (21)
وبالفعل فإن أبا الهدى بصفته شيخاً للرفاعية ومرشداً للسلطان عبد الحميد،وضع تحت تصرفه عدداً كبيراً من الوعاظ الذين كانوا يجوبون المشرق ويزرعون بين سكانه الدعوة للطريقة الرفاعية ولتأييد السلطة العثمانية . (22)
كما اعتمد على أحد كبار اشراف مكة (الشريف عون ) الذي كان عضواً في الطريقة الرفاعية . وقد نجح هذا الأخير في التوصل إلى منصب " شيخ شيوخ الطرق “ وبالتالي استطاع أن يستقطب اتباع الزوايا المعارضة له حول فكرة الخطر الأوروبي على الإسلام وضرورة التكتل ضد هذا الخطر.
ليصبح شريف مكة عبر هذا التنظيم المساعد المخلص للشيخ أبي الهدى الصيادي،والخادم الأمين للسلطان.(23)
ومن جهة أخرى كان لشريف مكة تأثيره الكبير على الحجاج حيث أرسل إليهم المرشدين يدعون للجامعة الإسلامية ولقائدها السلطان العثماني وهكذا أصبحت مكة المكرمة بفضل شريفها و (مرشدي الحجاج) وبفضل منصبه كشيخ للطرق. محوراً للسياسة الإسلامية المعاصرة. فمن هناك انتشرت هذه الدعوات،وانتقلت إلى العالم الاسلامي كله، عبر الحجاج الذين نقلوا إلى بلادهم بذرة الحلم الكبير الذي كان يدغدغ مخيلة السلطان عبد الحميد في جمع شمل كلمة العالم الاسلامي من جديد حوله واعادتهم الى كنف الدولة تحت شعار "الجامعة الاسلامية ".(24)
وقد بلغت مكانة الشيخ أبي الهدى الصيادي عند السلطان عبد الحميد،أن السلطان كان لا يرفض له أمراً حتى رسخ في ذهن معاصريه أنه صاحب الكلمة الاولى عنده . (25)
وكان للصيادي أن استدعي جمال الدين الافغاني الى استانبول بعد ان اقنع السلطان بذلك ليظهر للعالم الاسلامي اهتمام السلطان بالعلماء وفي محاولة لاستمالة الافغاني الى جانب مشروع السلطان
الا ان معظم المصادر تذكر ان الصيادي كان لايطيق ان يزاحمه في مكانته وقربه الى السلطان احدا، لذلك نقم على الافغاني وعبدالله بن النديم، واخذ يدس عليهما لدى السلطان (26)
منها أن الأفغاني والنديم كانا يتنزهان في " الكاغد خانة " أحد منتزهات استانبول المشهورة . فصادفا عباس حلمي خديوي مصر الذي كان في إحدى زياراته إلى العاصمة العثمانية، وسلم بعضهم على بعض وتحادثوا نحو ربع ساعة تحت شجرة هناك فعلم الصيادي بأمر هذه المقابلة وقدم تقريراً إلى السلطان، قال فيه: أن الأفغاني والنديم قد تواعدا مع الخديوي على الاجتماع هناك، وقد بايعاه تحت الشجرة على أن تكون له الخلافة. فتغير قلب السلطان نحو الأفغاني وخشي منه وشدد عليه الرقابة.(27)
في الواقع فان السلطان عبد الحميد كان يحاول ان يقرب الافغاني منه، فأستقبله وكرمه وادعى قبول مشاريعه الاصلاحية داخل السلطنة، كما عرض عليه منصب شيخ الاسلام، الا ان الافغاني رفض هذا المنصب طالبا من السلطان ان يعهد اليه بعمل الاصلاحات داخل البلاد مع رفض السلطان لهذه الفكرة (28)
الا ان هذا الود من قبل السلطان تغير، حيث ينقل احد السياح الالمان نقل عن الافغاني عام 1896 قوله : " انه يعيش بين مظاهر عطف من السلطان، ودسائس لاتحصى يبيتها له رجال القصر، وكم تضرع اليهم ليسمحوا له بالسفر فأمسكوه حيث يقضي بقية عمره في نوع من الاسر مموه بالذهب " ( 29)
لقد كان لموقف ابو الهدى الصيادي الذي كان يحسد الافغاني ويخشاه، ان اخذ يعمل على الايقاع بينه وبين السلطان وايذاء كل من يمت اليه بصلة، حيث كتب الصيادي الى محمد رشيد رضا صاحب المنار قائلا له : " اني ارى جريدتك طافحة بشقاشق المتأفغن جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به الى الحسينية التي كان يتزعمها زورا، وقد ثبت في دوائر الدولة رسميا انه مازندراني من اجلاف الشيعة …وهومارق من الدين كما مرق السهم من الرمية " (30)
وكانت نهاية جمال الدين الافغاني عبر مرض اصابه في حنكه، الى ان مات في الخامس من اذار من العام 1896، (31)
وأمر السلطان بان يدفن جمال الدين من دون احتفال، ومصادرة اوراقه وكتبه، وبعدم كتابة اي خبر حول وفاته، كما صودرت الصحف المصرية التي رثته في سوريا، ودفن في مقبرة مجهولة (32)
كما عمل الصيادي على ازاحة أسرة الكواكبي من نقابة الأشراف في حلب بعد أن كانت حكراً على هذه الأسرة من أمد بعيد.وذلك نظرا للكراهية الشخصية التي كان يكنها الصيادي لهذه العائلة.ويعتقد ان الصيادي كان يقف وراء مؤامرة مقتل عبد الرحمن الكواكبي بالسم في القاهرة عام 1902، بعدها عمد احد اتباع عبد الحميد الى قصد محل اقامة الكواكبي ووضع يده على جميع اوراقه وارسلها الى الاستانة (33)
لقد كان الكواكبي يهاجم رجال التصوف بحدة، متهما اياهم بادخال الاساطير على الدين : " ان الطامة من تشويش الدين والدنيا على العامة، بسبب العلماء المدلسين وغلاة المتصوفين الذين استولوا على الدين فضيعوا أهله " (34)
حتى ان الشيخ رشيد رضا عانى من أذى الصيادي ايضا، فها هو الشيخ رضا يتسآل عن الطريقة الرفاعية التي ينشرها الصيادي التي تغرر بمن ينتسبون اليها، فيهاجم السيد احمد الرفاعي الكبير قائلا : "ان السيد احمد الرفاعي قال : ان الولي يصل الى درجة يقول فيها كن فيكون "ويضيف رضا
متسآئلا : " من يلمس يد الرفاعي او احد خلفائه وذريته تحرقه النار، رغم ان هذا الشيخ كان يشتم ويهان " وما كان يحل على من يشتمه اي بلاء !!!
لقد كان رد فعل الصيادي ان منع تداول مجلة المنار في الاراضي العثمانية لينحسر قرائها في مصر وشمال افريقيا، ولم يكتف ابو الهدى بذلك وانما اوعز الى متصرف طرابلس العثماني، بأن يلاحق اسرة الشيخ رشيد رضا والتضييق عليهم، كما حاول ان يبعث بشخص من قبله الى مصر بهدف اغتيال رشيد رضا،وقد تعجب الشيخ رشيد رضا من هذه الاجراءات التعسفية من قبل السلطة العثمانية، لمجرد انه نصح المسلمين بأن "لايتخذوا اربابا من دون الله "، وحمل رشيد رضا على شيوخ الطرق الصوفية ولقبهم " أفسق الفساق وأفجر الفجار " وأتهمهم بأنهم يدعون التصرف في الكون والانتقام مما لايخضع له فضلا عمن ينال منه بقول او عمل " (35)
وأورد الكاتب محمد سعيد العريان في ذكره لهذا الواقع قائلا :" أما في بلاط السلطان عبد الحميد فكان الخليفة الذي يزعم أنه باسم الله يحكم ويستبد ويسيطر، وباسمه يخنق ويغرق ويحرق. وباسمه يظلم ويفتك ويهتك ومن حوله ذوو لحى وعمائم بينهم أبو الهدى الصيادي يزعمون للخليفة ولانفسهم وللناس أن هذا اللون الفاسد من الحكم هو شرع الله، وهو الدين، وباسم الله، وباسم الدين يجب أن يذل الناس وأن تطأطئ الرؤوس،وأن يعيش البشر كالرقيق أو كقطعان الماشية ليس لها حرية، ولا راي ولا إرادة،لأن الحرية والرأي والإرادة هي حق الخليفة الجالس على عرش الله وحده. وليس لها عزة وكرامة ولا نعمة، لأن العزة والكرامة والنعمة حق أبي الهدى الصيادي دون سائر المحكومين من رعية الخليفة ".(36)
كما ان الصيادي حاول ان يستميل محمود الألوسي العراقي إلى الطريقة الرفاعية، فرفض الألوسي وأخذ بمهاجمة الطرق الصوفية في عصره، فدبر له أبو الهدى الصيادي النفي إلى بلاد الأناضول .(37)
د_ دور المتصوفة في دعم السلطان عبد الحميد الثاني :
كان الشيخ ظافر، المعلم الروحي للسلطان عبد الحميد وشيخ الطريقة الشاذلية المدنية،قد احتل مكانة مرموقة في البلاط السلطان في العاصمة استانبول حيث كان الشيخ ظافر يوجه من مركزه هناك حركة الدعوة إلى الجامعة الإسلامية التي تخدم السلطان، فالطريقة التي كان شيخاً لها كانت تنتشر في تونس والجزائر وقد أرسل الشيخ ظافر أحد أقاربه إلى المناطق التي احتلتها فرنسا في الجزائر وتونس فقام بزيارة المشايخ وقدم لها الهدايا باسم السلطان عبد الحميد.
واستطاع هذا المبعوث من أن يرسل إلى استانبول أكثر من ثمانية آلاف فرنك(أموال زكاة)للمساهمة في دعم سياسة الجامعة الإسلامية .(38)
في الواقع فان عبد الحميد استخدم هؤلاء الشيوخ في تدعيم سلطانه كل في المكان الذي تواجد فيه، فالشيخ محمد ظافر المدني كان مسؤولا عن الدعاية الاسلامية في شمال افريقيا ومناهضة النفوذ الفرنسي هناك، وعبره كان التواصل مع شيخ الطريقة السنوسية في ليبيا " محمد المهدي السنوسي "، والتنسيق لحركة المقاومة في شمال افريقيا ضد التوسع الاوروبي فيها، كما ان العلاقة التي ربطته مع الشيخ فضل العلوي من ظفار، كان ان جعله مساعدا لشريف مكة "عبد المطلب " عام 1880، بهدف كسر التحالفات القبلية العربية الموالية لبريطانيا.(39)
وقد وصف أحمد الشوابكة نشاط الطرق الصوفية في تنفيذ سياسة الجامعة الإسلامية ومقاومة الاستعمار الأوروبي، وتعبئة الأهالي ضد المستعمرين وخصوصاً في شمال أفريقيا . فتحدث عن أسلوب المقاومة السرية التي نفذها أتباع الطرق الصوفية ومرابطو الزوايا،وذكر أن هذه المقاومة كانت تدار من قبل لجنة مركزية في العاصمة استانبول تتألف من مجموعة من علماء الدين ومشايخ الطرق الصوفية . وتحدث عن وجود هيئات فرعية تعمل في أقاليم مختلفة من الدولة العثمانية أبرزها تلك الموجودة في مكة المكرمة والتي كانت تعمل تحت إشراف شريف مكة وتنشط في موسم الحج لنشر فكرة الجامعة الإسلامية بين الحجاج. وأخرى في بغداد، وكانت تنشط بين القادمين من شمال أفريقيا لزيارة ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني، وقد قدر عددهم في إحدى السنوات بخمس وعشرين ألفاً ، لقد سعت هذه الطرق الصوفية الموالية لسياسية الجامعة الإسلامية كالشاذلية والقادرية والمدنية الى مواجهة المستعمر الفرنسي في شمال افريقيا وتعبئة الاهالي ضده.(40)
وقد خضعت هذه الهيئات لتنظيم إداري فوضعت كل زاوية تحت إشراف مقدم وترأس المقدمين شيخ الطريقة وحدت اجتماعات دورية لمشايخ الطرق تحت اشراف الهيئة الفرعية لشمال أفريقيا برئاسة الشيخ محمد ظافر المدني وذكر أن الطبيعة المدنية في طرابلس الغرب والتي يتزعمها الشيخ ظافر المدني قامت بجمع الأموال عام 1897 لصالح الدول العثمانية لمساعدتها في حربها ضد اليونان.(41)
كما كان للدور الذي قامت به الطريقة السنوسية في تعاطفها مع الدولة العثمانية، وتأييد السياسة الإسلامية التي انتهجها السلطان عبد الحميد، ذلك أن السنوسيين كانوا ينظرون إلى الخلافة العثمانية على أنها ضرورة دينية وسياسية .
وقد راسل السلطان عبد الحميد الثاني محمد المهدي السنوسي طالباً إليه المساعدة في الوقوف بوجه الأوروبيين مذكراً إياه بواجبه اتجاه الخلافة . وقد كثرت المراسلات بين الاثنين فرداً على بعثة السنوسي إلى عبد الحميد في أيلول 1895 أرسل عبد الحميد صادق المؤيد مرة ثانية إلى الكفرة مزوداً بالهدايا التي هي عبارة عن صحيح البخاري وساعة ولكي يطمئن السنوسي السلطان عبد الحميد إلى سلامة نواياه أرسل الشيخ عبد العزيز العيساوي من المتصوفين السنوسيين في أيلول 1895 إلى الأستانة حيث أكد ولاء الشيخ المهدي للسلطان وتأييده للسلطنة .(42)
وذكرت المصادر أن السلطان عبد الحميد أرسل قافلة من المتصوفة إلى الهند حيث عملت هناك على تدعيم فكرة الخلافة العثمانية، ومحاربة الدعاية البريطانية الداعية الى جعلها للعرب، وقد زارت هذه القافلة بعض حكام شبه الجزيرة العربية ولا سيما الحجاز طالبة تأييد هؤلاء الحكام للسلطان عبد الحميد في سياسته الداعية الى الجامعة الاسلامية .(43)
كما ان هناك اتصالات جرت بين السلطان عبد الحميد بوصفه رئيساً للجامعة الإسلامية، وتجمعات الطرق الصوفية وشيوخها في تركستان وجنوب افريقيا والصين.(44)
– استنتاج:
لقيت فكرة الجامعة الإسلامية في عهد االسلطان عبد الحميد نجاحاً لافتاً وأحياناً واجهت مصاعب أمام الدعوات الرافضة لها كفكرة دينية . وعلى الرغم من ذلك فان الطرق الصوفية لعبت دوراً بارزاً في نجاح فكرة الجامعة ونشرها . وقد شعرت الدول الأوروبية بأن السلطان عبد الحميد قد استطاع استغلال مشاعر المسلمين الدينية وأن بإستطاعته أن يهدد النفوذ الاوروبي في المناطق العثمانية والمناطق الإسلامية الخاضعة للسيطرة الأوروبية.
فهو قد هدد عبر حركة الجامعة الإسلامية النمسا بمسلمي البانيا، وروسيا بمسلمي التتار، وبريطانيا بمسلمي الهند وفرنسا بواسطة مسلمي شمال افريقيا. وقد بلغ من نفوذ هذه الحركة في شمال أفريقيا أن وصفتها إدارة المخابرات الفرنسية :" … ويمكن للسلطان عبد الحميد – بصفته رئيساً للجامعة الإسلامية – أن يجمع – من خلال ارتباطاته الوثيقة بالجماعات الدينية في شمال أفريقيا – جيشاً محلياً منظماً يتمكن – إّذا لزم الأمر – أن يقاوم به أي قوة أجنبية ".(45)
وكان لاعتراف إلمانيا بحركة الجامعة الإسلامية و بالسلطان عبد الحميد الثاني خليفة للعالم الاسلامي،وزناً سياسياً بارزا كونه صادر عن امبراطور.دولة أوروبية كبرى فاستغلها عبد الحميد في الدعوة لنفسه، وترسيخ حركة الجامعة الإسلامية .
الا انه يؤخذ على عبد الحميد الثاني عدم تمكنه من الاستفادة من مواهب الأفغاني و رجال التنوير العرب المسلمين أمثال الكواكبي ورشيد رضا وغيرهم في دعم حركة الجامعة الإسلامية ، مما أتاح لخصومه فرصة التشهير به، والتسجيل عليه أنه استمع إلى وشايات ودسائس خصوم الأفغاني وعلى رأسهم الشيخ أبو الهدى الصيادي، الذي كان يكره أن يظفر غيره بثقة السلطان فإن عبد الحميد لم يسقط من حساباته أن الطرق الصوفية مرتكز سياسي هام من حيث الانتشار والدعاية، ولم يخفف احترامه لهذه الطرق وشيوخها .
الا ان الجامعة الإسلامية تبقى تجربة مهمة للسلطان عبد الحميد في سياسته الإسلامية لعبت فيه الطرق الصوفية دور وسائل الاعلام الا انها فشلت بسبب تعنت شيوخ الصوفية من جهة وتصديهم لرجال التنوير و طغيان عبد الحميد الذي تعامل بقوة مع معارضيه داخل السلطنة فدفعت بأعداء السلطان عبد الحميد للاسراع في العمل على عزله وإنهاء الخلافة والدولة العثمانية قبل أن يحقق مشروعه الوحدوي حول سلطانه وبني عثمان .
الهوامش :
(1)_ اكمال الدين اوغلو، قراءة لتاريخ الدولة العثمانية وعلاقاتها بالعالم العربي من خلال كتب التاريخ المدرسية المقررة في مصر بين عامي 1912-1980، مجلة منبر الحوار، العدد 36، السنة 1998، ص،164
(2) _ فدوى نصيرات، عبد الحميد الثاني ودوره في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين، مجلة المستقبل العربي، العدد 422، نيسان 2014، ص.39.
(3)_ حسان حلاق،دور اليهود والقوى الدولية في خلع السلطان عبد الحميد الثاني من العرش، بيروت:دار بيروت المحروسة،ط1، 1982، ص45_48.
(4)- عبد الرؤوف سنو، السلطان عبد الحميد الثاني والعرب :الجامعة الاسلامية واثرها في احتواء القومية العربية، حوار العرب، بيروت : 2005،ص.4-5، بحث منشور على شبكة الانترنت.
(5)_ عبد الكريم رافق، تاريخ الجامعة السورية البداية والنمو 1901-1946، دمشق : 2004، ص.10-11
(6)_ اكمال الدين اوغلو، المرجع السابق، ص.164
(7)_ رفيق شاكر النتشه، السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين، القاهرة : مكتبة مدبولي، ط5، 1990، ص. 161- 115-153.
(8)_ علي سلطان، تاريخ الدولة العثمانية، طرابلس الغرب : مكتبة طرابلس العلمية العالمية، 1991، ص.394.
(9)_ William oschsenwold .the hijaz ,rail road .vergina 1980 pp.118-150
(10)_ علي سلطان، المرجع السابق، ص.349.
_ صالح سعداوي، مذكرات الاميرة عائشة عثمان اوغلي، عمان : دار البشير للنشر والتوزيع، ط1، 1991، ص . 80.
(11)_ عبد المنعم الهاشمي، الخلافة العثمانية، بيروت : دار ابن حزم، ط1، 2004، ص . 529-530.
(12) – جورج انطونيوس، يقظة الامة العربية، بيروت:دار العلم للملايين،ط8، 1987، ص 142
(13) _ عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها، ج3، ص . 1182-1186.
_ سمير ابو حمدان، جمال الدين الافغاني وفلسفة الجامعة الاسلامية، بيروت : دار الكتاب العالمي، 1992، ص . 78-87.
(14)_ Bernard lewis ,the ottman empire in the mid nineteenth century : a review in m.e.s vol 4 . no. 3 1965
(15)_ محمد جلال كشك، القومية والغزو الفكري، الكويت : مكتبة الامل، د.ت، ص.192.
(16)_ علي المحافظة، الجامعة الاسلامية، مقال مقدم الى المؤتمر الدولي الثاني لتاريخ بلاد الشام، ص. 298-299.
(17)_ محمد حرب سلطان، عبد الحميد الثاني اخر سلاطين العثمانيين الكبار، دمشق : دار القلم، ط1، 1990، ص . 195.
(18)_ بطرس ابو منه، السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي، مجلة الاجتهاد، السن الثانية، خريف 1989، ص . 72.
(19)_ مجلة الهلال، مج 17، ج10، السنة 1908، ص . 593-594.
(20)_ commins,phd.pp.294-295.
(21)_ ولي الدين يكن، المعلوم والمجهول، القاهرة : 1909-1911، ج1، ص . 98.
_ عبد العزيز الشناوي، المرجع السابق، ج3، ص . 1214.
(22)_ بطرس ابو منه، المرجع السابق، ص . 76-77.
(23)_ depont et coppolani op .p .262
(24)_ احمد الشوابكة، حركة الجامعة الاسلامية، ص . 266.
(25)_ ولي الدين يكن، المرجع السابق، ج1، ص.97.
(26)_ بطرس ابو منه، المرجع السابق، ص.81.
(27)_ لوثروبستودارد،حاضر العالم الإسلامي – دار الفكر. 1971، ج2،ص . 202.
(28)_ قدري قلعجي،ثلاثة من اعلام الحرية،بيروت:شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط3، 2013، ص99،103
(29)_ قلعجي، ص . 101
(30)_ المرجع نفسه، ص104
(31) _ محمدعمارة، تاريخ الاستاذ الامام محمدعبده ; القاهرة دارالشروق ج1، ص 89-94
(32)_ المرجع نفسه، تاريخ الاستاذ ج 1، ص . 94
(33)_ من مقدمة كتاب ام القرى لعبد الرحمن الكواكبي، تحقيق محمد جمال الطحان، دمشق : دار صفحات، ط5، 2012، ص . 23 -24)
(34)_ عدنان عويض، اشكالية النهضة في الوطن العربي، دمشق : دار التكوين، 2007، ص . 82)
(35)_ حسين سليمان، الشيخ مجلة اوراق جامعية، العدد 33-34-35، السنة 18، 1/2010، ص 186-187
(36)_ محمد سعيد العريان، مهرجان عبد الرحمن الكواكبي، دمشق : المجلس الاعلى لرعاية الفنون والاداب والعلوم الاجتماعية، 1960، ص. 73ومابعدها.
(37)_ محمد بهجت الاثري، محمود شكري الالوسي واراؤه اللغوية، القاهرة : معهد الدراسات العربية العليا، 1958، ص.76-89.
(38)_ بطرس ابو منه، المرجع السابق، ص. 74-75.
(39)_ عبد الرؤوف سنو، المرجع السابق، ص.6
(40)_ احمد الشوابكة، المرجع السابق، ص . 263-264.
(41)- og9 no 1 vol 2 , Oppenheim and Hohenlohe .cairo 2-6 1897 no . 38 a7587.
(42)_ محمدفؤادشكري ,السنوسية دينودولة مركزالدراساتالليبية أكسفورد ط .2002, ص 86-85.
(43)_ محمدحرب , مذكرات السلطان عبدالحميد الثاني , دارالقلم دمشق،ص 198
(44)_ محمدحرب , المرجع السابق نفسه ,ص 198
(45)_ علي محمد صلابي، الدوله العثمانية عوامل النهوض واسباب السقوط، مصر: دار التوزيع والنشر الاسلامية، ط1، 2001، ص. 424.
لقد عرف السلطان عبد الحميد الثاني، " بحنكته السياسية "، لقد كان : " رجلا ألمعيا أديبا حساسا ذا فكر ثاقب يدرك كل ما يدور من حوله بفطنة وسرعة بديهة . وكان مجدا ومجتهدا يتمتع بطاقة وحيوية عظيمتين ويهتم بكل شيئ ويتابع كل صغيرة وكبيرة في قضايا الامة ".(2)
لقد تميزت فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، في محاولة لإعادة بناء ما تهدم من ركائز السلطنة العثمانية، حيث ادرك السلطان العثماني ان استمرارية الدولة لاتكون الا في كسب ود المسلمين والعرب في مواجهة التدخلات الاوروبية في السلطنة ومحاولات تفتيتها، فعمد عندها عبد الحميد الثاني الى رفع شعار الجامعة الاسلامية، بهدف تحقيق مكاسب سياسية وتوحيد العالم الاسلامي من حوله، لقد كانت فكرة الجامعة الاسلامية احدى الادوات التي اعتمدها عبد الحميد في تقوية سلطته وهو بذلك استطاع من ان يحافظ على ولاء العناصر الاسلامية من حوله.(2)
وقد تمكن السلطان عبد الحميد الثاني من الاستفادة من شعار الجامعة الاسلامية في الميدان السياسي وفي نفس الوقت اندفع نحو الطرق الصوفية الاسلامية بهدف كسب تاييدها، كونها كانت تملك شعبية واسعة في العالم الاسلامي من تركستان حتى شمال افريقيا (3)
لقد كان اهتمام عبد الحميد بالعرب يعود الى الخوف من الدعوة العربية الى الانفصال، الذي ظهرت بوادره مع الجمعيات السرية ومنها " جمعية بيروت السرية "، وموقف اوروبا الساعي الى تفتيت السلطنة، ومحاولات خديوي مصر عباس حلمي الثاني الداعية الى خلافة مصرية، وظهور الوهابية وتوسعها في شبه الجزيرة العربية، وأفكار وكتابات عبد الرحمن الكواكبي الداعية الى تعريب الخلافة الاسلامية عبر كتابه "أم القرى "، ونجيب عازوري وافكاره التي ظهرت من خلال كتاب " يقظة الامة العربية " الداعي ايضا الى خلافة عربية في الحجاز ودولة غير دينية في الشام والعراق، وهو ما أثار خيفة السلطان، ويذكر المؤرخ عبد الرؤوف سنو ان السبب الثاني الذي دفع بالسلطان عبد الحميد الى التقرب من العرب، هو سبب اقتصادي، حيث اهتم السلطان برفع مستوى ازدهار الاقتصاد في ولايات سوريا وحلب واضنة، لتكون بديلا اقتصاديا من الولايات التي خسرتها السلطنة في اسيا وافريقيا والبلقان . لذلك عمد عبد الحميد الى تقريب بعض الشخصيات العربية واحتوائها ضمن الوظائف الكبرى في الدولة،.(4) كما لاحظ نمو الطرق الصوفية، فقرب اليه شيوخ من الصوفية العرب، لما لهؤلاء من التاثير على العامة فكان المطلوب من هؤلاء الترويج لفكرة "السلطان – الخليفة "،كما انتمى السلطان نفسه الى الطريقة الشاذلية اليشرطية، واصبح من مريدي الشيخ محمود ابو الشامات الموجود في دمشق (5).
وقد لاقت فكرة الجامعة الاسلامية ارضا خصبة في مصر بالتحديد، واستمرت الدعوة اليها، بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م، من قبل الاتحاديين .(6)
أ _ السلطان عبد الحميد الثاني:
حكم السلطان عبد الحميد الثاني الدولة العثمانية فترة تزيد على الثلث قرن(1876-1909م)
تميز عهده بأتخاذ السياسات التي هدفت الى :
1_ مواجهة أطماع العالم الأوروبي في السلطنة العثمانية .
2_ محاولات تمزيق السلطنة والتي ظهرت من خلال : ثورات البلقان، سقوط شمال أفريقيا في أيدي الاستعمار الفرنسي والبريطاني والايطالي ( مصر – ليبيا… )، نظام متصرفية جبل لبنان، المخططات الصهيونية في فلسطين …(7)
3_ تبنى سياسة الجامعة الإسلامية ، ودعا إلى احياء الخلافة والتمسك بها، وقرب إليه الكثير من العلماء ورجال الدين والوعاظ والمتصوفية، وفتح المدارس الدينية وزاد من مخصصاتها، وأدخل إلى مناهج التدريس دروساً عن الاسلام، وأنفق الكثير من الأموال على العلماء والدعاة، وأرسل البعثات إلى البلاد الإسلامية لشرح سياسته وكسب الأنصار لها.(8)
4_ أكثر من بناء وإصلاح المساجد لا سيما في مكة والمدينة والقدس،وإقامة الاحتفالات الدينية العلنية وأنشأ الزوايا والتكايا وشجع الناس على الحج وسهله لهم عن طريق بناء خط حديد الحجاز.(9)
5_ وترافقت سياسة عبد الحميد هذه بسلوك شخصي حيث مال إلى الاقتصاد وعدم التبذير، وعدم شرب الخمر، وأحاط حياته بالتقى والتقشف. وكان يقوم بواجباته الدينية كالصلاة والصيام في رمضان .وتوزيع الصدقات، في محاولة واضحة منه الى جمع المسلمين من حوله، ليعلن بعدها تبنيه لفكرة " الجامعة الاسلامية".(10)
إن تبني السلطان عبد الحميد فكرة الجامعة الاسلامية أتت نتيجة لعوامل مختلفة أبرزها :
– محاولة منه لمواجهة الغزو الثقافي الاوروبي للدولة العثمانية .
– محاولة النهوض بالدولة بعد فترة من الضعف الذي أصابها .
– محاولة توحيد العالم الاسلامي في إطار الدولة العثمانية من جديد .(11)
وكان من ابرز انجازاته تحت اطار الجامعة الاسلامية، بناء خط سكة حديد الحجاز 1901م،الذي ربط بين الآستانة والمدينة المنورة مرورا بسوريا، وكان هذا المشروع قد نفذ بأموال جمعت من تبرعات المسلمين من مختلف بلدانهم، ويذكر جورج انطونيوس " أن تنفيذ المشروع كان ضربة خبير في السياسة، فقد اثار الحماسة البالغة في جميع ديار الاسلام، وربما كان له من الاثار في تثبيت مكانة الخلافة اكثر من جميع خطط عبد الحميد الاخرى (12)
ب _السلطان عبد الحميد والجامعة الاسلامية ودور شيوخ الصوفية :
يعتقد أن السلطان عبد الحميد الثاني تبنى فكرة الجامعة الإسلامية ، بعد أن تبنى أفكار أبرز دعاة العالم الاسلامي حينها ممن حمل هذا المشروع وهم : نامق كمال في المجتمع التركي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في العالمين العربي والاسلامي (13).وأخذ السلطان عبد الحميد الثاني على عاتقه تنفيذ هذه الفكرة عملياً . بغض النظر عن أهدفه الاخرى التي تسعى الى تثبيت حكمه وحكم بني عثمان والتي تعتبر هدفه الاساس.(14)
بدأت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من خلال عدد من المفكرين المسلمين الذين دعوا إلى وحدة المسلمين في كفاحهم ضد الغزاة وقيام نهضة حقيقية في كل الميادين، تعتمد مبادئ الاسلام والعلم الحديث والتربية المعاصرة والتجديد في مختلف جوانب الحياة وكان أبرز هؤلاء : جمال الدين الافغاني،والشيخ محمد عبده،ومحمد رشيد رضا، وعبد الرحمن الكواكبي، والطهطاوي وغيرهم …(15)
في الوقت نفسه الذي دعت الطرق الصوفية الى إعطاء مسحة مقدسة للسلطان فهو في نظرهم شخصية دينية جليلة لا يجوز أن تطالها يد النقد والتجريح، وهو رمز لوحدة المسلمين، وعزتهم وفخرهم، وحامي الشريعة الإسلامية ، والقيم على تنفيذها.(16)
لقد حاول السلطان عبد الحميد من ان يستفيد من هذه الفئات من المتنورين من جهة والصوفية من جهة ثانية (مع عدم قبول المتنورين للصوفية ) لصالح تمتين حكمه، لقد كانت سياسة محنكة حاولت جمع المتناقضات داخل العالم الاسلامي ووضعها في خدمة السلطان.
وهنا سنحاول ان نطلع على الدور الذي قامت به الطرق الصوفية تجاه الجامعة الاسلامية في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها السلطنة .
من أبرز الاسباب التي دفعت بالسلطان عبد الحميد الثاني الى اعتماده على الطرق الصوفية :
1_ ان الدولة العثمانية كانت تعتمد على بعض الشيوخ الصوفية في تمتين علاقتها مع المسلمين وخصوصا في الاماكن التي كان يراد فتحها .حيث كانوا يؤدون دورا اعلاميا دعائيا للسلطنة.
2_ كانت السلطنة تتعرف على الراي العام الاسلامي من خلال شيوخ هذه الطرق في مختلف انحاء العالم الاسلامي من بلاد تركستان حتى شمال افريقيا .(17)
3_اتخذ السلطان عبد الحميد الثاني من هؤلاء المتصوفة متطوعين لخدمة سياسته وشكل رابطة بين مقر الخلافة. – استانبول- وبين تكايا وزوايا الطرق في كافة أنحاء العالم الاسلامي.
وكان السلطان عبد الحميد الثاني كما اوردنا قد تأثر شخصيا بالتصوف وبالتحديد بالطريقة الشاذلية، حيث كان لشيخها محمود ابو الشامات مكانة خاصة لديه استمرت حتى وفاته.(18)
ولا شك أن نزعته التصوفية وميله للمشايخ وفضوليته للتنبؤ بالمستقبل وتعلقه بالعرافين ساعده في استقطاب عدد منهم.
ج _ شيوخ الصوفية في بلاط عبد الحميد ورجال التنوير :
لقد قرب السلطان عبد الحميد إليه مجموعة من شيوخ الطرق الصوفية من أمثال:
الشيخ ابي الهدى الصيادي من حلب والشيخ محمد ظافر المدني من طرابلس الغرب . والشيخ سعيد من حمص، والشيخ أحمد القيصرلي من المدينة المنورة وفضل العلوي من حضرموت . (19)
وقد عملت هذه المجموعة من الشيوخ على تدعيم فكرة الخلافة الإسلامية ، وحق السلطان عبد الحميد في هذه الخلافة . ودعت كافة المسلمين إلى الالتفاف حول عرشه، إذ أكد أبو الهدى الصيادي :" أن الخلافة ضرورة شرعية، وإنها انتقلت من أبي بكر الصديق عبر العصور الإسلامية حتى ورثها العثمانيون وأدعى أن الخليفة هو ظل الله على الأرض، ومنفذ مشيئته وشريعته على المسلمين كافة إطاعته.(20)
وتوسع نفوذ أبو الهدى الصيادي إلى الشؤون السياسية والادارية والعسكرية،وكانت له أعين تأتيه بكل الأخبار، ومما زاد في نفوذه اعتقاد السلطان عبد الحميد الثاني أن أبا الهدى كان أحد الشيوخ الكبار للطريقة الرفاعية. (21)
وبالفعل فإن أبا الهدى بصفته شيخاً للرفاعية ومرشداً للسلطان عبد الحميد،وضع تحت تصرفه عدداً كبيراً من الوعاظ الذين كانوا يجوبون المشرق ويزرعون بين سكانه الدعوة للطريقة الرفاعية ولتأييد السلطة العثمانية . (22)
كما اعتمد على أحد كبار اشراف مكة (الشريف عون ) الذي كان عضواً في الطريقة الرفاعية . وقد نجح هذا الأخير في التوصل إلى منصب " شيخ شيوخ الطرق “ وبالتالي استطاع أن يستقطب اتباع الزوايا المعارضة له حول فكرة الخطر الأوروبي على الإسلام وضرورة التكتل ضد هذا الخطر.
ليصبح شريف مكة عبر هذا التنظيم المساعد المخلص للشيخ أبي الهدى الصيادي،والخادم الأمين للسلطان.(23)
ومن جهة أخرى كان لشريف مكة تأثيره الكبير على الحجاج حيث أرسل إليهم المرشدين يدعون للجامعة الإسلامية ولقائدها السلطان العثماني وهكذا أصبحت مكة المكرمة بفضل شريفها و (مرشدي الحجاج) وبفضل منصبه كشيخ للطرق. محوراً للسياسة الإسلامية المعاصرة. فمن هناك انتشرت هذه الدعوات،وانتقلت إلى العالم الاسلامي كله، عبر الحجاج الذين نقلوا إلى بلادهم بذرة الحلم الكبير الذي كان يدغدغ مخيلة السلطان عبد الحميد في جمع شمل كلمة العالم الاسلامي من جديد حوله واعادتهم الى كنف الدولة تحت شعار "الجامعة الاسلامية ".(24)
وقد بلغت مكانة الشيخ أبي الهدى الصيادي عند السلطان عبد الحميد،أن السلطان كان لا يرفض له أمراً حتى رسخ في ذهن معاصريه أنه صاحب الكلمة الاولى عنده . (25)
وكان للصيادي أن استدعي جمال الدين الافغاني الى استانبول بعد ان اقنع السلطان بذلك ليظهر للعالم الاسلامي اهتمام السلطان بالعلماء وفي محاولة لاستمالة الافغاني الى جانب مشروع السلطان
الا ان معظم المصادر تذكر ان الصيادي كان لايطيق ان يزاحمه في مكانته وقربه الى السلطان احدا، لذلك نقم على الافغاني وعبدالله بن النديم، واخذ يدس عليهما لدى السلطان (26)
منها أن الأفغاني والنديم كانا يتنزهان في " الكاغد خانة " أحد منتزهات استانبول المشهورة . فصادفا عباس حلمي خديوي مصر الذي كان في إحدى زياراته إلى العاصمة العثمانية، وسلم بعضهم على بعض وتحادثوا نحو ربع ساعة تحت شجرة هناك فعلم الصيادي بأمر هذه المقابلة وقدم تقريراً إلى السلطان، قال فيه: أن الأفغاني والنديم قد تواعدا مع الخديوي على الاجتماع هناك، وقد بايعاه تحت الشجرة على أن تكون له الخلافة. فتغير قلب السلطان نحو الأفغاني وخشي منه وشدد عليه الرقابة.(27)
في الواقع فان السلطان عبد الحميد كان يحاول ان يقرب الافغاني منه، فأستقبله وكرمه وادعى قبول مشاريعه الاصلاحية داخل السلطنة، كما عرض عليه منصب شيخ الاسلام، الا ان الافغاني رفض هذا المنصب طالبا من السلطان ان يعهد اليه بعمل الاصلاحات داخل البلاد مع رفض السلطان لهذه الفكرة (28)
الا ان هذا الود من قبل السلطان تغير، حيث ينقل احد السياح الالمان نقل عن الافغاني عام 1896 قوله : " انه يعيش بين مظاهر عطف من السلطان، ودسائس لاتحصى يبيتها له رجال القصر، وكم تضرع اليهم ليسمحوا له بالسفر فأمسكوه حيث يقضي بقية عمره في نوع من الاسر مموه بالذهب " ( 29)
لقد كان لموقف ابو الهدى الصيادي الذي كان يحسد الافغاني ويخشاه، ان اخذ يعمل على الايقاع بينه وبين السلطان وايذاء كل من يمت اليه بصلة، حيث كتب الصيادي الى محمد رشيد رضا صاحب المنار قائلا له : " اني ارى جريدتك طافحة بشقاشق المتأفغن جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به الى الحسينية التي كان يتزعمها زورا، وقد ثبت في دوائر الدولة رسميا انه مازندراني من اجلاف الشيعة …وهومارق من الدين كما مرق السهم من الرمية " (30)
وكانت نهاية جمال الدين الافغاني عبر مرض اصابه في حنكه، الى ان مات في الخامس من اذار من العام 1896، (31)
وأمر السلطان بان يدفن جمال الدين من دون احتفال، ومصادرة اوراقه وكتبه، وبعدم كتابة اي خبر حول وفاته، كما صودرت الصحف المصرية التي رثته في سوريا، ودفن في مقبرة مجهولة (32)
كما عمل الصيادي على ازاحة أسرة الكواكبي من نقابة الأشراف في حلب بعد أن كانت حكراً على هذه الأسرة من أمد بعيد.وذلك نظرا للكراهية الشخصية التي كان يكنها الصيادي لهذه العائلة.ويعتقد ان الصيادي كان يقف وراء مؤامرة مقتل عبد الرحمن الكواكبي بالسم في القاهرة عام 1902، بعدها عمد احد اتباع عبد الحميد الى قصد محل اقامة الكواكبي ووضع يده على جميع اوراقه وارسلها الى الاستانة (33)
لقد كان الكواكبي يهاجم رجال التصوف بحدة، متهما اياهم بادخال الاساطير على الدين : " ان الطامة من تشويش الدين والدنيا على العامة، بسبب العلماء المدلسين وغلاة المتصوفين الذين استولوا على الدين فضيعوا أهله " (34)
حتى ان الشيخ رشيد رضا عانى من أذى الصيادي ايضا، فها هو الشيخ رضا يتسآل عن الطريقة الرفاعية التي ينشرها الصيادي التي تغرر بمن ينتسبون اليها، فيهاجم السيد احمد الرفاعي الكبير قائلا : "ان السيد احمد الرفاعي قال : ان الولي يصل الى درجة يقول فيها كن فيكون "ويضيف رضا
متسآئلا : " من يلمس يد الرفاعي او احد خلفائه وذريته تحرقه النار، رغم ان هذا الشيخ كان يشتم ويهان " وما كان يحل على من يشتمه اي بلاء !!!
لقد كان رد فعل الصيادي ان منع تداول مجلة المنار في الاراضي العثمانية لينحسر قرائها في مصر وشمال افريقيا، ولم يكتف ابو الهدى بذلك وانما اوعز الى متصرف طرابلس العثماني، بأن يلاحق اسرة الشيخ رشيد رضا والتضييق عليهم، كما حاول ان يبعث بشخص من قبله الى مصر بهدف اغتيال رشيد رضا،وقد تعجب الشيخ رشيد رضا من هذه الاجراءات التعسفية من قبل السلطة العثمانية، لمجرد انه نصح المسلمين بأن "لايتخذوا اربابا من دون الله "، وحمل رشيد رضا على شيوخ الطرق الصوفية ولقبهم " أفسق الفساق وأفجر الفجار " وأتهمهم بأنهم يدعون التصرف في الكون والانتقام مما لايخضع له فضلا عمن ينال منه بقول او عمل " (35)
وأورد الكاتب محمد سعيد العريان في ذكره لهذا الواقع قائلا :" أما في بلاط السلطان عبد الحميد فكان الخليفة الذي يزعم أنه باسم الله يحكم ويستبد ويسيطر، وباسمه يخنق ويغرق ويحرق. وباسمه يظلم ويفتك ويهتك ومن حوله ذوو لحى وعمائم بينهم أبو الهدى الصيادي يزعمون للخليفة ولانفسهم وللناس أن هذا اللون الفاسد من الحكم هو شرع الله، وهو الدين، وباسم الله، وباسم الدين يجب أن يذل الناس وأن تطأطئ الرؤوس،وأن يعيش البشر كالرقيق أو كقطعان الماشية ليس لها حرية، ولا راي ولا إرادة،لأن الحرية والرأي والإرادة هي حق الخليفة الجالس على عرش الله وحده. وليس لها عزة وكرامة ولا نعمة، لأن العزة والكرامة والنعمة حق أبي الهدى الصيادي دون سائر المحكومين من رعية الخليفة ".(36)
كما ان الصيادي حاول ان يستميل محمود الألوسي العراقي إلى الطريقة الرفاعية، فرفض الألوسي وأخذ بمهاجمة الطرق الصوفية في عصره، فدبر له أبو الهدى الصيادي النفي إلى بلاد الأناضول .(37)
د_ دور المتصوفة في دعم السلطان عبد الحميد الثاني :
كان الشيخ ظافر، المعلم الروحي للسلطان عبد الحميد وشيخ الطريقة الشاذلية المدنية،قد احتل مكانة مرموقة في البلاط السلطان في العاصمة استانبول حيث كان الشيخ ظافر يوجه من مركزه هناك حركة الدعوة إلى الجامعة الإسلامية التي تخدم السلطان، فالطريقة التي كان شيخاً لها كانت تنتشر في تونس والجزائر وقد أرسل الشيخ ظافر أحد أقاربه إلى المناطق التي احتلتها فرنسا في الجزائر وتونس فقام بزيارة المشايخ وقدم لها الهدايا باسم السلطان عبد الحميد.
واستطاع هذا المبعوث من أن يرسل إلى استانبول أكثر من ثمانية آلاف فرنك(أموال زكاة)للمساهمة في دعم سياسة الجامعة الإسلامية .(38)
في الواقع فان عبد الحميد استخدم هؤلاء الشيوخ في تدعيم سلطانه كل في المكان الذي تواجد فيه، فالشيخ محمد ظافر المدني كان مسؤولا عن الدعاية الاسلامية في شمال افريقيا ومناهضة النفوذ الفرنسي هناك، وعبره كان التواصل مع شيخ الطريقة السنوسية في ليبيا " محمد المهدي السنوسي "، والتنسيق لحركة المقاومة في شمال افريقيا ضد التوسع الاوروبي فيها، كما ان العلاقة التي ربطته مع الشيخ فضل العلوي من ظفار، كان ان جعله مساعدا لشريف مكة "عبد المطلب " عام 1880، بهدف كسر التحالفات القبلية العربية الموالية لبريطانيا.(39)
وقد وصف أحمد الشوابكة نشاط الطرق الصوفية في تنفيذ سياسة الجامعة الإسلامية ومقاومة الاستعمار الأوروبي، وتعبئة الأهالي ضد المستعمرين وخصوصاً في شمال أفريقيا . فتحدث عن أسلوب المقاومة السرية التي نفذها أتباع الطرق الصوفية ومرابطو الزوايا،وذكر أن هذه المقاومة كانت تدار من قبل لجنة مركزية في العاصمة استانبول تتألف من مجموعة من علماء الدين ومشايخ الطرق الصوفية . وتحدث عن وجود هيئات فرعية تعمل في أقاليم مختلفة من الدولة العثمانية أبرزها تلك الموجودة في مكة المكرمة والتي كانت تعمل تحت إشراف شريف مكة وتنشط في موسم الحج لنشر فكرة الجامعة الإسلامية بين الحجاج. وأخرى في بغداد، وكانت تنشط بين القادمين من شمال أفريقيا لزيارة ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني، وقد قدر عددهم في إحدى السنوات بخمس وعشرين ألفاً ، لقد سعت هذه الطرق الصوفية الموالية لسياسية الجامعة الإسلامية كالشاذلية والقادرية والمدنية الى مواجهة المستعمر الفرنسي في شمال افريقيا وتعبئة الاهالي ضده.(40)
وقد خضعت هذه الهيئات لتنظيم إداري فوضعت كل زاوية تحت إشراف مقدم وترأس المقدمين شيخ الطريقة وحدت اجتماعات دورية لمشايخ الطرق تحت اشراف الهيئة الفرعية لشمال أفريقيا برئاسة الشيخ محمد ظافر المدني وذكر أن الطبيعة المدنية في طرابلس الغرب والتي يتزعمها الشيخ ظافر المدني قامت بجمع الأموال عام 1897 لصالح الدول العثمانية لمساعدتها في حربها ضد اليونان.(41)
كما كان للدور الذي قامت به الطريقة السنوسية في تعاطفها مع الدولة العثمانية، وتأييد السياسة الإسلامية التي انتهجها السلطان عبد الحميد، ذلك أن السنوسيين كانوا ينظرون إلى الخلافة العثمانية على أنها ضرورة دينية وسياسية .
وقد راسل السلطان عبد الحميد الثاني محمد المهدي السنوسي طالباً إليه المساعدة في الوقوف بوجه الأوروبيين مذكراً إياه بواجبه اتجاه الخلافة . وقد كثرت المراسلات بين الاثنين فرداً على بعثة السنوسي إلى عبد الحميد في أيلول 1895 أرسل عبد الحميد صادق المؤيد مرة ثانية إلى الكفرة مزوداً بالهدايا التي هي عبارة عن صحيح البخاري وساعة ولكي يطمئن السنوسي السلطان عبد الحميد إلى سلامة نواياه أرسل الشيخ عبد العزيز العيساوي من المتصوفين السنوسيين في أيلول 1895 إلى الأستانة حيث أكد ولاء الشيخ المهدي للسلطان وتأييده للسلطنة .(42)
وذكرت المصادر أن السلطان عبد الحميد أرسل قافلة من المتصوفة إلى الهند حيث عملت هناك على تدعيم فكرة الخلافة العثمانية، ومحاربة الدعاية البريطانية الداعية الى جعلها للعرب، وقد زارت هذه القافلة بعض حكام شبه الجزيرة العربية ولا سيما الحجاز طالبة تأييد هؤلاء الحكام للسلطان عبد الحميد في سياسته الداعية الى الجامعة الاسلامية .(43)
كما ان هناك اتصالات جرت بين السلطان عبد الحميد بوصفه رئيساً للجامعة الإسلامية، وتجمعات الطرق الصوفية وشيوخها في تركستان وجنوب افريقيا والصين.(44)
– استنتاج:
لقيت فكرة الجامعة الإسلامية في عهد االسلطان عبد الحميد نجاحاً لافتاً وأحياناً واجهت مصاعب أمام الدعوات الرافضة لها كفكرة دينية . وعلى الرغم من ذلك فان الطرق الصوفية لعبت دوراً بارزاً في نجاح فكرة الجامعة ونشرها . وقد شعرت الدول الأوروبية بأن السلطان عبد الحميد قد استطاع استغلال مشاعر المسلمين الدينية وأن بإستطاعته أن يهدد النفوذ الاوروبي في المناطق العثمانية والمناطق الإسلامية الخاضعة للسيطرة الأوروبية.
فهو قد هدد عبر حركة الجامعة الإسلامية النمسا بمسلمي البانيا، وروسيا بمسلمي التتار، وبريطانيا بمسلمي الهند وفرنسا بواسطة مسلمي شمال افريقيا. وقد بلغ من نفوذ هذه الحركة في شمال أفريقيا أن وصفتها إدارة المخابرات الفرنسية :" … ويمكن للسلطان عبد الحميد – بصفته رئيساً للجامعة الإسلامية – أن يجمع – من خلال ارتباطاته الوثيقة بالجماعات الدينية في شمال أفريقيا – جيشاً محلياً منظماً يتمكن – إّذا لزم الأمر – أن يقاوم به أي قوة أجنبية ".(45)
وكان لاعتراف إلمانيا بحركة الجامعة الإسلامية و بالسلطان عبد الحميد الثاني خليفة للعالم الاسلامي،وزناً سياسياً بارزا كونه صادر عن امبراطور.دولة أوروبية كبرى فاستغلها عبد الحميد في الدعوة لنفسه، وترسيخ حركة الجامعة الإسلامية .
الا انه يؤخذ على عبد الحميد الثاني عدم تمكنه من الاستفادة من مواهب الأفغاني و رجال التنوير العرب المسلمين أمثال الكواكبي ورشيد رضا وغيرهم في دعم حركة الجامعة الإسلامية ، مما أتاح لخصومه فرصة التشهير به، والتسجيل عليه أنه استمع إلى وشايات ودسائس خصوم الأفغاني وعلى رأسهم الشيخ أبو الهدى الصيادي، الذي كان يكره أن يظفر غيره بثقة السلطان فإن عبد الحميد لم يسقط من حساباته أن الطرق الصوفية مرتكز سياسي هام من حيث الانتشار والدعاية، ولم يخفف احترامه لهذه الطرق وشيوخها .
الا ان الجامعة الإسلامية تبقى تجربة مهمة للسلطان عبد الحميد في سياسته الإسلامية لعبت فيه الطرق الصوفية دور وسائل الاعلام الا انها فشلت بسبب تعنت شيوخ الصوفية من جهة وتصديهم لرجال التنوير و طغيان عبد الحميد الذي تعامل بقوة مع معارضيه داخل السلطنة فدفعت بأعداء السلطان عبد الحميد للاسراع في العمل على عزله وإنهاء الخلافة والدولة العثمانية قبل أن يحقق مشروعه الوحدوي حول سلطانه وبني عثمان .
الهوامش :
(1)_ اكمال الدين اوغلو، قراءة لتاريخ الدولة العثمانية وعلاقاتها بالعالم العربي من خلال كتب التاريخ المدرسية المقررة في مصر بين عامي 1912-1980، مجلة منبر الحوار، العدد 36، السنة 1998، ص،164
(2) _ فدوى نصيرات، عبد الحميد الثاني ودوره في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين، مجلة المستقبل العربي، العدد 422، نيسان 2014، ص.39.
(3)_ حسان حلاق،دور اليهود والقوى الدولية في خلع السلطان عبد الحميد الثاني من العرش، بيروت:دار بيروت المحروسة،ط1، 1982، ص45_48.
(4)- عبد الرؤوف سنو، السلطان عبد الحميد الثاني والعرب :الجامعة الاسلامية واثرها في احتواء القومية العربية، حوار العرب، بيروت : 2005،ص.4-5، بحث منشور على شبكة الانترنت.
(5)_ عبد الكريم رافق، تاريخ الجامعة السورية البداية والنمو 1901-1946، دمشق : 2004، ص.10-11
(6)_ اكمال الدين اوغلو، المرجع السابق، ص.164
(7)_ رفيق شاكر النتشه، السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين، القاهرة : مكتبة مدبولي، ط5، 1990، ص. 161- 115-153.
(8)_ علي سلطان، تاريخ الدولة العثمانية، طرابلس الغرب : مكتبة طرابلس العلمية العالمية، 1991، ص.394.
(9)_ William oschsenwold .the hijaz ,rail road .vergina 1980 pp.118-150
(10)_ علي سلطان، المرجع السابق، ص.349.
_ صالح سعداوي، مذكرات الاميرة عائشة عثمان اوغلي، عمان : دار البشير للنشر والتوزيع، ط1، 1991، ص . 80.
(11)_ عبد المنعم الهاشمي، الخلافة العثمانية، بيروت : دار ابن حزم، ط1، 2004، ص . 529-530.
(12) – جورج انطونيوس، يقظة الامة العربية، بيروت:دار العلم للملايين،ط8، 1987، ص 142
(13) _ عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها، ج3، ص . 1182-1186.
_ سمير ابو حمدان، جمال الدين الافغاني وفلسفة الجامعة الاسلامية، بيروت : دار الكتاب العالمي، 1992، ص . 78-87.
(14)_ Bernard lewis ,the ottman empire in the mid nineteenth century : a review in m.e.s vol 4 . no. 3 1965
(15)_ محمد جلال كشك، القومية والغزو الفكري، الكويت : مكتبة الامل، د.ت، ص.192.
(16)_ علي المحافظة، الجامعة الاسلامية، مقال مقدم الى المؤتمر الدولي الثاني لتاريخ بلاد الشام، ص. 298-299.
(17)_ محمد حرب سلطان، عبد الحميد الثاني اخر سلاطين العثمانيين الكبار، دمشق : دار القلم، ط1، 1990، ص . 195.
(18)_ بطرس ابو منه، السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي، مجلة الاجتهاد، السن الثانية، خريف 1989، ص . 72.
(19)_ مجلة الهلال، مج 17، ج10، السنة 1908، ص . 593-594.
(20)_ commins,phd.pp.294-295.
(21)_ ولي الدين يكن، المعلوم والمجهول، القاهرة : 1909-1911، ج1، ص . 98.
_ عبد العزيز الشناوي، المرجع السابق، ج3، ص . 1214.
(22)_ بطرس ابو منه، المرجع السابق، ص . 76-77.
(23)_ depont et coppolani op .p .262
(24)_ احمد الشوابكة، حركة الجامعة الاسلامية، ص . 266.
(25)_ ولي الدين يكن، المرجع السابق، ج1، ص.97.
(26)_ بطرس ابو منه، المرجع السابق، ص.81.
(27)_ لوثروبستودارد،حاضر العالم الإسلامي – دار الفكر. 1971، ج2،ص . 202.
(28)_ قدري قلعجي،ثلاثة من اعلام الحرية،بيروت:شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط3، 2013، ص99،103
(29)_ قلعجي، ص . 101
(30)_ المرجع نفسه، ص104
(31) _ محمدعمارة، تاريخ الاستاذ الامام محمدعبده ; القاهرة دارالشروق ج1، ص 89-94
(32)_ المرجع نفسه، تاريخ الاستاذ ج 1، ص . 94
(33)_ من مقدمة كتاب ام القرى لعبد الرحمن الكواكبي، تحقيق محمد جمال الطحان، دمشق : دار صفحات، ط5، 2012، ص . 23 -24)
(34)_ عدنان عويض، اشكالية النهضة في الوطن العربي، دمشق : دار التكوين، 2007، ص . 82)
(35)_ حسين سليمان، الشيخ مجلة اوراق جامعية، العدد 33-34-35، السنة 18، 1/2010، ص 186-187
(36)_ محمد سعيد العريان، مهرجان عبد الرحمن الكواكبي، دمشق : المجلس الاعلى لرعاية الفنون والاداب والعلوم الاجتماعية، 1960، ص. 73ومابعدها.
(37)_ محمد بهجت الاثري، محمود شكري الالوسي واراؤه اللغوية، القاهرة : معهد الدراسات العربية العليا، 1958، ص.76-89.
(38)_ بطرس ابو منه، المرجع السابق، ص. 74-75.
(39)_ عبد الرؤوف سنو، المرجع السابق، ص.6
(40)_ احمد الشوابكة، المرجع السابق، ص . 263-264.
(41)- og9 no 1 vol 2 , Oppenheim and Hohenlohe .cairo 2-6 1897 no . 38 a7587.
(42)_ محمدفؤادشكري ,السنوسية دينودولة مركزالدراساتالليبية أكسفورد ط .2002, ص 86-85.
(43)_ محمدحرب , مذكرات السلطان عبدالحميد الثاني , دارالقلم دمشق،ص 198
(44)_ محمدحرب , المرجع السابق نفسه ,ص 198
(45)_ علي محمد صلابي، الدوله العثمانية عوامل النهوض واسباب السقوط، مصر: دار التوزيع والنشر الاسلامية، ط1، 2001، ص. 424.