لم تكن الحركة الثقافية في سوريا بمنأىً عن الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها البلاد، إنما كان شأنها شأن كل المؤسسات ومجالات الحياة الأخرى التي عانت ما عانته خلال الحرب التي يشهدها القطر، والتي أدت إلى خروج العديد من المراكز الثقافية من الخدمة، وتحويل الأمسيات الأدبية إلى أصبوحات، وتقليص مهرجانات أدبية وفنية تشكيلية كانت تدوم لأسابيع إلى ملتقيات تنتهي خلال بضع ساعات.
تراجع لم تكن الأزمة سببه الوحيد، إنما يشترك في الإثم أدباء ومفكرون ووزارة متمثلة بعمل مديرياتها كافة، المتمثل بتوعية وتثقيف الشباب المكوّن الأهم والعنصر الأكثر فعالية في هذه الأزمة، وقبلهم أطفالنا الذين غلب العنف على ألعابهم وهم المبعدون أصلاً عن الأنشطة الثقافية والترفيهية، وعن المواقع الأثرية والتاريخية التي لم يوفرها الصراع وغير ذلك الكثير.
بين المطالبة والمبادرة
تؤكد الأوضاع التي آلت إليها حال سوريا ضرورة مضاعفة الجهود في المجال الثقافي، لما للثقافة من دورٍ مهم وعميق في بناء الإنسان وبالتالي الوطن، لذا كان لزاماً على المثقفين السوريين على اختلاف اختصاصاتهم أن يقدموا أكثر فأكثر، وأن يبتدعوا أشكالاً للتواصل مع مجتمعهم خدمة لوطنهم وإيصالاً للرسالة النبيلة التي من المفترض أنهم يحملون لواءها، لكن لماذا كان أداء هؤلاء دون المطلوب؟ وهل من المفترض أن نطلب؟ أم أن هناك واجب إنساني ووطني وثقافي بالدرجة الأولى؟
يقول القاص والروائي السوري أيمن الحسن: "هناك قلة في الأمسيات الأدبية، خصوصاً تلك التي تهدف لتوعية الشباب فهذا شبه نادر، مع ذلك مصممون على الاستمرار وعدم التوقف، لقد قدمنا أمسيات لم يكن الجمهور فيها على المستوى المطلوب من حيث الكم، مع ذلك كانت وسائل الإعلام حاضرة دائماً".. أما السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل على الأديب أن ينتظر الأوامر من واضعي البرامج أم يجب أن يتمتع بروح المبادرة؟، يجيب على هذا التساؤل الكاتب والناقد المسرحي جوان جان فيقول: "دائماً كانت المطالبات من قبل المثقفين بإعطائهم مزيداً من الهوامش لإبداء آرائهم ومواقفهم في مناسبات مختلفة، استغرب الطروحات التي تصب باتجاه معاكس والتي تطالب المؤسسات الرسمية القيام بهذه المبادرات في الوقت الذي يطالب فيه المثقفون بذلك لاتخاذ مواقف تعبر عن أنفسهم كأفراد وكشرائح واسعة من الناس".
أسباب كثيرة أدت إلى نشاطات وفعاليات ثقافية أقل كما تقول إلهام سليمان المدير السابق لثقافي أبو رمانة منها التهديدات المتكررة والأوضاع الأمنية في بعض المناطق التي حالت دون وصول بعض المحاضرين والمتابعين أيضاً، تقول: "طالبنا بحراسة لكننا حاولنا الاستمرار ولو بقدر صغير، بعض المحاضرين اعتذروا اضطرارياً، أما الجمهور فكان هناك حضور من أماكن ساخنة حتى أن هناك أطفالاً أصروا على الحضور". الفعاليات التي شهدها هذا المركز -على سبيل المثال لا الحصر- كانت وكما تقول سليمان: "بعض الفعاليات التي أقمناها كانت من أجل التخفيف عن الأطفال وأخرى للشباب، كما أقمنا معارض خاصة بالأزمة، معرض تصوير ضوئي بعنوان: (بلدنا حلوة بيكفي تخريب)، أخذنا مواطن الجمال في سورية الحبيبة وبالمقابل أماكن تعرضت للدمار، اللافت في هذا المعرض إصرار البعض من المحافظات الأخرى على الحضور، أيضاً استضفنا رجال دين وشخصيات سياسية في حوارات مفتوحة مع الأهالي والشباب، بتغيير موعد المحاضرات بما يتناسب والوضع الحالي كانت خطوة نحو تخفيف الضغط عن المحاضرين والجمهور معاً، فضلاً عن فتح أبواب المركز أمام العديد من المنظمات الشعبية التي عاد ريع نشاطاتها للمتضررين، المراكز الثقافية مفتوحة أمام كل الأصوات مهما كان توجهها شريطة مصلحة الوطن والمواطن، فهي مؤسسات وطنية بالمجمل".. مقابل ذلك نجد بعض المبادرات الفردية من بعض المعنيين أتت ثمرها مباشرة سواءً من حيث تشجيع الأدباء أو الجمهور على الحضور والمواظبة على التواجد باستمرار كالمركز الثقافي في "ببيلا"، والتي يلخصها الأديب أيمن الحسن بالتالي:" في هذه الأزمة كان للمركز الثقافي في "ببيلا" موقفاً رائعاً حيث قام مدير الناحية بالتعاون مع مديرة المركز القاصة سوسن رجب بتأمين الحماية للمشاركين في كافة نشاطاته، من الشباب الموهوب الذي حرص المركز على عرض كتابتهم أمام أدباء يبدون آراءهم في هذه الكتابات".
وما بين المطالبة والمبادرة يقول هشام تقي المدير العام في مديرية ثقافة دمشق:" كي يكون هناك ندوات تخص الأزمة الحالية يجب أن يكون هناك منظمات متخصصة مشرفة على الموضوع، لكن هناك توجيه دائم لمدراء المراكز بالاتصال المستمر بالمفكرين في بلداتهم والعديد من المحافظات لإقامة مثل هذه النشاطات، والاتصال بأصدقاء المركز والرواد الدائمين".
السينما أنجزت خطتها
غاب مهرجان دمشق السينمائي ليترك فراغاً كبيراً في صالات ودور العرض في دمشق وكل المحافظات السورية، ويفتح المجال أمام تساؤلات جمهوره من السوريين والعرب والأجانب، يقول السيد باسم خباز مدير الشؤون الإدارية ومعاون المدير العام للشؤون الإدارية: "المهرجان مؤجل لحين عودة الأمن والأمان، لكننا استعضنا عنه بمهرجان السينما السورية، كان لنا بعض المشاركات في بعض المهرجانات الخارجية".. يضيف خباز: "كل صالاتنا ما تزال تحت الخدمة ولم يخرج أياً منها، باستثناء صالة حمص وصالة دير الزور اللتان هما قيد الترميم، افتتحنا صالة الكندي في طرطوس بعد تحديثها". لم تؤثر الأزمة على إنتاج الأفلام من حيث العدد، بل كان هذا العام وحسب "خبَّاز" من أكثر الأعوام إنتاجاً، والأفلام كلها ذات مستوىً عالٍ، يقول باسم خباز: "كمؤسسة حاولنا قدر الإمكان اتخاذ إجراءات تحمينا من التأثر بالأزمة، فوضعنا خطة طوارئ كاستبدال مواقع التصوير، لقد استطاعت المؤسسة العامة للسينما إنجاز خطتها بالكامل". وبالسؤال عما إذا كانت الأفلام المنتجة قد تناولت الأزمة الحالية أجاب خباز:" لم يأتنا نصوص تخص الأزمة كما أنه من الخطأ التحدث عنها في الأعمال السينمائية والأزمة ماتزال قائمة". وعن الأفلام المنتجة يتابع "الخباَّز" بالقول: الأفلام السورية التي أنتجت وعرض بعضها، فهي فيلم "الشراع والعاصفة"، إنتاج العام (2011) وفيلم "نوافذ الروح"، لليث حجو وهو سيعرض قريباً، أيضاً سيعرض فيلم "العاشق" للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد. أما إنتاج (2012) فهناك فيلم "مريم" لباسل الخطيب في تجربته السينمائية الأولى، ويحكي قصة فتاة اسمها مريم، يختزل مراحل مرت بها سورية، وفيلم "عرائس السكر" لسهير سرميني، وهو درامي اجتماعي، والفيلم الاستعراضي فيلم "ليلى والذئاب"، أيضاً هناك فيلم الشباب الدارسين في خارج سورية والعائدين إلى سورية، ومشروع دعم الشباب".
حراس الآثار
وكان للمواقع والأماكن الأثرية نصيبها من التدمير والتخريب كالمسجد الأموي في حلب، وبعض المقامات والتماثيل العائدة لمفكرين كانت لهم بصمتهم في تاريخ سوريا الثقافي والحضاري، حوادث كثيرة جعلت المهتمين يتساءلون لماذا حصل ما حصل؟، هل كان السبب تقصير من الوزارة في حماية المواقع الأثرية؟ أم أنه لم يكن بالإمكان غير ما كان؟ ففي حوار مع الدكتور مأمون عبد الكريم المدير العام للآثار والمتاحف قال: "لا يوجد تقصير من أحد، بالنسبة للحراسة كنا نشتكي في زمن ماضٍ من قلِّة الحراسة، أما اليوم فوجود الحارس بحد ذاته لا قيمة له إن حدثت اشتباكات، أو كان هناك لصوص آثار، ماذا يفعل الحارس؟! لكننا اعتمدنا طريقة أخرى لحماية الآثار، وهي إشراك المجتمع المحلي والأهلي، نحن ندعو الشعب السوري بدون استثناء، لأن يقوم بدوره التاريخي في قراه وبلداته، قناعتنا كمديرية، مختلفة عما هو سائد، فجميع المواقع الأثرية تحت السيطرة، على اعتبار أن كل الموظفين والحراس موجودون على رأس عملهم، حتى في بعض المناطق الساخنة، لكن في بعض الأحيان يصعب على الموظفين الوصول إلى أماكن عملهم، من منطقة إلى أخرى أو من محافظة إلى أخرى، نبقى جهة علمية، ومن المفترض أن يكون هناك اتفاق تحت سقف الوطن لحماية الآثار في سورية". وضع طبيعي أن يكثر لصوص الآثار في بلد كسورية يعيش هذه الفوضى وهو البلد الغني بتاريخه وعراقته، البلد الذي يقتني من الآثار والوثائق أهمها، كذلك يحتضن من الآثار أقدمها، فما هي حوادث السرقة التي سُجلت؟ وكيف تم التعامل معها؟ وهل كان هناك من خطط استباقية؟ يقول الدكتور عبد الكريم: "استطعنا منذ بداية الأزمة إخفاء بعض القطع في أماكن آمنة، مثلاً متاحف حمص، هناك بعض المدافن الهامة التي تم حمايتها على أفضل وجه أيضاً، كل متاحفنا حتى اللحظة بألف خير.. أما حوادث السرقة فلم يسجل لدينا سوى حالتي قطعتين نتيجة اقتحام متحف أفاميا، إحداهما قطعة من تمثال آرامي سرق من متحف حماة، منذ أكثر من سنة.
هنا لابد من الإشارة إلى أن ثلث القطع التي المسروقة، كانت مزورة حتى على مستوى لوحات الفسيفساء، لقد تم اكتشاف ورشات تعمل في تزوير الآثار، وهذه أيضاً ازداد انتشارها خلال الأزمة، يضيف عبد الكريم: "طلبنا من جميع المديريات استخدام المراكز الثقافية لتنفيذ محاضرات بهذا الخصوص، كما طلبنا من رؤوساء الدوائر في المحافظات كافة التواصل مع خطباء المساجد، والمؤازرة من قبل الجهات الحكومية، نفذنا حملات إعلانية في الشوارع والطرقات للدفاع عن آثارنا وتاريخنا".
الحراك الثقافي الرسمي في سوريا الأزمة مبادرات مفقودة..لوم متبادل-
70
المقالة السابقة