خليل حاوي شاعر يحمل طابعاً خاصاً جداً، حديثاً وعريقاً في آن. من يقرأ شعر خليل حاوي يشعر بأبعاده المتجذرة بسلاسة وصلابة في العمق الحضاري الإنساني وخصوصاً القومي. فعلى الرغم من النظرة الخانقة والعابقة ضباب أسود، هناك ومضات تعلن رغبة عميقة في التغيير والهدم الذي ينبت من طياته تجلياً جديداً للوجود.
وخليل حاوي شاعر متفرد في رؤياه ونظرته إلى الحياة والحب والوجود والكون والروح والأشياء. كان يسرّ في أعماق نفسه الغبطة والمرارة، عروبياً في ثقافته متبصراً في المصير المشترك، لبنانياً في تطلعاته وعمق شموليته، وآفاقه الواسعة. عرف كل المذاهب الشعرية وضرب في كل منها بسهم.
كان مسكوناً بالشعر، فهو ديدنه وسلوكه وملاذه الدائم وروحه والدم الذي يجري في عروقه، كان مترفعاً عن نزاعات الناس جميعاً. هو الحرية والكلمة والإنسان والكائن. شعره يعبّر عن مكنونات البشر وأحاسيسهم وعواطفهم، مذهبه الشعري هو المذهب الخاص به، كما سبق وأشرنا.
المؤثرات العامة في شعره
يمر كل إنسان عادة في حياته بتجارب، أو يلتقي ممن يترك فيه أثراً، فيظهر هذا في أعماله وتصرفاته. والشعراء ورجال الفكر عموماً لا يكونون منبثقين في فكرهم من فراغ، بل إن ثمة ما يؤثر فيهم ويوجههم الوجهة التي سلكوا في طريقها.
وخليل حاوي تقول الكاتبة نادين طربيه الحشاش: «واحد من هؤلاء المفكرين الذين ترك فيه آخرون بصماتهم وشيئاً من ذواتهم في ذاته الشاعرة». ولهذا السبب مهّدت الكاتبة بنبذة عن حياة حاوي في كتابها.
إن إعجاب حاوي بالثقافة العربية وتطلّعه إلى دور قومي عربي تاريخي لم يكونا يعميانه عن الخلل العميق والنقص الفاضح في الحياة العربية بشكل عام. وترى الكاتبة أنه كان يحب العرب حباً عظيماً، ولكنه كان يكره عقمهم المعاصر كرهاً عظيماً أيضاً. ولعل هذه النظرة المركّبة هي من أصول إبداعية خليل حاوي الفكرية
والتجربة التي مرّ بها شاعرنا من خلال قناعته والتزامه تبدّت في مستهل الأمر، وتحديداً مع قصيدة «السندباد في رحلته الثامنة» إشراقاً وخروجاً إلى عالم يرى فيه حاوي ذاته من خلال جيل نظّف نفسه من أسمال الماضي، وأشرف على آت يبدو أكثر إشراقاً؛ «وربما كان هذا بسبب الواقع السياسي الذي ساد تلك المرأة ورأى فيه خليل حاوي تحولاً نحو التجديد، يعني بهذا الوحدة العربية التي تجلّت آنذاك في ما سمّي «الجمهورية العربية المتحدة». وهي الوحدة التي قامت بين مصر وسوريا عام 1958، ورأى خليل من خلالها نهوضاً جديداً للشباب العربي الذي يمكنه أن يبدأ بصنع تاريخ جديد ومشرّف.
التأثير الغربي في شعر حاوي
إتصل خليل حاوي بالغرب الأوروبي خاصة، وذلك إبان دراسته في جامعة كمبردج، وقد أقام في إنكلترا سنوات يعمل على تحصيل ثقافة افتقر إليها في سنوات الكدح التي عرفها من قبل. وهذه المرحلة تمثل أخصب مراحل حياة هذا الشاعر. حيث إنه تمكن من العمل في مكتبات عريقة وكبيرة في الجامعة، وعمّق إلمامه بالتراثين العربي والأوروبي، وتمكن من مصادر النقد الغربي بعد أن اطّلع على أعمال مفكرين مهمين فيه.
فما هي عناصر التناص مع الفكر والأدب الغربيين التي تظهر في شعر خليل حاوي؟ وإلى أي حد يمكننا أن نتكلم على تأثير غربي فعلي في شعره؟
تشير الكاتبة إلى أننا نجد موقف ألدوس هكسلي في حياته مشابهاً للثنائية التي تتناولها قصيدة خليل حاوي «البحار والدرويش». فهكسلي نفر من مادية الغرب وتحوّل العلم عن طبيعته، وهجر الفكر في ما بعد إلى التصوّف، فهو يراوح في فكره، بين العلم الحديث والتصوّف، وبالعودة إلى قصيدة حاوي نجد تجربة الشاعر تتجه إتجاهاً كونياً، متخذة البحّار، رمزاً للتحرّي عن اليقين والحقيقة والكينونة الفعلية، والدرويش رمزاً للذات القعدية التي أيقنت بعجز الفعل الإنساني عن تغيير سنّة الوجود وإعادة خلق الأشياء والابتكار فيها. «وهذا، الشخصان يقيمان في قلب القصائد عبر «نهر الرماد» عبر تقمصات وتحوّلات تطرأ من معاناة الشاعر وثقافته وتأملاته».
ونحن نرى أن التقاطع في صورة الثنائية الظاهرة هنا مصدرها هكسلي، وإن لم يكن خليل حاوي، في نهاية الأمر، متفقاً معه على وسيلة الخلاص، لكن الرحلة في جوهرها شبيهة إلى حد كبير برحلة هكسلي الفكرية داخل عقم الحضارة الغربية الروحي، والتسلح المستمر بالعلم، وفشل هذا العلم، برأيه، في أن يقدم للإنسان الغربي ما يصبو إليه.
وتقول الكاتبة في هذا الصدد: «إنها بالضبط صورة بحّار حاوي التي استمد جذورها من إطلاعه على تجربة هكسلي. وإن كان حاوي متمزقاً بين حضارتي الشرق والغرب، أو بين العلم الذي لم يؤد بصاحبه البحّار إلى معرفة وثيقة أو إلى انفتاح حي ومثمر، بل أفضى، إلى العكس». وبين الدين والتصوّف الخامل الطفيلي الغيبي، فهو يرتاح إلى رؤاه، وتنبؤاته بانحلال حضارة الغرب وقضائها على نفسها. تقول إن كان حاوي متمزقاً بين هاتين الحضارتين، فإنه عرف ما يشبه الرحلة التي عرفها هكسلي، لأنه كما يقول مناف منصور: «رأى الحل في العودة إلى الفطرة والأصالة لأنه بإصراره على العودة إلى الجذور، يبتعد عن كيانيات ومحدوديات العلم ليصل إلى عالم كلي دافق بالحيوية. لقد كان المطلوب عنده ليس إصلاح هذا العالم، بل الانبعاث الجديد».
وكذلك الأمر مع عودة هكسلي إلى التصوّف، فهو رأى فيه ما يشبه العودة إلى الفطرة إلى الغيب الروحاني الذي انبثق الإنسان وفكره فيه.
التناص والتقاطعات بين إليوت وحاوي
عندما نعود إلى نتاج خليل حاوي الشعري، وحتى النقدي، لا يمكننا ألا نلحظ التأثر بالشاعر الإنكليزي ت. س. إليوت، خصوصاً بقصيدة «الأرض الخراب». لكن حاوي، كما يبدو، هضم هذا الأثر وأعاد فرزه في رؤيا لها اتجاه خاص به.
ترى الكاتبة أن حاوي انطلق من العام إلى الخاص في مسار رؤيته، من الحضارة الإنسانية عموماً إلى الحضارتين الشرقية السورية، والشرقية العربية. لهذا السبب نجد صورة إليوت وقد تحوّلت رمزاً مشرقياً يحتفظ بنسغه العام ولكنه يتخذ منحى جديداً.
ويرى البعض أن قصيدة «لعازر» هي قصة الأرض الخراب مرسومة في إطار معاناة أخرى، عربية هذه المرة، ومع حاوي تحوّلت الأرض الخراب التي كانت مع إليوت أسطورة المجتمع الغربي المفجوع، إلى أسطورة المجتمع الشرقي العربي الذي يعيش المأساة الكبرى في عقم النضال وغياب الإنبعاث، وثابر ت س إليوت هو «لعازر» حاوي
إن حاوي كما تؤكد الكاتبة قد تأثر بقصيدة إليوت في لعازر وفي غيرها من القصائد، ولكنه تأثر أيضاً بمواقف إليوت التي كانت الأرض الخراب أحد النصوص المعبّرة عنها. يبقى أن مواقف حاوي شبيهة بمواقف إليوت في مزاوجة إلهامه الذاتي بمعطيات التاريخ والحضارة وفي رفض المضامين المادية العصرية، وفي تقدير الحل في الرجوع إلى الدين.
«نجد حاوي يطوّع ما أخذ عن كل من إليوت وهكسلي ليصير مناسباً لرؤياه الحضارية الخاصة به، ورؤياه الفكرية العامة. فأسطورة الأرض الخراب التي تسرّبت عناصرها إليه من خلال قصيدة إليوت لم تتسرب في ذاته كما هي، ولكنها تحوّلت إلى شكل حضاري خاص له مساقه المتميز في شعره، على النحو الذي رأينا، وتجلى في جملة من الرموز: في كل من تموز وأسطورته ومع تموز الأرض الخراب وتموز بعل».
أما التأثير الذي رأينا من الدوس هكسلي فيمكن ربطه بتأثير إليوت ليشكلا معاً تأثيراً متكاملاً، لأن الرجلين يتلاقيان في الموقف الحضاري، فكلاهما يريان أن العلم لم يحقق طموحات البشر، وهذا موقف حاوي أيضاً، وكلاهما يريان الحضارة الغربية في طور الاحتضار والسقوط، وهو ما عبّر عنه حاوي، ولكنه «نقل رؤياه إلى الحضارة المشرقية العربية، ليصف ميوعة ذاتها وتفككها في ضباب ما هو مستورد من غير ذاتها وأصالتها». إن تناصاً جلياً بين شعر حاوي وكل من نص هكسلي وإليوت. وهذا التناص لم يظهر بشكل مسطح، مباشر، بل هضم الشاعر ما اختزنه من تأثر، وأعاد فرزه بطريقة جديدة.
التأثير الأسطوري
كان للأسطورة دور أساس في شعر خليل حاوي، فقد اغترف هذا الشعر من معينها ليرفد بها نصه الشعري. وربما كان لثقافته السياسية التي نهلها من الحزب السوري القومي الاجتماعي ومن مؤسسه دور أساس في هذه المسألة، لأن أنطون سعادة كان يركز في أحيان كثيرة على دور الأسطورة في الحضارة والأدب السوريين.
وتلاحظ الكاتبة أن أبرز الأساطير التي استعملها خليل حاوي في نصّه الشعري، والتي شكّلت فيه تناصاً مع النص الأسطوري هي أساطير الخصب، خصوصاً أساطير تموز وبعل وملكارت. ويمثل تموز العمود الفقري لرموز الخصب في شعر خليل حاوي. وهذه الرموز من منظار الكاتبة تتمحور خصوصاً في «نهر الرماد». ولكن امتداداتها تطاول الدواوين الأخرى بأشكال مختلفة، ولا سيما في رمزي المسيح والخضر. وتشير الكاتبة إلى أن حاوي يبحث عن الخصب في الحضارة عموماً، ويرى أن على الإنسان أن يؤمّن وسائل الإخصاب لحضارته بالعودة إلى أصالته، والتمسك بها في عملية الخلق الحضاري، فإذا فقد هذه الأصالة فقد ذاته وهويته، وتحلّل في ما هو مسترفد وليس من طبيعة كيانه، وقد عبّرت قصيدة «المجوس في أوروبا» خير تعبير عن هذه المسألة. ويبدو أن تأثير أنطون سعادة في خليل حاوي واضحاً في «نهر الرماد» ذلك لأن مسألتي البعث الحضاري والفداء هما من محاور عقيدة سعادة، ومن أساس فكره. بل أكثر «فإن سعادة قد أشار إلى أن جذور التضحية الفردية متأصلة في النفسية السورية منذ زمن الكنعانيين، وأكد أن هذا المبدأ أساسي لكل مجتمع جدير بالبقاء والارتقاء، وهو أهم مبدأ مناقبي قام عليه فلاح أي مجتمع متمدّن أو متوحّش». وقد آمن حاوي بهذا المبدأ، واعتبر نفسه، ولا سيما في حب وجلجلة وعودة إلى سدوم، والجسر علانية الشاعر الذي يفدي الأجيال لتولد ولادة صحيحة سوية، ولتعبر عليه باتجاه الأرض الجديدة.
إن خليل حاوي وظّف تموز وغيره من الرموز التي عرفت في الفكر الكنعاني، في ديوان «نهر الرماد» توظيفاً ينسجم مع نظرة سعادة الحضارية التي تأثر بها، وشكّلت في شعره تناصاً لافتاً. فالتناص تقول الكاتبة «بين فكرة تموز السورية وصورته في شعر حاوي، خصوصاً هنا، واضحة. وفي الواقع، فإن النزعة الأسطورية والميثوية تحمل في أعماقها قيماً كونية وأبعاداً إنسانية ومواقف متعددة تجاه العالم وظواهره». وبهذا يكون التفكير الأسطوري والميثوي امتداداً للحياة والتاريخ.
الموت والانبعاث
بالعودة إلى قصائد حاوي، نستطيع أن نبني على ثلاثة أمور أساسية هي: مسألة الموت والانبعاث، ومسألة التصفي والتطهّر من أجل تحقيق الانتصار على الموت، وهو هنا موت حضاري بامتياز، والتصفي يعني العودة إلى الأصالة الكامنة في الذات الحضارية ومحاسبة الذات للكشف عما هو أصيل في داخلها، وظهور رمز العنقاء ودلالاته.
فقصيدة «بعد الجليد» وفق قول الكاتبة: «تمثل معاناة الموت والانبعاث الحضاريين، فبعد أن طرح حاوي في «البحّار والدرويش» المشكلة في الغرب والشرق، وهي المفارقة بين العلم والإيمان: العلم الذي لم يتمكن من إيصال الإنسان إلى السعادة لأنه خلا من القيم، والغيبيات التي جعلت الإنسان مسلّماً بقدره، لا يعمل على تطوير نفسه». وهذا تماماً ما حصل للعرب من خلال مرحلة الانحطاط.. بعد أن طرح الشاعر هذه الفكرة في مستهل الديوان، انتقل إلى معالجة الانبعاث الحضاري في عدد من القصائد اللاحقة.
في الواقع، في تموز الذي يلحّ عليه خليل حاوي، والذي يشكل في نصّه تناصاً مع الأسطورة الأساسية، تموز هذا مبثوث في روح الوجود، وهو الإله الإنسان والإنسان الإله، ويبقى صامداً عبر دوّامة التغيير؛ وهو من ذلك يكون صامداً في قلب الزمان وخارجاً منه، والزمن لا ينال منه إلا ما يكون عبر المظاهر البرانية، فيما يتحرر جوهر تموز من الزمن وزمنيته وعطبيته وانحلاليته. وتموز يتحد عبر قصائد «نهر الرماد» بالمسيح. وعبر «الناي والريح» يفترق تموز والمسيح اقترافاً شبه تام. تموز لم يكن غيبياً، وإنما هو إله متجسد من الأرض، ومن المواسم، ومن الدورات المتجدّدة في الوجود».
أما التناص الثاني فمع قصة لعازر في إنجيل يوحنا، حيث نجد الشخصية تشكل بقصتها تناصاً يتداخل والرمز الأسطوري المستعار، فحاوي في «قبر» كما يقول، وهو بذلك مثل لعازر الذي مات، وينتظر أن يُبعث، ولكنه يحوّل هذه الشخصية إلى رمز للإرادة في الحياة، ويدمجها في شخصية المسيح الذي يبعثه من الموت، فيقبل بالصلب في سبيل قيامة الجيل.
التأثير الديني
من جملة التأثيرات التي لا بد من الوقوف عندها في دراسة التناص في شعر خليل حاوي، التأثير الديني، وذلك لأن الشاعر قد استمد من القصص الدينية سواء أكان من الكتابين المقدسين العهد القديم والعهد الجديد أم القرآن الكريم روافد لشعره في الدواوين الثلاثة.
ففي قصة سدوم نجد تناصاً شائقاً، يمكننا أن نقول إن الشاعر فيه أفاد من القصة الأساسية، ولكنه مزجها بعناصر الأسطورة، فانطلق من القصيدة الاولى «سدوم» ليركز على الدمار الماحق الذي تتركه النار «من خلال القصة التوراتية، ووصل في القصيدة الثانية إلى دمج القصة بالأسطورة، وهل هو محل الخالق التوراتي ليخلق بعد التدمير جيلاً جديداً».
كما أن التناص الحاصل بين قصة يونان التوراتية وبين قصيدة «في جوف الحوت» لا يقوم إلا على جزء من قصة يونان، وهو ذاك المتعلق بابتلاع الحوت للنبي.
ولهذا، فإن التناص بين قصة النبي يونان وبين هذه القصيدة هو في مسألة ابتلاع الحوت للنبي، وابتلاعه للشاعر والشعب في القصيدة، وذلك مسألة الإثم. «غير أن جوف الحوت هنا كهف يمثل عمر الإنسان التالف والمنساب من غير تغيير، بل فهو منسوب في الموت، لا يعرف سواه حالاً من حالات الحضارة».
لقد حوّل خليل حاوي، في هذه القصيدة الموت الروحي إلى موت حضاري، وحوّل العودة إلى الإيمان إلى تمسك بالموت والشر. وبهذا التناص حسب رأي الكاتبة الحاصل بين القصة والقصيدة يتشكل من إعادة صياغة لعناصر التوراة، من أجل إخراج خاص للمعنى.
كما أن شخصية «الخضر» لا تنتمي إلى قصيدة واحدة في نصوص خليل حاوي، ولكننا نجدها تظهر في عدد من القصائد منذ «نهر الرماد» وحتى «بيادر الجوع» قصيدة لعازر.
ولكن صورة القديس الخضر هنا «تتداخل وصورة بعل الأسطورية، لأن بعلاً يمتشق البرق، وهو إله البرق والرعد والعواصف، كما أن الخضر هنا يرتبط بصورته الرمزية، فهو الفارس الذي انتصر على الشيطان، فصرع التنين الذي يمثله، وأفرح قلب الكنيسة. والخضر هنا يمتشق البرق على التنين والغول معاً، ولهذا مدلول حضاري. إنه الشاعر الذي يفتدي الجيل من أجل أن يولد مجدداً ولادة صحيحة وأصيلة».
خليل حاوي والتراث العربي
لقد تأثر حاوي بالتراث العربي، ومن المعروف أن هذا الشاعر الواسع الإطلاع والثقافة كان مطلعاً جداً على التراث العربي، وقد ترك فيه هذا التراث تأثيراً عميقاً انعكس بعضه في شعره
وتشير الكاتبة إلى تأثر حاوي بالإسلام لا كدين اعتنقه، ولكن كقوة إنسانية وحضارية نقلت شعباً من الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوة، وكانت صورة كل من النبي محمد وفارس الفتح الإسلامي من أكبر المؤثرات في شعره من حيث علاقتهما بالتراث.
«ويظهر أثر «ألف ليلة وليلة» في غير قصيدة من شعر حاوي وتحديداً في كل من شهرزاد والسندباد».
ففي نهر الرماد نرى الشاعر يتكلم على شهرزاد في قصيدة «عودة إلى سدوم» وهو تالياً يربط حبه بحب شهرزاد لبنات جنسها. وعنصر الفداء هو الأصل في قصتها التي استخدمها الشاعر من «ألف ليلة وليلة» فهو في القصيدة السابق ذكرها يفتدي الجيل بنفسه كما افتدت شهرزاد بنات جنسها لشدة حبها لهن.
ومن أبرز الرموز التي يستعيرها حاوي من «ألف ليلة وليلة، وتشكل تناصاً مهماً بين الكاتب وشعره، هي قصة السندباد البحري. وقد «شكّلت هذه القصة تناصاً مهماً في نصوص الشاعر، في ديوان «الناي والريح» فاستعار حاوي السندباد رمزاً».
يظهر السندباد أولاً في قصيدة «وجوه السندباد». ويعبر في هذه القصيدة عن مشكلة الانسان المعاصر في تفاعله مع الحضارة والزمن، ومن خلاله يعبر عن مشكلته هو في علاقته بالحضارة الغربية التي يتفاعل معها داخل القصيدة.
وتقول الكاتبة: «يمكننا أن نختصر الوجود الذي يتكلم عليه حاوي بوجهين إثنين: وجه الأصالة الكامنة في الذات، والتي يمثلها بوجه أمه الأسمر. وهو يتخذ السمرة رمزاً للأصالة الكامنة في الذات لأنه يربطه بالبداوة في قصائده، ووجهه هو الذي يمثل وجه الإنسان المعاصر في علاقته الخطيرة بالزمن، وفي ميوعه ذاته، والسندباد في هذه القصيدة يخسر ما في قصته الأساسية من توثب وعزم، ويتحول الى شيخ هرم فاقد للعزيمة»؟
إن التناص الحاصل بين النص الأساسي للسندباد في «الرحلة الثامنة» هو الترحال المستمر، والقدرة المتجددة على الفعل والبحث عن المجهول، ولكن صورة العزم المتجدد هي التي تحرك الصورة العامة لهذه الشخصية، وهذا بالتحديد ما اختار حاوي ان يبقي عليه من التناص الحاصل.
هكذا ينفتح التناص بين قصة السندباد البحري وقصيدة خليل حاوي على مصراعيه، «فتأخذ رحلات السندباد مساراً جديداً بعد ان يستعيد هذا الشاعر، وتنقلب معه شكلاً قصصياً جديداً، على مستوى الأمة كلها هذه المرة، ويضيف الشاعر رحلة ثامنة الى رحلات السندباد السابقة التي رآها بلا قيمة».
هذا الشاعر استلهم التراث العربي، وتمكن من تحويل مسار صوره في شعره الى ما يناسب اغراض القصائد. لكن ان التأثير التراثي الأكبر هو في مسألة التناص بين شعر حاوي وكتاب «الف ليلة وليلة» وخاصة في قصة السندباد البحري التي استطاع شاعرنا أن يبدع لها طريقا خاصة وأن يضفي عليها أبعاداً جديدة مستوحاة في اصلها من القصة الأساسية.
التناص وقراءة النص الغائب في شعر خليل حاوي.
نادين طربيه
بيسان للنشر والتوزيع ـ بيروت 2014