88
ثمّة إشارة ضمنيّة في الكتاب الكريم، يُستفاد منها أنّه كتاب التقابل الحياتي بامتياز، تلك هي صفة (المثاني)، التي نستدلُّ من بعض معانيها ومدلولاتها على مبدأ التقابل في القرآن الكريم.
والمُراد بالتقابل القرآني هو ما يطرحه كتاب المسلمين الأوّل من صور حيّة للعلاقة بين نموذجين إنسانيين متنافرين، أو بين موقفين متضادّين متضاربين، يقف أحدهما بقوّة في مواجهة الآخر. فالتّقابل هو علاقةٌ بين متحرِّكين (يقتربان) سويّة من نقطة أو نقاط مشتركة، أو قد يفترقان افتراقًا كلِّيًّا حيث لا اشتراك، أي إنّ النماذج المُتقابلة في القرآن قد تكون متجانسة، بمعنى أنّها من جنسٍ واحد، وقد تكون متعاكسة كلٌّ يضربُ في اتِّجاه.
والغايةُ من التقابل في القرآن تربويّة بالدرجة الأولى، أي إنّ الله سبحانه وتعالى يُجلِّي من خلاله أصالة الإيجابي في مقابل زيف السّلبي، لننشد الأوّل وننشدّ إليه، ونبارح الثاني ونشمئز منه. وهذا يعني أنّ أسلوب التقابل أو المتقابلات القرآنيّة هو أسلوب (المقايسة) و(المقارنة)، وهو أسلوب تربويٌّ رائد في التّوجيه والتأهيل وبناء الشخصيّة والاعتبار بالنماذج الحياتيّة الشاخصة على مفترقات الطرق.
إنّه أسلوب: بيِّنة الرّمز، واضحة المرمى. (الضدّ يُظهر حسنه الضدّ) وأسلوب (بأضدادِها تُعرفُ الأشياء)، فإذا أرادَ القرآن طرح أنموذج إنساني إيجابي طرح إلى جانبه أو في قبالته أنموذجًا إنسانيًّا سلبيًّا منحرفًا لتتشخّص القيمة من خلال المقارنة، ويتبيّن الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من معادن الناس، وعلى ذلك يكون التقابل وسيلة إيضاح قرآنية تندرج – بلا إقحام – في سياق البحوث المقارنة.
يقول الإمام علي (ع): "اعملوا أنّكم لن تعرفوا الرُّشدَ حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاقِ الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه"!
مفهوم التقابل في اللغة والاصطلاح:
تأخذ كلمة (تَقَابَلَ) في المعاجم العربية معاني لغوية مختلفة منها: التلقاء، والمواجهة، والضم. تحدث الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ) عن التلقاء والمواجهة، فقال: "والقِبَل: الطاقة، تقول: لا قِبَل لهم. وفي معنى آخر هو التلقاء، تقول: لقيته قِبَلًا أي مواجهة"([1])، وقال البطليوسي (ت 521هـ): "والقِبَل بالكسر: الطاقة، والقِبَل: المواجهة"([2]). نفهم من المقتبسين أن معنى (تَقابَل) يرتكز على معنى الطاقة المقابلة لطاقة أخرى، وذلك من خلال معنى المواجهة. ويمتد التقابل إلى معنى المواجهة بشكل عام، يقول ابن فارس (ت 395هـ): "القاف والباء واللام أصل واحد صحيح تدلّ كلمة كلّها على مواجهة الشيء للشيء"([3])، ويقول ابن سيده (ت 458هـ): "وقابل الشيء بالشيء مقابلة وقبالًا: عارضه… وتقابل القوم: استقبل بعضهم بعضًا"([4]). فليست المقابلة عند ابن فارس وابن سيده مقتصرة على الطاقة المواجهة، وإنما هي مواجهة عامة فكل شيء يواجه شيئًا آخر فهو يقابله ويعارضه، ويزيد الليث على المعنى المتقدم معنى الضم كما ورد عنه قوله: "إذا ضممت شيئًا إلى شيء قلت قابلته به"([5]) فضم الشيء إلى الشيء مقابل له. والمقابلة والتقابل في اللغة واحد، يقول الجوهري (ت 393هـ): "المقابلة: المواجهة والتقابل مثله"([6]). ويقول ابن منظور (ت 711هـ): "المقابلة: المواجهة، والتقابل مثله. وهو قبالك وقُبالتك أي تجاهك"([7]).
نفهم مما تقدم أن معنى التقابل في اللغة المواجهة التي تتم بين شيئين يكون الأول منهما يواجه الثاني ويتقابل معه، سواء أكان تقابل طاقتين أم تقابل قوتين وغير ذلك من المتقابلات التي تتم بين الشيئين، ويعني أيضًا ضم الشيء إلى شيء آخر أي قابله.
لعل معنى التقابل هنا يسمح لنا أن نضع تحته ثلاث مفردات لغوية تشير إلى معنى المواجهة التي أشار إليها التقابل وهي: المطابقة، والتضاد، والمخالفة.
أما المطابقة، فقد جاءت في المعاجم اللغوية على معنيين: يشير الأول إلى معنى التقابل بالمثل، كما في قول الخليل بن أحمد: "وطابقت بين الشيئين: جعلتهما على حذو واحد وألصقتهما فيسمى هذا المطابق"([8]). وقول ابن فارس: "وطابق بين الشيئين: إذا جعلتهما على حذو واحد. ولذلك سمينا نحن ما تضاعف من الكلام مرتين مطابقًا. وذلك مثل جرجر، وصلصل، وصعصع"([9]). وقول ابن سيده: "وتطابق الشيئان: تساويا"([10]). ويشير الثاني إلى معنى التقابل بالخلاف، وفهم هذا المعنى متأت من التدقيق في النصوص التي ننقلها من أصحاب المعاجم اللغوية، يقول ابن سيده: "والمطابق من الخيل والإبل: الذي يضع رجله موضع يده"([11])، وقد أشار إلى هذا المعنى الجوهري في قوله: "ومطابقة الفرس في جريه: وضع رجليه مواضع يديه"([12]) ولعل في هذين النصين معنى الخلاف؛ وذلك أن موضع الرجل عند الإبل أو الخيل لا يتماثل تمامًا مع مواضع أيديها، فالرجل خلاف لليد من حيث المعنى، وبالتالي فإن الجمع بينهما في موضع واحد هو تقابل بالخلاف وليس بالمثل.
وأما التضاد، فهو يشير إلى تقابل يتم بين شيئين، يقول ابن السكيت (ت 244هـ): "الضد: خلاف الشيء"([13]). ويقول ابن فارس: "والمتضادان: الشيئان لا يجوز اجتماعهما في وقت واحد، كالليل والنهار"([14]).
وأما المخالفة، فهي تشير إلى معنى التقابل بالخلاف، وهي تلتقي في هذا المعنى المطابقةَ والتضادَ. يقول ابن فارس: "الخاء واللام والفاء أصول ثلاثة: أحدها أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه، والثاني خلاف قدام، والثالث التغير"([15]). لا شك في أننا نلحظ أن هذه المفردات الثلاث تشير إلى معنى التقابل، فالأول منها يشير إلى أن الشيء الأول يتقابل مع الشيء الثاني الذي جاء بعده وحل مكانه، والثاني منها أن يقابل الشيء بخلافه مثل خَلْفٌ وقدام، والثالث أن يتغير الشيء من حال ليصير إلى حال أخرى. ولذلك قيل خَلَفَ اللبن إذا تغير طعمه وريحه([16]). ويقول ابن سيده: "والخلاف: المضادة، وقد خالفه مخالفة وخلافًا… وتخالف الأمران، واختلفا لم يتفقا، وكل ما لم يساو فقد تخالف واختلف"([17]).
وأما المعنى الاصطلاحي للتقابل عند البلاغيين، فهو لا يبتعد كثيرًا عن المعطيات اللغوية لمفردة التقابل والمفردات اللغوية السابقة التي تنتمي إليها، وذلك أننا وجدنا مصطلح (المقابلة) الذي يرادف التقابل، فيما نذهب إليه، كثير الدوران على ألسنة البلاغيين القدماء، ولعل من أقدم من تحدث عنه كان أبو علي الفارسي (ت 377هـ) على ما وجدنا من الروايات بحيث عرض معناه وضرب الأمثلة له، وقد نقل لنا علي بن خلف الكاتب (توفي في منتصف القرن الخامس الهجري) تعريف أبي علي للمقابلة يقول: "وأما أبو علي الفارسي فقال: إن المقابلة تطبيق لفظي، لأن الكلمة تقابل فيه أختها على ترتيب… ومثله بقول الشاعر- المثال في البيت الثاني:
وظبية من ظباء الأنس
دريّة الثغر كافورية النفس
تبكي وتضحك إن صدّت وإن وصلت
فنحن في مأتم منها وفي عرس
فابتدأ البكاء وأتبعه بالضحك، وقابل البكاء بالصد والمأتم والضحك بالوصل والعرس على ترتيب من غير تقديم وتأخير"([18]).
نفهم مما تقدم أن المقابلة عند أبي علي تقوم أساسًا على التطبيق اللفظي أي التطابق القائم بين الألفاظ، إذ طابق الشاعر بين الفعل تبكي والفعل تضحك، وقد تمت المقابلة عندما قابل البكاء بالصّد والمأتم، وقابل الضحك بالوصل والعرس، وذلك أن المعاني بين البكاء والصد والمأتم متقاربة ومشتركة، والأمر مشابه في الضحك والوصل والعرس، وكأننا نلحظ أن التقابل لديه يقتضي الترتيب علاوة على التطبيق، وكما يبدو لي أن أبا علي لم يجعل التعدد في المتطابقات شرطًا للمقابلة، وذلك من قوله الذي نقله لنا السيوطي (ت911هـ) معلقًا على قوله تعالى: {جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناءً}(50)، يقول: "قال أبو علي الفارسي: لما كان البناء رفعًا للمبني قوبل بالفراش الذي هو على خلاف البناء"(51). فالمقابلة إذًا عند الفارسي قد تكون بين اثنين، وقد تكون بين أكثر. ولعله يشير في قوله التطبيق اللفظي إلى ما كان ضدًا بين الألفاظ كالضحك والبكاء وما كان في معنى الألفاظ كالبناء والفراش، وعلى ما يبدو أن شرطه هو أن تكون اللفظة تطابق الأخرى كما رأينا في الأمثلة.
فالتقابل في الاصطلاح قائم على المطابقة. فكيف فهم هؤلاء مصطلح المطابقة؟ يبدو أن الخليل بن أحمد (ت 175هـ) كان من أوائل الذين أشاروا إلى هذه القضية، والواقع أنه لم يخرج عن نطاق المعنى اللغوي الذي يشير إلى التقابل بالمثل، كما أدركنا في المعنى اللغوي للطباق. ولكن ابن المعتز (ت 296هـ) نقل لنا عن الخليل والأصمعي (ت 216هـ) نصًا يقول فيه: "قال الخليل رحمه الله يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعتهما على حذو واحد وكذلك قال أبو سعيد، فالقائل لصاحبه أتيناك لتسلك بنا سبيل التوسع فأدخلتنا في ضيق الضمان قد طابق بين السعة والضيق في هذا الخطاب"([19])، لا شك في أننا نفهم من هذا النص أن ابن المعتز قد فهم التطابق عند الخليل بأنه التضاد كما جاء عند الأصمعي وهو أبو سعيد، ولكني أستبعد أن يكون الخليل قد عنى بالتطابق ما عناه الأصمعي، فالأصمعي قد وضح معنى التطابق من خلال كلمتي: السعة والضيق وهما كلمتان متضادتان لا تلتقيان([20]).
وأما مصطلح التضاد، فلعل مِن أبرز من تناولوه في كتاباتهم كان أبو هلال العسكري، يقول: "والمتضادان هما اللذان ينتفي أحدهما عند وجود صاحبه إذا كان وجود هذا على الوجه الذي يوجد عليه ذلك كالسواد والبياض"([21]). يأتي حديث أبي هلال عن التضاد في حديثه عن الفرق بين المختلف والمتضاد. وتحدث السبكي (ت 773هـ) عن معنى التضاد في شرحه للتلخيص، يقول: "والمراد بالمتضادين في الجملة سواء أكان التقابل من وجه ما أم من كل وجه، سواء أكان التقابل حقيقيًا أم اعتباريًا وسواء أكان بين وجودين كما هي حقيقة التضاد أم بين وجودي وعدمي أو عدميين"([22]). وتحدث أيضًا السعد التفتازاني (ت 793هـ) عن الطباق والتضاد، يقول: "أي يكون بينهما تقابل وتناف ولو في بعض الصور سواء كان التقابل حقيقيًا أو اعتباريًا وسواء كان تقابل التضاد أو تقابل الإيجاب والسلب أو تقابل العدم والملكة أو تقابل التضاد أو ما يشبه شيئًا من ذلك"([23])
وأما مصطلح المخالفة، فيمكننا أن نفهم طبيعته من قول لابن رشيق (ت 456هـ) يشير فيه إلى المخالفة، يقول: "وقال زهير: وزعموا أنه لأوس بن حجر:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا
أصبت حليمًا أو أصابك جاهل
لما وجده خلافًا له طابق بينهما كما يفعل بالضد، وإن كان الخلاف مقصرًا عن رتبة الضد في المباعدة، والناس متفقون على أن جميع المخلوقات: مخالف، وموافق ومضاد، فمتى وقع الخلاف في باب المطابقة فإنما هو على معنى المسامحة وطرح الكلفة والمشقة"([24])، إن ابن رشيق وضع لنا أساسًا مهمًا للتفريق بين المخالف والمضاد، وذلك أنه أشار إلى أن الخلاف مقصر عن رتبة الضد في المباعدة بين الكلمتين، إذ إننا فهمنا الضد بأنه لا يلتقي الضد الآخر، فمتى وجد أحدهما في الشيء انتفى الثاني بينما المخالف ليس له هذه المباعدة، فالحليم والجاهل كما في مثال ابن رشيق لا يبتعدان كما البعد في التضاد.
يبدو لي أن ما تقدم من توضيح لغوي واصطلاحي للتقابل يحدد الإطار العام لمفهوم بنية أسلوب التقابل التي أريد أن أتناولها في نص سورة الليل، ذلك أن التقابل بصورته الأساسية يتحدد من خلال رصد دالات لغوية متقابلة بنائيًا، ومعتمدة على علاقات منطقية تقع في إطاري التضاد أو المخالفة، وهذه العلاقات، بطبيعة الحال، تنعكس بفاعليتها على البنية الأسلوبية للتقابل وبالتالي تنعكس على البنية النصية التي تشغله. ولعل هذه العلاقات لا تقف وحدها فاعلة في البنية التقابلية وإنما يُضاف إليها رصيد كبير من المدلولات التي تنتجها عناصر البنية التقابلية أو بمعنى أدق دالاتها، فهي دالات تقدم خدمة موضوعية للنص من خلال أبنية التقابل؛ لذا يصبح البحث فيها محكومًا بالانطلاق من مستوى التكوين البنائي الذي يتشكل على سطح البنية النصية إلى مستوى التكوين الدلالي الذي يتشكل في عمق بنية النص. فدراسة هذه البنية، إذًا، تحتاج إلى دراسة كاشفة لتكوناتها الدالية، وما تنتجه من دلالات، وذلك من خلال نظرة كلية تتحرك في السياق القرآني، إذ إن النظر في البنية التركيبية بعيدًا عن النص لا تكفي بوصفها جزءًا من سياق كلي، والواقع أن مثل هذه الدراسة النصية "تعطي جهدًا خاصًا للكشف عن جماليات العمل الأدبي واستجلاء خواصه، وكل ذلك لا يتم إلا من خلال شبكة العلاقات التي تربط اللفظ بمدلوله أولًا، ثم التي تربط اللفظ بما يجاوره ثانيًا"([25])، فالدراسة المتكاملة تتطلب النظرة التحليلية التي تحيط بالنص من جميع جوانبه، غير أن الحديث عن البنية اللغوية ودلالاتها لا يتم في آن واحد، وإنما لا بد من أن نفصل مرحليًا بينهما؛ لأنه لا يمكن أن نصل إلى المستوى الدلالي إلا بالتوقف عند مستواها اللغوي الظاهر، أي البنية اللغوية([26]).
إن دراسة عناصر البنية اللغوية للبنية الأسلوبية للتقابل في سورة الليل تهدف إلى رصد حركة هذه العناصر التي يشكل مجموع علاقاتها نسقًا بنائيًا متكاملًا؛ لأن البنية "ليست مجموع هذه العناصر، بل هي هذه العناصر بما ينهض داخل البنية في علاقته ببقية العناصر أو بموقعه في شبكة العلاقات المتشابكة التي تنتظم العناصر والتي بها تنهض البنية فتنتج نسقها"([27])، ومن خلال هذه العلاقات المتشابكة يمكننا أن نحدد الخصائص البنائية لأسلوب التقابل؛ وما لها من أثر في توليد دلالات النص. ولذا فإنني أتناول فيما يأتي التقابلات الناشئة في السورة لملاحظة كيفية تكوينها من حيث البنية الأسلوبية واختبار علاقاتها البنائية، ثم أتناول الدلالات التي تولدها ومدى تعلقها بدلالات النص الكلية. وقبل أن أبدأ عملية التحليل أثبت النص القرآني فيما يأتي تسهيلًا لملاحظة التركيبات البنائية التي يجري تحليلها:
بسم الله الرحمن الرحيم
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى{1} وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى{2} وَمَاخَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى{3} إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى{4} فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى{5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى{6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى{7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى{8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى{9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى{10} وَمَايُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى{11} إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى{12} وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَة وَالْأُولَى{13} فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى{14} لَايَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى{15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى{16} وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى{17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى{18} وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى{19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى{20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى{21}.
صدق الله العظيم
أبنية التقابل الأسلوبية في السورة:
تضمنت السورة خمسة أبنية تقابلية، تشكلت تكويناتها الأسلوبية من دالات لغوية اختلفت أعدادها من تكوين إلى آخر. نستطيع أن نصنفها في تكوينين هما:
التكوين النسقي: هو الذي يتشكل من أربعة دالات متقابلة فأكثر، بحيث يشكل كل تكوين منها نسقين متوازيين، وقد جاء في ثلاثة أبنية، هي:
1-قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى{1} وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى{2}.
2- قال تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى{5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى{6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى{7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى{8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى{9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى{10}.
3- قال تعالى: لَايَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى{15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى{16} وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى{17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى{18}.
التكوين الجُملي: هو الذي يتكون من دالين يجتمعان على علاقة التضاد في بنية الجملة الواحدة، وقد جاء في بنائين، هما:
1- قال تعالى: وَمَاخَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى{3}.
2- قال تعالى: وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى{13}.
يبدو أن كل تكوين منهما يختلف بطبيعة تكوينه عن الآخر، بل ربما اختلفت الأبنية التقابلية في النمط الواحد بعضها عن بعضها الآخر؛ لذا لا بد لنا من الوقوف على كل تكوين من هذه التكوينات؛ حتى نسهّل على أنفسنا ملاحظة قدرة التكوين على التأثير في النص لإنتاج الدلالة.
تقابلات التكوين النسقي:
التقابل الأول- قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى{1} وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى{2}.
تتشكل بنية التقابل هنا من نسقين أفقيين متوازيين، يتكون كل واحد منهما من دالين يتقابلان مع دالي النسق الآخر على علاقة التضاد التي تتحقق على المستوى اللفظي، ويمكننا أن ندرك طبيعة تكون النسقين بعلاقاتهما على النحو الآتي:
النسق الأول (اللَّيْلِ) (يَغْشَى)
تضـاد تضـاد
النسق الثاني (النَّهَارِ) (تَجَلَّى)
إن دال (اللَّيْلِ) من النسق الأول يتضاد مع الدال (النَّهَارِ) من النسق الثاني، والدال (يَغْشَى) الذي يعني "يغطي" من النسق الأول يتضاد مع الدال (تَجَلَّى) الذي يعني "يكشف" ويوضح من النسق الثاني.
التقابل الثاني- قال تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى{5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى{6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى{7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى{8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى{9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى{10}.
إن بنية التقابل هنا تتكون من ثمانية دالات، وردت أربعة منها في النسق الأفقي الأول، وقابلتها الدالات الأربعة الأخرى في النسق الثاني على علاقات بنائية مختلفة، وذلك على النحو الآتي:
النسق الأول (أَعْطَى) (اتَّقَى) (صَدَّقَ) (لِلْيُسْرَى)
تضاد تضاد تضاد تضاد
النسق الثاني (بَخِلَ) (اسْتَغْنَى) (كَذَّبَ) (للْعُسْرَى)
إن دال (أَعْطَى) يتقابل مع الدال (بَخِلَ) على علاقة التضاد الناشئة بين معنى إخراج المال إلى مستحقيه مما يمكن أن يقع في دائرة الكرم الذي يمكن أن يرادف الدال الأول (أَعْطَى) وبين لفظ الدال الثاني (بَخِلَ) وهذا ما يمكن تسميته بالتقابل المعنوي، وقد تحدث عنه ابن الأثير(ت 637هـ) في باب المقابلة يقول: "وأما المقابلة في المعنى دون اللفظ في الأضداد فما جاء فيه قول المقنع الكغدي* من شعراء الحماسة:
لهم جُلّ مالي إن تتابع لي غنى
وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
فقوله تتابع لي غنى بمعنى قوله كثر مالي، فهذا إذًا مقابلة من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، لأن حقيقة الأضداد اللفظية إنما هي في المفردات من الألفاظ نحو قام وقعد وحل وعقد وقل وكثر، فإن القيام ضد القعود، والحل ضد العقد، والقليل ضد الكثير، فإذا ترك المفرد من الألفاظ وتوصل إلى مقابلته بلفظ مركب كان ذلك مقابلة معنوية لا لفظية، فاعرف ذلك"([28]). فابن الأثير، إذًا، رأى التضاد المعنوي بين معنى التركيب (تتابع لي غنى) أي كثر مالي وبين لفظ (قل).
وتحدث علاقة التضاد أيضًا على مستوى المعنى بين الدالين (اتَّقَى/ اسْتَغْنَى) من النسقين، ذلك أن الدال (اتَّقَى) يعني عبدَ اللهَ سبحانه وتعالى بعمل الأعمال الصالحة التي تقود إلى التقوى، ولم يعصه، وأن الدال (اسْتَغْنَى) يعني الاكتفاء بالذات عن عبادة الله، أي إن المستغني بذاته يمتنع عن عبادته سبحانه وتعالى.
وتتحقق كذلك الأمر علاقة التضاد بين دالي (صَدَّقَ/ كَذَّبَ) ودالي (لِلْيُسْرَى/ ِللْعُسْرَى) وهو تضاد على مستوى لفظي.
التقابل الثالث- قال تعالى: لَايَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى{15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى{16} وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى{17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى{18}.
تتكون بنية التقابل هنا من أربعة دالات على النحو الآتي:
النسق الأول (لَايَصْلَاهَا) (الْأَشْقَى)
مخالفة مخالفة
النسق الثاني (سَيُجَنَّبُهَا) (الْأَتْقَى)
إن طبيعة العلاقة بين دالات هذه البنية تختلف عنها في البنيتين السابقتين، وذلك أن دالاتها تجتمع على علاقة المخالفة؛ إذ إن الدال (لَايَصْلَاهَا) يعني احتراق الأشقى بنار جهنم؛ بمعنى أن الأشقى يدخل الجحيم، فالدال يأخذ معنى الدخول الذي يتقابل به مع الدال (سَيُجَنَّبُهَا) الذي يعني استبعاد الأتقى عن هذه النار، والعلاقة بين المعنى (دخل) والمعنى (استبعد) لا تصل إلى درجة التضاد بل تبقى في إطار المخالفة التي تشكل علاقتها درجة أقل من التضاد. ويتخذ الدالان (الْأَشْقَى/ الْأَتْقَى) أيضًا طبيعة علاقة التخالف نفسها؛ ذلك أن الدال (الْأَشْقَى) الذي يتضمن معنى الشقاء والتعب والعنت الذي يجده من يتصف به في النار يتقابل مع الدال (الْأَتْقَى) الذي يتضمن معنى الإيمان الحاصل من عمل التقوى وهي مقابلة تقوم على المخالفة؛ لأن الشقي يتضاد معه المنعم، والتقي يتضاد معه العاصي. وبناءً على هذا تكون العلاقة بين الشقي والتقي علاقة مخالفة لا علاقة تضاد.
تقابلا التكوين الجُملي:
التقابل الأول- قال تعالى: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى{3}.
تتشكل بنية التقابل هنا من دالي (الذَّكَرَ/الْأُنثَى) اللذين يتضادان على مستوى المعنى وذلك أن معنى الدال (الذَّكَرَ) متأت من الذكورة ومعنى الدال (الْأُنثَى) متأت من الأنوثة.
التقابل الثاني- قال تعالى: وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى{13}.
إن بنية التقابل هنا تتشكل من الدال (لَلْآخِرَةَ) الذي يتضاد مع الدال (الْأُولَى) تضادًا لفظيًا.
يبدو لي أن ما تقدم من الحديث عن نوعية العلاقات البنائية التي تلتقي عليها دالات التقابل- لا يستطيع أن يوفر لنا وصفًا كافيًا للكيفية الأسلوبية التي تشكلت فيها أبنية التقابل في سورة الليل؛ لأننا أسقطنا في إجراءاتنا السابقة كمية من الأدوات النصية التي تؤدي دورًا فاعلًا في إنتاج الدلالة عن طريق تقنية الربط النصي الذي تقدمه للنص؛ أعني بها المكونات النصية التي تتوفر في السياق التركيبي الذي تشغله بنية التقابل وتتصل به هذه البنية سياقيًا. فورود أبنية التقابل في السياقات اللغوية التركيبية يشكل ظاهرة أسلوبية تبرز في موقعها من الجملة وتختلف في الوقت نفسه عن سائر مكوناتها التركيبية، مما يجعلها تشكل بؤرة انفجار سياقية تحمل علاقات توتر نصية نتيجة ما تضمنته من علاقات تضاد أو تخالف. وقد أشار إلى مثل هذا التكون الأسلوبي (ريفاتير)، وذلك عندما عرف السياق الأسلوبي بأنه نموذج منكسر بعنصر لا يتوقعه القارئ وذلك أن الأسلوب، لديه، لا يكون في الصور المتوالية والمجازات، بل إن البنية الأسلوبية للنص تتحدد بتوالي العناصر المرسومة في مقابل غير المرسومة في مجموعات ثنائية تمثل السياق والإجراء المضاد له، بحيث لا ينفصل الإجراء المضاد عن السياق، فكل بناء أسلوبي يشمل بالضرورة سياقًا وتضادًا([29]). ولذا يبدو لي أن ربط أبنية التقابل بالسياق في الإجراءات الأسلوبية من الأهمية بمكان. وتظل العملية البحثية ناقصة إذا خلت من عملية الربط السياقية، وقد أشار صلاح فضل إلى مثل هذا المعنى، يقول: "لا يمكن أن نركز فحسب على العناصر المضادة ببساطة لأنها عناصر بارزة سهلة الالتقاط في التحليل الأسلوبي، بل لابد من أن نولي نفس الاهتمام للعناصر غير المرسومة في مقابلها"([30]).
إن نظرة كلية للأبنية التقابلية في نص سورة الليل وما تتصل به من السياقات اللغوية والتركيبية تقودنا إلى فهم طبيعة هذا النص بملاحظة كيفية تكوّن الروابط النصية التي تقود إلى تماسكه عمومًا وملاحظة كيفية الترابط فيما بين الأبنية التقابلية نفسها.
يبدأ النص بتكوين بنية التقابل الأولى بناء على تكوين نسقي تجتمع فيه دالات التقابل المتضادة مع دالات غير متضادة، ويمكننا أن نفهم هذا التكون بعزل أدوات السياق عن بنية التقابل، ثم نعيدها إلى السياق لتبدو لنا طبيعة هذا التكون عيانًا، وذلك وفق الإجراء الآتي:
أولًا- السياق التركيبي دون بنية التقابل:
النسق الأول و(…) إذا (…)
تكرار تكرار
النسق الثاني و(…) إذا (…)
ثانيًا- بنية التقابل في السياق التركيبي:
النسق الأول و(اللَّيْلِ) إذا (يَغْشَى)
تضاد تضاد
النسق الثاني و(النَّهَارِ) إذا (تَجَلَّى)
لعلنا نلحظ أن السياق يعتمد على استخدام رابطين لغويين هما (واو) القسم و(إذا) الشرطية، يظهران في النسقين متخذين بنية تعتمد على التوازي التكراري. وأن الرابط الأول يسبق في النسقين دال التقابل الأول، ثم يسبق الرابط الثاني في النسقين أيضًا دال التقابل الثاني، مما يشير إلى أن البنية التقابلية تتقاطع مع بنية السياق تمامًا. ولا شك في أننا ندرك أن هذين الرابطين يجمعان أسلوب القسم بالشرط على معنى الاقتران، أي إن القسم يقع مقترنًا بالشرط، إذ جاء القسم في النص بالليل والنهار في حال اقترانهما بالدالين (يَغْشَى/ تَجَلَّى).
وتأتي البنية التقابلية الثانية (مَاخَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى) مرتبطة بالبنية السابقة برابط العطف (و) مما يجعلها منضمة إلى البنية السابقة على مستوى أسلوب القسم، وقد اعتمدت على عملية ضمّ متضادين وتعليقهما برابط لغوي واحد بحيث يشكل هذا الرابط السياق الذي تنغرس فيه بنية التقابل، أعني بهذا الرابط هنا (ما خلق) فهو يربط دالي (الذكر/ الأنثى) في مضمون القدرة على خلق هذين المتضادين. ولا شك في أن طبيعة التكون هنا تختلف عنها في البنية السابقة التي حافظت على افتراق طرفيها بناء على تكون التوازي النسقي.
وتتخذ البنية التقابلية الثالثة في السورة الطبيعة التكوينية نفسها التي ظهرت في بنيتها الأولى من حيث اتخاذها بنية التوازي التكراري، وذلك أننا نلحظ أن أدوات الربط قد تشكلت من "فـ/وأما مَن (…/…/…) بالحسنى فسنيسره (…)" التي ظهرت في النسقين التقابليين، غير أنها تعلقت بسياق قبلي وآخر بعدي، فأما السياق القبلي، فهو قوله تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، الذي يشكل جوابًا لرابط القسم في التقابل الأول. وأما السياق البعدي، فهو (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى). إن هذا التكوين يشير إلى أن النمط الأسلوبي يتخذ طابعًا مركبًا في بنيته يختلف عن البنية السابقة، فهو يعلق دالات التقابل بالسياق المتقاطع معها من ناحية ويربط البنية الكلية بسياقين لينتج علاقات إضافية خارج بنية التقابل من ناحية أخرى، هذه العلاقات هي: علاقة تفسيرية نتجت من اقتران السياق القبلي: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ببنية التقابل، وذلك أن هذه البنية تكشف عن طبيعة السعي المتفرق الذي يقوم بفاعليته المخاطبون في الدال (سعيكم) الذي يحقق مضمون الدال (شتى) الذي تفسره حالة التضاد في بنية التقابل. وقد جعل السياق التركيبي الذي تقاطعت معه بنية التقابل هذا الافتراقَ في السعي يشغل محورًا موضوعيًا واحدًا تكشف عنه دالات بنية التوازي التكرارية التي تمثلت بـ(فـ/وأما مَن (…/…/…) بالحسنى فسنيسره (…)، وقد أنتجت علاقة أخرى بين السياق البعدي (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) وبنية التقابل، وذلك أن هذا السياق لم يتصل سوى بالنسق الثاني من البنية الذي ينص على المخالفات الدينية من بخل في الصدقات والامتناع عن عبادة الله وغيرها مما ورد في هذه البنية. ولا شك أن طبيعة العلاقة هنا هي علاقة تواصلية، مما يشير إلى أن ثمة علاقة مضمنة وغائبة فعليًا مع النسق الأول وهي علاقة الافتراق؛ لأن النسق الأول يمثل حالة دينية إيجابية تقتضي أن يفيد صاحبها من المال الذي يخرجه للصدقات والعبادات التي يؤديها امتثالًا لأوامره سبحانه وتعالى.
وتتشكل البنية التقابلية الرابعة (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى) بتقنية الضم التي لحظناها في البنية الثانية، وتتخذ الطبيعة التكوينية نفسها، وذلك أنها تعلقت برابط لغوي واحد هو (لنا)، وهو رابط قد جعل الدالين المتضادين يجتمعان على دلالة الملكية والقدرة على التصرف بما يجري في الدنيا والآخرة.
وتختتم البنية الخامسة تشكلات التقابل النصية متخذة طبيعة أسلوبية مختلفة عن الأبنية السابقة في تقاطع دالات التقابل مع السياق، ومتماثلة في طبيعة تكوينها السياقي من حيث توفر سياق قبلي لها وآخر بعدي مع البنية الثالثة. وحتى ندرك هذا الاختلاف نرصدها على النحو الآتي:
أولًا- السياق التركيبي دون بنية التقابل:
النسق الأول لا (…) إلا (…) الذي كذب وتولى
النسق الثاني و(…) (…) الذي يؤتي ماله يتزكى
ثانيًا- بنية التقابل في السياق التركيبي:
النسق الأول لا (يَصْلَاهَا) إلا (الْأَشْقَى) الذي كذب وتولى
مخالفة مخالفة
النسق الثاني و(سَيُجَنَّبُهَا) (الْأَتْقَى) الذي يؤتي ماله يتزكى
نلحظ في النسق الأول أن دال التقابل الأول يقترن بلفظي (لا وإلا) الذين يعطيانه معناه السياقي الذي يؤشر إلى معنى إثبات أن الأشقى سيصلى نار جهنم، وفي المقابل فإن دالي النسق الثاني يقترنان بحرف العطف (و) الذي يشكل أداة ربط بين النسقين، لا شك في أن هذا التكون يكشف عن غياب سياق تركيبي يتقاطع مع دالات التقابل على خلاف التكوينين النسقيين السابقين، وتتعمق حالة الاختلاف بحضور بنية توازٍ تتعلق بالنسقين على المستوى التفسيري من غير توفر علاقات التضاد أو المخالفة بين دالاتها، أي إنها بنية تفسر وتبين طبيعة كل دال، وتشكلت هذه البنية من (الذي كذب وتولى) التي تفسر ماهية الأشقى فهو يكذب الحق ويعرض عن الطاعة([31])، وتوازيها بنية (الذي يؤتي ماله يتزكى) التي تفسر ماهية الأتقى ينفق ماله في وجوه الخير ([32]).
وقد غرس النص هذه البنية بين سياقين: قبلي وآخر بعدي. أما السياق القبلي، فهو (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى). وأما السياق البعدي، فهو (وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى{19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى{20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى{21}). وقد ربط النص بنية التقابل بالسياق القبلي بناء على إحداث ثنائية (الدخول والخروج) التي تحققها بنية التقابل؛ أي إن (الدخول) يحققه (الأشقى)، إذ يدخل النار التي تستعر بناء على الإنذار الذي لم يأخذ به. و(الخروج) من النار يحققه (الأتقى) الذي أخذ بالإنذار. وأما السياق البعدي فإنه يحقق اتصالًا بالبنية التقابلية مختلفًا عن السياق القبلي، ذلك أنه يتصل بدال النسق الثاني (الأتقى) دون دال النسق الأول، ويشكل في الوقت نفسه نسقًا متعدد الجمل التي ينتهي بها نص السورة، وهو سياق يكشف عن حقيقة بنية التفسير (الذي يؤتي ماله يتزكى)، ذلك أن الأتقى ينفق ماله ليتزكى دون أن يكون لأحد عنده نعمة يكافئه عليها، فهو ينفق ابتغاء مرضاة الله عز وجل ولسوف يجد بناء على ما فعله الرضا عنده سبحانه وتعالى.
أبنية التقابل وإنتاج الدلالة في السورة:
إن ما تقدم من الحديث عن تكوّنات أبنية التقابل في المكونات النصية لسورة الليل لا يكفي؛ لأنه كان تحركًا في المستوى السطحي من بنية النص ووصفًا للبنية من الناحية اللغوية وتشكيلها في الأبنية التركيبية الأساسية في السياق الكلي، ولذلك لا بد لنا من أن نتحرك في المستوى العميق وهو المستوى الدلالي الذي تنتجه هذه الأبنية بارتباطها بالسياق الكلي للنص، ولعل البحث في هذا المستوى يحتاج من الدارس انتقالًا دقيقًا من المستوى السطحي للبناء إلى مستواه العميق، ولكنه لا يملك وسيلة محددة للوصول إلى دلالاته الناتجة من العلاقات بين بنية التقابل والسياق، إلا أن الطبيعة التركيبية لكل من التقابل والسياق هي التي تفرض دلالاتها على النص، يقول محمد عبد المطلب: "إن طريقة دراسة الدلالات لا تمتلك وسائل محددة لإنتاج دلالة محددة، وإنما الأنساق هي التي تخلق دلالاتها نتيجة لتحليل علاقاتها وصلتها بالواقع، أي إن الملمح الإشاري للغة لا بد أن يلعب دورًا بارزًا في خلق الدلالة وإنتاجها، ومن ثم إظهار الخطاب الأدبي في صورته التي تقربه من الفهم"([33]). ويبدو لي أن هذا التشكيل الدلالي في النص منوط بكيفية تشكّل دالات البنية التركيبية داخله، في الوقت الذي يكون فيه تكوّن النمط الأسلوبي منوطًا بالمعنى الذي يشكل النص، ذلك أن العلاقة متبادلة بين مستويي الدلالة والبنية، فالبنية عادة، تتجسد في أنماط أسلوبية مختلفة تمتلك مواصفات تركيبية يفرضها المستوى الدلالي عليها، تتوزع فيه المادة اللغوية (الدالات) التي تنتج دلالات مختلفة منبثقة من المستوى المعنوي أو المضموني العام. غير أن هذه الدلالات الناتجة ليست المعاني التي يكشف عنها المستوى السطحي للسياق، وإنما هي المعاني العميقة التي تختفي وراءه، وقد أشار (بالمر) إلى هذا الإدراك في قوله: "إن مشكلة علم الدلالة لم تعد البحث عن شيء رواغ يسمى (المعنى) بل هي بالأحرى محاولة فهم الكيفية التي يمر بها يمكن للكلمات والجمل أن تعني شيئًا، أو قل كيف يمكن أن تكون (ذات معنى)" ([34]).
وحتى نكون على وعي بما تنتجه هذه الأبنية من دلالات في سورة الليل لا بد من اتباع طريقة تحليلية تفصل بين هذه الأبنية تسهيلًا لإدراك الدلالة المنتجة في السورة، وهذا من خلال الوقوف عند كل بنية منها ومن ثم ربطها بالبنية الأخرى ابتداء من البنية الأولى، ومن ثم الجمع بينها، لنكتشف كيفية توليد الدلالة الناشئة في السورة اعتمادًا على أبنية التقابل الكلية.
يبدأ التشكل الدلالي ابتداء من البنية التقابلية الأولى (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى/ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى)، وذلك بغرس البنية في أسلوب القسم بوصفها مقسمًا به، فالنص يجعل (الليل) وما يحدثه من فعل (يغشى) مقسمًا به يتقدم على المقسم به الثاني (النهار) وما يحدثه من فعل (تجلى)، ولعلنا ندرك أن البنية باعتمادها على دالات التضاد هنا تنتج بعدين هما: البعد الزمني، والبعد الحركي. أما البعد الزمني فتكشف عنه من خلال الدالين (الليل/ والنهار)، ذلك أن كل دال منهما يتناسب مع الآخر على المستوى الزمني أي الزمن المتشكل في الحياة الدنيا. وأما البعد الحركي فتكشف عنه من خلال الدالين (يغشى/ وتجلى) وذلك أنهما دالان يشيران إلى معنى الحركة غير المحددة الاتجاهات، فكل دال منهما يشكل حركة مماثلة لحركة الدال الآخر، فـ(يغشى) يشير إلى تغطية المكان على المستوى الأفقي بشكل كلي فهي حركة إخفاء وتغطية، و(تجلى) يشير إلى كشف المكان على المستوى الأفقي بشكل كلي أيضًا وهي حركة كشف وتجلية، فهما ينتجان إذًا حركتين متساويتين تثبت إحداهما عند غياب الأخرى.
ويبدو أن هذين الدالين (يغشى/ وتجلى) يكشفان عن بعد ثالث وهو البعد المكاني الذي تشكلت على وفقه الحركة الناتجة عنهما، وذلك أن الدال (يغشى) دال فعلي متعدٍ إلى مفعول به، غير أن هذا المفعول غائب عن النص يمكننا أن نقدره بما يتلاءم والسياق، وقد تردد الزمخشري في تحديده بناءً على قراءته في السياق القرآني الكلي، يقول: "المغشي إما الشمس من قوله- والليل إذا يغشاها- وإما النهار من قوله- يغشى الليل النهار- وإما كل شيء يواريه بظلامه من قوله- إذا وقب"([35])، إذ جعله واحدًا من ثلاثة، غير أن السياق النصي -كما أرى- يقتضي أن يكون المفعول به هو البعد المكاني المتمثل بكل الأشياء التي تقع عليها حركة التغطية أو الإخفاء، ولعل البنية التقابلية وما أنتجته من أبعاد تفسر لنا استخدام النص أسلوب القسم. فالقسم بكل مكوناته الدالية يشكل رسالة يتفاعل فيها طرفان: طرف المرسِل وطرف المرسَل إليه، وهي رسالة تتألف من أركان ثلاثة أشار إليها النحاة هي: حرف القسم، والمقسم به، والمقسم عليه (جواب القسم). وقد جاء الحرف هنا (الواو) والمقسم به (بنية التقابل) وأما المقسم عليه فجاء متأخرًا عن هذه البنية وهو (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، وسأقف عنده في حديثي عن البنية التقابلية الثالثة. ولا شك في أن هذه الرسالة تشكل أهمية كبيرة في بنية النص بوصفها رسالة من الخالق في خطابه للبشر الذين يشكلون المرسَل إليه. ويبدو لي أن لأسلوب القسم وظيفة تتبلور بناء على مقام المرسِل والمرسَل إليه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء في هذا الكون يقسم بما خلق، وهو أمر لا يجري بطبيعة الحال على ما تعارفت عليه العرب، فالعرب لا يقسمون إلا بالشيء الذي يرونه عظيمًا وجليلًا وعزيزًا، ونحن نعرف أن ليس ثمة شيء أعظم من الذات الإلهية، فكيف أقسم الله عز وجل بما هو مخلوق وأدنى منه؟ لعل الإجابة عن هذا التساؤل تتأتى مما أنتجته بنية التقابل من دلالات، وذلك أن الأبعاد الثلاثة (الزمنية والمكانية والحركية) تشكل أبعادًا كونية وهي -بالطبع- الأبعاد التي يمكننا أن ندرك الأشياء من خلالها، وهذه الأبعاد تمثل قدرة الخالق الدالة على عظمته وجلاله؛ ولهذا فإن السورة منذ افتتاحها تثير قضية مهمة في خطابها للإنسان الذي يشكل طرف المرسَل إليه، ولعل ما يزيد هذه الدلالة بلورة وتأكيدًا البنية التقابلية الثانية (وَمَاخَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى) التي تشكل مقسمًا به ثالثًا في بنية أسلوب القسم، وهي تشارك البنية التقابلية الأولى في دلالة البعد المكاني الذي يتمثل في المخلوقات ( الذكر والأنثى) فكل من الذكر والأنثى وقع عليه فعل الخلق، وأدى به إلى أن يتأثر في البعد الحركي متمثلًا في المكان؛ أي إنهما يخضعان لحركتي الكشف والإخفاء. ولعظم هذه العملية الخلقية فإن التركيب جعل الذات الإلهية التي يمثلها الدال (ما) مقسمًا به ثالثًا مشاركًا للمقسمين بهما المتقدمين.
يبدو لي أن مثل هذا التوجه الموضوعي في تهيئة المتلقي (المرسَل إليه) من خلال المقسم به يشعر بأهمية المقسم عليه أو جواب القسم، وذلك أن التغليظ بالأيمان والقسم في العادة لا يكون إلا لشيء مهم وخطير عند مَنْ يتلقى رسالة القسم؛ ولذا فإننا لا بد من أن ننظر في الكشف عن دلالة جواب القسم هنا (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) التي لا تتبين إلا باختبار دلالة البنية التقابلية الثالثة وربطها بالنيتين التقابليتين السابقتين على المستويين السطحي والعميق. فالبنية التقابلية هنا رصدت في نسقها الأول أربعة دالات تجتمع كلها على دلالة الكشف والوضوح علاوة على الدلالة الزمنية، وتقابلها دالات أربعة في النسق الثاني تجتمع كلها على دلالة الإخفاء والتغطية علاوة على الدلالة الزمنية.
فأما دلالة الكشف والوضوح ودلالة الإخفاء والتغطية، فتتشكلان على النحو الآتي: إن الدال (أعطي) يمثل الكشف من معنى إخراج المال من مخزون صاحبه ودفعه إلى الآخرين؛ مما يشير إلى كشفه للناس، وفي هذا تجسيد للكشف الذي مارسه النهار في الفعل (تجلى)، ويقابله الدال (بخل) الذي يعني منع المال من الخروج من مخزون صاحبه ودفعه إلى الآخرين؛ مما يجعله خافيًا عن الناس، وفي هذا تجسيد للإخفاء الذي مارسه الليل في الفعل (يغشى).
وأما الدال (اتقى) فإنه يمثل الكشف من خلال فهم طبيعة التقوى التي تشير إلى عبادة الله سبحانه وتعالى بتقديم العمل الصالح الذي يتجه به صاحبه إلى الله. ولا شك في أن هذا يمثل حركة كشف وتقدم إلى الله سبحانه وتعالى بالتقرب إليه والاتجاه نحوه، ويقابله الدال (استغنى) الذي يمثل حركة الإخفاء من خلال انكفاء الإنسان إلى ذاته دون أن يتجه بالعمل إلى الله سبحانه وتعالى؛ مما يشير إلى عدم إظهار العمل العبادي الصالح ولا شك في أن هذا إخفاء وتغطية.
وأما الدال (صدق) فإنه يشارك في توليد دلالة الكشف من خلال فهمنا للصدق بأنه عملية اعتقادية تقود إلى الإقرار بالشيء وكشفه، ويقابله في الوقت نفسه الدال (كذب) الذي يولد دلالة الإخفاء بوصفه فعل ابتعاد عن الحقيقة التي يمارس عليها فاعلية التغطية والإخفاء.
ويتوافق الدال (اليسرى) مع دلالة الكشف، وذلك أنه يتخذ المعنى الذي يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى سيلطف بالإنسان ويوفقه لفعل الطاعات بكل يسر، وفي هذا يقول الزمخشري: "والمعنى: فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة أيسر والأمور عليه أهون"([36]). ولا شك أن في اليسر وضوحًا وابتعادًا عن التعقيد المؤدي إلى الإخفاء. في حين يقابله الدال (العسرى) الذي يأخذ معنى يتضاد مع معنى الدال السابق؛ أي إن الله سبحانه سيمنع صاحبه من التوفيق إلى الطاعة حتى تكون عليه هذه الطاعة عسيرة، يقول الزمخشري: "فسنخذله ونمنعه الألطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشده"([37])، ولا شك أن في العسر تعقيدًا يؤدي إلى الإخفاء ويبتعد عن الوضوح.
وأما الدلالة الزمنية، فإنها تتشكل في بعدين زمنيين هما زمن الحياة الدنيا وزمن الحياة الآخرة وقد جاءت دالات البنية التقابلية متقابلة على وفق هذين البعدين، وذلك أن الدالات (أعطى) و(اتقى) و(صدق)، في النسق الأول التي تقابلها الدالات (بخل) و(استغنى) و(كذب) تقع في البعد الزمني الأول (الحياة الدنيا)، وأن الدال التكراري (الحسنى) الذي يشكل البعد المكاني متمثلًا بمعنى الجنة يقود إلى البعد الزمني الثاني (الحياة الآخرة).
ومن خلال دلالات هذه البنية التقابلية يمكننا أن نفهم خطورة مضمون جواب القسم المغلظ، وذلك أنه يتحدث عن أهم ما يجري في هذا الكون من فعل الإنسان في سعيه وتحصيله، فهما سعي وتحصيل يقعان في منطقتين متقابلتين لا توسط بينهما: فإما أن يفعل الإنسان ما يتصل بالكشف، وإما أن يفعل ما يتصل بالإخفاء؛ ولهذا فالإنسان أمام اختبار خطير في حياته الدنيا يقوده هذا الاختبار إما إلى أن يتصف بكل الأعمال التي تقوده إلى عبادة الله وإما إلى الأعمال التي تقوده إلى الإعراض عن عبادته. لعل هذا الناتج المترتب على جواب القسم هو الذي جعل البنية التقابلية الرابعة (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى) تتكون في النص، لتقوم بإتمام رسالة الخطاب وتنبه المتلقي على أهميتها، فالله سبحانه وتعالى يمتلك الزمنين ويفعل فعله فيهما، دون أن يكون للإنسان فيهما إلا القدرة على السعي، فإذا ما مات وتردى فلا يستطيع أن يفعل شيئًا بعد أن سعى سعيًا يعرض فيه عن عبادة الله (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى). وقد أكد النص على تحسين نوعية السعي ليكون متمثلًا في نسق البنية التقابلية الأول بالتركيب (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى).
ولا شك في أننا نجد البنية التقابلية الرابعة (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى)، تشير في طرفيها إلى الدلالة الزمنية ببعديها، فدال (للآخرة) يمثل الزمن في الحياة الآخرة، ودال (الأولى) يمثل الزمن في الحياة الدنيا. وهي بنية كما نلحظ تشترك مع البنيتين السابقتين في الدلالة الزمنية، كما أنها تتصل بالبنية التقابلية اللاحقة بها على البعدين الزمنيين؛ مما يجعلها أداة ربط نصية تعمل من خلال تقنية التقابل. وتؤدي إلى ربط السعي في الزمن الأول (الحياة الدنيا) بالنتيجة في الزمن الثاني (الحياة الآخرة)، ويواصل النص في تأكيد خطورة جواب القسم بربط البنية التقابلية الخامسة وما يتعلق بها من سياق قبلي وسياق بعدي بالأبنية السابقة بوصفها نتيجة هذا السعي في الزمن الثاني (الآخرة)، على مستوى دلالتي الكشف والإخفاء والدلالة الزمنية، ذلك أن الدالات (أنذرتكم) و(كذب) و(تولى) تقع في إطار البعد في الحياة الدنيا. ويتضمن الدالان (كذب) و(تولى) دلالة الإخفاء والتغطية. وأما دال النسق الأول من التقابل (لا يصلاها) فإنه يتصل بزمن الحياة الآخرة، وهو دال يحمل معنى دخول الأشقى النار وهو بهذا المعنى يحمل دلالة الإخفاء والتغطية لما في النار من شقاء وعذاب وابتعاد عن الحياة السهلة اليسيرة. ويقابله الدال (سيجنبها) الذي يتماثل بالدال السابق على المستوى الزمني المرتبط بالحياة الآخرة، ويتضاد معه على المستوى الدلالي، ذلك أنه يحمل في معناه دلالة الكشف؛ لأن في استبعاد الأتقى عن النار إخراجًا له من الحياة الصعبة الشاقة إلى الحياة السهلة اليسيرة. وقد أثار دالا السياق البعدي: (يؤتي) و(يتزكى) الدلالة الزمنية فهما ينتميان إلى زمن الحياة الدنيا، ويثيران دلالة الكشف؛ لأن في إيتاء المال والزكاة كشفًا للمال كما أدركنا سابقًا.
بعد هذه النظرة التفصيلية لأبنية التقابل نعود إلى محاولة الربط البنائي والدلالي من جديد لنكشف عن كيفية تحرك هذه الأبنية في النص آخذين بالحسبان مسألة تلقي النص بوصفه رسالة تستهدف المخاطب.
تشكل البنية التقابلية الأولى في الواقع نسقين مهمين في تحديد الإطار العام لهذا النص بوصفها بنية افتتاحية تلقي بظلال دلالاتها على سائر الوحدات التقابلية والمكونات السياقية الأخرى وتشكل المركز الدلالي للنص في الوقت نفسه.
وتسهيلًا للتحليل يمكننا أن نعد النسق الأول منها (والليل إذا يغشى) دائرة أولى والنسق الثاني (والنهار إذا تجلى) دائرة ثانية، لملاحظة مدى الترابط بهما من خلال تجمعات دالات النص حولها.
إن نظرة فيما تقدم من تحليل تقودنا إلى ملاحظة أن ثمة دالات متعددة تجتمع حول الدائرة الأولى، هذه الدالات هي: (بخل) و(استغنى) و(كذب) و(العسرى) و(أنذرتكم) و(نارًا تلظى) و(تولى) و(لا يصلاها). ويبدو أنها ترتبط بها على مستوى الأبعاد الثلاثة (البعد الزمني والبعد الحركي والبعد المكاني) من جهة، وعلى المستوى الإبلاغي أي التأثير في المتلقي من جهة أخرى. فدال (بخل) يشير إلى البعد الحركي الموضعي علاوة على إشارته النفسية التي ينفر منها المتلقي، ويصبح بمعناه مرتبطًا بانتفاء الحياة وظلامها وضبابيتها في النهاية، وهذه الحال تتشابه مع دالي (الليل) و(يغشى)، إذ إنهما يشيران إلى انتفاء الحياة من خلال الظلام الذي يدل على المكان في الأرض. كما أن دال (استغنى) يشير إلى المعنى نفسه؛ أي انتفاء الحياة بتفاعلها وامتدادها، فهذا الدال بمعناه المعجمي المباشر يقود إلى معنى استغناء الإنسان الموصوف به عن عبادة الله، والاستغناء هنا انكماش وتعطيل لحركة الإنسان وفعله تمامًا كما هي الحال في ظلمة الليل إذا امتدت، ويشترك دال (كذب) بهذا المعنى أي تعطيل الحركة الإنسانية للفعل بوصف التكذيب ردًا للعمل والحركة وإبقاء السكون وإبطال الفاعلية، ويأتي دال (العسرى) كاشفًا بوضوح عن دلالة المعنى الكامن في كلمة (الليل)، وذلك أنه يحمل معنى الضيق والانكماش تمامًا كما يحدث في ظلمة الليل بالنسبة للمتلقي الذي يضيق بظلمته. ويأتي دال (أنذرتكم) محاولًا تنبيه الذين اتصفوا بالدالات السابقة من هذه الظلمة التي يعيشون فيها ومن هذه الحياة المعطلة عن حركتها الحقيقية الممتدة إلى عبادة الله والتصدق على الإنسان في الحياة الدنيا، ومن ثم يأتي دال (تولى) لتجسيد الدلالة العميقة لفعل الليل في النفس الإنسانية وهي الحركة الهروبية من كل ما هو مظلم. ولكنها حركة ارتدادية عكسية لا تؤدي إلى التغير المكاني؛ أي لا تحدث حركة إلى مكان جديد مختلف، ولكنها ترتد إلى المكان نفسه؛ أي إلى الظلمة نفسها، وتتجسد ظلمة الليل وضيق هذه الظلمة في الدالات (نارًا تلظى) و(يصلاها) بوصفها المثبت من خلال أسلوب الحصر، فالنار هنا تستوي مع ظلمة الليل الذي لا خروج من ضيقه، وذلك أن النار لا خروج من ضيقها وعذابها وسيتحقق في ذلك معنى الفعل (يصلاها). هكذا إذًا تحمل الدالات السابقة من أبنية التقابل دلالة الدائرة الأولى من البنية التقابلية المركزية.
وأما الدالات التي ترتبط بالدائرة الثانية، وهي (أعطى) و(اتقى) و(صدق) و(الحسنى) و(اليسرى) و(سيجنبها) و(يؤتي ماله) و(يتزكى). فإنها دالات تتضمن في دلالاتها دلالة (النهار) و(تجلى)، وذلك أن دال (أعطى) يشير إلى حركة الامتداد والإشراق، وكذلك الأمر في (اتقى) الذي يتضمن معنى الخشية والخوف والابتعاد عن كل ما يخالف الشريعة الإسلامية وأخلاقها، فالتقوى أمر يحدث في حركة واضحة يحدد من خلالها الأمر الذي يخشى منه، والدال (صدق) يؤكد صفة فاعلية الحركة الإنسانية للفعل بوصف الصدق إحداث العمل والحركة التي تنطلق من مركزها لتمتد إلى الأشياء مؤمنة ومعتقدة بها، وهذه الصفة ترتبط بصفة (النهار) وبصفة (تجلى) فالوضوح والانكشاف هو الأساس الذي يرتبط بهما، ويأتي دالا (الحسنى) و(اليسرى) ليصنعا علاقة وطيدة بهذه الدائرة، فهما يشيران إلى معنى البهجة والسرور والنشاط والحركة الدائبة، ويشترك الدالان (يؤتي) و(يتزكى) في هذا الجانب الحركي الممتد الذي يتوافق مع حركة النهار ووضوحه. وبهذا حققت الدالات السابقة معنى النهار والتجلي.
قائمة المصادر والمراجع
1- ابن الأثير، ضياء الدين: المثل السائر، تحقيق: الدكتور أحمد الحوفي، والدكتور بدوي طبانة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة- القاهرة، دون تاريخ.
2- البطليوسي، المثلث، تحقيق: صلاح مهدي علي الفرطوسي، دار الحرية للطباعة، بغداد (1401هـ-1981م).
3- البيضاوي، ناصر الدين أبو سعيد عبد لله بن عمر بن محمد الشيرازي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بتفسير البيضاوي، مؤسسة شعبان للنشر والتوزيع، بيروت- لبنان، دون تاريخ
4- التفتزاني: المختصر، ضمن كتاب شروح التلخيص، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر (1937م).
5- الجوهري،: الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفار عطار، الشركة اللبنانية للموسوعات العربية، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، (1377هـ-1958م).
6- ابن خلف الكاتب، علي: مواد البيان، تحقيق: الدكتور حسين عبد اللطيف، طرابلس- جامعة الفاتح، سنة (1982م).
7- ابن رشيق القيرواني، أبو علي الحسن: العمدة، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، دون تاريخ،
8- الزمخشري، محمود جار الله: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، دون تاريخ.
9- السبكي، بهاء الدين: عروس الأفراح، ضمن كتاب شروح التلخيص، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر (1937م).
10- ابن السكيت، إصلاح المنطق، تحقيق: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، دار المعارف بمصر، ط4، (1375هـ-1956م).
11- ابن سيده، : المحكم والمحيط الأعظم في اللغة، تحقيق: مراد كامل، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ط2 (1390هـ-1970م).
12- عبد المطلب، د. محمد:
* بناء الأسلوب في شعر الحداثة (التكوين البديعي)، القاهرة، (سنة 1988م).
* العلامة والعلامية، دراسة في اللغة والأدب، الوطن العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، بيروت، ط1.
13- العسكري، أبو هلال: الفروق اللغوية، تحقيق حسام الدين القدسي، دار الكتب العلمية- بيروت، (1401هـ-1981م).
14- عياد، د. شكري محمد: اللغة والإبداع، انترناشونال برس، القاهرة، ط1،( عام 1988م).
15- ابن فارس، أحمد: معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ط2، (1399هـ-1979م).
16- الفراهيدي، الخليلي بن أحمد: كتاب العين، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي، والدكتور إبراهيم السامرائي، دار الرشيد للنشر، بغداد (1982).
17- فضل، د. صلح: علم الأسلوب، مبادئه وإجراءاته، د.صلاح فضل، دار الآفاق الجديدة، ط1، (1985م).
18- مطلوب، د. أحمد: معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد،( 1403هـ -1983م).
19- ابن المعتز، عبد الله: كتاب البديع، اعتنى بنشره: كراتشقوفسكي، دار المسيرة، بيروت، ط2 (1402هـ-1972).
20- ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت- لبنان، دون تاريخ،
21- يمنى العيد، د. حكمت صباغ الخطيب: في معرفة النص، دراسات في النقد الأدبي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3، (سنة 1985م).
الهوامش
* كذا في المثل السائر، ولعل الرواية الصحيحة الكندي، انظر: الحماسة البصرية تصحيح مختار الدين أحمد، عالم الكتب، بيروت، 1964، ج2، ص31.
[1] ) كتاب العين، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي، والدكتور إبراهيم السامرائي، دار الرشيد للنشر، بغداد (1982) ج5، ص166.
[2] ) المثلث، تحقيق: صلاح مهدي علي الفرطوسي، دار الحرية للطباعة، بغداد (1401هـ-1981م)، ج2، ص292.
[3] ) معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ط2، (1399هـ-1979م)، مادة (ق ب ل).
[4] ) المحكم والمحيط الأعظم في اللغة، تحقيق: مراد كامل، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ط2 (1390هـ-1970م) ج6 ص263.
[5] ) لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت- لبنان، دون تاريخ، مادة (ق ب ل).
[6] ) الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفار عطار، الشركة اللبنانية للموسوعات العربية، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، (1377هـ-1958م) مادة (ق ب ل).
[7] ) لسان العرب، مادة (ق ب ل).
[8] ) كتاب العين، ج5، ص109.
[9] ) معجم مقاييس اللغة، مادة (ط ب ق).
[10] ) المحكم والمحيط الأعظم في اللغة، ج6، ص187.
[11] ) المحكم والمحيط الأعظم في اللغة، ج6، ص179.
[12] ) الصحاح، مادة (ط ب ق).
[13] ) إصلاح المنطق، تحقيق: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، دار المعارف بمصر، ط4، (1375هـ-1956م)، ص28.
[14] ) معجم مقاييس اللغة، مادة (ض د د).
[15] ) معجم مقاييس اللغة، مادة (خ ل ف).
[16] ) لسان العرب، مادة (خ ل ف).
[17] ) المحكم والمحيط الأعظم، ج5، ص123.
[18] ) مواد البيان، تحقيق: الدكتور حسين عبد اللطيف، طرابلس- جامعة الفاتح، سنة (1982م)، ص279.
[19] ) كتاب البديع، اعتنى بنشره: كراتشقوفسكي، دار المسيرة، بيروت، ط2 (1402هـ-1972)، ص26.
[20] ) لمزيد من تصور البلاغيين لمفهوم الطباق انظر: معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، د.أحمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1403هـ -1983م، ص66 وما بعدها.
[21] ) الفروق اللغوية، تحقيق حسام الدين القدسي، دار الكتب العلمية- بيروت، (1401هـ-1981م) ص129.
[22] ) عروس الأفراح، ضمن كتاب شروح التلخيص، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر (1937م) ج4 ص286.
[23] ) المختصر، ضمن كتاب شروح التلخيص، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر (1937م) ج4 ص286-287.
[24] ) العمدة، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، دون تاريخ، ج2، ص10.
[25]) د. محمد عبد المطلب، العلامة والعلامية، دراسة في اللغة والأدب، الوطن العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، بيروت، ط1، ص47.
[26]) انظر: د. محمد عبد المطلب، بناء الأسلوب في شعر الحداثة (التكوين البديعي)، القاهرة، سنة 1988م، ص151.
[27]) د. حكمت صباغ الخطيب (يمنى العيد)، في معرفة النص، دراسات في النقد الأدبي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3، سنة 1985م، ص32.
[28] ) المثل السائر، تحقيق: الدكتور أحمد الحوفي، والدكتور بدوي طبانة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة- القاهرة، دون تاريخ، ج3 ص151.
[29] ) نقلًا عن: علم الأسلوب، مبادئه وإجراءاته، د.صلاح فضل، دار الآفاق الجديدة، ط1، (1985م) ص194- 195 .
[30] ) المرجع السابق، ص195.
[31] ) انظر: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بتفسير البيضاوي، ناصر الدين أبو سعيد عبد لله بن عمر بن محمد الشيرازي البضاوي، مؤسسة شعبان للنشر والتوزيع، بيروت- لبنان، دون تاريخ، ج5/ص188.
[32] ) انظر المرجع السابق:ج5/ص188.
[33]) الدكتور محمد عبد المطلب، بناء الأسلوب في شعر الحداثة التكوين البديعي، القاهرة، ط1، 1988م، ص151.
[34]) نقلًا عن: شكري محمد عياد، اللغة والإبداع، انترناشونال برس، القاهرة، ط1، عام 1988م. ص46.
[35] ) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، دون تاريخ. ج4 ص260.
[36] ) المرجع السابق: ج4/ص261.
[37] ) المرجع السابق: ج4/ص261.