يسبر هذا الكتاب المكثف عمق آراء المرحوم البروفسور إسرائيل شاحاك التي ركزت بشكل حثيث، لا يعرف الكلل، على إبراز النفاق اليهودي – الصهيوني – الإسرائيلي في كل ما يتعلق بالسياسات والتصريحات الإسرائيلية الصهيونية. لموضعة هذه الآراء في بيئتها الشمولية، يجدر استرجاع "المقدمة الشخصية" التي استهلّ بها المؤلف هذا الكتاب.
أعرض في هذه المقدمة تأملاتي الشخصية حول شاحاك كإنسان، ومحاولة أولية لموضعة ما كتبه في سياق تطور أفكاره تاريخياً. ترتكز تأملاتي على تواصلي الشخصي معه خلال السنوات 1984 – 1991، هو من القدس وأنا في منطقة بوسطن في الولايات المتحدة الأميركية وبعدها في جنيف، سويسرا. (أنظر الملحق رقم "ج" في نهاية هذه الدراسة)، إضافة إلى ذلك، أَختزِلُ تأملاتي إلى شبه "رؤوس أقلام" حول كل ما كتب ونشر أو لم ينشر (بالطبع ليس في مجال تخصصه العلمي) وإرساء هذه الكتابات في قناعاته والتزاماته العميقة.
علاقتنا لم تكن علاقة صداقة اجتماعية، نتبادل فيها الزيارات والمناسبات الاجتماعية، بالمفهوم المتداول لهذا المصطلح. علاقتنا كانت علاقة "رفاقية"، مبنية على التزامات وقناعات لمناهضة التعصب والعنصرية وعدم المساواة والفساد والامتيازات والنفاق، أينما وجد ورغمَ سياقه، ولكن مع إعطاء الأولوية بالتحديد لحيز هذه الممارسات في إطار الهيمنة الإسرائيلية، والعجرفة المنبثقة من الأيديولوجيات اليهو – صهيونية خاصة في مسارها التطبيقي في إسرائيل – فلسطين. علاقتنا "الرفاقية" التقت في الدعوة للنضال من أجل ضمان الحقوق الإنسانية الأساسية للمضطهَدين والمظلومين، ومن أجل تثبيت حقهم الأساسي في مقاومة القمع والظلم والاستبداد. كانت هذه علاقة "روحين شقيقين"، كبرا على انفراد كل في بيئته الخاصة.
خلال فترة تواصلنا لسبع سنوات، كان كل منا يناضل بطريقته الخاصة، ويستفيد من الوسائل والآليات المتاحة له في حيزه الخاص. شاحاك، يهودي ولد في بولندا في العام 1933، وهاجر إلى فلسطين بعد اثنتي عشرة سنة، واستقر في القدس، حيث بقي هناك إلى حين مماته في العام 2001. أنا فلسطيني، لا أنتمي لأية طائفة دينية، ولدت في قرية فلسطينية في الجليل العام 1943، وتربيت وتثقفت في بيئة مسيحية كاثوليكية، وأحمل جواز سفرٍ إسرائيلياً. تركت الجليل بعد عشرين عاماً لأتابع دراستي الجامعية في الولايات المتحدة الأميركية. وخلال فترة تواصلنا وتبادل المراسلات كنت أقيم في منطقة بوسطن، ومن ثم في جنيف، وبعدها في فلسطين – إسرائيل.
بدأ التعارف بيننا في العام 1980 عندما التقيت شاحاك شخصياً في مدينة بوسطن الأميركية، واستمر بعدها هذا التعارف من خلال رسائل كان يرسلها لي بالبريد العادي (لم يكن لدينا إيميل آنذاك!)، بداية مخطوطة بخط يده، وبعدها مطبوعة على الآلة الكاتبة.
في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كنت ناشطاً في رابطة المتخرجين العرب من الجامعات الأميركية (AAUG). وقد دعت الرابطة شاحاك في العام 1980 لإلقاء محاضرة في مؤتمرها السنوي في بوسطن. في العام 1981 انتخبت رئيساً للرابطة. وفي ذلك العام كان لي دور فاعل ومؤثر في اتخاذ القرار لنشر "خطة ينون" (Yinon Plan) لتجزئة الأقطار العربية إلى دويلات (أنظر تفاصيل عن خطة ينون لاحقاً، وخاصة في الفصل الثاني)، كفاتحة "لسلسلة الوثائق الخاصة" التي دشّنتها الرابطة في العام 1982.
يعود الفضل في ذلك بالأساس لشاحاك الذي ترجم "الخطة" من العبرية إلى الإنجليزية، واقترح علينا آنذاك نشرها وتعميمها ككتيّب، لما أيقنه من التهديد المخيف والكامن في هذا التخطيط الاستراتيجي اليهو- صهيوني لمنطقة الشرق الأوسط برمتها. وبالتالي، نشرت الرابطة هذه "الخطة" في كتيّب منفصل تحت عنوان "الخطة الصهيونية للشرق الأوسط"، في صيف 1982، أي تزامناً مع الاجتياح العسكري الإسرائيلي للبنان، واحتلال عاصمته بيروت، ومع محاولاته المكشوفة والمسعورة لتجزئة لبنان إلى كيانات على أساس طائفي ومذهبي.
كان عملي في الرابطة تطوعياً. أما وظيفتي في تلك الفترة فكانت في إدارة معهد الدراسات العربية – المؤسسة البنت التي أنشاتها الرابطة. منذ تلك الفترة استمر التواصل مع شاحاك، حيث كانت مكتبة المعهد، كمؤسسات كثيرة غيرها في الغرب الأنجلوساكسوني، تتسلم شهرياً منتظم رزمة من الترجمات التي كان يقوم بها شاحاك، من دون كلل، لمقالات وتقارير تنشر في الصحافة العبرية في إسرائيل. مثلت تلك الترجمات إضافة نوعية وغاية في الأهمية لأولئك الباحثين الذين لم يقرأوا أو يجيدوا العبرية، إذ أطلعتهم على ما كان يحدث في إسرائيل (مناطق 1948) وفي المناطق الفلسطينية التي احتلت في العام 1967. وقد ركزت "أوراق شاحاك" (كما أصبحت تُعرف في ما بعد) على التمييز العنصري الرسمي الممارس ضد "غير اليهود" أو "الأغيار" (أي الفلسطينيين) في إسرائيل، وعلى الاضطهاد والقمع والتعذيب والاستلاب وسرقة الأراضي الفلسطينية لبناء المستعمرات اليهودية عليها، التي تمارسه سلطات الاحتلال العسكري في المناطق الفلسطينية المحتلة في العام 1967. كما أصرّ شاحاك، بانتقائية علمية تحليلية، على إبراز التقارير والمخططات التي تظهر، من دون أي التباس، التفكير اليهو – صهيوني الاستراتيجي لفرض الهيمنة على كامل منطقة المشرق العربي وغربي آسيا. وغدت هذه الترجمات مصدراً موثوقاً وذا مصداقية عالية للباحثين والأساتذة الزائرين للمعهد.
الرسائل الخاصة من شاحاك إليَّ مع بعض التعليقات
جرى التراسل بيني وبين شاحاك عبر ثماني رسائل، أرسلها إليَّ بالبريد العادي من القدس، خلال الفترة 1984-1991، كما أشرتُ أعلاه. ألحقت هذه الرسائل كما هي، أي من دون تحرير، ولكن مع بعض الإيضاحات إذا اقتضى الأمر، في الملحق رقم "ج" في نهاية هذه الدراسة.
لم تتميز هذه الرسائل بأسلوب الشكليات الرسمية؛ بل تميّزت، كتميُّزِ شخصيته هو، بالصراحة والصدق والنقد العلني المباشر، ولم تتضمّن أية تعميمات غير موثقة (ما كان يثير فيه الاشمئزاز)، بل على العكس، إذ كان توثيقه لكل ما يكتب دقيقاً وجادّاً ورصيناً. هو لم يتطرق فقط للقضايا السياسية، بل تطرق أيضاً للقضايا الشخصية التي كانت تقلقه حينما كان يصوغ. لقد عكست رسائله حالته النفسية في الوقت الحقيقي.
واضح أن الرسائل الثماني التي تسلمتها من شاحاك تضمنت تأملاته عن مجموعة قضايا متعددة، تمحورت بشكل أساسي على التمييز العنصري اليهو – صهيوني الرسمي وممارساته ضد العرب الفلسطينيين. كما أظهرت هذه الرسائل تخوفَه وقلقَه الحقيقيّيَن من طرد أو إبادة الفلسطينيين، ومن النفاق والكذب الذي يميّز رواج الدعاية الإسرائيلية في الولايات المتحدة الأميركية. وبوجه التحديد، ففي رسالته الثالثة (بتاريخ 11/8/1984) عبّر عن قلقه العميق والرهيب بما يخص تصاعد التمييز العنصري الرسمي في إسرائيل من ناحية، وعدم نجاعة الدعاية المضادة في الغرب. كتب شاحاك في تلك الرسالة ما يلي:
أنا الآن في ضائقة نفسية سيئة وكئيبة ويمكن وصفها بالانهيار النفسي. هناك أسباب شخصية عدة لذلك، ولكن أيضاً بسبب الوضع السائد هنا. من الجلي أنّ حوالي نصف الناس هنا هم في عملية فقدان سلامتهم العقلية. مئير كاهانا هو فقط رأس الجبل الجليدي، والأخطار عظيمة. أعني الأخطار الناجمة عن إمكانية الطرد الحقيقي أو الإبادة، إذا سمح لهم الوضع العالمي بذلك.
كان شاحاك مثبط العزيمة ومنزعجاً جداً من أولئك في الخارج الذين كانوا يرفضون دائماً أن يروا حقيقة إسرائيل، أو الذين خُدعوا ورأَوْها كنظام سياسي ديمقراطي متجانس. وعبر عن ذلك بالأسلوب التالي:
أنا أيضاً منزعج جداً من أولئك الذين في الخارج (وبضمنهم للأسف الكثير من الفلسطينيين) الذين لا يرون حقيقة هذا الخطر، إما لأنهم يرحبون فعلاً بصعود كهانا (كالذين صوّتوا له)، أو لا يودون أن يروا الفرق بين العنصريين، وبين أولئك الذين ما زالوا غير داعمين للإبادة الجماعية، والتي، أكرر وأقول، إنّها احتمال جدي.
إضافة إلى ذلك، عبر شاحاك عن نقده اللاذع (وبحق، برأيي) للعمل الإعلامي الفلسطيني والعربي في الولايات المتحدة الأميركية، ولدور ما يُسمّى "القيادة الفلسطينية". وعبّر لي عن ذلك بشكل صريح في رسالته السادسة (في 25/12/1989)، أي سنتين بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى. كتب يقول:
كل ما يُقال باسم الفلسطينيين في الولايات المتحدة الأميركية هو إما هراء عن الدبلوماسية (والتي أغلبية الجمهور لا ترغب بسماعها)، أو تكرار لشعارات، حتى ولو كانت دقيقة (مثلاً الأرقام بخصوص القتلى) لا يوجد لها أي تأثير، مقارنة على سبيل المثال مع أرقام القتلى خلال أسبوع واحد في السلفادور أو رومانيا، بينما السمات المهمة للنظام الاحتلالي، مثلا طبيعته الاستبدادية، لا تذكر أبداً.
… إن أغلب مَن يتكلم باسم الفلسطينيين هم (أو كما كانوا في أكتوبر 1989) منهمكون في تعميم الأوهام، بالدرجة الأولى حول السياسة الحقيقية للولايات المتحدة الأميركية، وبالدرجة الثانية حول الأغلبية في المجتمع الإسرائيلي، والأهم حول النجاح السريع واليقين الذي ستحققه المعادلة الدبلوماسية الحمقاء. وحينما يطفو على السطح كذب هذا الإدعاء، والذي أتوقع بأن يكون قريباً جداً، ستظهر فظائع هذه النتائج. رغمَ ذلك، ما زال لدي بعض الأمل الباهت بأنّ العناصر الشابة ستنهض مجدداً. باختصار، خُيِّبَت آمالي بشدة.
سأركِّز بالتفصيل على آراء شاحاك النقدية في ما يخص "القيادة الفلسطينية" و"عملية أوسلو" برمتها، في الفصل الثالث من هذه الدراسة.
آمن شاحاك "بالقيمة التحولية" للمعلومات الصريحة والصادقة التي كانت تنشرها الصحافة الإسرائيلية العبرية، والتي كان معجباً وفخوراً بها، إذا تم توفيرها بالإنجليزية للقارئ الغربي. فانطلاقاً من هذه القناعة، اعتبر أن ترجمة هذه المواد إلى الإنجليزية ستوفر "سلاحاً" ثميناً للمثقف الغربي (الناطق بالإنجليزية)، ووسيلة مجدية لفرض ضغوط على إسرائيل. لكن يجدر التنبيه هنا إلى أنّ شاحاك (برأيي) بخّس تقدير وزن التصاميم والمخططات المالية العالمية، والقوى السياسية الغربية، واستعمال رؤوس الأموال الباهظة المعدة خصيصاً لإخضاع "العالم الثالث" وفرض هيمنتها عليه، وعلى فلسطين كجزء منه.
فقط من موقف شاحاك هذا، يمكننا تفهّم التزامه الحثيث وجهوده الفردية المثابرة والعنيدة في توفير هذا المدّ الدائم من ترجمات لمقالات وتقارير من الصحافة العبرية، وتعميمها لشبكة واسعة من القراء في الغرب. كان يكرِّر دائماً أنّ الصحافة العبرية في إسرائيل مشبعة بمعلومات مُدينة لإسرائيل، وقد تكون هذه المعلومات مزعزعة لو أنّ الناس في الخارج رغبوا في بذل الجهد المطلوب لقراءتها والتمعّن في مضامينها. اعتبر شاحاك هذه مهمته الأساسية في دعم الفلسطينيين (أو غير اليهود) المسلوبين من حقوقهم الإنسانية الأساسية، والدفاع عنهم، في ظل التسلط اليهو – صهيوني الإسرائيلي.
باستثناء رسائله العديدة لهيئات التحرير في الصحف العبرية، خاصة هآرتس، وبعض المقالات القصيرة، جميع كتبه (أنظر الملحق رقم "أ") نشرت بالإنجليزية أولاً، في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، استهدافاً للقارئ الغربي. إن كتابه الجوهري، ألتاريخ اليهودي، الدين اليهودي، (ظهر أولاً في العام 1994 ثمّ في ثلاث طبعات لاحقة) لم يُترجَم إلى العبرية إلاّ في العام 2011، أي بعد سبعة عشر عاماً من نشر الطبعة الأولى، حيث صدر في تل أبيب بطبعة محدودة، بمبادرة مجموعة أصدقائه – رفاقه. وحسب معرفتي، فإنّ هذا هو الكتاب الوحيد من كتبه الذي ترجم إلى العبرية. من الناحية الأخرى، فإنّ كتابه، ألأسرار المكشوفة: سياسات إسرائيل الخارجية والنووية، (الصادر في العام 1997) ترجم وصدر باللغة العربية في بيروت بعام واحد بعد صدوره بالإنجليزية، أي في العام 1998.
كان النفاق مصدر اشمئزاز لشاحاك. كان يشمه عن بعد بحاسة مرهفة؛ وكلما شعر بوجوده اندفع بتصميم شديد ليحلل ويوثق هذه الظاهرة ويضعها في سياقها التاريخي المقارن، ليعري وقعها المدمر على التصرف الإنساني؛ ويكشفها بجرأة وبدون تردد أو اعتذار، أينما كان موقعها، وبالرغم ممن قد تمس.
وهكذا ركز شاحاك على إبراز النفاق كأساس للمبنى القانوني التلمودي للدين اليهودي، أي دينه، خاصة بما يتعلق بتعامله مع غير اليهود (الأغيار) بشكل عام، والفلسطينيين على وجه التحديد، في السياق الراهن. ومن هذه الزاوية، أدرك وكشف الترابط بين الصهيونية، والديانة اليهودية وخاصة ظاهرتها الخلاصية الكلاسيكية، واللاسامية. وفضح شاحاك النفاق الكامن في الخطاب الإسرائيلي الرسمي حول السلام وحول الجوهر الحقيقي للصهيونية. وكشف كيف أن هذا الجوهر مموّه بشكل عميق في الخطط الاستراتيجية الصهيونية التي تسعى لفرض الهيمنة على جميع مناطق الشرق الأوسط الكبير، والتسلط عليها من خلال تشظيتها. ولم يحجم شاحاك في تحليلاته هذه عن ذكر الأسماء ذات العلاقة، ولم يتردد أيضاً في إظهار اشمئزازه من النفاق المتأصل في الخطاب الفلسطيني حول التحرر والثورة الذي يعكس حاله في توقيع اتفاقيات (سلام) مع إسرائيل والتي تحفزها على استمرار هيمنتها على الأرض الفلسطينية. كما أبرز كيف أن هذا النفاق يؤسس لخطاب "القيادات الفلسطينية" واليسار الفلسطيني في خنوعها للأجندات الأميركية والغربية عامة.
في اتّباع هذا المسار، أي مسار التجانس وعدم التناقض مع ذاته، عرَّض شاحاك نفسه ليصبح منبوذاً في حلقته السياسية والأكاديمية، وجرت محاولات جادة وكثيرة ومستمرة لشطبه وقذفه خارج الجماعة اليهو – صهيونية الإسرائيلية، كما سنرى في الفصل الرابع. لم يتم تجنبه أو إزاحته جانباً من قبل زملائه اليهود فقط، ولكن أيضاً من قبل النخب السياسية الفلسطينية، وما يُسمّى بالمثقفين اليساريين. وستعرض هذه القضية بالتفصيل في الفصلين الثالث والرابع. أما القضايا الأخرى التي تم التطرق إليها في هذه المقدمة فستعرض تفصيليا في فصول لاحقة.
تأملات حول علاقتي مع شاحاك: استبطان ذاتي
منذ بداية الاتصال بيننا، كان شاحاك يحفزني باستمرار، وكأنه يستجديني، للاتصال الشخصي به كي تُتاح لنا مناقشة عميقة للقضايا التي يثيرها في رسائله إليّ، والترجمات التي كان يرسلها لي. أما الآن، وأنا بصدد صياغة هذا الكتاب، فقد اضطررت للتأمل في الأسباب التي حالت دون أن يحدث اتصال شخصي بيننا. بكلمات أخرى، لماذا لم أبذل من ناحيتي الجهد الإضافي المطلوب لتغذية هذه العلاقة، خاصة لأن الظروف كانت مواتية لذلك؟ لا أملك جواباً واعياً على هذا السؤال، ولكن ربما هذه التخمينات الصريحة قد تلقي بعض الضوء.
خلال إقامتي في جنيف، سويسرا، وفي إطار مسؤوليتي كمدير للبرامج في مؤسسة التعاون، للفترة 1984-1993، كنت أزور فلسطين – إسرائيل بالمعدل مرة كل ثلاثة أشهُر ولمدة ثلاثة أسابيع كل زيارة. كنت أرتّب برنامج الزيارة بشكل مسبق لأقضي أسبوعاً في القدس، وأسبوعاً في قطاع غزة، وأسبوعاً في الجليل، أي في المناطق التي كنّا نسمّيها "مسرح عمليات المؤسسة". وكانت الاتصالات الرئيسية التي كنت أجريها خلال تلك الزيارات تتركز على تقييم الأشخاص أو المؤسسات التي قدمت طلبات للمؤسسة تطلب فيها التمويل، أو أولئك الأشخاص أو المؤسسات الذين أجروا اتصالاً مع المؤسسة بهدف مناقشة بعض أفكار المشاريع.
عملياً ونظرياً، لم يكن هناك أي مقيّد أو مانع هيكلي من دفعي للاتصال بشاحاك. لكن للأسف لم أفعل ذلك. والآن، وبأثر رَجعي، وبعد أن توفي شاحاك، أحاول أن أفهم الأسباب التي حالت دون اتصالي معه.
ربما التفكير التأملي أدناه قد يساعد في فهم ذلك. كنت واثقاً على المستوى الشخصي من أن "زياراتي الميدانية"، واتصالاتي المتكرّرة مع عدد كبير من المنظمات الأهلية المحلية، والتي كانت تنوف في بعض الزيارات الميدانية على 150 اتصالاً ولقاء، كانت تماثل "العمل الفدائي التنموي". إذ كنت أجري هذه الاتصالات واللقاءات بشكل سري وعلى "نار خفيفة" بدون إشعار، أو طلب التصاريح المتوقعة من سلطات الاحتلال، في مناطق 1948 أو الضفة الغربية أو قطاع غزة. وبالفعل، وبعد عودتي من "مهمتي الميدانية" إلى "حرمة" جنيف، كان يُنقَل إليَّ من "الميدان" أنه في بعض الحالات كانت أجهزة الحكم العسكري أو "الشاباك" تحقِّق مع بعض الأشخاص الذين اجتمعت بهم خلال زياراتي الميدانية. وركزت هذه التحقيقات على زياراتي لتلك المنظمات الأهلية، وإذا كنت قد وعدتهم بتوفير الدعم المالي المطلوب لتنفيذ مشاريعهم. وبما أنني كنت مدركاً أن شاحاك نفسه، أو بعضاً من رفاقه أو حلفائه السياسيين، كانوا "مراقَبين" أو موضوعين "تحت المجهر" من قبل تلك العناصر ذاتها، يبدو لي الآن، وبعد التأمل، بأنني اخترت آنذاك – وليس بالضرورة على مستوى الوعي – ألا أبادر لأي اتصال شخصي مع شاحاك، لكي لا أجلب الانتباه للعمل الذي كنت أقوم به.
من ناحية ثانية، لم أكن واثقاً، وكانت تراودني في بعض الحالات الشكوك، حول بعض الاتصالات التي كنت أقوم بها مع بعض الأشخاص أو المنظمات الأهلية، وحول مدى التزامهم الوطني الراسخ. بمعنى آخر، لم أكن واثقاً إذا كان بعضهم "يتخابر" مع أجهزة الاحتلال أو الشاباك، ويتبرع بمعلومات، حقيقية أو مختلقة، لمصالح ومكاسب ذاتية. وهذا مما رسخ قناعتي بعدم الإفصاح عن الاتصالات التي كنت أجريها، والحفاظ عليها.
يجدر التنويه أنه في تلك الفترة كان اسم "مؤسسة التعاون" واسمي، في ما يمكن تسميته "ذراعها الميداني"، يترددان في وسائل الإعلام الإسرائيلية العبرية من زاوية الاتهام بأن الأموال التي كانت تقدمها "المؤسسة"، والتي كنت مسؤولاً لتسهيل إيصالها لدعم أنشطة المنظمات الفلسطينية المناهضة للاحتلال، كانت أموالاً "إرهابية". وبما أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت تصنف آنذاك في إسرائيل بأنها منظمة إرهابية، لذلك نعتت أموال مؤسسة التعاون التي كان مصدرها متمولون فلسطينيون تربطهم بعض العلاقات بمنظمة التحرير بأنها أموال "إرهابية". كان هذا النعت بكل تأكيد هراءً كاملاً ومخادعة. لكن الحقيقة التي لا غبار عليها كانت أنّ الهدف الواضح من رصد تلك الأموال من قبل مؤسسة فلسطينية، غير هادفة للربح، ومسجلة قانونياً في سويسرا، في ذلك الوقت، تعزيز قدرة الجمعيات الفلسطينية الوطنية تحت الاحتلال (في داخل إسرائيل أو في الضفة والقطاع) على الانعتاق من التبعية المطلقة للهياكل اليهودية الإسرائيلية العنصرية المتحكمة فيها. كان حسي وقناعتي في ذلك الوقت يدفعانني إلى تحاشي القيام بأية اتصالات قد تعرض هذا الهدف للخطر.
إضافة إلى ذلك، فإن عدداً لا بأس به من الرأسماليين الفلسطينيين، أصحاب الملايين، والذين كان لهم الدور الأساس في إنشاء "مؤسسة التعاون"، أصبحوا تدريجياً في تقارب وتحالف وتجانس مع منظمة التحرير الفلسطينية، خاصة فصيل فتح وعرفات، من حيث برنامجها السياسي للحل السلمي مع إسرائيل. ومن هذا المنطلق، فإن الاتصالات المفضلة لهم و"للمؤسسة" – إذا كان لهم مجال للاختيار – هي اتصالات مع أشخاص ومؤسسات من "اليسار الصهيوني"، وليس مع أشخاص مثل شاحاك الذي نبذته معظم النخب السياسية والمثقفة الفلسطينية منذ اتُّخِذ القرار بمتابعة "العملية السلمية"، وبالتحديد في أعقاب "عملية أوسلو"، كما سأبيِّن لاحقاً. هكذا، ولسوء الحظ، أعتقد بأنني، كمدير البرامج في مؤسسة التعاون آنذاك، استدخلت هذا التوجه وقبلت به. والآن وبعد سنوات على وفاة صديقي ورفيقي، ما زلت أحمل شعوراً عميقا بالخسارة والحزن لأنني لم أستفد من إمكانية متابعة وتطوير ومناقشة القضايا التي كان يثيرها شاحاك، وجهاً لوجه معه.
لا تسعى هذه الدراسة إلى تقديم مراجعة تفصيلية لمؤلفات شاحاك؛ هذا أنجزه آخرون. لكن، ومن خلال خمسة فصول في الكتاب، سأركز على بعض القضايا الرئيسة التي أشغلت شاحاك، بشكل حثيث وبإصرار، طوال حياته. هذه القضايا التي تضطر القارئ، وتضطرني أنا أيضاً، لطرح السؤال الجذري: ماذا يعني أن يتعرّض المرء لآراء وأفكار شاحاك في محاولته لفهم الأيديولوجية اليهو – صهيونية والممارسات المنبثقة منها تجاه الأغيار، وخاصة تجاهنا نحن الشعب الفلسطيني، في نضالنا المستديم لنكون أحراراً في وطننا؟ تفصيلاً، كيف تساعدنا أفكارُه في أن نزيّن ونقَيِّم العوامل المسؤولة عن احتلال واستعمار وقمع الشعب الفلسطيني النابعة من الهياكل اليهو – صهيونية، والتي تجد بعض ترجماتها في الخطط الصهيونية الساعية لفرض الهيمنة على المنطقة بأكملها؟ هل المنظور اليهودي التلمودي لنا كأغيار يوفر شرحاً مستوفياً ومصطلحاً ضابطاً لكيف يمكن أن نعيش سوية، أو إذا كان من الممكن أن نعيش سوية؟ الفقه اليهودي التلمودي (Halacha) يوجه اليهود حول كيفية التعايش مع "الأغيار" اعتماداً على علاقات القوة بين اليهود وغير اليهود، وفيما إذا كان اليهود أو الأغيار في الأقلية أو الأكثرية، وبالتحديد إذا كانت لليهود السيطرة في معادلة الأقلية – الأكثرية هذه. هذا يضطرنا لطرح التساؤل إذا وجدت أية حالة تعايش فيها اليهود مع الأغيار بتجانس وسلام، وهم في موقع القوة والسيطرة؟ لا يكفي أن نستمر بتكرار المقولة أننا تعايشنا سوية بسلام ووفاق في فلسطين قبل احتلال 1948، أو في الأندلس، إلخ، وأن نصل إلى الاستنتاج بأن هذا ممكن في وضع يملكون فيه السيادة العسكرية والاقتصادية والسياسية. بكلمات أخرى، هل من الممكن أن نعيش سوية، في مساواة مطلقة، كبشر، من دون أن نفكك ونقوض الهياكل والمؤسسات العنصرية في صلبها؟ أنا مدرك أن طرح تساؤلات كهذه ومناقشتها هي عملية صعبة ويعتريها قدر من الخطورة. لكنّ هذه التساؤلات يجب أن تواجه بشكل رأسي ومباشر، إذا كنا فعلاً نتوق لمستقبل جامع لكلينا!
عودة للسؤال الجذري الذي طرحته أعلاه، بخصوص قراءة واستدخال آراء شاحاك وتحليلاته، فمن غير الممكن أن نستمر بالتمويه وخداع النفس أنه يمكننا التعايش بسلام وبمساواة كل في حيزه الجغرافي السياسي (تحت مسميات مختلفة)، وحيّزنا في حالة مؤبدة تحت الهيمنة اليهو – صهيونية الكاملة.
فصول الكتاب
يركز الفصل الأول على الغلاف الأيديولوجي الموجِّه والذي يحدد شاحاك في إطاره العلاقات الرابطة بين اليهودية "الخلاصية" أو الأرثوذكسية والصهيونية ويهودية دولة إسرائيل، وذلك من خلال تحليل عميق وثاقب وملتزم لجوهر القواعد القانونية التلمودية (Halacha) وترجماتها في السياسات الأيديولوجية التي تعكس ذاتها في البنى اليهو – صهيونية الراهنة في إسرائيل، وخاصة كما تنطبق على النظرة للأغيار وعلى تصنيفهم وموقعهم في النظام الإنساني.
أما التركيز في الفصل الثاني فينصبّ على إظهار جهود شاحاك التي لا تكل في فضح الخطط اليهو – صهيونية التي تسعى لفرض الهيمنة الصهيونية على منطقة الشرق الأوسط بأكملها. ولإبراز ذلك، يعود شاحاك لكشف الجوهر الحقيقي للصهيونية منذ بدئها. وفي هذا الإطار، يكشف شاحاك، بتفصيل دقيق، ومعتمد على توثيق البيانات والتصريحات لقادة ومؤسسي الحركة الصهيونية، المخططات الإيديولوجية الصهيونية لطرد السكان الفلسطينيين الأصليين والتخلص منهم. وهذا ما وثقه في بداية السبعينيات من القرن الماضي في ملف طبع باللغة العربية (على الآلة الكاتبة) على نفقته الخاصة، ووزع بشكل محدود على الطلاب العرب في الجامعة العبرية وعلى حلفائه الناشطين السياسيين. كما يتطرق هذا الفصل أيضاً لما نشره شاحاك من كشف المستور حول كيف اعتمدت دولة إسرائيل على الخداع والتمويه في بيع الأسلحة لدول "العالم الثالث"، وعلى وجه التحديد، في أميركا اللاتينية وجنوب شرق أسيا وأفريقيا، واستخدامها كوسيلة للقمع وللحفاظ على الطغم الديكتاتورية الحاكمة في تلك الدول.
يتركز النقاش في الفصل الثالث على نظرة شاحاك للفلسطينيين تحت الاحتلال. تنقسم بنية هذا الفصل إلى جزءين: الجزء الأول يناقش كيف أن شاحاك كان من الطلائع الذين أبدوا اهتماماً واضحاً لتوثيق الانتهاكات المستمرة لحقوق الفلسطينيين، مواطني إسرائيل، من خلال تصميمه المثابر على ترجمة كل التقارير والمقالات ذات العلاقة، التي تصدر في الصحافة العبرية، إلى الإنجليزية، وتعميمها، بالأساس على نفقته الخاصة، لمراكز أبحاث وأفراد مهتمين بذلك في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، وذلك في بداية السبعينيات.
أما الجزء الثاني من هذا الفصل فيكشف نقد شاحاك اللاذع لمواقف "القيادة" الفلسطينية بخصوص "عملية أوسلو"، من حيث استعدادهم للخنوع للمتطلبات الإسرائيلية، وعدم الصدق في تفاعلهم مع شعبهم. كما يركّز هذا الجزء على إثارة عدد من التساؤلات الجلية، مثلاً: لماذا أهملت ونبذت قيادة المنظمة آنذاك آراءه؟ كيف رأى "مثقفو أوسلو" شاحاك، في ضوء انتقاداته لعملية أوسلو ولخنوع المثقفين الفلسطينيين؟
أما الطرح المقدّم في الفصل الرابع فيركز على شاحاك كإنسان؛ والتطور المفصلي في يقظاته الشخصية؛ وكيف أصبح هدفاً لهجوم البغض والكراهية.
أختتمُ هذه الدراسة في الفصل الخامس بتأملات شخصية تداولية حول ما أَعتبِرُه جوهر "تعاليم" شاحاك، وحول وقعها العميق على ماهية وكيفية ما نحلله في المرحلة الراهنة في سياق كفاحنا للانعتاق من الهيمنة اليهو – صهيونية، على ضوء ما تعلمناه من شاحاك حول الهيكلية العميقة للصهيونية، الأصولية اليهودية، وأمور مهمة أخرى.
ملاحظة أخيرة
لماذا وكيف قررت أن أكتب هذا الكتاب، وفي هذا الوقت بالتحديد؟
بشكل أو بآخر، كان إنجاز هذا الكتاب صعباً للغاية. يمثل هذا "المشروع الكتابي" أول محاولة جدية لي على طول مجرى حياتي الكتابي والبحثي، أن أؤلف كتاباً عن آراء كاتب نقدوي آخر، لم يعد موجوداً معنا.
بدأ هذا المشروع الكتابي عَرَضاً ومن دون سابق تصميم من طرفي؛ إذ إنّ البيئة السياسية التي ابتلعتنا خلال السنوات الأربع الماضية، وما زالت، هي التي أملت المحفز الرئيس لإنتاج هذا العمل من خلال المؤشرات التالية: أوّلاً، البيئة البركانية المنتفضة في وطننا العربي؛ ثانياً، الاحتمال الواضح والشديد، والمحاولات المتكررة من قبل العالم الغربي وإسرائيل لتشظية الوطن العربي؛ ثالثاً، الدلائل المستمرة والتأشير المرجعي في عدد كبير من التحليلات المنشورة إلى "خطة ينون" التي ترجمها شاحاك من العبرية إلى الإنجليزية، كمخطط صهيوني واضح لهذه التشظية؛ أخيراً، الإصرار المفبرك، الذي أعيد بعثه من قبل القيادات السياسية والدينية الإسرائيلية، على "يهودية الدولة" كشرط مسبق لنجاح "العملية السلمية". كل هذا حرّكني وحفّزني لأعيد فتح "ملف شاحاك" الموجود في مكتبتي، وقراءته من جديد، وبتشجيع قوي من زوجتي، لأكتب شيئاً لتعريف الناس بمَن هو شاحاك وما هي آراؤه. بناء على هذه الاعتبارات، التزمتُ بمهمة الكتابة هذه.