100
يتناول الكاتب اللبناني جورج حداد، كعادته في تقديم دارسات تاريخية علمية جادة ووازنة، سقوط قرطاجة وتدميرها، في بحث متسلسل على 12 جزءاً، يعرض في حلقاته الـ12 الأسباب الذاتية لسقوط قرطاجة وتدميرها على ايدي المتوحشين الرومان، وتتركز في لغز بنيوي واستراتيجي عميق هو الانشطار البنيوي للنظام الاجتماعي القرطاجي وهو النظام المشاعي البدائي في طوره المتأخر، بين السلطة العائلية العسكرية لآل برقة، وبين السلطة السياسية الرأسمالية القرطاجية التي كانت ترهن كل شيء للحفاظ على ثرواتها الفردية والفئوية، على حساب الوجود القرطاجي بل تعيق قوة هذا الوجود وتصنع هزيمته بنفسها.
هنا الجزء الأول من الحلقات الـ 12، لتأكيد أوهام حزب السلام نفسه، القرطاجي سابقاً واللبناني اليوم، هي هي، خيانة دمرت قرطاجة وتسهم في تدمير لبنان.
ان السبب الاساسي، الجوهري، لسقوط قرطاجة وتدميرها على ايدي المتوحشين الرومان، هو بلا شك السبب الموضوعي، اي هو: طبيعة النظام الاجتماعي الذي كانت تدافع عنه قرطاجة، مأخوذة بكاملها كظاهرة اقتصادية ـ اجتماعية ـ حضارية ـ سياسية ـ عسكرية، والنظام الاجتماعي الذي كانت روما تحارب لفرضه على العالم، اي بين النظام المشاعي البدائي في طوره المتأخر والآيل الى السقوط من داخله بالذات، وبين النظام العبودي (بطبعته الرومانية) الذي كانت تحمله وتعمل على نشره روما.
ولكن اذا كنا ندخل هزيمة قرطاجة وانتصار روما في اطار الحتمية التاريخية، فهذا لا يعني أبداً أن الحتمية التاريخية تظهر فجأة بدون مقدمات تاريخية محددة واسباب تاريخية محددة. بل على العكس ان الحتمية التاريخية هي نتيجة للتطور الملموس لمجمل تفاعلات الظاهرة الاجتماعية ـ الحضارية، السياسية والعسكرية، الداخلية والخارجية، للمجتمع المعين، في إطار المجتمعات الاخرى كافة التي يتشكل منها المجتمع الدولي.
وهذا يقودنا الى الاستنتاج ان الحتمية التاريخية التي قضت بهزيمة قرطاجة وانتصار روما هي حتمية مركبة من حتميتين:
ـ حتمية هزيمة قرطاجة.
ـ حتمية انتصار روما.
وبكلمات اخرى ان قرطاجة التي كانت في بداية الصراع ارقى حضارياً بكثير، وأغنى، واقوى من روما، وكان حضورها الاقتصادي ولا سيما التجاري، وحضورها العسكري ينتشران على بقعة واسعة جدا، برا وبحرا، اوسع بكثير من البقعة التي كانت تنتشر عليها روما، فإنها ـ اي قرطاجة ـ سارت نحو هزيمتها بظلفها، اي بالاسباب الذاتية التي كانت تسيّر العملية الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية والعسكرية فيها، مع او بدون الصراع مع روما.
في إحدى المعارك بين قبيلة هندية اميركية وقوة من الغزاة البيض، والتي انتصر فيها البيض على الهنود الحمر وتم أسر شيخهم، قال الشيخ للقائد الابيض "لقد انتصر إلهك على إلهي". هكذا فهم هذا الشيخ المسكين انتصار العنصريين البيض. فهل صحيح ان انتصار البيض على السكان الاصليين لاميركا، ومن ثم هل صحيح ان انتصار الرومان على قرطاجة، هو إرادة وقوة إلهيتين وأعجوبة سماوية؟
ان غالبية المحللين التاريخيين اللبنانيين والعرب ينحون الى تجنب البحث في اسباب هزيمة قرطاجة، وإلى تسجيل الأحداث تسجيلاً "تقريرياً" "قوتوغرافياً" "وصفياً" لا اكثر. وهذا بالطبع لا يساعد أجيالنا على ان تفهم حقيقة ما جرى يومذاك، لتستطيع ان تفهم ايضاً حقيقة ما يجري اليوم. وان بعض المحللين الآخرين يأخذوننا الى القول إن روما كانت أقوى وأكثر حنكة في تطبيق استراتيجيتها العسكرية الخ. وهذا غير صحيح وغير علمي وغير تاريخي. وهو يشبه الادعاءات اليوم بأن اسرائيل كانت تنتصر على العرب لأنها الاقوى والاغنى والافضل. وهذه حقيقة مشوّهة، او مقلوبة على رأسها.
إن إسرائيل كانت تنتصر على العرب ليس لأنها الاقوى والاغنى والافضل (بمقاييس معينة)، بل اساساً وجذرياً: لأن الحزب الموالي لاسرائيل في الانظمة العربية القائمة هو أقوى من الحزب المعادي لاسرائيل.
والشيء ذاته يمكن قوله عن الصراع القرطاجي ـ الروماني: ان السبب الاساسي والجذري لانتصار روما وهزيمة قرطاجة، وبصرف النظر عن قوة روما وغناها وتكتيكاتها العسكرية، هو ان "الحزب الروماني"، او الحزب الموالي لروما في قرطاجة، كان قوياً لدرجة انه كان يعادل او يفوق قوة "الحزب الوطني" القرطاجي.
ولننظر الى ذلك عن قرب:
1 ـ ان الشعب القرطاجي، كجزء لا يتجزأ من الشعب الفينيقي، قدم للبشرية من الإنجازات الحضارية في مختلف المجالات، ما يجعله شعباً جديراً بالتقدير والحياة الحرة الكريمة. ولكنه لكونه شعباً حراً وأبياً، فإن ظهور بذور نظام العبودية في قلب قرطاجة كان يتعارض تعارضاً مميتاً مع حرية الشعب القرطاجي المتحدرة من نظامه المشاعي البدائي القديم والعريق. ومن اجل القضاء على حرية الشعب القرطاجي والتمكن من استعباده، تعرض هذا الشعب، خصوصاً قواته المسلحة بقيادة عائلة برقة التي كانت تحارب الرومانيين، تعرّض للخيانة مراراً وتكراراً على أيدي حكامه الى درجة أن "البطل القومي" هنيبعل ذاته اضطر للهرب من قرطاجة واللجوء الى الشرق لأنه ادرك ان هناك مؤامرة لتسليمه الى الرومان. وهذا ما يدفعنا لدعوة جميع المؤرخين العرب المخلصين لتشريح وتحليل تاريخنا تحليلاً صحيحاً، وتعرية وفضح واقتلاع جذور حزب "الخيانة الوطنية والقومية" الذي يعشش ويفرخ في ثنايا مجتمعاتنا منذ ايام الحروب البونيقية.
2 ـ كانت روما تخوض الحرب بوصفها حرباً "وطنية" تشارك فيها جميع الطبقات وجميع "المواطنين" و"الرعايا" (السكان غير الحاصلين على الجنسية الرومانية بعد). في حين ان الجيش الوطني القرطاجي كان اشبه شيء بجيش "خاص" تقوده عائلة برقة. ولم يكن هذا الجيش يحظى بدعم الطبقة الحاكمة في قرطاجة، لا بإرسال النجدات ولا بإرسال الأموال من اجل دفع اجور الجنود المرتزقة من الامازيغ وغيرهم. مما كان يجعل الجيش القرطاجي دائماً ضعيفاً ومتخلخلاً ومعرضاً للانهيار حتى حينما يحقق الانتصارات.
3 ـ ان روما كانت تحارب لأجل الربح والاغتناء، اي لأجل السلب والنهب واستعباد اسرى المغلوبين والشعوب المغلوبة. اما قرطاجة فقد انقلب عامل الربح والثروة وبالاً عليها. فإن الطبقة التجارية المتنفذة، التي حققت نجاحاتها الاولى والاساسية بفضل التقدم الحضاري لشعب قرطاجة وبفضل المنتوجات المميزة للمنتجين الاحرار القرطاجيين، حصلت على ارباح هائلة من التجارة الكوسموبوليتية العالمية وبنت اسطولاً تجارياً كبيراً لأجل تأمين مصالحها الفئوية، ولم يعد لها مصلحة مباشرة في بناء اسطول حربي قوي لمواجهة روما، كما لم يعد لها مصلحة في معاداة روما القوية، فأخذت تمالئها على حساب المصلحة القومية لقرطاجة وتتآمر على الجيش القرطاجي ذاته وخاصة على قيادته وتمنع عنه المساعدات. وحينما كان الجيش القرطاجي بقيادة البرقيين موجوداً في ايبيريا وغاليا وايطاليا، وكان هنيبعل يحوم حول روما لفك تحالفاتها والضغط عليها ودفعها الى الاستسلام وتوقيع صلح مشرف، كانت روما لا تكتفي بالدفاع فقط، بل كانت ترسل مختلف القوات البحرية والبرية للقتال في ايبيريا وصقلية والى الشاطئ الافريقي لمهاجمة قرطاجة ذاتها. اما الطبقة التجارية المتنفذة والحاكمة في قرطاجة فلم تجد من الضرورة أن ترسل اي نجدات الى الجيش القرطاجي، ولم تبادر الى تنظيم اي حملات عسكرية اضافية لمهاجمة وإضعاف القوات الرومانية في اي مكان. وحينما أنزل الرومان قوتهم في الشاطئ الافريقي سنة 203 ق.م لم تجد الطبقة الحاكمة القرطاجية ضرورة لإعلان التعبئة العامة والخروج الى خارج المدينة لمهاجمة القوة الرومانية الصغيرة نسبياً، بل طلبت من هنيبعل التخلي عن تطويق روما والرجوع الى الشاطئ الافريقي لمهاجمة الجيش الروماني، أي أنها نفذت تماماً وحرفياً ما كان يريده الرومان. وحتى حينما تقدم الجيش الروماني لمحاصرة قرطاجة وتدميرها سنة 149ق.م، فإن السلطة الطبقية الغنية الخائنة في قرطاجة لم تجد من الضروري وضع كل إمكانياتها في خدمة إعلان تعبئة عامة وتشكيل قوات دفاع وطنية كبيرة والخروج لملاقاة الجيش الروماني خارج اسوار المدينة، بل كان همها العمل على اخفاء وتهريب ثرواتها (التي اكتشفها الرومان ونهبوها لاحقاً) وتركت الجيش الروماني يحاصر المدينة ويفرض عليها الحرمان والجوع والاستنزاف مدة ثلاث سنوات قبل ان يجتاحها ويدمرها تماماً سنة 146ق.م.
4 ـ ان السلطة القرطاجية، التي كانت في يد الارستقراطية (التجار الكوسموبوليتيين الكبار وملاكي العبيد) قد فشلت تاريخياً في تطوير العلاقات الايجابية مع السكان الاصليين (الامازيغ)؛ فقد انتهجت هذه الطبقة خطاً سياسياً واقتصادياً يؤمن لها مصالحها الطبقية المباشرة على حساب المصلحة القومية للدولة؛ حيث ان السكان الاصليين لم يتم اعطاؤهم حقوق المواطنة، بل عوملوا كمحكومين، وكانت تفرض عليهم الضرائب الباهظة واحياناً كان يتم الاستيلاء على نصف المحاصيل، كما كانت تتم مصادرة الأراضي بالقوة لبناء ما يسمى "الفيلات" وقصور الاغنياء عليها؛ وفي الوقت الذي تخلت فيه السلطة القرطاجية عن نظام الخدمة العسكرية للقرطاجيين خوفاً من تقوية الجيش الوطني، فإنها كانت تجبر الشباب الامازيغ على الانخراط كمرتزقة في صفوف الجيش وترسلهم الى المناطق البعيدة للقتال في الجيش القرطاجي. وكل ذلك ادى الى تنامي الاستياء في صفوف السكان الأصليين وحدوث الانتفاضات بشكل دائم.
5ـ كما فشلت السلطة القرطاجية ايضاً في تطوير العلاقات مع الحلفاء اليونانيين والاسبان والفرنسيين والايطاليين، لان الارستقراطية التجارية القرطاجية كانت تتمسك باحتكار التجارة في مناطق نفوذها خاصة، وفي التجارة الدولية عامة، ومن هذا المنطلق كانت تفرض وصاية كاملة على الحلفاء وتمنع تطورهم وتقدمهم، مما جعل هؤلاء الحلفاء يتحينون الفرص للتخلص من سيطرة القرطاجيين، في حال ظهور اي منافس قوي مثل روما.
6 ـ ان الطبقة الارستقراطية القرطاجية ذاتها كانت مفككة، وكانت مصالح بعض فئاتها تقف عائقا امام اي توجه "قومي"، ونشير الى شريحتين ارستقراطيتين:
الاولى ـ شريحة الملاكين الكبار ـ ملاكو العبيد. فهذه الشريحة كانت قد جمعت مبالغ طائلة من التجارة الدولية لقرطاجة. وتوجهت نحو الاستيلاء على الاراضي من السكان الأصليين وإقامة المزارع الضخمة التي تعتمد على عمل العبيد. وكان بعض الأفراد يملك كل منهم عشرات الوف العبيد، الذين كانوا يعملون في الارض في اسوأ الظروف والشروط؛ ومن اجل الاحتفاظ بملكياتهم والسيطرة على عبيدهم كان هؤلاء "الاسياد" يشكلون جيوشاً خاصة واجهزة سلطة خاصة بما يشبه "دولة داخل الدولة"؛ ولم يعد من مصلحة هؤلاء الاهتمام بالقضايا "القومية" العامة، وصار كل همهم توسيع "دولهم" الخاصة، على حساب كل ما عداها.
الثانية ـ لقد امتدت الشبكة التجارية القرطاجية من شمالي افريقيا الى مصر وايطاليا واليونان والبحر الاحمر والبحر الاسود، ونشأت شريحة تجارية عليا ذات طابع دولي "كوسموبوليتي"، لم تعد تعتمد على تصريف المنتوجات "الوطنية"، بل ان قرطاجة نفسها اصبحت "سوقاً" لهذه الشريحة، مثلها مثل اي سوق اخرى؛ ولم تعد مصلحة هذه الطبقة تتطابق مع مصالح المنتجين القرطاجيين الاحرار، بل صارت تشكل عامل مزاحمة لهم واخذت تضيق الخناق عليهم في داخل قرطاجة ذاتها. وطبعاً وجد ذلك تعبيره السياسي والعسكري في الموقف من الحرب مع روما، حيث كانت الطبقة الارستقراطية تخشى تسليح جيش وطني قوي حتى لا يمثل خطراً على سلطتها ومصالحها الفئوية.
7 ـ بلغت التناقضات الداخلية في قرطاجة حداً اصبح معه عمل ما يمكن تسميته "الحزب الوطني" يتم بشكل سري او شبه سري. وفي ذلك يقول العلامة الالماني تيودور مومزين "بالإضافة الى كل الصعوبات الأخرى في الوضع، فإن الوسائل المادية لإنقاذ الوطن كان ينبغي أن يتم جمعها بدون ان يعلم بذلك لا الرومان، ولا الحكومة الخاصة الموالية لروما" (تيودور مومزين، تاريخ روما، الترجمة البلغارية، ص 186).
8 ـ بلغت قرطاجة مستوى عالياً من الغنى وتكدست لديها رساميل ضخمة من التجارة الدولية. ووجد ذلك انعكاسه على تركيبة النظام السياسي ـ الاجتماعي، وفي الاستراتيجية العسكرية لقرطاجة وفي الجيش القرطاجي نفسه. ويمكن ايراد الملاحظات التالية:
أ ـ نشأت في قرطاجة طبقة غنية جداً هي طبقة التجار، الذين تحوّلوا بالدرجة الاولى الى تجار دوليين. ولم يكن من مصلحة هؤلاء الدخول في صراع مع روما.
ب ـ لم يكن التطور التكنولوجي يسمح بتحويل الرساميل التجارية المكدسة الى رساميل انتاجية (بالمعنى الحرفي والصناعي).
ج ـ تراجعت الى الدرجة الثانية اهمية الحرف والصناعات اليدوية في الاقتصاد القرطاجي. وتحول العمال المأجورون والحرفيون الى جمهور كبير فقير، في مقابل الطبقة التجارية الغنية جداً التي تمسك بيدها السلطة، وتستخدم الرشوة على نطاق واسع في عملية انتخاب مجلس الشيوخ والقضاة الحاكمين.
د ـ لم يكن بإمكان الطبقة "الرأسمالية التجارية" الغنية الانتقال على نطاق واسع الى اسلوب العمل العبودي في القطاع الحرفي والصناعي اليدوي، لانه لم يكن بإمكانها تحويل المواطنين القرطاجيين الاحرار الى عبيد، ولا جلب العبيد الاجانب الى داخل قرطاجة والمدن الحليفة لها وتحويلها الى مجتمع عبودي.
هـ ـ استخدم العمل العبودي في قرطاجة في الزراعة، وكان بعض التجار ـ المزارعين الكبار يمتلكون حتى عشرين الف عبد يعملون في الارض. كما استخدم العمل المأجور في الزراعة. وكان الكثير من اليهود يعملون مع الملاك القرطاجيين كمياومين. (تيودور مومزين، تاريخ روما، الطبعة البلغارية، صوفيا، بدون تاريخ، ص 139).
و ـ كانت الطبقة الرأسمالية التجارية الحاكمة تخشى من المعارضة الشعبية، كما تخشى من انقلاب الموظفين الكبار، خصوصاً القادة العسكريين، وقيامهم بالاستيلاء على السلطة. وقد وجد ذلك انعكاسه في العلاقة السيئة بين السلطة في قرطاجة وبين هنيبعل.
ز ـ ضعفت الحوافز الوطنية لدى القرطاجيين بالانضمام الى الجيش. وفي بعض الحالات كانت غالبية قوات الجيش القرطاجي المتواجدة في اسبانيا وصقلية وغيرها من جزر البحر الابيض المتوسط تتشكل من المرتزقة من مختلف القوميات واللغات، وكان الضباط فقط من القرطاجيين.
ح ـ بعد هزيمة صقلية وانسحاب جيش هملقار منها، الذي كان يتشكل من المرتزقة، رفضت سلطة قرطاجة ان تمنحهم حقوقهم (الاجور وبدلات الطعام والخيول التي قدموها للجيش) وتدعهم يعودون الى عائلاتهم، مما ادى الى انتفاضة هؤلاء الجنود والاحتماء بإحدى المدن الامازيغية، وقد تحولت انتفاضة الجنود الى انتفاضة شعبية امازيغية ضد القرطاجيين. كذلك اخذ العبيد يفرون بأعداد كبيرة وينضمون الى الانتفاضة، وبلغ عدد جيش الانتفاضة اكثر من 70 الفا. وكان الناس يتبرعون بسخاء لهذا الجيش.
ط ـ "بعد خفوت الانطباع الاولي عن انتصار كاناي، فإن حزب السلام القرطاجي، المستعد في اي وقت لان يشتري الانتصار على عدوه السياسي مقابل هزيمة الوطن، رفض طلبات القائد العسكري (اي هنيبعل) لإرسال دعم اكثر حيوية؛ وأعطاه جواباً نصف ساذج نصف سافل، انه "طالما هو ينتصر على الاعداء، فليس له حاجة الى المساعدة؛ واذا لم يكن ينتصر عليهم فلا يستحق المساعدة"؛ وبذلك فإن هذا الحزب ساعد على إنقاذ روما اكثر من مجلس الشيوخ الروماني ذاته" (مومزين، ص 224).
ي ـ منذ ان تسلم هنيبعل القيادة في 220ق.م بدأ يستعد للحرب ضد روما، ولكنه لم يحصل على دعم السلطة القرطاجية، وحينما خاض اولى معاركه الكبيرة في 219ق.م، بدأ "الوجهاء" يعربون عن استيائهم من الهجوم الذي وقع "بدون أمر"، بل وبدأ الحديث عن إمكانية تسليم القائد الجريء للرومانيين. فهل كانت الحكومة القرطاجية تخشى من الجيش والجمهور في قرطاجة، اكثر من خشيتها من الرومان". (مومزين، ص 194).
ك ـ يتحدث مومزين عن الصعوبات التي كان يواجهها هملقار في تأسيس وتجهيز الجيش وتأمين الرواتب له، مقابل معارضة حكومة قرطاجة، ويقول إن "الدوائر الحاكمة في قرطاجة كان لها علاقات (مع روما) تصل الى حد الخيانة الوطنية. والى جانب جميع الصعوبات (التي كان يواجهها هملقار) ينبغي ان تضاف ايضا صعوبة تجميع الاموال لانقاذ الوطن بدون علم الرومان، خصوصاً بدون علم الحكومة (القرطاجية) الموالية للرومان". (مومزين، ص 186).
اذا أجرينا مقارنة سريعة بين المعركة التاريخية المصيرية لقرطاجة والمواجهة المصيرية الراهنة مع اسرائيل، ومطالبة معسكر الخيانة المسمى "تيار 14 آذار" بنزع سلاح المقاومة بقيادة حزب الله، الا يحق لنا التساؤل: ما أشبه اليوم بالبارحةّ!
وهذا ما يدفعنا الى القول إن دراسة تاريخنا بشكل اجتماعي وقومي صحيح هو الطريق الإلزامي لدراسة وفهم واقعنا الراهن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· كاتب لبناني مستقل
هنا الجزء الأول من الحلقات الـ 12، لتأكيد أوهام حزب السلام نفسه، القرطاجي سابقاً واللبناني اليوم، هي هي، خيانة دمرت قرطاجة وتسهم في تدمير لبنان.
ان السبب الاساسي، الجوهري، لسقوط قرطاجة وتدميرها على ايدي المتوحشين الرومان، هو بلا شك السبب الموضوعي، اي هو: طبيعة النظام الاجتماعي الذي كانت تدافع عنه قرطاجة، مأخوذة بكاملها كظاهرة اقتصادية ـ اجتماعية ـ حضارية ـ سياسية ـ عسكرية، والنظام الاجتماعي الذي كانت روما تحارب لفرضه على العالم، اي بين النظام المشاعي البدائي في طوره المتأخر والآيل الى السقوط من داخله بالذات، وبين النظام العبودي (بطبعته الرومانية) الذي كانت تحمله وتعمل على نشره روما.
ولكن اذا كنا ندخل هزيمة قرطاجة وانتصار روما في اطار الحتمية التاريخية، فهذا لا يعني أبداً أن الحتمية التاريخية تظهر فجأة بدون مقدمات تاريخية محددة واسباب تاريخية محددة. بل على العكس ان الحتمية التاريخية هي نتيجة للتطور الملموس لمجمل تفاعلات الظاهرة الاجتماعية ـ الحضارية، السياسية والعسكرية، الداخلية والخارجية، للمجتمع المعين، في إطار المجتمعات الاخرى كافة التي يتشكل منها المجتمع الدولي.
وهذا يقودنا الى الاستنتاج ان الحتمية التاريخية التي قضت بهزيمة قرطاجة وانتصار روما هي حتمية مركبة من حتميتين:
ـ حتمية هزيمة قرطاجة.
ـ حتمية انتصار روما.
وبكلمات اخرى ان قرطاجة التي كانت في بداية الصراع ارقى حضارياً بكثير، وأغنى، واقوى من روما، وكان حضورها الاقتصادي ولا سيما التجاري، وحضورها العسكري ينتشران على بقعة واسعة جدا، برا وبحرا، اوسع بكثير من البقعة التي كانت تنتشر عليها روما، فإنها ـ اي قرطاجة ـ سارت نحو هزيمتها بظلفها، اي بالاسباب الذاتية التي كانت تسيّر العملية الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية والعسكرية فيها، مع او بدون الصراع مع روما.
في إحدى المعارك بين قبيلة هندية اميركية وقوة من الغزاة البيض، والتي انتصر فيها البيض على الهنود الحمر وتم أسر شيخهم، قال الشيخ للقائد الابيض "لقد انتصر إلهك على إلهي". هكذا فهم هذا الشيخ المسكين انتصار العنصريين البيض. فهل صحيح ان انتصار البيض على السكان الاصليين لاميركا، ومن ثم هل صحيح ان انتصار الرومان على قرطاجة، هو إرادة وقوة إلهيتين وأعجوبة سماوية؟
ان غالبية المحللين التاريخيين اللبنانيين والعرب ينحون الى تجنب البحث في اسباب هزيمة قرطاجة، وإلى تسجيل الأحداث تسجيلاً "تقريرياً" "قوتوغرافياً" "وصفياً" لا اكثر. وهذا بالطبع لا يساعد أجيالنا على ان تفهم حقيقة ما جرى يومذاك، لتستطيع ان تفهم ايضاً حقيقة ما يجري اليوم. وان بعض المحللين الآخرين يأخذوننا الى القول إن روما كانت أقوى وأكثر حنكة في تطبيق استراتيجيتها العسكرية الخ. وهذا غير صحيح وغير علمي وغير تاريخي. وهو يشبه الادعاءات اليوم بأن اسرائيل كانت تنتصر على العرب لأنها الاقوى والاغنى والافضل. وهذه حقيقة مشوّهة، او مقلوبة على رأسها.
إن إسرائيل كانت تنتصر على العرب ليس لأنها الاقوى والاغنى والافضل (بمقاييس معينة)، بل اساساً وجذرياً: لأن الحزب الموالي لاسرائيل في الانظمة العربية القائمة هو أقوى من الحزب المعادي لاسرائيل.
والشيء ذاته يمكن قوله عن الصراع القرطاجي ـ الروماني: ان السبب الاساسي والجذري لانتصار روما وهزيمة قرطاجة، وبصرف النظر عن قوة روما وغناها وتكتيكاتها العسكرية، هو ان "الحزب الروماني"، او الحزب الموالي لروما في قرطاجة، كان قوياً لدرجة انه كان يعادل او يفوق قوة "الحزب الوطني" القرطاجي.
ولننظر الى ذلك عن قرب:
1 ـ ان الشعب القرطاجي، كجزء لا يتجزأ من الشعب الفينيقي، قدم للبشرية من الإنجازات الحضارية في مختلف المجالات، ما يجعله شعباً جديراً بالتقدير والحياة الحرة الكريمة. ولكنه لكونه شعباً حراً وأبياً، فإن ظهور بذور نظام العبودية في قلب قرطاجة كان يتعارض تعارضاً مميتاً مع حرية الشعب القرطاجي المتحدرة من نظامه المشاعي البدائي القديم والعريق. ومن اجل القضاء على حرية الشعب القرطاجي والتمكن من استعباده، تعرض هذا الشعب، خصوصاً قواته المسلحة بقيادة عائلة برقة التي كانت تحارب الرومانيين، تعرّض للخيانة مراراً وتكراراً على أيدي حكامه الى درجة أن "البطل القومي" هنيبعل ذاته اضطر للهرب من قرطاجة واللجوء الى الشرق لأنه ادرك ان هناك مؤامرة لتسليمه الى الرومان. وهذا ما يدفعنا لدعوة جميع المؤرخين العرب المخلصين لتشريح وتحليل تاريخنا تحليلاً صحيحاً، وتعرية وفضح واقتلاع جذور حزب "الخيانة الوطنية والقومية" الذي يعشش ويفرخ في ثنايا مجتمعاتنا منذ ايام الحروب البونيقية.
2 ـ كانت روما تخوض الحرب بوصفها حرباً "وطنية" تشارك فيها جميع الطبقات وجميع "المواطنين" و"الرعايا" (السكان غير الحاصلين على الجنسية الرومانية بعد). في حين ان الجيش الوطني القرطاجي كان اشبه شيء بجيش "خاص" تقوده عائلة برقة. ولم يكن هذا الجيش يحظى بدعم الطبقة الحاكمة في قرطاجة، لا بإرسال النجدات ولا بإرسال الأموال من اجل دفع اجور الجنود المرتزقة من الامازيغ وغيرهم. مما كان يجعل الجيش القرطاجي دائماً ضعيفاً ومتخلخلاً ومعرضاً للانهيار حتى حينما يحقق الانتصارات.
3 ـ ان روما كانت تحارب لأجل الربح والاغتناء، اي لأجل السلب والنهب واستعباد اسرى المغلوبين والشعوب المغلوبة. اما قرطاجة فقد انقلب عامل الربح والثروة وبالاً عليها. فإن الطبقة التجارية المتنفذة، التي حققت نجاحاتها الاولى والاساسية بفضل التقدم الحضاري لشعب قرطاجة وبفضل المنتوجات المميزة للمنتجين الاحرار القرطاجيين، حصلت على ارباح هائلة من التجارة الكوسموبوليتية العالمية وبنت اسطولاً تجارياً كبيراً لأجل تأمين مصالحها الفئوية، ولم يعد لها مصلحة مباشرة في بناء اسطول حربي قوي لمواجهة روما، كما لم يعد لها مصلحة في معاداة روما القوية، فأخذت تمالئها على حساب المصلحة القومية لقرطاجة وتتآمر على الجيش القرطاجي ذاته وخاصة على قيادته وتمنع عنه المساعدات. وحينما كان الجيش القرطاجي بقيادة البرقيين موجوداً في ايبيريا وغاليا وايطاليا، وكان هنيبعل يحوم حول روما لفك تحالفاتها والضغط عليها ودفعها الى الاستسلام وتوقيع صلح مشرف، كانت روما لا تكتفي بالدفاع فقط، بل كانت ترسل مختلف القوات البحرية والبرية للقتال في ايبيريا وصقلية والى الشاطئ الافريقي لمهاجمة قرطاجة ذاتها. اما الطبقة التجارية المتنفذة والحاكمة في قرطاجة فلم تجد من الضرورة أن ترسل اي نجدات الى الجيش القرطاجي، ولم تبادر الى تنظيم اي حملات عسكرية اضافية لمهاجمة وإضعاف القوات الرومانية في اي مكان. وحينما أنزل الرومان قوتهم في الشاطئ الافريقي سنة 203 ق.م لم تجد الطبقة الحاكمة القرطاجية ضرورة لإعلان التعبئة العامة والخروج الى خارج المدينة لمهاجمة القوة الرومانية الصغيرة نسبياً، بل طلبت من هنيبعل التخلي عن تطويق روما والرجوع الى الشاطئ الافريقي لمهاجمة الجيش الروماني، أي أنها نفذت تماماً وحرفياً ما كان يريده الرومان. وحتى حينما تقدم الجيش الروماني لمحاصرة قرطاجة وتدميرها سنة 149ق.م، فإن السلطة الطبقية الغنية الخائنة في قرطاجة لم تجد من الضروري وضع كل إمكانياتها في خدمة إعلان تعبئة عامة وتشكيل قوات دفاع وطنية كبيرة والخروج لملاقاة الجيش الروماني خارج اسوار المدينة، بل كان همها العمل على اخفاء وتهريب ثرواتها (التي اكتشفها الرومان ونهبوها لاحقاً) وتركت الجيش الروماني يحاصر المدينة ويفرض عليها الحرمان والجوع والاستنزاف مدة ثلاث سنوات قبل ان يجتاحها ويدمرها تماماً سنة 146ق.م.
4 ـ ان السلطة القرطاجية، التي كانت في يد الارستقراطية (التجار الكوسموبوليتيين الكبار وملاكي العبيد) قد فشلت تاريخياً في تطوير العلاقات الايجابية مع السكان الاصليين (الامازيغ)؛ فقد انتهجت هذه الطبقة خطاً سياسياً واقتصادياً يؤمن لها مصالحها الطبقية المباشرة على حساب المصلحة القومية للدولة؛ حيث ان السكان الاصليين لم يتم اعطاؤهم حقوق المواطنة، بل عوملوا كمحكومين، وكانت تفرض عليهم الضرائب الباهظة واحياناً كان يتم الاستيلاء على نصف المحاصيل، كما كانت تتم مصادرة الأراضي بالقوة لبناء ما يسمى "الفيلات" وقصور الاغنياء عليها؛ وفي الوقت الذي تخلت فيه السلطة القرطاجية عن نظام الخدمة العسكرية للقرطاجيين خوفاً من تقوية الجيش الوطني، فإنها كانت تجبر الشباب الامازيغ على الانخراط كمرتزقة في صفوف الجيش وترسلهم الى المناطق البعيدة للقتال في الجيش القرطاجي. وكل ذلك ادى الى تنامي الاستياء في صفوف السكان الأصليين وحدوث الانتفاضات بشكل دائم.
5ـ كما فشلت السلطة القرطاجية ايضاً في تطوير العلاقات مع الحلفاء اليونانيين والاسبان والفرنسيين والايطاليين، لان الارستقراطية التجارية القرطاجية كانت تتمسك باحتكار التجارة في مناطق نفوذها خاصة، وفي التجارة الدولية عامة، ومن هذا المنطلق كانت تفرض وصاية كاملة على الحلفاء وتمنع تطورهم وتقدمهم، مما جعل هؤلاء الحلفاء يتحينون الفرص للتخلص من سيطرة القرطاجيين، في حال ظهور اي منافس قوي مثل روما.
6 ـ ان الطبقة الارستقراطية القرطاجية ذاتها كانت مفككة، وكانت مصالح بعض فئاتها تقف عائقا امام اي توجه "قومي"، ونشير الى شريحتين ارستقراطيتين:
الاولى ـ شريحة الملاكين الكبار ـ ملاكو العبيد. فهذه الشريحة كانت قد جمعت مبالغ طائلة من التجارة الدولية لقرطاجة. وتوجهت نحو الاستيلاء على الاراضي من السكان الأصليين وإقامة المزارع الضخمة التي تعتمد على عمل العبيد. وكان بعض الأفراد يملك كل منهم عشرات الوف العبيد، الذين كانوا يعملون في الارض في اسوأ الظروف والشروط؛ ومن اجل الاحتفاظ بملكياتهم والسيطرة على عبيدهم كان هؤلاء "الاسياد" يشكلون جيوشاً خاصة واجهزة سلطة خاصة بما يشبه "دولة داخل الدولة"؛ ولم يعد من مصلحة هؤلاء الاهتمام بالقضايا "القومية" العامة، وصار كل همهم توسيع "دولهم" الخاصة، على حساب كل ما عداها.
الثانية ـ لقد امتدت الشبكة التجارية القرطاجية من شمالي افريقيا الى مصر وايطاليا واليونان والبحر الاحمر والبحر الاسود، ونشأت شريحة تجارية عليا ذات طابع دولي "كوسموبوليتي"، لم تعد تعتمد على تصريف المنتوجات "الوطنية"، بل ان قرطاجة نفسها اصبحت "سوقاً" لهذه الشريحة، مثلها مثل اي سوق اخرى؛ ولم تعد مصلحة هذه الطبقة تتطابق مع مصالح المنتجين القرطاجيين الاحرار، بل صارت تشكل عامل مزاحمة لهم واخذت تضيق الخناق عليهم في داخل قرطاجة ذاتها. وطبعاً وجد ذلك تعبيره السياسي والعسكري في الموقف من الحرب مع روما، حيث كانت الطبقة الارستقراطية تخشى تسليح جيش وطني قوي حتى لا يمثل خطراً على سلطتها ومصالحها الفئوية.
7 ـ بلغت التناقضات الداخلية في قرطاجة حداً اصبح معه عمل ما يمكن تسميته "الحزب الوطني" يتم بشكل سري او شبه سري. وفي ذلك يقول العلامة الالماني تيودور مومزين "بالإضافة الى كل الصعوبات الأخرى في الوضع، فإن الوسائل المادية لإنقاذ الوطن كان ينبغي أن يتم جمعها بدون ان يعلم بذلك لا الرومان، ولا الحكومة الخاصة الموالية لروما" (تيودور مومزين، تاريخ روما، الترجمة البلغارية، ص 186).
8 ـ بلغت قرطاجة مستوى عالياً من الغنى وتكدست لديها رساميل ضخمة من التجارة الدولية. ووجد ذلك انعكاسه على تركيبة النظام السياسي ـ الاجتماعي، وفي الاستراتيجية العسكرية لقرطاجة وفي الجيش القرطاجي نفسه. ويمكن ايراد الملاحظات التالية:
أ ـ نشأت في قرطاجة طبقة غنية جداً هي طبقة التجار، الذين تحوّلوا بالدرجة الاولى الى تجار دوليين. ولم يكن من مصلحة هؤلاء الدخول في صراع مع روما.
ب ـ لم يكن التطور التكنولوجي يسمح بتحويل الرساميل التجارية المكدسة الى رساميل انتاجية (بالمعنى الحرفي والصناعي).
ج ـ تراجعت الى الدرجة الثانية اهمية الحرف والصناعات اليدوية في الاقتصاد القرطاجي. وتحول العمال المأجورون والحرفيون الى جمهور كبير فقير، في مقابل الطبقة التجارية الغنية جداً التي تمسك بيدها السلطة، وتستخدم الرشوة على نطاق واسع في عملية انتخاب مجلس الشيوخ والقضاة الحاكمين.
د ـ لم يكن بإمكان الطبقة "الرأسمالية التجارية" الغنية الانتقال على نطاق واسع الى اسلوب العمل العبودي في القطاع الحرفي والصناعي اليدوي، لانه لم يكن بإمكانها تحويل المواطنين القرطاجيين الاحرار الى عبيد، ولا جلب العبيد الاجانب الى داخل قرطاجة والمدن الحليفة لها وتحويلها الى مجتمع عبودي.
هـ ـ استخدم العمل العبودي في قرطاجة في الزراعة، وكان بعض التجار ـ المزارعين الكبار يمتلكون حتى عشرين الف عبد يعملون في الارض. كما استخدم العمل المأجور في الزراعة. وكان الكثير من اليهود يعملون مع الملاك القرطاجيين كمياومين. (تيودور مومزين، تاريخ روما، الطبعة البلغارية، صوفيا، بدون تاريخ، ص 139).
و ـ كانت الطبقة الرأسمالية التجارية الحاكمة تخشى من المعارضة الشعبية، كما تخشى من انقلاب الموظفين الكبار، خصوصاً القادة العسكريين، وقيامهم بالاستيلاء على السلطة. وقد وجد ذلك انعكاسه في العلاقة السيئة بين السلطة في قرطاجة وبين هنيبعل.
ز ـ ضعفت الحوافز الوطنية لدى القرطاجيين بالانضمام الى الجيش. وفي بعض الحالات كانت غالبية قوات الجيش القرطاجي المتواجدة في اسبانيا وصقلية وغيرها من جزر البحر الابيض المتوسط تتشكل من المرتزقة من مختلف القوميات واللغات، وكان الضباط فقط من القرطاجيين.
ح ـ بعد هزيمة صقلية وانسحاب جيش هملقار منها، الذي كان يتشكل من المرتزقة، رفضت سلطة قرطاجة ان تمنحهم حقوقهم (الاجور وبدلات الطعام والخيول التي قدموها للجيش) وتدعهم يعودون الى عائلاتهم، مما ادى الى انتفاضة هؤلاء الجنود والاحتماء بإحدى المدن الامازيغية، وقد تحولت انتفاضة الجنود الى انتفاضة شعبية امازيغية ضد القرطاجيين. كذلك اخذ العبيد يفرون بأعداد كبيرة وينضمون الى الانتفاضة، وبلغ عدد جيش الانتفاضة اكثر من 70 الفا. وكان الناس يتبرعون بسخاء لهذا الجيش.
ط ـ "بعد خفوت الانطباع الاولي عن انتصار كاناي، فإن حزب السلام القرطاجي، المستعد في اي وقت لان يشتري الانتصار على عدوه السياسي مقابل هزيمة الوطن، رفض طلبات القائد العسكري (اي هنيبعل) لإرسال دعم اكثر حيوية؛ وأعطاه جواباً نصف ساذج نصف سافل، انه "طالما هو ينتصر على الاعداء، فليس له حاجة الى المساعدة؛ واذا لم يكن ينتصر عليهم فلا يستحق المساعدة"؛ وبذلك فإن هذا الحزب ساعد على إنقاذ روما اكثر من مجلس الشيوخ الروماني ذاته" (مومزين، ص 224).
ي ـ منذ ان تسلم هنيبعل القيادة في 220ق.م بدأ يستعد للحرب ضد روما، ولكنه لم يحصل على دعم السلطة القرطاجية، وحينما خاض اولى معاركه الكبيرة في 219ق.م، بدأ "الوجهاء" يعربون عن استيائهم من الهجوم الذي وقع "بدون أمر"، بل وبدأ الحديث عن إمكانية تسليم القائد الجريء للرومانيين. فهل كانت الحكومة القرطاجية تخشى من الجيش والجمهور في قرطاجة، اكثر من خشيتها من الرومان". (مومزين، ص 194).
ك ـ يتحدث مومزين عن الصعوبات التي كان يواجهها هملقار في تأسيس وتجهيز الجيش وتأمين الرواتب له، مقابل معارضة حكومة قرطاجة، ويقول إن "الدوائر الحاكمة في قرطاجة كان لها علاقات (مع روما) تصل الى حد الخيانة الوطنية. والى جانب جميع الصعوبات (التي كان يواجهها هملقار) ينبغي ان تضاف ايضا صعوبة تجميع الاموال لانقاذ الوطن بدون علم الرومان، خصوصاً بدون علم الحكومة (القرطاجية) الموالية للرومان". (مومزين، ص 186).
اذا أجرينا مقارنة سريعة بين المعركة التاريخية المصيرية لقرطاجة والمواجهة المصيرية الراهنة مع اسرائيل، ومطالبة معسكر الخيانة المسمى "تيار 14 آذار" بنزع سلاح المقاومة بقيادة حزب الله، الا يحق لنا التساؤل: ما أشبه اليوم بالبارحةّ!
وهذا ما يدفعنا الى القول إن دراسة تاريخنا بشكل اجتماعي وقومي صحيح هو الطريق الإلزامي لدراسة وفهم واقعنا الراهن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· كاتب لبناني مستقل