في بوانس أيرس عام 1943، يظهر لسعاده كتاب بعنوان : الصراع الفكري في الأدب السوري، فيه يعود الى بحث قضية الأدب عموماً، ومسألة التجديد الأدبي خصوصاً، بحثاً فلسفياً دقيقاً. وقد كانت مناسبة هذا البحث، كما يقول في المقدمة، ما لاحظه من احتكاك وتصادم فكريين في النظر الى الشعر وأغراضه، عند أثنين من كبار أدباء ذلك الزمان، بمناسبة تعليقهم على ديوان: الاحلام، للشاعر شفيق المعلوف". وقد نشرت اراء هذين الاديبينن الواردة في رسالتيهما الى الشاعر، مع تعليق للشاعر في مجلة: العصبة: التي كانت تصدر في سان باولو، وذلك في عدد شباط 1935.
وكان أهم ما ورد في رأي الريحاني، وصفه للشاعر الحقيقي، بأنه "مرآة الجماعات، ومصباح في الظلمات، وعون في الملمات وسيف في النكبات. الشاعر الحقيقي يشيد للأمم قصوراً في الحب، والحكمة، والجمال، والامل".
أما عم الشاعر السيد يوسف نعمان معلوف فقد حرص في الدرجة الاولى، على تعليم ابن اخيه، وارشاده في مثل قوله : " اعتن في مؤلفاتك المقبلة، ان تكون مبتكرا فيما تنزع اليه سواء أكان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلدا لا مقلداًن في سائر أعمالكن لأن على هذه القاعدة الأساسية، تتوقف شهرة المرء في الحياة، وقبل كل شيء، أترك الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة".
في تعليقه على رسالة عمه، يقول الشاعر شفيق المعلوف، محدداً الشعر، ما يلي: "فهو في عرفي ذلك الشعور النابض يصور للناس نفوس الناس، ولا تتعدى فائدته في أحايين كثيرة منفعة يصيبها المرء، لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت ام مشجية. ثم يضيف قائلً: " وقد أكون على خطأ، من الوجه العملي النافع، ولكنني على حق، من وجهة الفن الخالد". ويختم كلامه بقوله: " وأنا من هواة الشعر الخالد، الذي لا يرتبط بالأزمنة".
لنتحول الآن، الى شرح نظرية سعاده نفسه، في الأدب وفي التجديد الأدبي. يعرف سعاده الأدب، قبل كل شيء فيقول : "ان الادب، نثره ونظمه، هو صناعة يقصد منها إبراز الفكر والشعور، بأكثر ما يكون من الدقة، وأسمى ما يكون من الجمال. يفهم من ذلك ان الأدب، لا يمكنه ان يحدث تجديدا من تلقاء نفسه. ومعناه ان التجديد الأدبي، ليس قضية أدبية بحت. ومعنى ذلك، ان التجديد في الأدب، يتبع التجديد في الفكر والشعور، كما تتبع النتيجة علتها. ولكن التجديد في الفكر والشعور، غير ممكن دون حصول نظرة جديدة الى الحياة. أو كما يحب سعاده أن يقول : "الأدب هو حصول ثورة روحية مادية، اجتماعية سياسية، تغير حياة شعب بأسره، وأوضاع حياته، وتفتح آفاقاً جديدة للفكر وطرائفه، والشعور ومناحيه. وكما ان التجديد الأدبي، ليس قضية أدبية بحت، فهو ليس قضية مؤرخي الأدب، فالأحداث يراها سعاده نتيجة لابتداء تغير النظرة الى الحياة في شعب، أي نتيجة لحصول معتقدات جديدة ومثل عليا، روحية – مادية جديدة وليس سببا في التجديد الأدبي.
وبكلمة أخرى نقول، ان الأدب والسياسة يتجددان بتجدد الانسان، فما دام الانسان قديما في عقليتهن رجعياً في نظرته الى الحياة، ظل الأدب والسياسة رجعيين، وعندما يتكون انسان جديد على مبادىء وتعاليم جديدة، تبدأ في الأدب والسياسة عهود جديدة، على طراز المجتمع الانساني الجديد. على هذا الاساس الفلسفي العميق، لا يعود التجديد الأدبي ، كلاماً في الجديد الأدبي، هو الهفت بعينه، بل يصبح القضية، دعوة الى جميع الادباء ناثريهم وناظميهم الى نبذ عقلية العهود الرجعية الانحطاطية وبناء نفوسهم في مطلب حياة جديدة، ومثل عليا، تتفق مع متطلبات النهوض الحقيقي والتقدم الحقيقي.
ان القاعدة الفلسفية العميقة، التي وضعها سعاده لحصول التجديد في الأدب، لم يبقها مجرد قاعدة نظرية، بل انه أجاب على السؤال الخطير، الذي يحّول هذه القاعدة النظرية الى واقع ملموس، أعنى كيف يمكن تغيير الحياة السورية؟ وكان جوابه ماثلا في انشائه الحزب السوري القومي الاجتماعي، على قاعدة نظرة جديدة للحياة الانسانية، تعتبر الامة مجتمعا واحدا وتعتبر اساس التقدم والارتقاء اساسا ماديا – روحياً.
نحصّل ما تقدم ان التجديد في الادب نثرا وشعرا يكون بتجديد النظرة الى الحياة والتغبير عنها. فادا كانت النظرة اسطورية دنيوية او دينية سماوية فان الادب يتبعها، فنقرأ أدبا اسطوريا او دينيا. وقد يكون طائفيا كما في زماننا. واذا كانت النظرة فردية نقرأ نثرا وشعراً يمجد الأنا ويهجو الأنت كما ظهر في زمان الهجاء والمديح بين جرير والفرزدق. على سبيل المثال، اما اذا كانت النظرة قومية فسرعان ما ينهض الأدب القومي.
وقبل التركيز على أهمية النظرة القومية التجديدة في زماننا، أود ان اتوسع وبمقدار للكلام على أهمية النظرة الى الحياة عند سعاده وفي زماننا عند أشهر فلاسفة العلوم وتاريخها، فاذكر ما يلي :
في شرح سعاده لعاية حزبه (الحزب القومي الاجتماعي) يصف فلسفة الحزب بأنها نظرة الى الحياة كاملة، يقول :
" ان غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي هي قضية شاملة تتناول الحياة القومية من اساسها ومع جميع وجوهها. انها غاية تشمل جميع قضايا المجتمع القومي، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والروحية والمناقبية وأغراض الحياة الكبرى. فهي تحيط بالمثل العليا القومية وبالغرض من الاستقلال وبأنشاء مجتمع قومي صحيح. وينطوي تحت ذلك تأسيس عقلية أخلاقية جديدة ووضع أساس مناقبي جديد وهو ما تستمل عليه مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي الاساسية والاصلاحية، التي تكون قضية ونظرة الى الحياة كاملة، اي فلسفة كاملة.
ويقول موجها كلامه الى فايز صايغ الذي كان عميداً للاذاعة والثقافة، منتقداً إياه لإهمال درس نظرة الحزب الى الحياة الممثلة في عقيدته :
" ان اجتهادكم الشخصي في تعليم النظرة البرديايفية من مراكز الحزب العالية التي وصلتم اليها يدل على أنكم لم تهتموا بدرس العقيدة القومية الاجتماعية ونظرتها ولم تأخذوا بعين الاعتبار ان الحركة نشأت على عقيدة أي فلسفة اجتماعية كاملة موجودة في المبادىء وفي كتابات المعلم وشروحه في كتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته. وان الواجب الطبيعي لهذه الحركة تثبيت عقيدتها وانتصارها ككل حركة في العالم تقويم بتعاليم أساسية."
وفي مؤتمر المدرسين القوميين الاجتماعيين الذي انعقد عام 1948 يعود سعاده ويؤكد على ضرورة تدريس المدرسين أبناء وبنات الجيل الجديد النظرة الجديدة الى الحياة، ويعتبر هذه المهمة الخطوة الاولى التي يجب الا تسبقها خطوة، معتبراً كل ما عدا هذه النظرة الجديدة من سياسة وتنظيم لا نفع منهما اذا كانا منفكين عنها، يقول:
"ان اول خطوة كان يجب على الحركة السورية القومية الاجتماعية القيام بها لتتقدم هي تعليم العقيدة السورية القومية الاجتماعية والغاية الرامية اليها، لانها هي الحقيقة الاساسية التي بها نوجد شعبا وامة ولها نعمل. كل عمل آخر من سياسة وتنظيم لا فائدة منه بدونها ولا يجدي القيام به ان لم يكن متفرعا عنها وعائداً اليها. انها محور الحياة والفكر الاساسي، فكل عمل يجب ان يدور عليها. ولذلك كان الغرض الاساسي من الحركة السورية القومية الاجتماعية جعلها عامة ومنتصرة في الامة السورية وحيثما أمكن تحقيق رسالتها الاجتماعية وفلسفتها المدرحية. ولقد ظن بعض المغرورين ان العمل العقدي الاساسي كالبحث في الامة وقوميتها وحقيقتها وأهدافها، أمر يمكن الاستغناء عنه والاستعاضة عنه بالمساومات السياسية المطوحة بالعقيدة القومية الاجتماعية وغاية هذه الحركة العظيمة فكادت القضية المقدسة تسقط من أساسها وابتدأ الميعان والفوضى يهددان الحركة بالتفكك العام، فلما كان من وراء عودتي من غيبتي عودة الحركة الى العقيدة والغاية فقضي على الميعان والفوضى وعادت الحيوية الى الحركة وعاودتها روح البطولة والمثالية الاولى. فتعلمون الآن بالاختبار في أي مهوى سحيق تسقط الحركات والامم التي تفقد عقادئدها ومقاصدها.
وتتألف النظرة القومية الاجتماعية من مبادىء أساسية ثمانية تمثل صورةالمجتمع المدني الجديد، او صورة الامة الناهضة، كما يحب سعاده ان يقول، وفيما يلي وصف سريف لهذه المبادىء الاساسية الثماينة:
" مبدأ سورية للسوريين والسوريون أمة تامة" وجوهره تسمية ملكية الأمة.
"القضية السورية قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أي قضية أخرى". وجوهره تحديد الاستقلال الحقوقي للأمة.
القضية السورية هي قضية الامة السورية والوطن السوري. وجوهره تحديد نوع قضية الأمة.
"الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع الى ما قبل الزمن التاريخي الجلي". وجوهره تعريف الامة ونشوئها الاجتماعي.
"الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية، ويعبر عنها بلفظ عام: "الهرل السوري الخصيب ونجمته جزيرة قبرص". وجوهر هذا المبدأ تحديد ملكية الامة.
"الأمة السورية مجتمع واحد". وجوهره اعلان وحدة الأمة.
"تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي". وجوهره تحديد الاستقلال الروحي للامة.
"مصلحة سورية فوق كل مصلحة". وجوهره تحديد المقياس المناقبي للعاملين للأمة.
والمصور التالي يوضح ان المبادىء الأساسية كلها تدور حول الأمة، او تتجه اليها، حيث كل مبدأ يتناول ناحية من نواحيها.فتكون الامة هي المبدأ المركزي للمبادىء الأساسية :
1. من حيث تسمية ملكيتها )
2. من حيث استقلالها الحقوقي )
3. من حيث تحديد نوع قضيتها الحقوقية )
4. من حيث تعريفها ) الأمــــــــــــة
5. من حيث تحدبد ملكيتها )
6. من حيث وحدتها )
7. من حيث استقلالها الروحي )
8. من حيث مقياس العمل لها )
وتجدر الملاحظة انه بالفلسفة القومية الاجتماعية يمكن توحيد الشعوب العربية في أقطارها وعندما ينهض كل شعب في كل قطرتنهض مع نهوض الشعوب رابطة العروبة الحقة التي هي رابطة شعوب العالم العربي، ممثلة بدولها، في الجبهة العربية الواحدة.
المصور التالي يوضح بطريقة هندسية اجاه سعاده التوحيدي وخطته لاثباته :
مخطط العروبة الواقعية
الافراد
السوريون
الافراد
المصريون
الافراد
المغربيون
افراد شبه
الجزيرة العربية
واضح من هذا المصور ان وحدة سورية وحياتها ووحدة مصر وحياتها ووحدة شبه الجزيرة العربية وحياتها ووحدة المغرب العربي وحياته، كل هذه الوحدات المجتمعية لا تتناقض مع التوحيد العربي الجبهوي. الوحدة العربية الجبهوية لا تكون ولا تقوم بله لا تتعزز بموت سورية وموت مصر وموت شبه الجزيرة العربية وموت المغرب العربي بل بحياة سورية وحياة مصر وحياة شبه الجزيرة العربية وحياة المغرب العربي. فهل يفقه الواغلون على العلوم.
بكلمة أخرى، هناك مسؤؤليتان: مسؤولية الفرد تجاه أمته ومسؤولية أمته تجاه عالمهما. وقد عبّر سعاده عن ذلك بقوله: " أريد أن أفعل واجبي تجاه أمتي اولا لتستطيع أمتي ان تفعل واجبها نحو عالمنا العربي". وقد جاءت أحداث التاريخ، بخاصة ما سمي "بالصراع العربي – الاسرائيلي" لتؤيد ما ذهب اليه سعاده عندما نظر الفلسطينيون حولهم وبعدهم اللبنانيون والآن العراقيون ولم يجدو أمتهم العربية الواحدة التي رأها مؤسس حزب البعث في النظرة القديمة عندما قال في كتابه، في سبيل البعث : "العروبة جسم روحه الاسلام".!
ان فكرة النظرة الى الحياة والكون التي كان لسعاده الفضل في توظيفها، دون سواه في العالم العربي، على الاقل، دخلت ميدان العلم وفلسفته وتاريخه وكان دخولها قوياً ومثيراً، حقاً. فهاذا طوماس كون Thomas Kuhn يعتمدها لشرح فلسفته العلمية التي احدثت ضجة ما بعدها ضجة في عالم الفكر الفلسفي المعاصر، فبها يرى تاريخ العلوم تاريخ ثورات، ولكل ثورة منها نظرة جديدة الى العالم (الطبيعة) لا يمكن مقارنتها بالنظرات القديمة. فالتجديد العلمي يكون بنظرةجديدة تتجسد في نموذج يعنمده العلماء في ممارساتهم.
في كتابه : بنية الثورات العلمية The Structure of Scientific Revolutions ينتقد ويرفض طوماس كون النظرة الاحادية للعلم التي يسميها النظرةالتراكمية الثابتة التي لا تتبدل. ويرى في تاريخ العلم شبيهاً لتاريخ السياسة وحتى للداروينية Darwinism والتغيير، عنده، يكون بواسطة ما يسميه نماذج paradigms اصلها نظرات الى الطبيعة ( او الكون) مختلفة، بل هي تجسيد لتلك النظرات. والنظرات المتباينة تتصف بعدم امكان مقارنتها.
فيما يلي مقتطفات من ترجمتنا لما قال :
"فنظرية كنظرية حفظ الطاقة لم تتطور تاريخياً، بدون هدم لنموذج وهي النظرية التي تبدو، اليوم بمثابة بنية فوقية منطقية لا علاقة لها بالطبيعة الا عبر نظريات تأسست على نحو مستقل. فبدلاً من ذلك، نشأت تلك النظرية من أزمة كان أحد مكوناتها الجوهرية عدم الاتساق بين ا لديناميكا النيوتونية وبعض النتائج، الذي صيغ حديثا لنظرية السّيال الحراري. ولم يمكن ان تبدو نظرية من طراز ذي مستوى منطقي أعلى غير متعارضة مع سابقاتها، الا بعد ان صارت جزءاً من العلم لبعض الوقت، وانه لمن الصعب رواية كيف يمكن لنظريات جديدة ان تظهر بدون هذه التغييرات الهادمة للمعتقدات المتعلقة بالطبيعة.
تطبيقات سعاده
لنظرته الجديدة الى الحياة
بوحي من هذه النظرة الجديدة الى الحياة، يقول سعاده موجهاً كلامه الى السوريين جميعاً في الهلال الخصيب ما يلي ، ايها السوريون ليس من سوري الا وهو مسلم لرب العالمين. فاتقوا الله واتركوا تأويل الحزبيات الدينية العمياء. فقد جمعنا الاسلام: منا من أسلم لله بالانجيل ومنا من أسلم لله بالقرآن ومنا من أسلم لله بالحكمة".
كما يحّذر من الفتن الطائفية قائلا :" ما دمنا نقتتل على السماء فلن نربح الارض" ويتابع موجهاً وقائلا : " ان قضايا السماء تحلّ في السماء. انها قضايا بين الفرد والله لا بين جماعة وجماعة…".
ويطلب سعاده من أعضاء حزبه ان يكافحوا النزعة الفردية مكافحتهم الاحتلال الأجنبي" عانيا تلك النزعة التي تجعل الفرد ضاربا المصلحة العامة عرض الحائط وتجعله مستهترا بمصير شعبه ووطنه طلبا لثلاثين من الفضةن وما شابه.
ويقول سعاده: " ان علل الامة ليست فقط اجتماعية بمعنى اقتصادي بحت او سياسية محض، بل هنالك قضيتان اساسيتان بدون حلهما تبقى العلل آخذة بعضها بعض هما قضية المجتمع بكامله – قضية وجوده وشخصيته الحقوقية والسياسية – وقضية نفسية المجتمع ومناقبيته".
ويتابع قائلاً: " ان الامم التي تعالج اليوم مشاكل الاجتماع الاقتصادية على انها هي كل مشاكلها، هي امم قد حلت من زمان القضيتين المذكورتين، والامم التي لم تحّلهما قد يقيدها تطبيق بعض الجزئيات ولكنها لا تخرج بواسطته الى حياة جديدة وعهد جديد".
ويتابع، فيقول : " لا تنهض الامة الا بقضية عظمى كاملة، ولا تنتقل من حياة الى حياة الا بحركة خلق تأسيسية، شاملة جميع نواحي الحياة – بحركة شعبية تنشأ من صميم الشعب والامة وتصارع بأمانة كلية لحقيقة الشعب وقضيته".
وفي موضع آخر، نعنى في مقال بعنوان : "الامة تريد نهضة لا حلّة". ينتقد سعادهن بل يهاجم "طفرة تأليف الاحزاب وتصور الاصلاح في أشكال وأشكال والحلم بالانقلابات الحكومية، والاهتمام بالانقابلات…" لأنه رأى ان حاجة الأمة هي الى عقيدة ومبادىء تنشىء جيلاً جديداً ونظاماً جديداً وجمالاً جديداً…"
وبعد ذلك، يخاطب الشباب قائلا ومؤكداً "أن لا تغيير لحالة البلاد ومصير الامة الا بالنهضة القومية الاجتماعية التي وضعت أساس بناء نفس – اجتماعي – سياسي جديد ونظرة مدرحية الى الحياة والكون والفن".
ويصف سعاده حالة الشعب في بلاده بكلام واضح لا لبس فيه، يقول: "في سورية فساد الحكم هو من فساد الشعب… في سورية تعلّم الفرد ألأ يهتم لضرر الشعب بل لمنفعته الفردية فقط".
ويتابع شارحاً: " في سورية المناقب تحولّت الى مثالب، والاخلاق إنحطّت، فالفساد في الشعب والشعب الفاسد الروحية يحتاج الى إصلاح". أما اإصلاح، فلا يراه سعاده متحققاً بأن يتقمص حزب فئة رجعية من فئات الشعب الفاسد، طائفية او طبقية او عنصرية، او مخلية، او ما قارن، بل يؤكد ان "الاصلاح الذي لا يمكن ان يكون إلا من الداخل، يجب ان يكون من فرد إنشق على فساد المجموع وتغلّب على أهوائه".
واذا لم يكن الحزب هو منظمة الاصلاح والتجديد والتغيير بنظرته الجديدة الى الحياة، فان سعاده أعلن، وفي أكثر من مناسبة إستعداده لحلّه. هذا ما يقول بهذا الخصوص: "إني أفضل ان تزول الجرية وأن يزول الحزب كله على ان يقوم أحدهما او كلاهما على أساس الفوضى او الامتيازات الشخصية غير المستحقة". ويتابع مباشرة قائلاً : فأنا قد جئت لأنشىء شيئاً جديداً لا لأسير حسب النظام او الوضع القديم".
وفي خطابه في مدينة اللاذقية في 29 تشرين الثاني، 1948، يصف سعاده حالة الامة بما يلي : " لقد كانت أمتنا قبل نشوء الحزب القومي الاجتماعي في درك قطعان من البشر تسيّر بالارادات الأجنبية تسييراً فيه كل الغباوة وكل العمى عن المصير المنحط الذي تسير اليه وتنحدر فيه بإذعان غريب".
وفي تعريفه للحزب، نجد أن سعادة يميزه عن غيره من الاحزاب بفضل نظرته الجديدة الى الحياة، يقول : " إننا نهضة قومية إجتماعية أكثر منا حزباً سياسياً، والنظرة القومية الاجتماعية هي التي تملي علينا سياستنا".
المجتمع المدني القومي الاساسي
والدولة القومية الحديثة
كنا ذكرنا، ونحن نشرح المبادىء الاساسية أنها العقيدة او مبادىء النظرة الجديدة الى الحياة التي توحّد رجال الامة ونساءها. والآن نقول، إنه لا معنى لدولة حقيقية وحديثة من غير أساس اجتماعي إسمه المجتمع المدني المؤحّد النظرة الى الحياة.
وفي هذه المناسبة نذكر، وعلى سبيل المثال، حالة لبنان المنقسم. فثد كان من الممكن الاختلاف في أي شيء وحول كل شيء ما عدا النظرة الواحدة الى الحياة، والتي يدعوها صحفيو وإعلاميو وسياسيوهذا الزمان الردىء "الوحدة الوطنية" ويظنون انها تكون بالحوار السياسي المخادع، ولي بالتربية المستديمة في الاسرة وفي المدرسة وفي الشارع وفي القدوات من الرجال والنساء، وفي مؤسسات الدولة. النظرة الى الحياة، وبخاصة اذا كانت جديدة، يجب ان يرضعها الاطفال قبل حليب الامهات او معه.
نتقدم الآن الى الكلام على مفهوم سعاده للدولة وإصلاحها وتجديدها. يقول سعاده، إن الدولةالحديثة قامت على مبدأين هما : مبدأ القومية ومبدأ الديمقراطية، وأكد ان المبدأين متجانسات فلا قومية حقيقية بدون ديمقراطية ولا ديمقراطية حقيقية بدون قومية. الدولة الحديثة إذن هي الدولة القومية الديمقراطية التي جوهرها: الشعب لم يوحد للدولة بل الدولة للشعب.
واضح مما تقدم ان اساس الدولة الحديثة يتناقض تناقضاً قوياً مع الاساس الذي قامت عليه الدول السابقة كلها والذي كان القوة الاستبدادية وليس الارادة الشعبية الحرة. والانقلاب العظيم حصل بفضل ظهور الوجدان القومي. يقول سعادة:" تحت هذاالعامل الجديد، عامل القومية الطاهر في تولد روح الجماعة والرأي العام، تغير معنى الدولة من القوة الحاكمة المستبدة الى سيادة المتّحد وحكمه نفسه" ثم يضيف فيقول : ان الوسيلة كانت التمثيل السياسي أي الانتخابات الشعبية في الدولة الحديثة بلغت القوانين الحقوقية أوسع دوائرها وصار الحكم فيها للمبادىء الشعبية الحقوقية.
نظرة سعاده للدولة نقع عليها في المبادىء الاصلاحية الخمسة التي وضعها والتي ترسم صورة للدولة التي على أعضاء الحزب تأسيسها، وهي ذات خمس خصائص، هي:
أ. الدينوية، أي ان تكون الدولة مختصة بشؤون هذه الدنيا او هذا العالم وقائمة على مبدأ الامة. لذلك نص المبدأ على "فصل الدين عن الدولة " بعد ان انتهى دور الدولة الدينية في عصر الامم والقوميات.
ب. العلمية او الاختصاصية فلا يجوز لغير الاختصاصيين مثل رجال الدين ان يتدخلوا في شؤون الدولة من أي وجه بخاصة الشؤون السياسية والقضائية.
ج. المساواتية التي تقضي بأن يكون نظام الدولة خالياً من الامتيازات لأية جهة او فئة أو جماعة أي ان يكون نظام المساواة في الحقوق والواجبات هو في أساس نظام الدولة.
د. العدالة الاجتماعية – الاقتصادية، أي ان يكون النظام الاقتصادي للدولة نظاما اساسه الانتاج، والانتاج للمنتجين غلالاً وصناعة وفكراً.
ه. الأمن والسلام يثّبت أركانهما ويوفرهما الجيش القومي الدفاعي القوي ذو القيمة الفعلية في تقرير مصير الامة والوطن.
تلك باختصار شديد صورة الدولة القومية الاجتماعية كما رسمها سعاده.
نخلص مما تقدمن كله، الى النتيجة الآتية وهي أنه : لا إصلاح ولا تجديد ولا تغيير في حالة أمتنا من غير تطبيق نظرة جديدة الى الحياة والكون والفن. وهذه النظرة، لتكون بمستوى العصر، ( مثل سياراتنا عوضا عن الدواب وهواتفنا بدلا من الصراخ ومنازلنا الحجرية بدلا من خيم الماضي) يجب ان تكون قومية. ولما كانت المدارس القومية العنصرية والسياسية والدينية وما قارنها قد أخفقت أيما إخفاق في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، والبلاد العربية حيث نودي بالامة الاسلامية ودولة الحلفاء، فان النظرة القومية الاجتماعية التي تعتبر الأمة مجتمعاً واحداً، هي النظرة الجديدة القادرة على تجديد حياتنا وإصلاح دولتنا، وإنهاضنا من قبر التاريخ الى المكان اللائق بنا، كأمة، تحت الشمس.
ملحق
ننقل فيما يلي مقطعا من الفصل التاسع من كتاب الفيلسوف توماس كون Thomas Kuhn الذي راى ان فلسفة العلوم وتاريخها عبارة عن نظرات الى الطبيعة مختلفة اختلافا جذرياً كاملاً. وكل نظرة تحققت بثورة قضت على كل ما سبقها من فكر ومؤسسات وتقاليد علمية تماماً مثل الثورات السياسية.
طبيعة الثورات العلمية وضرورتها
تسمح لنا تلك الملاحظات أخيرا بأن ننظر في المشكلات التي وفرت لهذه المحاولة عنوانها. فما هي الثورات العلمية، وما هي وظيفتها في التطور العلمي؟ لقد حصل توقع لمعظم الجواب عن هذه الاسئلة في الفصول السابقة. وبصورة خاصة، دلت المناقشة السابقة على ان الثورات العلمية اعتبرت هنا بأنها تؤلف سلسلة الأحداث التطويرية اللاتراكمية التي يحل فيها، كليا او جزئياً، براديغم (نموذج) جديد محل براديغم أقدم منها، ولا يكون متسقاً معه. غير ان هناك الكثير مما يجب ان يقال، وجزء منه يمكن تقديمه عن طريق طرح سؤال إضافي. ما الذي يوجب تسمية تغيير البراديغم ثورة؟ وفي وجه الفروقات الواسعة والجوهرية بين التطور السياسي والتطور العلمية، أي الموازاة تبرر الاستعارة التي تجد ثورات في كليهما؟.
إن احد نواحي الموازة لا بد أن يكون قد صار ظاهراً في ما سبق. فالثورات السياسية بتدأ بتزايد شعور الناس، الذي يكون غالبا محصوراً في قسم من المجتمع السياسي، بأن المؤسسات القائمة توقفت عن الحل الكافي لمشكلات بيئية كانت قد أوجدتها جزئياً. وبطريقة مماثلة تكون الثورات العلمية التي تبدأ بنشوء شعور متزايد، بكون وهو غالباً ما يكون مقتصرا على فئة ضيقة من المتحد العلمي، بأن مؤسسات قائمة توقفت عن العمل بما في الكفاية في الكشف عن ناحية من نواحي الطبيعة سبق لذلك البراديغم ذاته ان أدى اليها. وفي كلا التطور السياسي والعمي كان الشعور بتعطل العمي المؤدي الى أزمة شرطاً ضرورياً لظهور ثورة. وزيادة على ذلك، مع التسليم بأن هذا الاستعمال للتشبيه يمطّه الى أقصى حد، فان تلك الموازاة لا تنطبق على تغيرات البراديغم الكبرى وحدها مثل تلك المنسوبة الى كوبرنيكوس ولافونزييه، ولكنها تنطبق ايضا على تغيرات أقل مرتبطة بتمثل نوع جديد من الظواهر، مثل الاوكسجين او الاشعة السينية. ان الثورات العلمية، وكما لاحظنا في نهاية الفصل الخامس، لا تبدو ثورية إلا عند أولئك الذي تأثرت براديغمات، فيمكن ان تبدو وكأنها مراحل عادية في العلمية التطويرية، مثل ثورات البلقان في أوائل القرن العشرين. فقد يقبل الفلكيون، على سبيل المثال، الاشعة السينية كمجرد إضافة الى المعرفة، وذلك لأن براديغماتهم لم تتأثر بوحود الاشعاع الجديد. ولكن بالنسبة الى علماء مثل كلفن، وكروكس، ورونتغن، الذين بحثوا في نظرية الاشعاع او في أنابيب الأشعة المهبطية (الكاثودية) فان ظهور الاشعة السينية قد كان بالضرورة خروجاً عن براديغم، وخلقاً لبراديغم آخر. وذلك هو السبب في أن تلك الاشعة لم تكتشف الا عبر حدوث خطب ما في البحث العادي.
الهوامش
1. انطون سعاده، الآثار الكاملة، الجزء 1 بيروت 1960، ص 9.
2. المرجع السابق، ص 10
3. المرجع السابق، ص 11
4. المرجع السابق ، ص 12
5. من مقال : الشهرة على حساب الحزب السوري القومي ص، 29
6. المرجع السابق، ص 28- 29
7. المرجع السابق ص 29 – 30
8. انطون سعاده. المحاضرات العشر، سلسلة النظام الجديد 2 ، ص 176 – 177
9. انطون سعاده . كتاب : شروح في العقيدة، ص 139، من رسالة سعادة الى عميد الثقافة والاذاعة فايز صايغ في 30 تشرين الثاني 1947.
10.المرجع السابق، محاضرة سعاده في مؤتمر المدرسين في 1948.
11. حيد حاج اسماعيل. سلسلة التعريف بفكر سعاده، 2، القومية الديمقراطية والعولمة عند سعاده، دار فكر للابحاث والنشر، بيروت، أيلول 2004 ص 272-274.
12. طوماس كون. بنية الثورات العلمية، ترجمة د.حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ص 98.
13. انطون سعاده. سلسلة النظام الجديد، 4 مراحل المسألة الفلسطينية ، من رسالة سعاده الى القوميين الاجتماعيين والامة السورية في 2 نوفمبر 1947 ، ص 110.
14. المرجع السابق، ص 112، من مقال : إقتتالنا على السماء أفقدنا الارض".
15. انطون سعاده : الآثار الكاملة، 10 ص 87، من مقال "النزعة الفردية في شعبنا".
16. انطون سعاده . الآثار الكاملة، 16، مقال : " لائحة العقاقير لا تصنع طبيباً"، ص 80. وكان المقال قد نشر في جريدة "الجيل الجديد" العدد 14 في 11 نيسان 1949.
17. المرجع السابق، ص 71-72.
18. انطون سعاده . الآثار الكاملة، 8 ص 4 من مقال "سلطة الزعيم"
19. انطون سعاده. مجلد الرسائل، 2 ص 250 من رسالة الى الرفيق وديع عبد المسيح المؤرخة في 7 كتنون الثاني 1941.
20. انطون سعاده. الآثار الكاملة 15 ص 224 خطاب سعاده في حمص في 29 تشرين الثاني 1948.
21. انطون سعاده . أعداء العرب! أعداء لبنان! ص 16، من تصريح سعادة الى جريدة "النهضة" في 14 تشرين الاول 1937.
22. انطون سعاده. الآثار الكاملة، 2 ، نشوء الامم ص 124.
23 . المرجع السابق ص 130.
24. انطون سعاده. مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي وغايته، بيروت 1972 المبادىء الاصلاحية ص 57-80.
25. توماس س . كون . بنية الثورات العالمية، ترجمة د.حيدر حاج إسماعيل ومراجعة د.محمد دبس، المنظمة العربية للترجمة، بيروت أيلول 2007 الفصل 9 ص 179 – 180.
الإصلاح والتجدد بنظرة جديدة الى الحياة
110
المقالة السابقة