103
تشير لاحقة (فوبيا) إلى الخوف المرضي (الرّهاب)، إذ تبدو إذا ما أُضيفت إلى مفردة ما بأنها تشير إلى الوهم أكثر مما تشير إلى الواقع، على الرغم من أنّ الخوف هو حدث واقعيّ مؤلم بشدة على الصعيد الفردي، وهو موجود بالتأكيد ولأسباب يمكن تعيينها واقعياً عبر المصارحة كعلاج ضروري يؤدي إلى معرفة الأسباب وإزالتها، ولا يمكن تصنيف مجموع الأفراد المصابين بـ (فوبيا) ما على أنهم تيار أو ثقافة اجتماعية عامة مهما كبُر أو صغر التعداد، وإلا لكانت مجتمعات برمتها أصيبت بها وتعطلت عن الأداء. وهنا لا بدّ من الإشارة وتأكيد وجود المرتفعات في فوبيا المرتفعات، أو البرد في حالات فوبيا البرد وفوبيا الأماكن الضيقة إلخ، وهذا ما ينفي وهميّة أسباب الخوف، وهذا الوهم هو ما تحاول تعميمه ثقافات الاستبداد وسلطاتها، بواسطة ممارسة التخويف (العمومي والفردي) والادّعاء بوهميته، لا بل بالتحول إلى موقع الضحية، متّهمةً الخائفين بالإساءة إليه.
هناك الكثير من «الفوبيات» على مساحة العالم تاريخاً ومعاصرة، ولكن ما يهمنا في هذا المقام هو الفوبيات الثقافية التي تؤدي إلى سلوكيات «خوائفية» (إذا صح التعبير) ينتج منها إما التدجين والسكون والركون والهروب، أو المواجهة عبر إجراءات العنف المتوفرة، من هذه الفوبيات الثقافية: فوبيا الإرهاب، وفوبيا الهُوية، وفوبيا اقتناء الأسلحة واستعمالها، وفوبيا الحرية الجنسية، وفوبيا الفقر، وفوبيا الطوائف والمذاهب…إلخ، من هذه الرهابات التي تكمن وراء سلوكيات ثقافية لا تعوزها الحجة والبراهين لإثبات وجودها في الواقع، فالإرهاب موجود وواضح، كذلك الخوف من الزواج المدني أو الحرية الجنسية، وعادة ما تطفو هذه الفوبيات إلى العلن ليس من قِبل المصابين بها، بل من المتسببين الذين يستغربون ردّ فعل الضحايا عبر محاولة تأصيل تصرفهم المتسبّب بالرهاب بواسطة العلوم الاجتماعية والنفسية والدينية، محاولين إظهار أنّ المصابين ليس على باطل فقط، وإنما على خطأ أيضاً.
ـ مع «خلطبيطة» المصطلحات المتداوَلة في اللغات العربية، يصعب (وربما يستحيل) الحصول تسميات تعني ذاتها من جهة، أو تعني شيئاً محدّداً من جهة أخرى، خصوصاً مع دخول العالم إلى مساحات الدقة الاختصاصية لغوياً، إذ يتوه الناطقون بالعربية بين مفردات مختلفة تتداخل وتتناقض إشارياً بشكل فاضح، ولا تقود إلى معنى محدّداً يُعوّل عليه. وهكذا تمّ ضمّ «الإسلاموفوبيا» إلى قاموس التداول الثقافي من دون تحديد معنىً دقيق أو مجال محدّد لاستخدامه، فقد يؤدي حصول مواطن إنكليزي مسلم على غرامة مخالفة مرور إلى اتهام الشرطي بالإسلاموفوبيا، تماماً كما تمّ اتهام أهالي ضحايا مترو لندن أو باريس بالتهمة ذاتها، وهذا ما يشير إلى أن مصطلح «الإسلاموفوبيا» قد وضع من قِبل متسببيها الذين هم أنفسهم مصابون بها حتماً، كتهمة تؤكد ضرورة الإرهاب واستحقاقه، كضرورة نضالية استباقية، توحي بأن المصابين «بالإسلاموفوبيا» مستمرون بدعاويهم الاعتدائية وليس من طريقة لردعهم إلا بالإرهاب.
ـ درسياً يمكن تصنيف إصابات «الإسلاموفوبيا» جغرافياً إلى نوعين:
الأول: في بلاد «الغرب»، والذي بدوره ينقسم إلى فرعين هما: سكان البلاد الأصليون ومن لفّ لفهم من «أتباع ديانتهم» من مهاجرين ولاجئين، وما يتبع ذلك من مواقف شبه موحّدة تجاه الإرهاب. والثاني: سكان بلاد الغرب من مواطنين ومهاجرين ولاجئين وطافشين من البلاد العربية والإسلامية، وما يتبع ذلك من مواقف انقسام وحيرة تجاه عمليات الإرهاب وفي الغالب تذهب إلى تبريره. ويمكن تصنيف الفرع الثاني أيضاً في نوعين من المصابين «بالإسلاموفوبيا»، أولهما: هو المصاب بتأييد الإرهاب تحت شعار المقتضيات الدينية (التي تفسّر غالباً بمقتضيات وطنيّة، هُوياتية، استعمارية إلخ) وهي فوبيا مظلوماتية وذات حساسية عالية تجاه كلّ ما هو «غربي»، أو كلّ ما هو غير إسلامي (مع الانتباه إلى عدم دقة المصطلح «إسلامي»). ثانيهما: المتضررون من الإرهاب الديني، الذي تمثّل طويلاً ولعقود كصراع دمويّ بين الأديان أو الطوائف أو المذاهب أو حتى الطرق الدينية في طول المنطقة الإسلامية وعرضها، ومن المعيب أن نذكر أمثلة، فهي متوفرة إلى حدّ التخمة، ولكن لا بدّ من ذكر الجزائر أواخر القرن الماضي كمثال، إذ لا فارق دينياً أو مذهبياً بين القاتل والقتيل في هاتيك البلاد.
ـ ربما كانت هناك أسباب لانتقاء واستعمال هذا التصنيف الجغرافي مع أننا نناقش هنا ظاهرة ثقافية، ولكن «الغرب» كوجهة جغرافية تفترض ذلك، فالغرب (مع التحفّظ على المصطلح نظراً إلى دوغمائيته) هو المستقبِل الأكبر لأنواع الهجرة كافة من العالم الإسلامي، وهو المكان الذي يعني الاستعمار تارة، والمسيحيين تارة أخرى، والذي يعني الحرية تارة ثالثة وطبعاً الكرامة الإنسانية من طرف موارب… إلخ، إذ تختلط في هذا «الغرب» الصور السالبة والموجبة معاً، لتختلط معها أسباب الهجوم الإرهابي عليه، فهو مذنب كونه «غرباً»، وليس من الصعب إثبات هذه التهمة، نظراً إلى تنوع المعاني التي يحملها مصطلح «غرب» في القاموس الديني/اللغوي، فهو يستحقّ العقاب إرهاباً لأنه استعماريّ ونهّاب ويدعم إسرائيل، ويستحق عقاباً مماثلاً لأن الحرية فيه منقوصةٌ أو غير مرشّدة ولا تسمح بتعدّد الزوجات أو الحجاب، كما وعلى المستوى نفسه يمكن اتّهامه بالحداثة أو العلمانية أو حتى الديموقراطية، فإذا تابعنا هذا المعيار التجريميّ فإنه لا يمكننا الوصول إلّا إلى حلّ هو إبادة هذا الغرب فيزيائياً أو ثقافياً (التوبة) كي يتناسب مع التفسيرات الممكنة كافة لمصطلح «الغرب». هذا في الغرب، ولكن في الحصّة المقابلة أي في فسطاط «اللاغرب» تبدو التّهمة الممطّطة على كلّ المعاني المجازية للمصطلح، تطال سكان العالم الإسلامي نفسه، فتهمة تقليد «الغرب» مهما كان ضئيلاً يستحق إرهاباً على الأقل، كما يستحق تأييداً ودعماً لهذا الإرهاب ـ (وهذا ما ينتج إسلاموفوبيا أيضاً) ـ وفق تفسير آخر مستجِد لهذا «الغرب» الذي يعني في المحصلة النظرية لجميع التفسيرات أنه مكان الشرّ جغرافياً ومعنوياً، إنه فسطاط الشر ودار الحرب.
ـ لم تتجاوز جلّ التعريفات والتفسيرات حول «الإسلاموفوبيا» السطح أو القشرة الخارجية لهذا الاختراع، إذ تمّ التسرّع (من ضمن فوضى المصطلحات حمّالة الأوجه) في إطلاق صفة ظاهرة عليها، وهي الخوف من الإسلام تارة والخوف من المسلمين تارة أخرى، في تجاهل واضح لمسبّباتها وإذا كانت فعلاً موجودة لديهم، ولا يعرف المرء حين ترداد هذا المصطلح (إسلاموفوبيا)، هل هي تعبير عن الفرح والنشوة (الاحتفالات التي حصلت إبان11 سبتمبر، وهجمات المترو في العواصم الأوروبية) لدى كل نجاح لغزو؟ أم أنّه تعبير عن الاضطهاد والمظلومية من هذا الاتهام؟ إذ يُزاح الإرهاب من الواجهة كمتسبّب بفقدان الثقة بين البشر بشأن الائتمان على الحياة، وهذا الفقدان هو نذالة ثقافية وبشرية تسابق الاستعمار النّهاب على استحوذها. إن إزاحة الإرهاب من واجهة إمكانية التسبّب بما يمكن تسميته «إسلاموفوبيا»، يجعل منها ظاهرة مرضية خاصّة «بالغرب»، وهي ظاهرة طبيعية لهذا «الغرب» المحشو بالشرّ، لتتحول الظاهرة إلى عقدة ذنب لديه (حسب تشخيص هؤلاء) يداريها باتهام الإرهاب الديني بالتسبب بها، هذا الإرهاب الذي لم تجرؤ مؤسسة دينية واحدة في العالم الإسلامي مهما كبرت على إدانته، أو الوقوف في وجهه، أو إعلان خطأه الثقافي، ولم يجتمع تجمّع سكانيّ واحد في العالم الإسلامي لرفضه أو مقاومته ثقافياً أو حتى الردّ عليه معرفياً، ولطالما كانت الغلبة ثقافياً ومعرفياً لمبررات الإرهاب، لا بل ذهب الكثير من التجمعات الثقافية إلى تأييده علانية في الميديا، بحيث لا يترك للاستعمار النهاب والقاتل ليحتلّ واجهة الظلم العالمي، إلّا فرصة الرد منتقلاً من الطمع والجشع بثروات الشعوب ومقدراتها، وصولاً إلى قتلها، كلغة استطاع الإرهاب (المغيب) فرضها كبديل من النضال من أجل التحرّر والإنتاج وتقرير المصير. لذلك تبدو «الإسلاموفوبيا» ذريعة استعمارية، أكثر منها تقريراً طبياً عن سلامة الغربيين الاجتماعية والنفسية. واتهام «الغرب» بها هو مفارقة ثقافية مضحكة مبكية، لأنها تقود وبسرعة إلى تغيير مفهوم النضال ضد الاستعمار، بل إلى عكسه، بما يعني الاستعانة بالاستعمار لتهدئة مخاوف العالم الإسلامي من «الإسلام»، ولربما كانت العلاقة السعودية ـ الإيرانية تمثّل هذه التهدئة!
ربما كان هذا التشخيص أو التقرير الطبي، يشكك بصحة «الغرب» النفسية وثقافته المجتمعية الحقوقية! مما يؤثر بشدة في إمكانياته لاستقبال الطافشين من العالم الإسلامي تحديداً! والإساءة إلى حقوقهم الإنسانية نظراً إلى عدم تمكنه من ممارسة الديموقراطية التي يدّعيها بشكل مرض من جهة، وعدم مقدرته على استيعاب الخصوصيات الثقافية القادمة إليه كخبرات روحية لا يأتيها الباطل من أيّ حدب، وهي مستحقات حقوقية للإنسان المهاجر، في إشارة صريحة إلى أنه، أيّ «الغرب»، صار بحاجة ماسّة إلى تغيير ثقافته الاجتماعية، طوعاً أو عنوة، كي يتمكن من استقبال هذا الكمّ من اللاجئين من ذوي الاحتياجات الثقافية الخاصة.
ـ على الضفة الأخرى، أي في البلاد العربية والإسلامية، تتجلى «الإسلاموفوبيا» بمظاهر ومفاعيل كارثية، فإذا نحّينا جانباً ممارسات التأييد والاحتفال بالإرهاب بمناسبة عملياته الدموية، فسوف نواجه حتماً الطائفية والمذهبية ومفاعيلها على الأرض وفي الواقع، ما يؤدي إلى تلك الإسلاموفوبيا النقيّة، الناتجة من إرهاب صاف، مباشر وعملي ولا يحتاج لا إلى تخطيط ولا إلى استراتيجيا، فقط اقتل جارك (مواطنك في بعض الأدبيات المقلِّدة للغرب)، هكذا بكل بساطة، وستجد في دعم هذا «الرأي» كل سدنة الهياكل والمعابد وعلى كل أنواع الميديا الحكومية والخاصة مع قضية وطنية أو من دونها، فمن لا تقتله الآن يكون قد قتلك سابقاً أو سيقتلك لاحقاً لا فرق، وهنا من المعيب الرجوع إلى الإحصاءات والوثائق والدراسات كما يحصل الآن مع مذبحة الأرمن والسريان في كيليكيا أوائل القرن الماضي، فالأخبار طازجة تماماً وأخبار المقاتل الطائفية والمذهبية وحتى العرقية واضحة كبدهية، فلم يأت الهندوس ليقتلوا اليزيديين مثلاً أو الآشوريين أو الصابئة، ولم يأت البوذيون ليقتلوا الشيعة، ولا الكونفوش ليقتلوا السنة، إنها «الإسلاموفوبيا» المرض المحليّ الأكثر انتشاراً وعمقاً في البنية الذهنية لثقافة هذه البلدان، على الرغم من اختلافها البسيط عن الإسلاموفوبيا في «الغرب»، فالإرهاب هناك ينتج إسلاموفوبيا، ولكن الإسلاموفوبيا في هذه البلدان تنتج الإرهاب وتمارسه وتعيد إنتاجه، ومن هنا لا يبدو «الغرب» على حقّ بشعوره بعوارض الإسلاموفوبيا! فالعالم الإسلامي مصاب بها و«الغرب» ليس أحسن من أحد، وليس من الحقّ أن لا يلتمس منطقاً أو عُذراً للقتل والإرهاب، وذلك خضوعاً للمساواة الإنسانية حسب شرعة حقوق الإنسان الذي يدّعي تبنيها هو.
ـ هل يفكّر «الغرب» السكاني والاجتماعيّ دينياً؟
الوقائع والإحصاءات تقول لا، فنسبة تقارب 70% من سكان «الغرب» الحداثي غير مهتمين دينياً، ونسبة كبيرة من هذه 70% غير مؤمنة، وغير مهتمة بوجود إله أو خالق، أما الباقون فلا يفكرون بالدين كما تفكر فيه سكانيات العالم الإسلامي. ومن طرف آخر هناك «الغرب» غير الحداثي حسب التعريفات المتقلّبة لمصطلح «الغرب»، يضم بلداناً يغلب عليها التّدين ولكنها لا تعاني من عنصريات عرقية أو دينية لحد الآن (أميركا اللاتينية مثالاً)، على الرغم من تنوّع الأديان والمذاهب بين ظهرانيها ولأجيال، بمعنى أنها لا تعاني من الإسلاموفوبيا على الرغم من تديّنها بعد، أي حتى حدوث الإرهاب لكي ترشق بهذه التهمة، في كل الأحوال، ومن أية وجهة نظر كانت. هناك في «الغرب» الحداثيّ والأقل حداثة، هناك المجتمع/ الأمة التي لا تخاف ولا ترتهب من حضور العقائد الأخرى، ولا ترتهب حتى الإرهابَ نفسه، فالبنية المجتمعية القائمة عليها هاتيك البلدان هي بنية اندماجية إنسانية، تعتمد الإنتاج والمصالح، وليس الخصوصيات الماورائية على الرغم من احترامها لها، وعليه كان يمكن «للغرب» المتّهم بالإسلاموفوبيا منع إقامة أيّ مسجد أو معبد هندوسيّ أو بوذيّ سابقاً، كونه مصاباً بهذا الرهاب كعلّة فيه وبسبب كونه «غرباً» (بينما يمكن اتهام مصر مثلاً على الرغم من أن المسيحيين والشيعة والبهائيين مصريون أيضاً)، وكإظهار لنتيجة الإرهاب الضرورية حتى ولو كان هذا الإرهاب مغيّباً، أو غير معترف به، هو حادث طبيعي كالزلازل مثلاً.
ـولكن ومع أفواج الهجرة والطفشان نحو «الغرب» (ليس تجاه أفغانستان أو السعودية أو حتى إيران) التي تتالت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتتوجت كمياً في السنوات الأخيرة بـ«طفشانات» كثيفة، ظهر أن لا إسلاموفوبيا في هذا «الغرب» الذي استقبل الملايين واحتواهم، وحتى الحراكات اليمينية التي ظهرت هي ليست حراكات دينية ـ(علينا أن نذكر أن الكثير من العرب وخصوصاً المغاربة هم في عداد اليمين الفرنسي)ـ بل حراكات مجتمعية يمكن وجودها مع الإرهاب الإسلاموي أو من دونه، إذ لا يمكن احتواء الخصوصيات الوافدة منطقياً من دون مراعاة الخصوصيات الأصليّة للمجتمعات «الغربية»، ومع هذا يمكننا ببداهة ووضوح وبالمعيار الكميّ اعتبار المجتمعات الغربية عديمة الإسلاموفوبيا، انطلافاً من استقبال هذا الكمّ الهائل من الطافشين إليها، من دون إغفال المساعدات الهائلة التي تقدمها للمنكوبين بغضّ النظر عن اختلاف الأديان والبلدان، وهذا لأنها مجتمعات/أمم حداثية قادرة على سحقه، أي الإرهاب، متى تجاوز قوانينها المرعية، لقد قضى زعماء التأليب الإرهابي عشرات السنوات في المدن الأوروبية وهم يعملون ضد مجتمعهم الجديد الذي لجأوا إليه، ويدعمون ويسهّلون إرهابه، ولم يتعرض أحد منهم لاغتيال أو اعتقال تعسفيّ أو اختفاء قسريّ! وهنا يبدو جليّاً نقل الإسلاموفوبيا معهم ومن ثم رمي «الغرب» بها قياساً إلى المعايير المحليّة لحقوق الحياة والكرامة الإنسانية، وحتى هذه الساعة يستقبل هذا «الغرب» الطافشين ويقبل باللاجئين مع علمه الأكيد بوجود كمية معتبرة من الإرهابيين ومن سوف يتحولون إلى إرهابيين بمعونة جهابذة التكفير من المتفيهقين الذين يدّعون حداثة أصغر كثيراً من جهالتهم. وهنا يبدو أن رميَ «الغرب» بتهمة إصابته بالإسلاموفوبيا، يعبّر شاؤوا أم أبوا، عن الثقة العالية بالإرهاب، إذ لا إسلاموفوبيا بلا إرهاب، حيث تتحول بدورها إلى معيار يقيس فعالية الإرهاب وجدواه. ولكن ما ينطبق على بلدان العالم الإسلامي لا ينطبق بتاتاً على «الغرب» فالبنية المجتمعية المولِّدة للدولة مختلفة باختلاف الدول المنبثقة عنها، وهنا يظهر فعل الإسلاموفوبيا وتأثيرها في سيرورة وصيرورة «الدول» في الفسطاطين، فهي على المحك سابقاً والآن، فالمصاب بالإسلاموفوبيا هو من سوف يتفكّك وينهزم عبر تناذر فعلها كمرض واستفحاله، وهنا نجد رخاوة انحلالية في سكانيات العالم الإسلامي، من أفغانستان وحتى الصومال، فالخوف الديني تكاثر لدرجة أن الطوائف لم تعد قادرة على استيعابه، فتحولت إلى مذاهب ومرجعيات متقاتلة (سوريا والعراق مثالين)، ولسوف تتشرذم لاحقاً إلى كينونات أصغر طالما ظلّ هذا الرهاب ماثلاً، فالعالم الإسلامي مصاب بإسلاموفوبيا مستفحلة، إن كان بين السلطات، بحيث يتم تقويض معنى المجتمع المولِّد للدولة بواسطة الاستبداد (صدام سابقاً والسيسي حالياً مثالين)، أو لدى الشعب نفسه (ليبيا وأفغانستان وسوريا والعراق أمثلة) حيث تتكاثر الملل والنحل والولاءات المابعد طائفية. أما غير المصاب بالإسلاموفوبيا فيستمرّ في أدائه المجتمعي الارتقائي باحثاً عن لقاح أو علاج لهذه الفوبيا حسب قوانينه، ولا ينتظر استفحالها بما يؤثر في الدساتير والقوانين، فمسؤولية الدولة هي تأمين الأمان للمتعاقدين معها، وليس الاقتتال الاجتماعي الناتج من الشعور بالإسلاموفوبيا كما في الأمثلة السابقة.
ـ في ظلال الإسلاموفوبيا في «الغرب» كيف نفسّر ظهور سياسيين ونواب ووزراء ومحافظين يدينون بالإسلام؟! هذا إذا لم نقل نجوم فن ورياضة ومجتمع؟! بينما يعيش المسلم المهاجر كل سنوات عمره في مصر أو الخليج والسعودية، لا يتحصل بسببها على الجنسية؟! كيف حصل ذلك والغربيون مصابون بهذا الداء المرعب؟ كيف يستطيع المسلمون وغيرهم من الأديان بناء مساجد ومعابد في «الغرب» بينما المصري القبطي لا يستطيع أن يحصل على رخصة ترميم كنيسة؟ وكذلك في السعودية التي تمنع بناء الكنائس، وربما هناك بلدان أخرى تمنع ذلك، وهنا لا نتحدث عن «الدولة» فقط وإنما عن الجمهور «الاجتماعي» الذي يقاوم حدوث مظاهر كهذه (بناء كنائس) تسيء إلى «المشاعر»، أوليسوا مصابين بالإسلاموفوبيا؟ أوليس الشيعة والسنة كمذهبين إسلاميين مصابين بالإسلاموفوبيا من بعضهما ويحتكمان بسببها إلى التقاتل كي ينتصر أحدهما على الآخر في يوتوبيا مستحيلة؟ فمن هو المصاب بالفوبيا «الغرب» أم العالم الإسلامي؟
ـ في المقام الأخير يبدو مصطلح الإسلاموفوبيا، كتعبير عن فقدان المعنى، فقدان المعنى من الوجود الإنساني بصفته رحلة إنتاج وإنجاز في سيرورة الحياة الدنيا، وكذلك فقدان معنى وجود إرادة توليد مجتمع بمعناه التقني، كما أنه فقدان لمعنى وجود الآخر الذي لا يمكن تعريف الأنا إلّا بوجوده، وفقدان المعنى من التشاركية الحضارية التي تجسدت دوماً بالتبادل الإنتاجي غلالاً وصناعةً وفكراً في هذه المعمورة، حيث تسيطر مفاعيل الثأر والانتقام على مفاصل هذه العبارة الرجيمة معرفياً بغية ابتراد القلب، وليس لأيّ شأن إنتاجي أو إنجازي آخر ولا حتى مواجهة الاستعمار بأدوات مناسبة. وهنا يمكننا الانتقال إلى رؤية حال بلدان العالم الإسلامي الكارثية إذا لم نقل الهمجية منذ بداية الثمانينيات حتى أجل غير مسمى، هذه البلدان التي فشلت في إنتاج مجتمع ذي قدرة ذاتية على التماسك في وجه أدنى الاستحقاقات الحياتية (لا بل تسعى إلى تفشيل الحالة المجتمعية في العالم المعاصر)، حتى في مثال تركيا المتقدم عن غيره، حيث بدأت جمهوريتها الحديثة بالقضاء على التنوّع الديني (الأرمن والسريان في كيليكيا)، وانتهت الآن إلى حروب طائفية مذهبية عرقية تقع في أدنى السلم الحضاري للوجود المعاصر. إنها الإسلاموفوبيا العبارة الضائعة في التفاسير المختلطة للمصطلح العربي، إذ تقع بين الخوف من «الإسلام» وبين الخوف عليه، وبين الفرح والشماتة بإنجازات الإرهاب، والشكوى من نتائجه، كما أنها تقع بين رفض الغرب، والحاجة الماسّة إليه، وكل ذلك بواسطة استخدام مناهج تفكير غربية هي مرفوضة ومكفّرة بالمبدأ، يقابل هذا كله حال كارثية على الصعيد الإنساني الاجتماعي (ليس المجتمعي) يضيق المجال هنا بالإتيان بالأمثلة فهي متنوّعة وكثيرة جداً، حيث تشكل الإسلاموفوبيا المفصل الأساسي للنكوص الحضاري عبر عملية انتحارية جماعية مديدة لا غاية واضحة لها، ولا هدف يمكن تحقيقه.
إنه الواقع الذي وصلنا إليه، من بداية الجهاد الأفغاني حتى ملاحم بوكوحرام، مروراً بما شئنا من حراكات وحوادث، إن كانت مرعية من دول تعبيراً عن سياساتها أو منطلقاتها، أم كانت مرعية من أفراد وجماعات نذرت نفسها للجهاد في سبيل إعلاء كلمة «الحق»، الإسلاموفوبيا هي تعبير عن تبنّي الفشل والهزيمة، عبر محاولات الانتقام من النجاح والانتصارات الإنسانية.