128
الأبعاد الصّراعيّة للرّموز والشّيفرات الثّقافيّة في شعر غسّان مطر
قد يكون البحث في مسألة اللّغة الشّعريّة وطبيعتها أمراً بالغ الدّقّة والوعورة، نظراً لكثرة التّشعّبات التي تتفرّع عنها، والتّعقيدات التي قد يصادفها الباحث، إلى جانب الخصوصيّة التي تحكم لغة كلّ شاعرٍ من الشّعراء. إلاّ أنّ دراستها تتّصف بالأهميّة لكونها تشكّل منفذاً إلى عمق العمل الشّعريّ، كما أنّها ليست مجرّد شكلٍ أو مسألةٍ خارجيّةٍ له، بل هي صلب العمل لكونها "ملجأ للميزة المحاكاتيّة حيث تجسّد موضع الاستمراريّة الإعجازيّة للفعل البدائيّ بكامل قوّته «السّحريّة»" .
ولعلّ هذه القوّة السحريّة المستمرّة منذ نشأة اللّغة، قد أدّت إلى بلوغ مستوى شديد التّقديم في الشّعر، وهو المستوى الذي تمثّل في إنتاج الرّمز بوصفه واحداً من أكثر العناصر تكثيفاً للدّلالة، وبالتّالي حملاً للغموض الدّلالي الذي يميّز الشّعر الحديث. وذلك انطلاقاً من كون الرّمز- تبعاً للمعجم الألسنيّ- "عبارة عن صورةٍ نستبدل من خلالها اسم الشّيء باسم علامةٍ تمّ اللّجوء إليها في الاستعمال للدلالة على الشّيء نفسه." كما أنّه – حسب شارلز ساندرز بيرس- "تعيين لعلاقةٍ ما بين عنصرين داخل ثقافةٍ محدّدة" .
وحينما ننتقل إلى بعده الدّلاليّ، يرى أدونيس أنّ "الرّمز هو ما يتيح لنا أن نتأمّل شيئاً آخر وراء النّصّ. فالرّمز هو، قبل كلّ شيء، معنى خفيّ وإيحاء. إنّه اللّغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة أو هو القصيدة التي تتكوّن في وعيك بعد قراءة القصيدة" .
وبناءً عليه، تغدو دراسة الرّمز في اللّغة الشّعريّة مسألةً شديدة الإلحاح، نظراً لما تقدّمه من إشارةٍ إلى الأبعاد المكثّفة على اتّساعها وتعمّقها. ومن هذا المنطلق، يصبح الشّعر المستند إلى هذا المستوى هو الشّعر الذي يستحقّ الدّراسة والتّمحيص. وقد يكون شعر غسّان مطر واحداً من تلك النّتاجات التي تتوكّأ إلى الرّمز بشكلٍ غنّيٍ وحيويّ.
لا بدّ في هذا السّياق من التّنويه بأنّ الشّاعر غسّان مطر قد تميّز في شعره ببناءٍ جدليٍّ يعتمد لغةً سهلةً بالإجمال، غير أنّها مكتنزة بالدّلالات الإيحائيّة شديدة التّأثير، كما هي شديدة المساس بهواجسنا وواقعنا ووقائعنا الحاضرة. من هذا المنطلق يمكننا ان ننظر إلى نتاجه، ولاسيّما في ديوانيه: "بكاء فوق دم النّخيل" و"رسائل بيدبا السّريّة" اللّذين ندرسهما في هذه العجالة. فكيف بدا حضور الرّموز في هذين العملين؟ وكيف اختزنت أبعادها الدّلاليّة ضمن السّياق الشّعريّ العامّ؟
1-صراعيّة الكيان في ظلّ التّيه: ضياع المفاهيم
عند الشّروع في قراءة الدّيوانين المذكورين، يلفتنا الحيّز الواسع الذي تحضر فيه مسألة الضّياع في المفاهيم، إذ إنّ غسّان مطر يقدّم هذه المسألة بوصفها الأساس الذي يقوم عليه الخلل في مجتمعنا الحاليّ، وهو ما جعله يهجس بها نظراً لكونها المفتاح الذي يسمح لكلّ الآفات بالدّخول إلى مجتمعنا. وفي هذا السّياق، يدخل الرّمز ليجعل من هذه الحال شديدة التأثير في حياتنا، فضلاً عن كونها شديدة الدّلالة على أزمات الواقع وانحداره القيميّ. وقد تكون صورة الرّمز في المقطع الآتي واحدة من أكثر الرّموز إشارةً إلى الضّياع في المفاهيم نتيجة التّحوّل الأخلاقيّ الذي أصاب المجتمع:
"مربايا مرآةٌ تفضحُنا،
سكّينٌ تغتالُ بقايا عزّتنا
إن كان هناك بقايا.
مربايا اسمٌ مألوفٌ في قاموسِ السّلطانِ العربيّ
ويعني
سوقاً لمقايضة التّاريخِ العربيّ بفخذين،
ومقبرةِ الشّهداءِ بخمسٍ
أو ستّ بغايا."
يجعل الشّاعر هنا من (مَربايا) رمزاً خاصّاً شديد الدّلالة على الانحدار الأخلاقيّ الذي وصلنا إليه، إذ إنّه عبْر أسلوبَي التّشبيه والوصف يجعل هذه المدينة ترتبط بأبعادٍ أكثر اتّساعاً لتشير إلى الجانب المظلم منها. فهي المرآة تبيّن حقيقة الواقع العربيّ المهترئ، والسّكّين التي تقتل أصالتنا، فضلاً عن كونها السّوق التي تُباع فيها الكرامة والشّرف. وإلى جانب هذا وذلك، نجد أنّ الشّاعر يصفها بالاسم المرتبط بتاريخ الحكّام العرب، ما يعني أنّه نهجٌ ليس جديداً، وإن كان إعلانه فقط هو الجديد. وعليه، فإنّ هذا الرّمز، بأبعاده هذه، ينقلب من موضعٍ للفرح والرّفاهيّة، إلى بؤرةٍ للعار والانحطاط، الأمر الذي يشير إلى الانقلاب في المفاهيم وتحوّلها.
وقد يكون الوجه الآخر من هذا الضّياع، أكثر ولوجاً في عمق الذّات المجتمعيّة، لأنّه لا يتوقّف خارج حدود الوطن، بل يدخل في الطّبيعة الفكريّة لأبناء المجتمع، إلى حدّ الانقلاب على الوطن نفسه، فها نحن نقرأ في الدّيوان نفسه:
"وطنٌ حاصرنا فيه العقلَ
وأضرمنا فيهِ النّيرانْ
أطفأنا شمسَ دمشقَ ومصرَ
ودارَ الحِكمةِ في لبنانْ
ورجعنا نقرأُ سفرَ الجهلِ
الآتي من أفغانستانْ…"
تحتشد هنا مجموعة من الرّموز المتناغمة التي تمكّنت من الإحاطة بدلالات متشابكة ومعقّدة على نحوٍ يتّصف بالبساطة، وهذه الدّلالات تمحورت حول حال الضّياع العام في المجتمع، وقد اكتسبت دلالاتها بفعل التّقابل الحاصل فيما بينها. نلاحظ بداءةً حضور (النّيران) بوصفها رمزاً لمجموع الأزمات التي افتعلها الشّعب بحقّ وطنهم، فالنّيران قد تتّخذ أشكالاً متعدّدة منها المعنويّ ومنها المادّيّ، قد تبدو ضعفاً في الإيمان والانتماء، أو ضعفاً في المفاهيم الوطنيّة، أو دخولاً في خياراتٍ دون حساب العواقب، وقد تظهر في انقلابٍ فعليّ على الوطن وأبنائه بتقديم المفاهيم الهدّامة للنّاس، وبتقديم الهدم الماديّ، سواء بجلب جحافل الجهل أو جيوش الدّول الغربيّة. وتأتي الرّموز المكانيّة الثّلاث (دمشق ومصر ولبنان) المقترنة بالشّمس والحكمة بوصفها رموزاً للتّنوير والتّطوّر، في مقابل (أفغانستان) المقترنة بالجهل بوصفها واحدةً من البؤر المصدّرة للتّخلّف، وهي لا تعني بطبيعة الحال هذا المكان بعينه، بل كلّ مكانٍ مصدّرٍ لمظاهر الجهل، سواء أعجميّة أم عربيّة، شرقيّة أو غربيّة.
وهنا يمكن رصد الحدّ الأقصى للضّياع في المجتمع، إذ تبدو حالاً عامّةً تشمل المستويات كافّة، وتتمظهر في لحظةٍ تاريخيّةٍ تعكس عمق الأزمة في الذّات قبل أيّ شيء آخر. ولعلّ قصيدة (سورة التيه) تُبرز عبر الرّمز الدّينيّ- التّاريخي والشّيفرات الثّقافيّة، تلك المأساة:
"التّيه، وما أدراكم ما التّيه.
أن نسمع قصفاً في بغداد
فنفرح أنّ الحجّاج قضى
ونغنّي لزياد ابن أبيه
التّيه
أن يأكل إنسانٌ عربيٌّ لحم أخيه."
تطالعنا هنا مجموعةٌ أخرى من الرّموز المدعومة بشيفرات شديدة الدّلالة، قد اجتمعت لتوصّف مفهوم التّيه. يحضر هنا رمزان بارزان في تاريخ العراق المتعاقب، وهما الحجاج وزياد بن أبيه؛ والاثنان كما هو معلوم، يوصفان بالبطش والقسوة، وقد استخدمهما الشّاعر انطلاقاً من هذه الصّفة ليؤكّد عمق هذا الضّياع، فمن العبث أن نفرح برحيل طاغيةٍ وبمجيء آخر. وتحضر الإشارة (التّيه، وما أدراكم ما التّيه) التي أفادت من التّراث القرآنيّ لتوحي بعظم المسألة؛ وتعاضد الصّورة الشّيفرة الأخرى التي أتت نتيجةً لكلّ ما سبق، والتي تُفيد من التّراث نفسه لتبيّن بلوغ أفظع درجات الانحطاط من النّاحية الأخلاقيّة والانتمائيّة ومن ناحية المفاهيم والسّلوك في آن.
وبناءً عليه، يمكن الخلوص إلى أنّ حال التّيه يراها «مطر» عامّةً وتبلغ أشدّ درجات العمق، وهذا ما جعله يهجس بها لكونها الحال الأكثر خطورةً في الذّات الفرديّة والجماعيّة، ولعلّها هي التي تفسح في المجال أمام حالٍ أخرى يلقي الضّوء عليها بشكلٍ خاصّ في ديوانيه.
2-صراعيّة الذّات وأشداق الهزيمة: حال الاستسلام.
تظهر حال الاستسلام انطلاقاً من كونها نتيجةً طبيعيّة للتّيه المعشّش في المجتمع، فهي قد تتحوّل بفعل ضياع المفاهيم إلى مظهر متأصّلٍ في الذّات التي تغدو متقبّلةً لأيّ فكرةٍ تدغدغ الغريزة أو العواطف البدائيّة. من هذا المنطلق يمكن النّظر إلى الرّموز التي أضاءت على روحيّة الاستسلام داخل كيان الجماعة، وهي رموز اتّسعت دلالاتها لتشمل جوانب مختلفةً من مظاهر الهزيمة. ومنها ما نجده في ضوء سقوط بغداد، إذ تبرز مدينة نيويورك رمزاً للخبث والإجرام، وذلك من خلال ما نقرأ:
"… قبل أن ينجليَ الصّبحُ
كُنّا نُساقُ إلى موتِنا.
حاصرتنا الذّئابُ وصرنا نُهمهمُ كالقطط الحائرهْ
وصرخنا:
«نيويورك، أيّتها الذّئبة العاهرهْ»"
من الواضح أنّ (نيويورك) هنا تشكّل محور الخوف في المقطع، وهذا ينبع من كون النّداء أعطاها تسمية (الذّئبة) ليوحي لنا بمدى الرّعب الذي تبعثه في القلوب، أمّا (العاهرة) فأشارت إلى وقاحتها وقدرتها على الإغراء في آن. ويأتي النّداء على شكل صراخٍ من قبل الجماعة في وجه تلك المدينة، وذلك بسبب سوقها أفراد تلك الجماعة إلى الموت. ما يعني أنّ هذا الرّمز تملّك أبعاداً شديدة البروز، إذ تقوم على فعل صفات الخبث والعهر والإجرام معاً؛ في مقابل نزعة الاستسلام التي جعلت مهمّة نيويورك سهلة بفعل انهزام الذّات من داخلها أوّلاً، قبل انهزامها العلنيّ.
يُضاف إلى ذلك، رمزٌ آخر يشكّل أيضاً مصدر رعبٍ واضح في النّفوس، لكنّ الشّاعر يجعله يُبرز ذاته على نحو أكثر دقّةً وعمقاً، وهو رمز (ليفي):
"قال «ليفي» لإخوته
وهم ينهشون عظام العراقِ
ويَطلونَ أنيابَهم بسمومِ الغضبْ:
«إن وجدتم نبوخذنصَّرَ لا تأكلوه،
دعوني أفتّشُهُ أوّلاً
ربّما كان جدّي هنا في ثنايا عباءته…
ربّما كان في جيبه قطعةٌ من ذهبْ»."
هذا الرّمز الذي أدّى دور (نيويورك) كما رأيناه سابقاً، قد نصّب نفسه هنا مسؤولاً عن افتراس العراق بكلّ حقد، وهو يشير إلى اليهود ومخطّطاتهم ضد بلادنا، وهو ما يجعله مناقضاً ومحارباً لرمز (نبوخذنصّر) الذي يمثّل العراق؛ وما حضور الأخوة وارتباطهم به آمراً ناهياً هنا إلاّ إشارةً إلى القدرة الواسعة للتّأثير في العالم بوسائل شتّى. على أنّ ما أُطلِق على لسانه، بسعيه إلى العثور على جدّه أو على قطعةٍ من الذّهب، وهذا ما يدلّ على الغايات التي يخفيها هذا الرّمز ومَن يمثّلهم، وهي تتجلّى في التّشويه الثّقافيّ والنّهب الاقتصاديّ على السّواء؛ مع أنّ وضع هذا الأخير في خاتمة المقطع يوحي بأنّه الأكثر أهميّة.
على أنّ مظهر الانهزام ذاك لا يقتصر على وجهٍ خارجيٍّ فحسب، إذ إنّ التّيه قد أوصل رموز الموت لتحكم أرجاء الوطن من داخله وليس من الخارج فقط؛ وهو ما نقع عليه بشكلٍ جليّ في هذا المقطع:
"أرى أشداقَ وحوشٍ وشياطين
وأراها تمشي بين النّاسِ
وتسرقُ خبزَ النّاسِ
وتشربُ دمعَ النّاسِ،
أراها في القصر المحروسِ بدبّاباتِ الجلاّدينْ
وأراها في الخُطَبِ العصماءِ ومؤتمراتِ الكذّابينْ
وأراها تقتلُ في بغدادَ
وتذبحُ أطفالَ فلسطينْ"
نلاحظ حضور رموزٍ متناغمة الدّلالة تتجلّى في عبارة: (أشداق وحوشٍ وشياطين)، ويتبعها العطف المتوالي الذي يربط أبعادها بوصفها مظهراً بارزاً من مظاهر الهزيمة. فهذا الرّمز المرعب بدا المهيمن على البلاد والعباد، إذ يبدو طاغيةً من ناحية اقترانه بأفعال السّرقة والتّهديد والكذب والقتل والذّبح… وهذا التّشابك بين أشداق الوحوش وبين الشّياطين، ينسحب تشابكاً بين الطّاغية المستبدّ على أبناء الشّعب وبين المحتلّ القاتل في بغداد وفلسطين. وعليه فإنّ الرّمز يربط بشكلٍ وثيق بين الطّاغية والمحتلّ.
ولعلّ رمزاً آخر يعضد الأوّل يبدو شديد اللّصوق بتاريخ العراق، يوضح ما رأيناه آنفاً، لاسيّما من خلال اقترانه برموزٍ أخرى:
"فباغتني على باب السماوة «فاتك الأسديُّ»
…………………….
وباسمِ إلٰهه الدّمويّ ينهشُ ضحكةَ الأطفالِ
يغرسُ في النّخيلِ صليبَهُ الوثنيَّ
يكتبُ فوقه بالنّار:
«هذا القبرُ قبرُ اللهِ والإنسانْ»."
يظهر (فاتك الأسدي) قاتل المتنبي رمزاً للإجرام النّابع من ذات الشّعب، إلاّ أنّ ارتباطه برمزَي (الإله الدّمويّ) و(الصّليب الوثنيّ)، جعل منه كذلك رمزاً للتغلغل اليهوديّ الصّهيونيّ في بلادنا من ناحية، وللكفر من ناحيةٍ أخرى. وهذا الأمر حوّل فاتك إلى رمزٍ للحقد الآتي من الخارج والصّادر من الدّاخل في آن، وهو ما وُجّهَ ضدّ (النّخيل) الذي شكّل رمزاً للعراق بكلّ ما يعنيه من تاريخ وحضاراتٍ متعاقبة، والذي أوصل نتيجةً حتميّة مروّعة تتمثّل في أنّ قتل النّخيل (=العراق) عبارة عن قتل الله والإنسان، وبالتّالي العدم.
من خلال ما تقدّم، نجد أنّ الشّاعر استطاع أن يصوّر حال الانهزام العامّة النّاتجة عن سيطرة روحيّة الاستسلام في داخل الذّات الجمعيّة، إلى جانب التّخطيط المنظّم ضدّنا. لكن يبقى السّؤال: هل السّوداويّة كانت المظهر الوحيد في ديواني مطر؟
3-صراعيّة الرّفض والقيامة: مسار المواجهة
الجانب المضيء في الصّراع شغل حيّزاً غير هامشيّ ضمن الدّيوانين، فالشّاعر لم تكن رؤيته سلبيّةً بالكامل، بل فتح الباب واسعاً أمام الخروج من وحول الانحطاط. وعلى هذا الأساس تشكّل نوعٌ خاصّ من الرّموز التي تصدر لتبيّن القوّة الكامنة في المجتمع، والقادرة على تحويل روحيّة الاستسلام إلى روحيّة صمودٍ وترقّبٍ لانتصار. على أنّ تلك الرّموز تنوّعت في مستوياتها وطبيعتها، منها على سبيل المثال ما يتّخذ من النّقيض محوراً في مقابل الذّات السّاعيّة إلى التّخلّص منه:
"أُصلّي، وأحلُمُ لَوْ بيدَيَّ
أُدمِّرُ كلَّ العروشِ
وأقتلُ كلَّ الملوكِ
لأُثبتَ أنّي أُحبُّ الحياةَ
وأنّي أُحبُّ بلادي
وأنّي أحبُّ البشرْ"
نجد في المقطع رمزين ينطلقان من مفهومي التّيه والانهزام، وهما (العروش) و(الملوك)؛ فالمفردتان ترمزان بوضوحٍ إلى الطّغيان الذي أضعف الكيان الذّاتيّ للمجتمع. ولعلّ هذا ما دفع ذات الفرد إلى التّفكير في المواجهة، وإن على نحوٍ محدود؛ وهذا ما نراه من خلال سيطرة ضمير المتكلّم على الأشطر، ومن خلال حضوره المقابل لهذين الرّمزين. وهذا ما يمكن أن نستشفّ فيه بذوراً للمواجهة المنتظرة، أو ربّما إرهاصاً لتلك المواجهة.
تتبلور المواجهة في موضعٍ آخر من خلال رمز المرأة التي تعيش الصّراع بين حياة ابنها وحريّة وطنها، وهو الأمر الذي يطالعنا فيما يأتي:
"قالتِ امرأةٌ لابنها
وهو يحملُ رشّاشه ليصدّ الغزاةْ:
لا تمُتْ،
عُدْ كما أنتَ منتصراً للحياةْ،
فالطّغاة القدامى إذا رحلوا
سوف يخلفهم عملاءٌ طغاةْ،
عُد كما أنتَ،
خذ نور عيني وقاتلْ
وطهّر مياهَ الفراتْ." (بكاء فوق دم النّخيل، ص40– 41)
المرأة هنا تخرج من عباءة الضّعف الموسومة بها، لتشكّل رمزاً للقوّة والصّمود، وذلك في وجه عنصري الهزيمة اللّذين رأيناهما في موضعٍ آخر من الدّراسة. ففي الوقت الذي تلعب فيه دور الأمّ في حرصها على ولدها، تؤدّي دور العراق نفسه لأنّها تدفع بالابن إلى مواجهة الطّغيان الدّاخليّ القديم والطّغيان الجديد للعملاء في الآن عينه. وقد يكون الحضور الفاعل لصيغة الأمر إلى جانب النّهي، كما بروز فاء السّببيّة وأداة الاستقبال (سوف)، تأكيداً على موقف المواجهة واستمرارها حتّى بلوغ الحرّيّة.
في هذا السّياق، تبرز الرّموز الأكثر صراعيّةً بوصفها قمّة المواجهة الباعثة على الأمل في أنّ القيامة مسألة يقيّنية. وهذا ما يمكن أن نعثر عليه في هذا المقطع:
"اليهود هنا أو هناك
أنا لستُ أبكي
وإن كنتُ أبدو حزيناً،
أنا لا أحبُّ البكاءْ،
أمّتي بدَّلتْ اسمها،
صارتِ الأرضُ تعرفُها باسمِ «ولاّدة الشّهداء»،
إنّ بغدادَ بيروتُ
يحرسها «خالد» بالرّصاص الذي يبدع الكبرياءْ
والجنوبُ هناك الجنوبُ هنا
تفتديه «سناءْ»
اليهود هنا أو هناك
أنا لا أخافُ
وفي أمّتي قطرةٌ من دماءْ"
(خالد وسناء) يبرزان بوصفهما رمزين مقاومين، كما هو معروف، ارتبطا بجبهة المقاومة الوطنيّة اللّبنانيّة في مواجهة اليهود. أمّا حضورهما في معرض المشابهة بين بيروت وبغداد يدلّ على أنّ بذور المقاومة حاضرة على الدّوام في الأمّة، خصوصاً أنّ العدوّ واحدٌ في المكانين (=المكان). وفي هذا المجال، نجد النّفي عاملاً مساعداً لإبراز فعل الرّفض لمظاهر الاستسلام والخضوع. ويعاضد ذلك كلّه خاتمة المقطع من خلال حضور الجملة الاسميّة التي أوحت بفعل القيامة، وبالتّالي الانتصار.
في الخلاصة، نرى أنّ الرّمز امتلك حضوراً قياميّاً فاعلاً في مواجهة عوامل التّيه والاستسلام، إذ إنّه تمكّن من إبراز حضوره الذي يوحي بتثبيت المفاهيم وإطلاق فعل الرّفض الذي أوصل إلى مواجهةٍ صريحةٍ هدفها قيامة الأمة ومجدها.
خاتمة:
استناداً إلى كلّ ما سبق، يمكننا القول إنّ رموز غسّان مطر أظهرت أبعادها الصّراعيّة بشكلٍ حيويّ وفاعل، على تنوّعها بين رموزٍ دينيّةٍ أو تاريخيّةٍ أو معاصرةٍ، إلى جانب الشّيفرات الثّقافيّة التي منحت شعره أبعاداً دلاليّةً غنيّةً توزّعت على صراعاتٍ وجوديّة متنوّعةٍ في الدّيوانين. فنحن وجدنا كيف أنّ حال الضّياع التي أصابت المفاهيم البدهيّة قد تجلّت في رموز مربايا والنّيران وأفغانستان، وفي عبثية التهليل لرحيل طاغيةٍ واستقبال آخر، مع حضور شيفراتٍ بينت خطورة هذه الحال.
من ناحيةٍ أخرى، ظهرت حال الاستسلام والانهزاميّة عبر رمزيّة نيويورك التي اتّصفت بالقسوة والجرأة والخبث والإجرام، كما عبر رمز ليفي الباحث عن تدمير بلادنا ثقافيّاً واقتصاديّاً. وهذا ما أوصل إلى حضور رموزٍ تمثّل الخطر الخارجيّ والدّاخليّ المتولّد من قلب الأمّة، والمتمثّل في أشداق الوحوش والشّياطين، وفي فاتك الأسديّ.
إلاّ أنّ وضعيّة الانحطاط تلك لم تكن هي المسيطرة على الدّوام، لأنّ القوّة المقابلة أخذت بالظّهور على نحوٍ متدرّج ابتداءً بالسّعي إلى مواجهة رمزي العروش والملوك، وإن على سبيل الحلم، مروراً برمز المرأة الصّامدة التي مثّلت الأم والوطن في آن، وصولاً إلى رمزَي خالد علوان وسناء محيدلي بوصفهما ممثّلين للمقاومة المنتظرة، مع بروز لرمز الدّم انطلاقاً من كونه رمزاً للقيامة.
وعليه، نرى أنّ ديواني "بكاء فوق دم النّخيل" و"رسائل بيدبا السّريّة" قد قدّما تجربةً رؤيويّةً صادرةً عن آلام الأمّة ومعاناتها، لاسيّما أنّ أحدهما قد صدر في ظلّ الاحتلال الأمريكي للعراق، والآخر تبعه في ضوء تحليلٍ لأسباب الانهزام والانحطاط. لذلك نستطيع القول إنّ الدّيوانين حملا هاجس الشّاعر في حريّة الأمّة وقيامتها، كما حملا لغةً شعريّةً حيويّةً ومتماسكة حوت رموزاً اتّسمت بصفة الصّراعيّة لكونها أتت في سياق التّوصيف والنقد والرّفض والمواجهة، وقدّمت بذلك صورةَ رؤيةٍ عميقةً ونقديّة لحال الأمّة ومستقبلها.
بناءً عليه أشدّد على أنّ غسّان مطر يبقى على الدّوام واحداً من شعرائنا الكبار، لكونه أطلق تجربته الخاصّة الرّؤيويّة التي نفذت إلى عمق أزمة الأمة واستلهمت تاريخها ومواهبها، وشكّلت منارةً لثقافة أمّتنا وأجيالها القادمة على نحو ما أعلن هو نفسه عن الذين امتشقوا شعلة النّور والعقل، كما في هذا المقطع الذي أختم به هنا:
"بي حنينٌ إلى زمنٍ كنتُ فيه «المعرّيّ»
يرى ويُعَرّي،
وكان «ابنُ رشدٍ» صديقي،
وسيّدُنا العقلُ، تسطعُ أنوارُهُ الواعدهْ.
بي حنينٌ إلى الثّائرينَ
ومَن قتلوا وثَنَ الرّوحِ
وامتشقوا الشّعلةَ الخالدهْ"