الآلهة في الفكر الشرقي القديم هي خالقة الكون والبشر، مقررة المصاير، وبيدها مقاليد الحياة والموت، تسيّر الخير والشر، تقضي بالثواب وتأمر بالعقاب. صمّمت المدن، وحفرت الأنهار، وأقامت الجبال، ومهدت الوديان وأطلقت البحار، وعيّنت الملوك، وقررت الحروب، ووطدت السلام، ورسخت الحق والجمال والعدل. إن عجز العقل القديم عن الفهم الدقيق لتفسير جملة من الظواهر الطبيعية الغيبية، وعدم قدرته على حل ألغازها المعقدة كان سبباً رئيساً في خلق وابتكار مفهوم الآلهة المتعددة على تعدد وظائفها، واختلاف خصائصها. فكانت آلهة السماء والأرض والفضاء والقمر والبحر والجبل والرياح والمطر والينابيع. ثم ما لبث أن انتقل الإنسان مما يدركه بحواسه إلى ما يدركه عقله، أي من المحسوس الملموس إلى المجرد المعقول. فنشأت آلهة أخرى تمثل قيماً روحية وأخلاقية وفكرية. كآلهة الحب والعدالة والحكمة والولادة والموت والخصب والجمال. لقد أسبغ الإنسان القديم على الآلهة صفات إنسانية، فهي تأكل وتشرب وتنام، تحب وتكره، تغضب وترضى، تتزوج وتتخذ خليلات، والفارق الوحيد الذي يميّزها عن البشر أنها لا تموت فهي خالدة باقية، وكان لكل مدينة إله أو إلهة حامية لها، وهذا لا يعني عدم انتشار عبادته خارج مدينته الأم التي تعد بمنزلة المركز الرئيس لعبادته، حيث يقوم فيها معبده الذي لم يكن مركزاً دينياً، فحسب بل كان تأثيره كبيراً في المجالات كافة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، مما جعله المركز الأكثر أهمية. ولعل هذا ما يفسر تلازم السلطتين الدينية والمدنية لزمن طويل.
تزودنا النصوص الدينية السومرية المدونة في أواسط الألف الثالث ق.م بعدد كبير جداً من أسماء الآلهة وقد وضعت في فهارس خاصة تضم المئات من الأسماء، وقد تضاعف عددها في العصر السومري الحديث في القرن الواحد والعشرين ق.م. فوصل نحو 3600 إله، لكلٍّ وظيفته ومنزلته ومكان عبادته. وثمة طائفتان أساسيتان من الآلهة هما (الأنونكي) و(الإجيجي )عدد كل منها 600 إله في بعض النصوص.
يحتل الثالوث الإلهي المقدس المرتبة العليا في مجمع الآلهة، وهو (آنُ) كبير الآلهة إله السماء و(إنليل) إله الفضاء، و(إنكي) سيد الأرض ومياه الأعماق. وفي المرتبة الثانية يأتي عدد كبير من الآلهة في طليعتهم (أوتو) إله الشمس، و(نانا) إله القمر، و(إنانا) سيدة كوكب الزهرة، و(إشكور) إله الطقس والعواصف. كان للأدب دور أساسي في تجسيد شخصيات الآلهة، والتفصيل في سماتها ووظائفها ولعل أغلب معلوماتنا عن الآلهة مستقاة من النصوص الأدبية الرافدية والسورية على اختلاف أبوابها وتنوّع ألوانها (أسطورة، ملحمة، سيرة ذاتية، ملحمة تاريخية، تراتيل دينية، رثاء الممالك والمدن). لقد برع السومريون منذ القرن السابع والعشرين ق.م. بتدوين أدبهم في مدارس خاصة أُقيمت لهذه الغاية.
وكانت الأسطورة باباً واسعاً للتعبير عن الظواهر الكونية والطبيعية التي أقلقت بال الإنسان منذ الأزل. فأسهب في وصف الآلهة، وعلاقاتها فيما بينها، وصراعاتها. فكانت أسطورة الطوفان التي تتحدّث عن عقاب الآلهة للبشر، وأسطورة الإلهين (دوموزي وإنانا) التي أضحت تعرف فيما بعد باسم (تموز وعشتار) وتصف علاقة حبهما الخالد، وأسطورة نزول إنانا إلى العالم السفلي للبحث عن قرينها دوموزي. والتي تعكس دورة الحياة وتعاقب فصول السنة. وثمة أساطير سومرية أخرى تعكس بجلاء دور الآلهة، وصراعاتها كأسطورة الإلهين (إنكي ونينخورساج)، و(إنكي ونظام الكون)، وأسطورة الإلهين (إنليل وننليل)، والإلهين (إنكي وننماخ). إضافة إلى نصوص أسطورية أدبية تصف رحلات الآلهة من معابدها في مدنها الرئيسية إلى معابد في مدن أخرى كرحلة (نانا) إله القمر من مدينته أور (المقير) إلى مدينة نيبور (نفر) ورحلة (إنانا) إلهة الزهرة من أوروك (الوركاء) إلى إريدو (أبو شهرين)، ورحلة إله الأرض (إنكي) من إريدو إلى نيبور. لقد أنتج الأدب الأكدي عشرات النصوص التي تناولت مسائل فكرية مهمة كالخلود والموت، الثواب والعقاب وعالمي السموات والجحيم وعلاقة الإنسان بالإله. ومن أشهر تلك الأعمال أسطورة أترخسيس التي تتناول موضوعات خلق الكون والإنسان، وصراع الأنونكي (آلهة السماء) والإجيجي (آلهة العالم السفلي)، وصراع الإلهين (إنليل) الذي يمثل الشر و(إنكي) إله الخير وتتحدث عن العقوبات الإلهية للبشر كالطاعون والسنوات العجاف ثم اتخاذ الآلهة قرارات تنظيمية، كخلق النساء العقيمات، وفرض الكهنوت على طائفة من النساء اللواتي ينذرن أنفسهن للآلهة.
تصور ملحمة جلجامش وهي نص سومري، أعيدت صياغته في القرن الثامن عشر ق.م بحث الإنسان عن الخلود تشبّهاً بالآلهة، وفي النهاية يصل البطل جلجامش إلى نتيجة مفادها: (الحياة الأبدية التي تنشدها لن تلقاها، عندما خلقت الآلهة البشر قدّرت عليهم الموت واحتفظت بالحياة الدائمة لنفسها). وتتحدّث أسطورتا أدبا وإتانا عن علاقة الإنسان بالإله، حيث يقف أدبا بين يدي إله السماء (آن) معترفاً بخطيئته في كسر جناح الريح مما أسعد الإله (آن)، فقرر أن يكافئ أدبا ويهبه الخلود إلا أن أدبا يمتنع عن تناول الطعام والشراب اللذين يضمنان له نيل الخلود، وذلك تنفيذاً لنصيحة الإله (إيا) إله الأرض والمياه العذبة. فيفوّت على نفسه تلك النعمة شأنه شأن جلجامش وباقي البشر. وفي أسطورة إتانا نجد البحث عن الخلود بطريقة أخرى وهي التخلص من العقم والتنعم بمولود وريث، فإتانا ملك مدينة كيش (تل الأحيمر)، لم يكن ينجب فابتهل إلى إله الشمس (شمش) وقدّم له القرابين ليحقق حلمه في الإنجاب. فيصعده شمش على ظهر نسر إلى السماء ليحصل على نبتة الولادة. كما انتشرت التراتيل الدينية التي تمدح الآلهة وتتضرع لها، وقد كانت تردد في المعابد كطقوس دينية هدفها التقرب من الآلهة. ويبدو تأثر الأدب الرافدي بمجمع الآلهة، والولوج إلى عالم صراعاتها جلياً في ملحمة الخليقة البابلية المعروفة باسم (إنوماإليش) التي سطرت لترسيخ دور الإله مردوك إله مدينة بابل كإله رئيس لمجمع الآلهة. حيث مُنح ألواح القدر وأُعطي الأسماء الخمسون الفخرية بعد ثورته على الإلهة التقليدية (تيامات)، وتلخص الملحمة الصراع بين النظام الكوني والفوضى، وخلق السموات والأرض. تبين لنا نصوص إبلا (تل مرديخ) العائدة إلى النصف الثاني من الألف الثالث ق .م أن سكان سوريا القدماء عبدوا كثيراً من الآلهة أشهرها الإله المحلي (كورا)، الذي بني له معبد رئيس في إبلا، ومن الآلهة الأخرى (يداكول) و(دمو) و(هدّا) الذي بات يُعرف باسم هدد أو حدد عند الآراميين والأوغاريتيين. والإله (بعل) سيد السموات، و(دجن) الذي تمتع بقدسية كبيرة في سورية، وهو إله الحبوب المانح الرئيس للزراعة، والإله (رسف) المعروف باسم رشف في أوغاريت إله النار والعالم السفلي. كما عرف الإبلويون إلهات مؤنثة كـ(عشتار) و(باراما) زوجة الإله (كورا) و(أداما) زوجة (رسف) والإلهة (بعلتو) زوجة (نيداكول)، ومن الآلهة الثانوية الأقل أهمية (أشتابيل، شوجو، أمّاريك، كاميش، كبكب، حيّوم، ليم)، ولكل منها معبده الخاص به الذي تُقام به الطقوس والمراسم الدينية. تقدّم لنا نصوص أوغاريت التي تعود إلى الفترة ما بين (1500-1200ق.م) صورة شاملة وواضحة عن المعتقدات والطقوس الدينية، ويشكل الإله (بعل) إله الطقس والمطر والخصب محوراً لعدد من النصوص الأسطورية التي تتحدث عن صراعه مع (يم) إله البحر، وفي صراع آخر مع (موت) إله العالم السفلي ورمز الجفاف، وهي الأسطورة التي تعكس تعاقب الفصول، ودورة السنة، وتتابع الجفاف والخصب. وثمة أساطير أخرى تتحدّث عن طبائع الآلهة الاوغاريتية وصفاتها كأسطورة الإلهين (شحروشليم)، وهما السَحَر والشفق، وأسطورة ثانية تتحدث عن مجلس الآلهة، حيث يأكلون ويشربون ويتناولون الخمر، وينشغلون بملذاتهم، ويهملون شؤون البلاد. لقد استطاع الفن الشرقي القديم أن يظهر بشكل جلي المكانة الرفيعة التي تحتلها الآلهة في فكر الإنسان فشُيّدت مئات المعابد على امتداد العصور التاريخية، وزُيّنت واجهاتها في كثير من الأحيان بالفسيفساء كما في مدينة أوروك في الألف الثالث ق.م، ثم تطور بناء المعابد في نهاية الألف الثالث فكانت الزقورة: (المعبد العالي، البرج)، وقد بنيت الزقورة على مصاطب عدة تصل أحياناً إلى ست ويقوم المعبد فوق تلك المصاطب، وقد عُثر على زقورات كثيرة في مدن رافدية مثل إريدو، نيبور، أوروك، وأشهرها على الإطلاق تلك التي بناها الملك (أورنمو) ملك مدينة أور في المدينة نفسها حوالي القرن الواحد والعشرين ق.م، تتألف من ثلاث مصاطب ارتفاع كل منها عشرون متراً، وقد بني المعبد فوق المصطبة الثالثة أي على ارتفاع ستين متراً لعبادة إله القمر (نانا) وزوجته (ننجال). وقد ظهرت أجناس فنية عديدة جسدت كثيراً من المعتقدات الدينية وعلاقة الإنسان بالآلهة كالتماثيل، واللوحات الجدارية التصويرية والنحتية، والدمى الطينية والحجرية والمعدنية، والمنحوتات الحجرية والعاجية، والأختام المسطحة والأسطوانية.
الآلهة في الهلال الخصيب.. تعدّد فتوحيد
117
المقالة السابقة